تقدم أن نابوليون أمر سفيره في العاصمة الروسية باستطلاع رأي البلاط الروسي في مسألة زواجه، فلما فاتح القيصر آنس منه ارتياحا إلى مصاهرة أعظم قائد وأكبر إمبراطور ، ولكن القيصر رأى من الحكمة وأصالة الرأي أن يؤخر الجزم في الأمر، وكان رأس الأسباب في هذا التأخير أن والدة القيصر كانت مترددة وناظرة بعين الحذر إلى اقتران ابنتها بإمبراطور الفرنسويين، وقيل إن المسألة الدينية كان لها شأن في ترددها.
وليس بصعب على القارئ أن يدرك بالبداهة ما كان لتردد والدة القيصر من الأثر السيئ في نفس الصنديد العنيد، الذي كانت أوروبا تهتز لخطواته وترقب الدنيا لحظاته ولفتاته، فإن عزيمته صحت بلا إبطاء على ترك السعي في بطرسبرج وعلى تحويل فكره إلى «فينا»، ورأى أن خير الطرق ما ينطبق على قول الشاعر العربي:
ما حك جلدك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك
فأخذ يرقب الفرصة حتى عرضت له، وقيل بل هو الذي خلقها ومهد طريقها في مرقص أقيم بمنزل المستشار الإمبراطوري الأكبر، وبينما كانت الخدود تنافس الورود، والحبور يميل بالخصور، تقدم نابوليون نحو مدام مترنيخ وقال لها بلا مقدمة ولا توطئة: «أتظنين أن الأرشيدوقة تقبلني زوجا، وأن أباها الإمبراطور يوافق على الأمر؟»
فدهشت مدام مترنيخ لتلك المفاجأة وأجابت جوابا مبهما لأنها لم تكن تستطيع الجواب الشافي، فقال لها عندئذ نابوليون: «اكتبي إلى زوجك واستطلعي رأيه.» ثم تركها مبهوتة ومدهوشة.
وفي اليوم التالي بدئ بالمفاوضات، وما لبثت أن صارت رسمية بين الفريقين، وأخذت جوزفين نفسها وابنتها هورتنس تشتركان فيها كما قدمنا، وكان في طليعة الأسباب التي أفضت إلى النجاح أن البلاط الإمبراطوري في «فينا» كان شاعرا بما جرى من المفاوضات الأولية في بطرسبرج، فخاف أن تؤدي إلى نتيجة وأن يعقد نابوليون محالفة مع قيصر الروس، فيصبح موقف النمسا حرجا من الوجهة السياسية.
ولما تم الرضى اتفق الإمبراطوران والحكومتان على أن يوفد نابوليون المارشال برتييه إلى «فينا» ويفوض إليه قبول عقد الزواج بالنيابة عنه، فسافر برتييه في 4 مارس سنة 1810 حاملا الهدايا النفيسة الثمينة للعروس، وكانت على رواية البارون بيروس مؤلفة من عقد لا يقل ثمنه عن 900000 فرنك، وقرطين قيمتهما 400000 فرنك، ورسم لنابوليون مرصع بحجارة من الألماس لا يقل ثمنها عن 600000 فرنك، مع أن ثروة العروس كلها لم تكن تتجاوز 500000 فرنك.
وليس من عادة نابوليون أن يسلك سبيل الإسراف، ولكنه نظر إلى الأمر بعين الراغب في تعظيم زواجه والمبالغ في إكرام الإمبراطورة الجديدة أمام العالم.
وفي 11 مارس سنة 1810 أقيمت حفلة الزفاف في «فينا» بين مظاهر العظمة والأبهة، وفي 14 منه برحت الإمبراطورة ماري لويز بلاط أبيها في موكب فخم تحت إمرة البرنس دي نوشاتيل، ورافقتها اثنتا عشرة سيدة من سيدات القصر إلى برونو حيث كانت تنتظرها ملكة نابولي - أخت نابوليون - وأهل البلاط الإمبراطوري الجديد، ولما وصل موكب ماري لويز إلى برونو حل الفرنسويون محل النمسويين في خدمتها.
Bog aan la aqoon