الفصل الثاني عشر
تقرير الطلاق
رأينا فيما تقدم كيف بدت فكرة الطلاق لنابوليون في جهة العريش، بعد ورود الأخبار الفاضحة عن سلوك جوزفين، ونحن مظهرون هنا كيف قويت ونفذت تلك الفكرة بقوة الحوادث نفسها.
إن أمر الطلاق بين نابوليون وجوزفين صدر بعد إنشاء حكومة «القنصلية» وبعد تعيين نابوليون قنصلا أول سحابة العمر وبعد ارتقائه إلى العرش الإمبراطوري وسؤدده العظيم. فليفكر القارئ في إمبراطور رفع رايته فوق ثلاثين عاصمة - كما قال الشاعر - وأحرز النصر في كل قطر، ورأى ذوي التيجان يتزلفون إليه في كل مكان، وأبصر نفسه قادرا على إحداث ولي عهد! ألا يميل به الطمع الإنساني الغلاب إلى حفظ ذريته؟
وزد على ما تقدم أن السواد الأعظم من الأمة الفرنسوية كان يخاف رجوع الفظائع الداخلية والأخطار الخارجية بعد نابوليون، ويطلب دوام سلالته حتى لا يقوم النزاع على الملك يوم يلفظ تلك الروح الكبيرة، وكان جوزيف نفسه أخو نابوليون يحضه على الطلاق وعقد زواج آخر لأجل فرنسا.
ومع ذاك كله فإن نابوليون قاوم فكرة الطلاق عدة سنين، وكانت جوزفين تدس الدسائس لدى جوزيف لحمله على إقناع نابوليون بالعدول نهائيا عن الطلاق، وقد قالت له يوما: «إن تقرير نظام الإرث يحمل نابوليون على الطلاق والزواج مرة أخرى ليرزق ولدا، والطلاق لا يبقي لك أملا بالصعود إلى عرش فرنسا»، ولكن جوزيف لم يقتنع.
وفي سنة 1804 كان نابوليون نفسه لا يزال مترددا في الأمر بدليل؛ قوله حين ألحوا عليه في طلب الطلاق أنه «ليس من العدل أن أطلق، نعم لقد يكون من مصلحتي ومصلحة النظام أن أتزوج مرة أخرى، ولكن كيف تريدون أن أترك تلك المرأة - يعني جوزفين - طلبا للعظمة؟! لا لا! إن الأمر فوق طاقتي، وإن ضلوعي لتنطوي على قلب إنسان، وإن أمي ليست نمرة، فلا أريد أن أقذف بزوجتي إلى الشقاء والبؤس.»
وأظهر نابوليون هذا الشعور الشريف وأقام عليه خمس سنوات توالت فيها المؤثرات حتى اقتنع بوجوب الطلاق وقرره في 15 ديسمبر سنة 1809.
ولما صحت عزيمة نابوليون على الطلاق واقتنع بوجوبه، أراد أن يبلغ خبره الأليم إلى جوزفين على يد الكونت لافاليت زوج حفيدتها، فقال له: «أنا لا أؤمل أن أرزق ولدا منها ولم أبلغ من العمر ما يحول دون حصولي على ولد، وإن راحة فرنسا لتقتضي أن أتخذ لي زوجة أخري، فأنت زوج حفيدتها وهي تجلك وتحترمك، فهل لك أن تعد فكرها لقبول الحالة الجديدة التي أوجبتها المقادير؟»
فاعتذر الكونت والتمس من الإمبراطور أن ينيط تلك المهمة بغيره، وبعد التفكير رأى نابوليون أن يتدرج في إبلاغها الخبر الأليم بلسانه، فأخذ أولا يوضح لها الضرورات التي تحيق به، قال كونستان في «مذكراته»: «إن الإمبراطور توسل إلي غرضه بألطف الوسائل، وبالغ في مداراتها ومراعاتها حتى أفضى بها إلى قبول تلك التضحية الأليمة»، ولقد تباينت أقوال الخصوم المتحاملين على نابوليون في شأن هذا الطلاق، فقال بعضهم إن جوزفين خاصمت نابوليون عليه. ولكن الشهود العدول وواضعي المذكرات الخاصة لم يذكروا ما يدل على تفاقم النزاع بينهما في هذا الموضوع. وزعم آخرون أن نابوليون استعمل الشدة والقسوة حتى اضطرها إلى قبول الطلاق. على أن بقاء جوزفين في العاصمة والعلاقة الحسنة التي بقيت بينها وبين نابوليون تنفي هذا الزعم؛ إذ لو نال جوزفين من الإهانة والقسوة ما عزوه إلى نابوليون لابتعدت عن المكان الذي وقعت فيه إهانتها، ولسافرت على الأقل إلى روما حيث كان ابنها أوجين، أو إلى هولاندا حيث كانت بنتها هورتنس، فجل ما يقال أن الاتفاق الذي تم بين نابوليون وجوزفين كان موجعا لقلبها محرجا لصدرها، ولكنه تم أخيرا بالتراضي وبإبقاء جوزفين عزيزة مقيمة في منزل فخم وحاصلة على مودة الإمبراطور لدى الجمهور، ومما يؤيد هذا القول أن جوزفين - نعم جوزفين نفسها - أخذت بعد شهر تهتم هي وابنتها هورتنس بأمر زواج نابوليون، وفاتحت زوجة البرنس دي مترنيخ النمسوي في أمر الأرشيدوقة ابنة إمبرطور النمسا، وليس في هذا النبأ ريب ولا شبه ريب؛ لأنه مثبت في الأوراق الرسمية التي أرسلها مترنيخ من فينا إلى سفير النمسا في باريس، ومما كتبه مترنيخ إلى السفير قوله: «إن الإمبراطورة جوزفين وملكة هولندا - أي ابنة جوزفين - خاطبا مدام مترنيخ مخاطبة صريحة في الأمر، وصاحب الجلالة الإمبراطورية - يعني إمبراطور النمسا - يود أن تبقى المسألة جارية في مجرى غير رسمي، حتى يتمكن من إبلاغ مقاصده إلى الإمبراطور نابوليون بلا تزويق ولا تنميق.»
Bog aan la aqoon