فمع الإقرار بنظرية التخصص، وانفراد كل فن من فنون التراث بطائفة من الكتب والمصنفات، إلا أنك قل أن تجد كتابًا من هذه الكتب مقتصرًا على الفن الذي يعالجه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى، بدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي لا محالة، إلى أن تجد الشيء في غير مظانه. وقد ضربت لذلك مثلا - في بعض ماكتبت (١) - بعلم النحو، فليست مسائل هذا العلم في كتب النحو فقط؛ ففي كتب التفسير والقراءات نحو كثير، وفي كتب الفقه وأصوله نحو كثير، وفي معاجم اللغة، وكتب البلاغة، وشروح الشعر (٢)، نحو كثير. بل إنك واجد في بعض كتب السير، والتاريخ، والتراجم، والأدب، والمعارف العامة، والطرائف والمحاضرات، من مسائل النحو وقضاياه، مالا تكاد تجد بعضه في كتب النحو المتداولة (٣) .
واقرأ إن شئت: الإمتناع والمؤانسة، ومثالب الوزيرين، كلاهما لأبي حيان التوحيدي، ورسالة الملائكة، ورسالة الغفران، الاثنان لأبي العلاء المعرى، والروض الأنف للسهيلي، وبدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، والغيث المسجم في شرح لامية العجم، لصالح الدين
_________
(١) أنظر مقالة بعنوان: "فهارس الشعر واللغة لكتاب غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام". مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي - كلية الشريعة - جامعة أم القرى. العدد الرابع ١٤٠١هـ.
(٢) وقد وجدت من ذلك شيئًا مأثورًا عن أبي العباس ثعلب، في شرحه على ديوان زهير بن أبي سلمى، ولم أجده في "مجالسه" ولا في "فصيحه".
(٣) ليس يرجع ذلك إلى قصور في كتب النحو، بل يرجع إلى أن أصحاب هذه الكتب قد وقع لهم من كتب أصول النحو، ما لم يقع للمصنفين في النحو، أو أن ذلك قد واتاهم بحسن النظر والتأمل، وقد كان لبعضهم مشاركة ظاهرة في النحو، كالإمام السهيلي.
1 / 36