الإمبراطور ثيودوسيوس يقدم الكنيسة إلى المسيح في جامع القاهرية (القعرية).
مريم العذراء وابنها في جامع القاهرية (القعرية).
وعدت من تلك الناحية بطريق قرن الذهب، فاغتنمت تلك الفرصة لمشاهدة حارة الفنار، حيث كان الأشراف يقيمون على عهد الدولة اليونانية، وقد سميت بهذا الاسم؛ لأنها كانت تحصن مدة الحصار في الليل على نور الفنار، وأشهر ما فيها منزل غبطة البطريرك القسطنطيني للروم الأرثوذكس، كان من حسن حظي أني زرته، ولما دخلت الدار رأيت في الدور الأول كنيسة عليها شعار الدولة الروسية حامية حمى الديانة الأرثوذكسية، والمنزل في الدور الأعلى، حيث رأيت غبطة البطريرك يواكيم في غرفة واسعة، وكان ساعة دخولي جالسا إلى كرسي كبير وأمامه منضدة تراكمت فوقها الأوراق، ولديه كاتبان يقدم أحدهما لغبطته المحررات التركية فيختمها بختمه التركي، والآخر يعرض الأوراق اليونانية فيكتب البطريرك اسمه عليها باليونانية، وقد قابلني غبطته بالترحاب، ثم حدثني عن عدة شئون، ولما هممت بالانصراف دعاني لزيارة المدرسة التابعة لذلك المكان فزرتها ورأيت فيها ستمائة تلميذ، وهي تعرف بلونها الأحمر وارتفاع مركزها حتى إنه ليمكن مشاهدتها من معظم نواحي الآستانة.
ويذكر بين مناظر الآستانة حديقة تقسيم في آخر شارع بيرا إلى جهة الشمال، ولهذه الحديقة مركز عظيم؛ لأنها تطل على البوسفور وما يليه، والناس يقصدون هذا المكان عند الغروب للتفرج على انعكاس أشعة الشمس عن زجاج المنازل المحيطة بالبوسفور، وهي تشبه النار المتقدة في شكلها، ولها منظر غريب، ولكن الشجر هنالك قليل والاعتناء ليس على ما يذكر، ولو وجه الاعتناء إلى هذه الحديقة لصيرها من أجمل متنزهات الآستانة.
ومما يذكر أيضا مصادر مياه الآستانة وغابة بلغراد تبعد عن طرابيه ثلاث ساعات ذهابا وإيابا، والطريق إليها من أجمل الطرق يكثر فيها شجر السنديان القديم والصنوبر والحور والصفصاف، وتعد تلك الغابات حدود جبال البلقان المشهورة. وأما مصدر الماء الذي يستقي منه أهل الآستانة فإنه خزان كبير بناه السلطان محمود الأول سنة 1722 وهو قائم على 21 قنطرة متينة، وتحيط بذلك الماء حدائق بهية وأغراس بديعة الأشكال فترى العائلات تقصد هذا الموضع الأنيق، وتقضي فيه نهارا بطوله في نعيم وصفاء، ولا عجب فإن منظره من المناظر التي تستحق الذكر على نوع خاص.
ومن هذا القبيل أيضا سان ستفانو، وهي من أشهر ضواحي الآستانة يقصدها الناس في أيام الآحاد والأعياد كما يقصدون سان ستفانو في الإسكندرية، ولا بد أن يذكر القراء ما لهذا الموضع من الشهرة البعيدة، فإن جنود الدولة الروسية وصلت إليه بعد حرب 1876 وعسكرت فيه، ولم ترجع عنه إلا بعد إبرام معاهدة سميت باسم هذا المكان، وقد أبدلت معاهدة سان ستفانو هذه في السنة التالية بمعاهدة برلين المشهورة، وهي أهم المعاهدات الدولية الحديثة، كل موادها متعلقة ببلاد الدولة العلية وممالك البلقان وكيفية استقلالها وتصرف الدولة في أمورها، ولها شهرة تغني عن التطويل.
ومما يذكر عن الآستانة كثرة كلابها؛ فإنها تكاد لا تعد في كل قسم منها، والناس يرأفون بها ويعدون الشفقة عليها من أكبر الفضائل، حتى إن بعضهم أوقف لها رزقا يوزع عليها من مواضع معينة، والبعض يأخذ بيده الطعام ويلقيه بين جماعة الكلاب من حين إلى حين، وقد ألف أهل الآستانة منظر هذه الكلاب وعواءها، فهم لا ينكرونه، ولكن النزلاء يضيق صدرهم منها ولا سيما من نباحها المتواصل في الليل، ويعد السياح هذا من مميزات العاصمة العثمانية ولهم فيه أحاديث ونكات.
وجملة القول إن الآستانة وضواحيها مجموع محاسن طبيعية وصناعية ليس في الإمكان تصويرها بالكتابة أو الإصابة التامة في وصف جمالها وبدائعها، وقد ذكرت شيئا منها ولم أذكر أشياء أخرى؛ لأن عاصمة الدولة العلية معروفة عند الأكثرين والذين سبقوني إلى الكتابة عنها ليسوا بقليلين، وقد أقمت في هذه العاصمة الزاهرة شهرا حتى إذا حان موعد السفر تركتها وقصدت مدينة بورصة، وهي التي يأتي الكلام عنها في الفصل الآتي.
بروسة (بورصة)
سمعت مرارا عن أهمية بورصة قاعدة ولاية خداوندكار، وعن صناعتها وجمال مناظرها وما لها من الذكر الكثير في تاريخ آل عثمان ومن تقدمهم؛ فعزمت على السفر إليها وهي التي كانت عاصمة الدولة العثمانية، جعلها السلطان أورخان مقر ملكه في القرن الخامس عشر قبل أن تملك العثمانيون مدينة أدرنه (أدريانوبل) ونقلوا إليها مركز قوتهم، ولم تزل مدينة بورصة فيها آثار السلاطين العظام الذين أسسوا هذه الدولة القوية وسكانها ثمانون ألفا، وهي في موقع له شأن قديم في حوادث البشر، فإنها وسط جبال شهيرة اسم أحدها أولمبوس وله ذكر في تاريخ اليونان عظيم ارتفاعه 2600 متر، وعلى مقربة منه كانت مدينة طروادة الشهيرة التي حاربت بلاد اليونان تلك الحرب العظيمة في أيام أشلس وعولس وغيرهم من الأبطال الذين ورد ذكرهم في الإلياذة وفي تواريخ اليونان القدماء. وقد اكتشف العلامة الألماني شليمان آثار طروادة هذه من نحو ثلاثين عاما، ولقي فيها من الآثار والتحف ما طير شهرته في الخافقين، ولا عجب فإن مدينة بورصة وجدت في بقعة رقيت سلم الحضارة حين كانت ممالك اليوم كلها طامسة الذكر وغير معروفة.
Bog aan la aqoon