هذا بعض ما يذكر بين ضفتي قرن الذهب، ولكن الآستانة - كما علمت - قسمان: أحدهما في أوروبا، وقد وصفنا ما فيه، والقسم الآخر في آسيا يعرف باسم أسكودار وهو مدينة لا يقل عدد سكانها عن خمسين ألفا كلهم من المسلمين ومعظمهم أتراك، وأبنية أسكودار منتشرة ما بين ضفة البوسفور والجبل على شكل طبقات بعضها فوق بعض، وفيها عدد ليس بقليل من الصروح والمنازل الفخيمة، والبواخر تسير إلى هذه الجهة ومنها في كل ساعة، فلما وطأنا أرضها أخذنا عربة وسرنا في طرق عوجاء متعرجة إلى مقبرة المسلمين، وهي من أوسع مقابر الأرض وأكبرها، طولها ثلاثة أميال، وفي كل جوانبها شجر من السرو باسق كثير العدد، وفي تلك الجهة مقبرة صغيرة للذين قتلوا من جيش إنكلترا في القرم سنة 1854 و1855، وقد كتبت أسماء المدفونين هنالك من الإنكليز على الأضرحة والأرض هبة من الدولة العلية.
وهنالك ثكنة (قشلاق) السليمانية، وهي من أكبر الثكنات العسكرية وأجملها بناها السلطان سليمان وحسنها السلطان مراد الرابع، فتأملنا هذا البناء الكبير ثم تقدمنا صعدا حتى وقفنا أسفل جبل بولغورلو، وهو الذي كنا نقصد الوصول إليه فترجلنا ومشينا ربع ساعة حتى بلغنا القمة، وهنالك تجلت لنا عروس الطبيعة بأبهى أشكالها، ورأينا سهولا زرعت بالعنب والتين والزيتون وغيره ممتدة إلى داخل القارة الآسيوية العظيمة، ومن ورائها عدد كبير من القرى والمزارع والطرق تتشعب من هنا ومن هناك بين تلك السهول الأريضة، وتتصل بأطراف العمائر ترصع جوانب البر الفسيح، فلا ترى من جانب البر إلا مثل ما ذكرنا من أدلة الخصب ومشاهد الجمال الطبيعي حتى إذا تحول الطرف إلى الناحية الأخرى رأيت البوسفور العجيب كأنما هو خط من اللجين بين خطين من السندس، وكل هاتيك المناظر البديعة التي عددناها واقعة فوق مجرى الماء تسير من فوقه السفن والباخرات لا عداد لها، وقد قامت من الجانبين قباب القصور والمآذن تشهد بتعاقد الطبيعة والصناعة في ذلك الموضع على إيصاله إلى أعلى درجات الجمال، كل هذا والموضع الذي ترى منه تلك الغرائب ليس فيه جماهير الناس ولا معدات للراحة من مثل الذي تراه في الجبال المجاورة للمدن الأوروبية مع أن هذا الموضع أحق بالالتفات والعناية من كل مكان، ولو أقام الواحد فيه أشهرا وأعواما لما مل النظر إلى تلك المشاهد التي تحدث في النفوس فتنة وتحدث بعظمة الباري الكريم.
ولما عدت في المساء إلى فندقي رأيت ألوف الناس عند جسر غلطه تحتشد أفواجا وهي في حركة كبرى، علمت منها ومن إطلاق المدافع ذلك الحين أن الغد - وهو الجمعة - سيكون موعد الاحتفال بميلاد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ويكون السلاملك حينئذ أفخم منه في بقية الأسابيع وأعظم، فما تأخرت عن الذهاب إليه وسرت على ما تقدم في المرة الماضية إلى باب السلاملك رأسا، حيث قدمت بطاقتي وجاءني سعادة نادر بك أحد الياوران الكرام فأدخلني القصر مرحبا، وقد أوضحت هيئة السلاملك فيما مر فلا لزوم للتكرار، غير أني رأيت في هذه المرة فوق ما رأيت قبلا من توافد العظماء والقواد ووقوفهم في خدمة جلالة السلطان حين وصوله أمام باب الجامع، وكان في صدر المحتفلين حضرات الوزراء الفخام يتقدمهم دولة الصدر الأعظم، فلما ظهر جلالة السلطان طأطئوا الرءوس وانحنوا إلى الأرض إجلالا وتكريما، ثم دخل جلالة السلطان جامعه وأقام فيه ساعة كاملة فلما عاد إلى قصره دار العمال يوزعون على الناس علبا فيها من الحلوى والملبس شيء يسمونه المولدية يأخذونه هدية تذكارا لذلك العيد، وكانت الآستانة يومئذ في عيد عظيم لاسيما في الليل؛ إذ أنيرت جهاتها أنوارا ساطعة وخرجت ربات الخدور في عرباتها المتوالية، فكان لمنظرها فوق ما يوصف من التأثير.
وخرجت بعد حضور هذا الاحتفال قاصدا زيارة المغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر الأسبق وصاحب المآثر العظيمة في هذه البلاد، فذهبت في باخرة تركتها في محطة ميركون وفيها قصره المشهور، فلما وصلت القصر استأذنت على يد التشريفاتي بمقابلة سموه؛ فأذن - رحمه الله - بذلك وارتقيت سلما بديعا إلى الطبقة العليا من القصر، حيث وجدت ذلك الأمير العظيم في صدر قاعة فخيمة، وقد ظهرت عليه لوائح الكبر، ولكن هيبة الملوك لم تفارقه، فرحب بي وسألني أين كنت؟ ولما أجبت أني زرت معظم العواصم الأوروبية، قال: إذا أنت زرت أكثر العواصم المشهورة مع زيارتك للولايات المتحدة السابقة، قلت: إني لن أنسى تعطف سموه وثقته بي حين ندبني للنيابة عن حكومته السنية في معرض أميركا سنة 1876، ثم دار الحديث بيننا عن أمور كثيرة، أهمها مصر والنيل، فلما أخبرت سموه أن الفيضان زاد عن حده المعتاد في العام السابق حتى خيف على البلاد من الغرق، قال: إن الزيادة في الفيضان لها دواء، وأما الشح فلا دواء له غير بناء الخزان، فهو إذا بني أفاد مصر فائدة عظيمة، وخرجت من حضرة هذا الأمير الجليل وأنا أفكر في عبر الدهر وتقلب أحواله، كيف أوصل إسماعيل الذي دانت له رقاب الملايين وجمع من المال ما لم يجمعه ملك قبله، ورأى من أشكال العز ما يعز نظيره على أكابر الملوك صار إلى قصر واحد في الآستانة لا يبرحه، وسبحان الذي يغير ولا يتغير!
وقصدت في ذلك النهار قاضي كوي عند رأس البوسفور من جهة آسيا، عدد سكانها نحو عشرين ألفا أكثرهم أروام، ولها موقع بديع يقصدها الناس من أهل بيرا وغلطه لقضاء فصل الصيف ويفضلونها على غيرها؛ لأنها قريبة سهلة الاتصال بقلب الآستانة، وقل أن يوجد هنالك بيت بلا حديقة صغيرة أو كبيرة أمامه، والناس ينتابون هذا المصيف البهي في يوم الأحد من كل أسبوع، فيجتمع فيه من أشكال الساكنين في الآستانة ما ترتاح إلى مشاهدته العيون وتنشرح لمرآه الصدور، وهنالك كنيسة للروم الأرثوذكس بنيت على أطلال كنيسة قديمة اجتمع فيها المجمع الخلكيدوني سنة 451 لتقرير بعض المبادئ الدينية ، فلما فتح البلاد آل عثمان هدموها واستعملت حجارتها في بناء جامع السلطان سليمان. وشوارع قاضي كوي مبلطة بالحجر ، وهي نظيفة منظمة ظللت أتمشى فيها حتى آن وقت الرجوع إلى مقري في بيرا.
على أن هذه المصايف والمتنزهات كلها ليست بالشيء الذي يذكر عند جوهرة المصايف وزينة المتنزهات طرا، أريد بها برنكبو أو جزيرة الأمراء. ولهذه الجزيرة شهرة طائلة في الآفاق؛ فإنها فريدة في الموقع المفرط جماله وفي طيب الهواء والماء وما حوت من أشكال الحسن والبهاء، وهي في بحر مرمرا تبعد عن الآستانة نحو ساعتين فيها قصور الأمراء ومنازل السراة الأغنياء، وفيها يتألب الألوف يوما وراء يوم لرؤية الذي امتازت به هذه الجزيرة من المحاسن الطبيعية والزخارف الصناعية، ولست أذكر أن بين الضواحي الأوروبية ما يزيد عن برنكبو هذه في جمالها وجودة هوائها؛ فإنه إذا كانت ضواحي باريس وبرلين وبطرسبرج وفيينا ولندن معروفة بالمحاسن الكثيرة والإتقان الفائق، فشتان بين بردها وغيمها ومطرها وبين الهواء الرقيق في هذه الجزيرة والسماء الرائقة ووسائل الرغد والهناء المتوفرة في كل جانب.
وبرنكبو إحدى جزر عدة، أولها من ناحية الآستانة جزيرة بيروتي، وتليها جزيرة إنتغوني، وبعدها خالكي وهي مبنية بين جبال صغيرة كثيرة الجمال، وعلى قمة أحدها دير للروم الأرثوذكس على اسم الثالوث الأقدس جعلوه سنة 1844 مدرسة لاهوتية فيها نحو مائة طالب، وقد كان من ضمن المتخرجين في هذه المدرسة سيادة الأرشمندريتي جراسميوس مسره المشهور بمؤلفاته الدينية، وهو الآن مطران بيروت، وآخر هذه الجزر، بل أعظمها وأبهاها وأكبرها، جزيرة برنكبو، هي مجموع غياض وحراج وحدائق وبساتين وقصور صغيرة أو كبيرة وطرق منظمة وفنادق جميلة ومناظر بديعة في كل جانب، يصلها الزائر فينزل إلى شارع فسيح تحف به الأشجار من الجانبين، ويمتد ذلك الشارع حول الجزيرة برمتها، فتارة فيه شجر غرس للتظليل على مثل ما في بقية الشوارع، وطورا يخترق حراجا من شجر الصنوبر البهي تتضوع منه الروائح العطرة أو حدائق وكروما وأغراسا نافعة، وحينا يشرف على البحر أو تحدق به الهضاب والآكام وما فيها من نبت وشجر من كل ناحية، فكأنما المرء في برنكبو يتقلب في نعيم الجنة أو هو في بلاد مسحورة كلها جمال رائع وبدائع في بدائع، هذا غير أن الموسيقى تصدح هنالك والمطاعم كثيرة نظيفة، والقهاوي والحانات والأماكن العمومية - بوجه الإجمال - لا تبقي حاجة في نفس يعقوب، فإن شئت عيشا هنيئا فعليك بجزيرة الأمراء، إنها مركز الجمال والهواء الطيب بلا مراء، ولطالما تغنى الشعراء بمدح هذه البقعة العجيبة وأطال كتاب الشرق والغرب في وصفها مهما أقل في مدحها فإني مقصر لا أفيها بعض حقها، فأكتفي بما تقدم وأقول إني ارتقيت قمة جبل فيها من فوقه دير للقديس جورجيوس وهو للروم الأرثوذكس أيضا، كل طرقه مرصعة بالبطم والآس وهاتيك الأعشاب والأشجار العطرة تعبق روائحها الطيبة في وجوه الزائرين فتزيد المكان حسنا على حسن وغرابة على غرابة. ثم قصدت في اليوم التالي الجبل الآخر من جبال هذه الجزيرة الحسناء، فكنت أحمد الله على روائح الآس والبطم وبخور الأعشاب المختلفة، وعلى الذي اكتحلت عيني بمرآه من غريب المشاهد البرية والبحرية، حتى إذا وصلت قمة الجبل ورأيت دير المخلص وسرحت النظر في هاتيك البدائع المحيطة به برا وبحرا؛ عدت إلى موضعي وكلي إعجاب بجزيرة الأمراء، وقد حدثتني النفس أن أسميها أميرة الجزر أو ملكة الضواحي، وأقمت فيها يومين كنا كطرفة عين، ثم عدت إلى الآستانة لأتمم الذي شرعت به من درس مشاهدها.
ولما انتهيت من أشهر المتنزهات الحديثة في الآستانة على مثل ما رأيت تذكرت تاريخها الأول ومتنزهاتها السابقة، فذهبت إلى حيث كان ملوك الدولة اليونانية قبل الفتح العثماني يسكنون، ورأيت السور الذي قتل من ورائه آخر ملوك القسطنطينية في حربه مع العثمانيين على ما ذكرنا في صدر هذا الفصل، والسور طوله 6671 مترا وعرضه أربعة أمتار، وعليه 64 برجا و71 متراسا، وله أبواب سبعة من الحديد، وهو يحيط بالمدينة القديمة أو القسم المعروف الآن باسم استانبول، أخذه العثمانيون عن لفظ رومي معناه المدينة وهو «ستي بولي»، فمرت بنا العربة في شوارع مهملة داخل هذا السور المتهدم، وما بقي منه غير أجزاء قليلة وخنادق تملأ بالماء حين الحاجة؛ منعا للمتقدم عليها من الوصول، ووقفنا عند باب هليوبولس (اسم مدينة الشمس المصرية واسمه الآن باب مولانا)، فرأيت فوقه رسوما دينية مسيحية وكتابات يونانية، ورأيت بعد ذلك طوب قبو؛ أي باب المدفع، سمي بذلك؛ لأن العثمانيين نصبوا فوقه مدفعا كبيرا وقت فتح الآستانة، وكانت المدافع يومئذ في أول عهدها، وأول من استعملها العثمانيون في حربهم مع إيران أولا ومع ملوك الدولة اليونانية ثانيا. ومما يروى عن طوب قبو هذا أن قسطنطين باليولوغوس آخر ملوك القسطنطينية مات وراءه وهو يحارب مع جنوده، فماتت الدولة بموته وصارت البلاد إلى قبضة محمد الفاتح ومن خلفه.
وخرجت من السور إلى جامع القاهرية الذي كان كنيسة مشهورة قبل الفتح وصار جامعا، ولكن بعض رسومه الدينية في الرواق الخارجي باقية على حالها يقصدها الناس للتأمل بمحاسنها من أبعد الأنحاء حتى إن إمبراطور ألمانيا زار هذا الجامع لمشاهدتها، ومن هذه الصور، رسم السيد المسيح يحيط به الحواريون والرسم كله مصنوع بقطع الفسيفساء النفيسة في سقف الرواق، وصورة العذراء والرسل وصور بعض الملائكة والقديسين والحوادث المذكورة في الإنجيل، مثل قتل الأطفال بأمر هيردوس، وفرار يوسف النجار مع عائلته إلى مصر وقيام إلعازر من الموت، وغير هذا كثير كله باق على حاله الأصلي ولم يزل شيء من رونقه وجماله.
Bog aan la aqoon