والمسافة بين الآستانة وبورصة هذه خمس ساعات، بعضها بالبحر وبعضها بالبر، ركبت باخرة من بواخر الشركة المخصوصة، وسرنا في بحر مرمرا البهي نمر بالضواحي المشهورة مثل جزائر الأمراء وغيرها، ثم تجاوزت السفينة هذه المناظر الفاتنة وأطلت على غيرها لا تقل عنها بهاء وحسنا حتى رست في موادنيه وهي فرضة بورصة وأسكلتها، نزلت إليها مع اثنين من وجهاء الروس: أحدهما الموسيو ماكسيموف الذي كان قنصل دولته الجنرال في مصر، والثاني طبيب السفارة، وكان الرجلان مثلي يقصدان مدينة بورصة وغايتهما من السفر الاستحمام في حماماتها المعدنية؛ لأن هذه المدينة امتازت بأشياء كثيرة كالحمامات المعدنية وصناعة الحرير والطنافس وآثار الذين أسسوا دولة آل عثمان وغير هذا مما تراه في هذا الفصل القصير.
وأما فرضة موادنيه فإنها بلدة صغيرة لا يزيد عدد الساكنين فيها عن خمسة آلاف نفس، وكل أهميتها قائمة في أنها الصلة ما بين بورصة والجهات الأخرى، فمنها تنقل الأبضعة الصادرة والواردة؛ ولهذا أصبحت من المراكز التجارية المعروفة عند تجار الزيت والزيتون والعنب والكستناء والحرير والدخان، ودخل الدولة العلية من جمركها ليس بالشيء القليل، والمسافة بينها وبين بورصة ساعتان ونصف في القطار الحديدي كلها وسط محاسن طبيعية من الطبقة الأولى، فإن البلاد هنا جبلية والقطار يقضي مدة السفر في صعود ونزول وتعرج وتفتل بين هاتيك المسالك كأنما هو الأفعى تنساب في وسط الجبال؛ ولهذا جعلنا نتطال لنمتع الطرف بمناظر الجبل وما حوله حين كان القطار يتسلقه، فنرى بساتين الزيتون وكروم العنب وحقول الزرع والفاكهة، تدل ثمارها الشهية على خصب الأرض وجودة التربة، ثم إذا انحدر القطار دخلنا في واد شهي بهية أرجاؤه ومن ورائه سهول ومروج تنشرح لمرآها الصدور وقد ملئت زرعا، وما زال القطار يخترق هذه المناظر ويقف في محطات صغرى آنا بعد آخر حتى وصل بورصة فتركناه وقصدنا فندق سيدة فرنسوية عند مدخل المدينة في حديقة كثيرة الشجر والفواكه.
ولما كانت بورصة مركز قوة آل عثمان في بدء عهدهم؛ فإن كثيرا من شهرتها ينسب إلى ما فيها من الترب وآثار السلاطين السابقين؛ ولهذا فإني قصدت تربة السلطان عثمان مشيد أركان هذه الدولة القوية وجدها الكريم، والتربة محاطة بسور جميل مرتفع وهي في وسط حديقة غناء فيها برك يتدفق منها الماء تشرف على وادي بورصة الشهير، وقد أقام على بابها حارس أمين فتح لنا الباب حين وصولنا فدخلناها وإذا هي حسنة البناء عريضة الجوانب عالية الأركان لونها أزرق جميل ولها ثمان نوافذ، وفي سقفها ثريا بديعة الصنع مدلاة على شكل بهي، وفي جدرانها مصابيح جميلة والأرض مفروشة بفاخر الطنافس والضريح في الوسط بني من الرخام وغطي بشال كشميري أبيض ثمين حسب العادة التركية، وعند الرأس عمامة كالتي كان يلبسها هذا السلطان العظيم، وقد كتب فوق الضريح تاريخ ولادة السلطان ومدة حياته وتاريخ ارتقائه العرش وتاريخ وفاته. وهنالك مصاحف قديمة وبعض الآثار النبوية، وليس يمكن لزائر هذا الضريح أن يقف أمامه إلا ويخطر في باله أنه واقف أمام أثر الرجل العظيم الذي أسس دولة من أقوى دول الأرض، فيتأثر الواقف لذكره وذكر أمور الدهر الذي لم يقو على طي عظمته.
ويلي هذه التربة مدفن السلطان أورخان ابن السلطان عثمان الأول وفاتح بورصة، وهو يشبه التربة التي ذكرناها في شكلها، وإلى يمين هذا المدفن ضريح السلطان قورقور ابن السلطان بيازيد، وإلى يساره ضريح قاسم جلبي ابن السلطان أورخان، كل هذه الأضرحة النفيسة في وسط حديقة بديعة - كما تقدم القول - غرست على قمة جبل يشرف الواقف فيها على وادي بورصة وما حوله من الجبال والمزارع والوديان، والجداول تخترق هاتيك الحقول والبساتين حيث ينمو ألذ أشكال الفاكهة الكثيرة ومنظرها فاتن الجمال. وهنالك ترى جبل أولمبيا الذي مر ذكره والماء يتدفق من جوانبه البهية، فيسعى في جوانب السهل الممتد من تحته ويروي تلك الأراضي الطيبة، ناهيك عما يتدفق من الينابيع في قاع الوادي فتجري الجداول متشعبة في كل ناحية ما بين الأغراس النضرة والشجر الغضيض ويحلو للمرء أن يقيم أياما في تلك البقعة يتفرج على محاسنها، فذكرني ذلك بمحاسن سويسرا والفرق بين الجهتين في كثرة الذين ينتابونهما، فإن أراضي سويسرا حافلة بالسائحين والمتفرجين يأتونها ألوفا كل حين، وأما بورصة فقليل من يزورها غير أصحاب الحاجة مع أنها أجود تربة وأطيب هواء وأعذب ماء، وفيها غير الجمال الطبيعي تلك الحمامات المعدنية، والمعيشة فيها أرخص وأسهل من المعيشة في مصايف أوروبا؛ فإن أقة العنب تباع في السوق بعشر بارات، والفاكهة فيها كبيرة الحجم لذيذة الطعم رخيصة الثمن، فيا حبذا لو قام من يعني بتسهيل سبل السفر والإقامة في تلك الناحية البهية.
وذهبت بعد ذلك إلى جامع المرادية، بناه السلطان مراد الثاني، سرنا إليه برواق قام على أعمدة من الرخام، وكتب فوق بابه: «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.» ومحراب الجامع من الخشب الدقيق الصنع، وعلى جدرانه قطع من القيشاني غالية المقدار، وإلى جانب هذا الجامع تربة بانيه في حديقة جميلة، والضريح مبني بالرخام، وقد زرعوا في أعلاه قمحا وفتحوا سقف البناء حتى يسقي الغمام هذا الزرع فينمو فوق عظام السلطان العظيم، وذلك قياما بأمره؛ لأنه أوصى أن يبقى قبره مفتوحا لتمطر عليه السماء من بركاتها، وهو السلطان الذي أوصى قومه بفتح الآستانة وكتب ذلك بيده على لوح حفظ عند ضريحه، وعند الضريح التواريخ المعتادة والشال والعمامة وبعض الآثار النبوية على مثل ما تقدم في وصف غيره من الأضرحة. وفي حديقة التربة أشجار قديمة العهد كبيرة الحجم يبلغ محيط بعضها 40 قدما و46، ومنها واحدة أحرق الغلمان ساقها ليجعلوا داخلها ملعبا لهم يمكن أن تضم عشرة أولاد داخل ساقها.
وقصدت بعد هذا الجامع الأخضر (أشل جامع) سمي بذلك؛ لأن ظاهره بني بالقيشاني الأخضر النفيس، وبعض آثاره باقية إلى الآن، بناه السلطان محمد الأول سنة 1420، وهو في سفح جبل يشرف على وادي بورصة، وقد امتنع لمتانة بنائه على الزلازل ومرور القرون فما تهدم، وله شهرة عظيمة في جهات السلطنة، وداخل الجامع مكسو بالقيشاني الأزرق عليه آيات قرآنية، ولهذا القيشاني ثمن عظيم؛ لأنه قل وجوده وضاع سر صناعته وله جمال كثير لا يمكن وصفه، والأوروبيون إذا عثروا على قطعة منه أحلوها محلا عظيما.
هذا أشهر ما يذكر عن الأضرحة والترب العظيمة في العاصمة الأولى لسلطنة آل عثمان، ولكن شهرة المدينة الحالية قائمة بصناعتها ومتاجرها وبحماماتها المعدنية. فأما الصناعة فأشهرها الحرير؛ فإن لأهل هذه المدينة علما دقيقا بصناعة المناشف الحريرية، وهي مختلفة الأثمان لا يقل ثمن الطاقم منها عن خمسين ليرا إذا كانت من الصنف الأول، وتعد من أفخر المنسوجات الشرقية وأجملها، وللناس هناك عناية بزرع التوت وتربية دود القز لاستخراج الحرير، وقد نزحت عائلات فرنسوية كثيرة إلى هذه المدينة من عدة أعوام لإنماء هذه الصناعة، وهي تسكن في حي النصارى فإن المدينة قسمان: أولهما للمسلمين وهم نحو سبعة أثمان الساكنين، والثاني للنصارى وهم الثمن وأكثرهم أروام وأرمن. وفي بورصة الآن خمسون معملا للحرير أكثر عمالها من البنات لا يقل عددهن عن ثلاثة آلاف بنت، قصدت مرة أحد هذه المعامل فرأيت البنات على غاية من السكينة والاحتشام يتكلمن بصوت منخفض، وقد عكفن على صناعتهن وعلمت من الإحصاء الرسمي أن صادرات الحرير من بورصة تبلغ قيمتها 12 مليون فرنك في السنة، وليس هذا القليل على مدينة مثلها.
وأما متاجر بورصة الأخرى فأهمها بالحاصلات والحبوب والفاكهة الطرية والناشفة. والذي يزور السهول والوديان المحيطة بهذه المدينة لا يعجب من اتساع تجارتها بغلة الأرض؛ لأن ضواحيها في كل جهة ملأى بالمزارع والحقول، وقد ظهرت آثار الاعتناء إلى حد عجيب حتى إن الصخور لم تترك جرداء بل زرع فوقها شيء يستفيد منه الناس، وعلمت أن أكثر الهمة في ذلك لقوم من الجراكسة هجروا بلادهم وأقطعتهم الدولة العلية بعض أرضها هنا كما فعلت في عدة نواحي من سلطنتها الواسعة، وقد صارت تلك الجبال جنات بحسن اجتهادهم واشتهرت غلتها وفاكهتها شهرة زائدة كما اشتهرت زراعة إخوانهم في جنوبي سورية، حيث أقاموا بأمر الحكومة وصيروا البراري جنات فسيحة تشهد لهم بالهمة والاجتهاد.
وأما الحمامات المعدنية في بورصة فهي على مسيرة ثلث ساعة من المدينة قصدتها مع الموسيو ماكسيموف - وقد مر ذكره - فإذا هي سبعة مختلفة الأشكال بعضها ماؤه حديدي والبعض كبريتي يفيد في الأمراض الجلدية، وبعضها بارد الماء نقيه والبعض حار مثل أكثر الحمامات المعدنية، لا تقل في بعض الأحيان حرارته عن 80 درجة بقياس سنتغراد. وقد أتقن بناء هذه الحمامات وأكثرها مبلط بالرخام والخدمة فيه متقنة، ولو أن وسائل الانتقال والإقامة متيسرة في بورصة لأم هذه الحمامات آلاف مؤلفة من السائحين تستدر البلاد منهم مالا وفيرا في كل عام؛ لأن الذين جربوا ماء حمامات بورصة شهدوا بنفعه وجودته وفضلوه على ماء حمامات النمسا، وهي لا يعد المتقاطرون إليها من كل جهات الأرض.
ولما فرغت من رؤية ما في بورصة خرجت إلى ضواحيها على جواد مع ترجمان رافقني نريد الوصول إلى جبل أولمبيا، فمررنا بكثير من الربض والآجام راق لي فرط جمالها، ورأيت بعض الحراج محروقا فعلمت أن الرعاة يفعلون ذلك لينبت عشب في موضع الشجر ترعاه مواشيهم، وكثيرا ما كنت ألتقي بهؤلاء الرعاة وتثور كلابهم علينا مثل الضواري، وهم لا يردونها عنا، وأشرفت من سفح الجبل على عدة أماكن مشهورة في التاريخ القديم والحديث، منها: بحيرة أبولونيا وسهول مسينيا وجبال أيدا وطروادة، وغير هذا مما يذكر المرء بعبر الدهر وحوادث الأيام، حتى إذا انتهيت من ذلك عدت إلى الآستانة في الطريق الذي جئت منه، وبعد أيام رجعت إلى القطر المصري، وقد أقمت في الآستانة وضواحيها شهرا كاملا وقطعت المسافة بين تلك العاصمة وثغر الإسكندرية في باخرة روسية مرت على بيريا وهي أسكلة أثينا، وما نزلنا لنراها بسبب الحجر الصحي، ثم وصلنا ميناء الإسكندرية حيث استقر بي النوى بعد سفر طويل وسياحة عظيمة رأيت فيها من مشاهد أوروبا شيئا كثيرا، فما سطرت منه في هذه الفصول إلا القليل.
Bog aan la aqoon