والوجه الثاني من معنى المحكم: أن كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع منه معنى أو معنيان يشهد بصحتهما دلالة العقل وصريح السمع يحكيه قول الله تعالى: ((منه آيات محكمات هن أم الكتاب)). فلم يصف بالإحكام على الوجه الأخير إلا البعض لأنه تعالى قال: ((منه آيات محكمات هن أم الكتاب)). أي أصله الذي يرجع إليه ((وأخر متشابهات)). فنوعه نوعين، فلولا حملنا له على هذه المعاني الصحيحة لكان عز من قائل متناقضا، لأن الشيء الواحد لا يكون بصفتين متنافيتين في حالة واحدة، ولا يسوغ ذلك عقل سليم.
ثم قال عليه السلام: ولا يحسن أن يخاطبنا سبحانه بخطاب لا نفهم معناه، والدليل على ذلك أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح، أما أنه حكيم فلأنه عالم غني، ولا يقع القبيح والعبث إلا من الجاهل المحتاج، وقد صح علمه، بوجود الأفعال من قبله محكمة، وغناه باستحالة الحاجة عليه، فإذا خاطبنا بخطاب لا يفهم كان كمخاطبتنا للعرب بالزنجية ولا ترجمان، فإن ذلك يكون عبثا لأنه لا يخلو إما أن يريد معرفة ما نكلمه به أولا نريد، فإن لم نرد كان الخطاب عبثا، وإن أردنا كان الخطاب قبيحا، لأنا نكلفه علم مالا سبيل له إلى علمه، وتكليف مالا يفهم معناه قبيح، يعلم بقبحه كل عاقل، فإذا تقررت هذه الجملة ثبت أنه لا يجوز أن يكون في كتاب الله سبحانه ما لا يفهم معناه، فإذا كلفنا معرفة معناه فلا بد من طريق إلى ذلك وإلا قبح.
Bogga 82