[المصابيح(الأول)]
المصابيح الساطعة الأنوار
(تفسير أهل البيت عليهم السلام)
الجزء الأول
للسيد الإمام عبدالله بن أحمد الشرفي عليهما السلام بسم الله الرحمن الرحيم
Bogga 1
وبه ثقتي ونعم الوكيل
[مقدمة]
الحمد لله الذي جعل القرآن نورا هدانا به من ظلمات الضلالة، ورحمة وشفاء من داء كل عمى وجهالة، ونجاة لمن اعتصم به وبأهله الذين دل عليهم بأوضح دلالة، وجعله جل وعلا لمن عقل واهتدى دليلا على من إليه هدى ، ومبينا لقدرة من قدره، وشاهدا على حكمة من دبره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الذين هم عيبة علمه اصطفاهم لإرث وحيه، فخصهم باستخراج حكمه، وجعلهم حفاظ كتابه وأحكامه، وخزان حلاله وحرامه، والمستحفظين على أسراره وغوامضه، والقائمين بنشر مسنوناته وفرائضه، والعالمين بطرق الصواب مما اختلف فيه المختلفون، والمبينين للصحيح الذي تقول فيه المتقولون، إذ هم الدعوة الباقية في عقب إبراهيم الخليل مهبط التنزيل، وملجأ التأويل، ومختلف ميكائيل وجبريل.
وبعد :
Bogga 2
فإنه لما كان كتاب الله العزيز كذلك، وكانت حكمته عز وجل اقتضت إنزاله على الأساليب العربية والمعاني اللغوية، وفيها العام والخاص والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، وما يحتمل وجها، وما يحتمل وجهين فأكثر، وما تتشابه فيه المعاني وتتعدد فيه الوجوه، ولذلك من لم يتبع سبيل أعلام الهدى ، وأرباب التقى أهل بيت محمد المصطفى ، صلوات الله عليه وعليهم وسلم فسر الكتاب على آرائه، والحق على أهوائه، فعمي وعمى على غيره، وضل وضل غيره بسببه، وترى المنتصر يصرف الأدلة بمجرد العبارات، ويتطلب للتأويلات حتى يقوم الأدلة إلى مساق هوى النفس، فيقربها إليه، ويعتمد في دينه ودنياه عليه، لا يلوح لأعين البصائر فيه إلا كلمعان البروق، وترقرق فيه لأهل الأهواء والأغاليط أقاويل تروق.
ولقد صدق أمير المؤمنين عليه صلوات رب العالمين حيث يقول:"سيأتي بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته" [يريد عليه السلام إذا اتبع حق اتباعه كذا عن زيد بن علي عليه السلام ]"ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه" اه.
Bogga 3
قال بعض أئمتنا عليهم السلام: والتحريف على وجهين أحدهما: تحريف ما أنزل الله لفظا كما يفعله اليهود والثاني: تحريفه تأويلا كما يفعله أهل البدع والأهواء، فيجب التثبت في ذلك لئلا يضل بضلالهم، ويجب الإقتداء بمن أمر الله الإقتداء بهم، والكون معهم من آل رسول الله صلى الله عليه وعليهم السلام لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أمننا من الضلال مهما تمسكنا بهم، إذ أخبرنا وهو الصادق في خبره أن المتمسك بهم لن يضل أبدا، وأن اللطيف الخبير نبأه بذلك، وقال علي عليه السلام: "ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول": (إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيحرمه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم منافق اللسان يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون). اه.
وقد أخبرك الله عن المنافقين أنهم يقولون: يريدون أن يبدلوا كلام الله كما أخبر الله عن من مضى من قبلهم من أهل الكتاب أنهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه وعن مواضعه، ويكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، وأنه منعهم عن ذلك بالإعجاز، وحال بينهم وبين تبديل القول بالحفظ وابتلاهم من جهة التأويل وأبان حالهم فيه ومقاصدهم إليه.
Bogga 4
قال: ((فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)).[آل عمران: 7]. وأنه عز وجل بحكمته حفظ التأويل كما حفظ التنزيل بتفضيل بعض خلقه في العلم كما فضل بعضهم على بعض في الرزق، وبيان من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، ومن جعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، وببيان من اختاره ليترجم عن تأويله كبيان اختياره لمن يتحمل عهدة تنزيله ممن يفسر بعض القرآن ببعضه، ويدل على متشابهه بمحكمه بنحو قوله تعالى: ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)).[فاطر: 32]. وتفسيره بقوله عز وجل: ((إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)).[آل عمران: 33،34]. فقوله سبحانه: ((ذرية بعضها من بعض)). ليس المراد به تعليم الخلق تناسلهم وولادة بعضهم من بعض لأنه أمر ظاهر معلوم، وإنما المراد موافقة طريقتهم التي لها ولأجلها اختارهم الله تعالى، فدلت الآية على مزية وخصوصية زائدة على الإيمان والولادة والقرابة، وتلك الخصوصية هي موافقة من اصطفاه الله في باب الطهارة والعصمة والكمال والوقار واجتماع الخصال التي تسعها النبوة والإمامة، وهذا ظاهر لأنه إذا لم يكن معنى بعضهم من بعض الولادة فلا يبقى إلا ما ذكرناه، وسيأتي بيان ذلك وغيره شافيا إن شاء الله تعالى في مواضعه، وتعيينه سبحانه باصطفائه محمدا الطاهر أن المصطفين لإرث هذا الكتاب [إذ لا يصدق قوله: ((ذرية بعضها من بعض)). على غيرهم] هم ذريته الأخاير، يزيد هذا وضوحا قوله تعالى: ((ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب)).[الحديد: 26]. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء من ذريتهما فيجب أن تكون ذريته هم خاتمة الذراري الذين أخبر الله أنه يجعل الكتاب فيهم وتعيينه إياها في ولد الحسن والحسين سلام الله عليهما وعليهم بنحو آية المباهلة، ونحو خبر (كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما). والإجماع المعلوم بين الأمة.
Bogga 6
قال الإمام الأعظم القاسم بن إبراهيم عليهم السلام: وقد احتج بهذه الآية ونحوها على هذا المعنى في الأنبياء وذرياتهم وفي نبينا وذريته عليهم السلام، فأي ضياء أضوى؟. أو حجة لمحتج أقوى؟. في إثبات الصفوة والفضل لأبناء المنتجبين من الرسل مما تلونا تنزيلا مبانا أنزله الله في وحيه قرآنا لا تعارضه شبهة لبس، ولا يلبس على ذي ارتياده ملبس، ولكن اقتطع الناس دونه - وحال بين العامة وبينه - جور أكابرهم في الحكم، واعتساف جبابرتهم فيه بالظلم، فأعين العامة في غطاء عن مذكوره، وقلوبهم ذات عمى عن نوره، فمعروفه لديهم مجهول، وداعيه فيهم مرذول إن لم يقتل عليه عظم تعسفه فيه، ولم يعدوا من جهلهم بفرضه وما هم عليه من رفضه سبيل ما هم عليه وما أمسوا وأصبحوا فيه من جهل غيره من الحقوق وتعطيلها ومحو أعلام الدين وتبديلها، فالله المستعان في ذلك وغيره وإياه نسأل تبديل ذلك وتغييره إلى آخر كلامه عليه السلام في هذا المعنى وهو طويل جدا.
Bogga 7
وببيان أن في المصطفين ظالما لنفسه لا يؤمن على التأويل ولا يوثق به في الإتباع كمن كان في من قبلهم من ذرية الأنبياء فيما أخبر من قوله تعالى: ((ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون)).[الحديد: 26]. وقوله في إبراهيم صلوات الله عليه: ((وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين)).[الصافات: 113]. واما كانت الحاجة إلى معرفة السابق والمقتصد من ضروريات التكليف، وعدم إبانة أمرهما من التعمية والتلبيس، بين سبحانه من يجب اتباعه والكون معه بالصفة التي فيها أكمل المعرفة فقال عز وجل: ((ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )).[التوبة: 119]. فقوله: ((وكونوا مع الصادقين)). أمر بموافقة الصادقين ونهي عن مفارقتهم وظاهر الأمر للوجوب، والله سبحانه بحكمته لا يأمر بالكون مع من لا يعلم صدقه قطعا فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين، لأن الكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء، فهذا يدل على أنه لابد من وجود الصادق في كل وقت، فيجب علينا حينئذ طلبه لنكون معه كما أمر الله، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
Bogga 8
قال في البلغة ([1]). في تفسير هذه الآية:<أمر الله المؤمنين بالتقوى وهو أن يجتنبوا المعاصي وأمرهم بالكون مع الصادقين، والصادقون هم الأنبياء والأئمة عليهم السلام والصديقون من المؤمنين، والفرق بين كن مع الصادقين، وبين كن من الصادقين، وبين كن في الصادقين أن مع تفيد المصاحبة، ومن تنبي عن التبعيض، وفي عن الظرف والوعاء، فمن كان في جملتهم فقد حصل المعاني الثلاثة، وكان علي بن الحسين عليهما السلام إذا تلي هذه الآية بكى وناح على نفسه، وله أدعية طويلة في هذا الباب مفصلة بالمواعظ البليغة والحكم البديعة>.
----
([1]) البلغة لمن لا يحضر المفسر في تفسير القرآن العظيم تأليف محمد بن محمد بن أحمد بن الحكم الطوسي (أبو العباس) منه نسخة مخطوطة من الجزء الثالث، وأخرى الجزء الرابع في المكتبة الغربية الجامع الكبير رقم 11 12 تفسير، ونسخة خ في مكتبة جامع شهارة وقد نقل عنه المؤلف كثيرا.
Bogga 9
ثم فسرهم بأحوالهم ودل عليهم بأقوالهم وأعمالهم بقوله عز وجل: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)).[البقرة: 177]. ثم قال عز وجل في من جمع هذه الأوصاف: ((أولئك الذين صدقوا)). [البقرة: 177]. وقال: ((وأولئك هم المتقون)). [البقرة: 177]. ثم أمر الله تعالى بالكون معهم حيث قال: ((وكونوا مع الصادقين )).[التوبة: 119]. وقوله تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)).[الحجرات: 15]. قال الهادي إلى الحق عليه السلام: <فلم يحكم عز وجل بحقائق الإيمان إلا لمن بعد منه الارتياب في وجوه الدين والإحسان فنسأل الله الثبات على دينه والتوفيق لما يرضيه برحمته>.
Bogga 10
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهم السلام: < لما عقب ذلك بقوله سبحانه: ((أولئك هم الصادقون)).[الحجرات: 15]. دل ذلك على أن من ادعى الإيمان بغير ما ذكرنا فهو من الكاذبين وأن دعواه تلحق بدعوى المنافقين سيما وقد أكد بترك الارتياب ولا يزول الارتياب إلا بعد استحكام العلم بالبرهان > وسيأتي كلامه إن شاء الله مستوفى في الحجرات.
ولم نجد من اجتمعت له هذه الصفات واقتفى خلفه سلفه في هذه الدلالات الواضحات غير هؤلاء الآثمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين طابقت عقائدهم المعقول والمنقول، فشهد لهم بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والسنن صرائح العقول، وعرف منهم الحرص على سائر صفات الذين صدقوا بما ميزوا به من المحقين والمبطلين والمطيعين والعاصين وفرقوا لأن الله عز وجل لا يخلي بين الكاذبين وبين الأمور التي لا تكون إلا من صفة الصادقين، لأن الحكيم في حكمه قد جعل بين الحق والباطل فصلا، وبين منزلة الصادقين والكاذبين فرقا، وكذلك صفة المؤمنين من العاملين والمخلصين أمرهم مباين لسيما المموهين.
Bogga 11
قال في البلغة: <فإذا كان الله تعالى أثنى على من كانت صفته ما ذكر في الآية ووصفهم بأنهم الصادقون المتقون الفاضلون ولا يوجد في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد نبيئها عليه وآله السلام بهذه الصفة أجل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فلو لم يدل هذا على أنه أفضل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيد الصادقين لما دل شيء على شيء في الدنيا، وهذه بعينها طريقة الأئمة والكبار من آل محمد وهم الصادقون الذين قال الله للمؤمنين كونوا معهم بقوله: ((ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )).[التوبة: 119]. ولو أخذت في زهديات الحسن والحسين وأولادهما من الآثمة الطاهرين السابقين المقتصدين كعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمد وكعبدالله بن الحسن وأولاده محمد وإبراهيم ويحي وكجعفر بن محمد وكالحسين بن علي صاحب فخ، وكمحمد والقاسم ابني إبراهيم، وكالهادي إلى الحق يحي بن الحسين وولديه محمد وأحمد عليهم السلام، وكسادات من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ونظرائهم في الدين والورع والزهد والعلم والعمل، وكذلك من سلك مسلكهم من شيعتهم وإخوانهم رحمة الله عليهم لصارت مصنفات، ولست أدري لماذا اشتغل الناس بإبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية وفضيل بن عياض وشقيق البلخي، وبث زهدياتهم ونسوا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله المستعان>.
Bogga 12
ثم قال فيها: <وإذا صرف الإنسان همته إلى طريقتهم نسي طريقة فقهاء العامة وفي دروس طريقة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة والتنزيل في شريعة جدهم عليهم السلام واستشهار طريقة العوام عبرة للعاقل ودليل واضح على ما جرى عليهم من الضيق ومعاداة الظلمة، وقد كانوا في هذا العالم وهم فصحاء الشريعة علماء شريعة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم عباد وزهاد أهل ورع واجتهاد، قبل أن يخلق الله إبراهيم النخعي وأبا حنيفة والشافعي والله المستعان >.اه وقد ذكر مثل هذا المعنى وزاد في صفات أهل البيت عليهم السلام الفقيه العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمة الله عليه، وأشار في كتابه الإرشاد إلى بعض شئ من عبادة أمير المؤمنين وصفاته كالمنبه على ما سواه لأن القليل من ذلك يدل على الكثير كضوء البارك يشير بالنو المطير من ذلك ما رواه فيه عن أبى الدرداء قال في حديث التفضيل: <شهدت عليا عليه السلام وقد اعتزل عن مواليه واختفى عن من يليه واستتر بفسلان النخل فافتقدته، وقلت: لحق بمنزله. فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي، وهو يقول: "إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا راج غير رضوانك". قال أبو الدرداء: فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بعينه فاستترت منه وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ثم فزع إلى الدعاء والاستغفار والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به ربه أن قال: "الهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي". ثم قال: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت تحصيها، فتقول: خذوه فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء". ثم قال: "آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نزاعة للشوى، آه من ملهبات لظى".
Bogga 14
قال: ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسا ولا حركة فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أو قصد لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك فزويته فلم ينزو. وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبى طالب. قال: فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليها السلام: لهي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله. ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: "مم بكاؤك ؟." فقلت: بما أراك تنزله بنفسك. فقال: "يا أبا الدرداء فكيف لو رأيتني وقد دعيت إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية أفظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، وقد أسلمني الأحباء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية" .
فإذا نظرت أيها الطالب للنجاة في أمير المؤمنين عليه السلام وشدة عبادته وإتعابه لنفسه وشدة مواظبته على طاعة ربه من كل نوع من أنواع الطاعات مع أنه مقطوع له بالجنة، علمت حقارة عملك وعظم خطرك وتحققت أنك أولى الناس بالعمل لنفسك والخضوع لربك لخلاصك لا لنفع غيرك.
Bogga 15
وانظر فيما رواه الباقر عليه السلام: فإنه قال: <إن كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ليأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد، وإن كان ليشتري القميصين السنبلانيين ويخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر، فإذا جاوز كمه أصابعه قطعه، وإذا جاوز كفيه حذفه، ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قطع قطيعا، ولا أورث بيضاء ولا حمراء، وإن كان ليعطي خبز البر واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخل، وما ورد عليه أمران كلاهما رضى لله إلا أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد أعتق ألف مملوك من كد يده، وما أطاق عمله أحد من الناس، وإن كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وإن أقرب الناس شبها بع علي بن الحسين عليهم السلام، ما أطاق عمله أحد من الناس بعده >أه.
قال الإمام أحمد بن سليمان في كتاب الحكمة الدرية: <دخل أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام على أبيه قال: فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم أر أحدا قط بلغه، وإذا به قد اصفر لونه ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرمت أنفه من السجود، وورمت شفتاه وقدماه من الصلاة، فرأيته بحال فلم أملك أن بكيت من رحمته، فإذا به ينظر إلي، ثم قال: يا بني اعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي. فأعطيته بعضها فما قرأ منها إلا شيئا يسيرا حتى رمى به تضجرا، وقال: من يقوى على عبادة علي صلوات الله عليه.
وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه قال: <ما أنزل الله تعالى في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها وشريفها>.
Bogga 16
قال المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهم السلام: <ولا تعترض شبهة عند أحد من أهل البصائر أن كل آية في القرآن تتضمن مدحا وتعظيما وتشريفا للمؤمنين أو المسلمين مجملا أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام درة تاجها ونور سراجها، ولا وقع وعد للمسلمين في العقبى، ولا نصرة في الدنيا إلا وهو مقصود عند جميع الأمة، فإن أشرك معه غيره مدع فببرهان يتوجده، أيستقيم أم لا؟. كقوله تعالى: ((يؤمنون بالغيب)).[البقرة: 3] ((والصابرين في البأساء والضراء)).[البقرة: 177] ((والراسخون في العلم)).[آل عمران: 7] ((والصابرين)). ((والصادقين)).و((إن تنصروا الله ينصركم)).[محمد: 7] و((قد أفلح المؤمنون)).[المؤمنون: 1] و((إنما المؤمنون)).[الأنفال: 2]و((والسابقون الأولون)).[التوبة: 100] ((وعد الله الذين آمنوا)).[المائدة: 9] ((إن الأبرار لفي نعيم)).[الإنفطار: 13] ونحو ذلك مما يطول ذكره، وكذلك أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينوه باسمه، ويدل على فضله بقوله وفعله، ويبين لأمته أنه القائم بخلافته والمنصوص على إمامته وأن الإمامة بعده في ذريته، وأكد الأمر فقال سبحانه: ((ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)).[المائدة: 67] ولما علم سبحانه ما في قلوب أقوام من الضغائن أمنه من شرهم بما أوضح من عصمته بقوله عز وجل: ((والله يعصمك من الناس)).[المائدة: 67] فامتثل أمر ربه وبين بقوله وفعله، وميزه من أمته ، يشهد بذلك وبما ورد فيه الموالف والمخالف، ومجمع على صحة النقل فيه جميع الطوائف، وفضائله عليه السلام أكثر من أن تحصى، ولها كتب مفردة، وظهورها عند أهل العلم يغني عن الإطناب فيها > اه.
Bogga 17
وانظر فيما روى أنس بن مالك حيث قال: يقول الناس إن قوله تعالى: ((أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة )).[الزمر: 9] نزلت في علي بن أبى طالب، قال: فأتيته لأنظر عبادته قال: فأشهد لقد رأيته وقت المغرب فوجدته يصلي بأصحابه المغرب فلما جلس في التعقيب إلى أن قام إلى العشاء الآخرة، ثم دخل منزله فوجدته طول الليل يصلي، ويقرأ القرآن إلى أن طلع الفجر، ثم جدد وضوءه وخرج إلى المسجد وصلى بالناس صلاة الفجر، ثم جلس في التعقيب إلى أن صلى بهم العصر، ثم أتاه الناس يختصمون وهو يقضي بينهم إلى غربت الشمس، فخرجت وأنا أقول: أشهد أن هذه الآية نزلت فيه.
وعلى هذا المنهاج جرت العترة الطاهرة عليهم السلام مما لا يمكن شرحه وبيانه هاهنا مخافة الإملال من السامع، ولظهور حالهم بخلاف غيرهم فعلمنا أنهم صلوات الله عليهم ومن دان بدينهم وسلك سبيلهم هم الذين تعين فيهم الإتباع، واختص بهم الإقتداء، وأنهم المرادون بآية الاجتباء، وآية التطهير والمودة، وأحاديث التمسك والسفينة.
Bogga 18
آما آية الاجتباء وكونهم المرادون بها وهي قوله تعالى: ((هو اجتباكم)). إلى قوله: ((ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)).[الحج: 78] فالأدلة على ذلك كثيرة، نذكر منها ما ذكره الإمام المنصور بالله عليه السلام في الشافي حيث قال: والدليل على أن هذه الآية الكريمة في أهل البيت عليهم السلام وعلى كونها دالة على وجوب الإقتداء بهم، وعلى أن إجماعهم دون غيرهم حجة طريقان: جدلية، وعلمية:
فالعلمية: الكتاب والسنة. والجدلية: ما نذكره من بعد إن شاء الله تعالى .
أما الكتاب فهذه الآية الكريمة ووجه الاستدلال بها: أن الله سبحانه اختارهم له شهداء فلو لم يكن قولهم حجة لما اختارهم وهذه الدلالة مبنية على أصلين أحدهما: أنه اختارهم له شهداء. والثاني: أنه لو لم يكن حجة لما اختارهم.
فأما الذي يدل على الأول وهو أنه اختارهم له شهداء فظاهر الآية ينطق بذلك في قوله: ((هو اجتباكم)). والاجتباء هو الاختيار، وظهوره في اللغة يغني عن الاستشهاد عليه فثبت الأصل الأول.
Bogga 19
وأما الأصل الثاني وهو: أنه لا يختار له شهداء إلا من يكون قولهم حجة واجبة الإتباع فما دل عليه عدله وحكمته يوجب ذلك، ألا ترى أن قاضيا من قضاة المسلمين لو قال: قد اخترت فلانا شاهدا ووجب عندي قطع الحق بقوله لدلنا ذلك أنه قد رضي بقوله، وثبتت عدالته عنده وأنه لا يقول إلا ما يجب العمل به فعلام الغيوب أولى بذلك، لأنه إذا اختار هذا النصاب للشهادة على الناس دل ذلك على أنهم عدول عنده، وأنهم لا يقولون إلا الحق ((فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنا تصرفون)).[يونس: 32].
وقول من يقول: إن عموم الآية تتناول جميع ولد إبراهيم من اليهود والنصارى وغيرهم من سائر القبائل من ولد إبراهيم عليه السلام قول لا وجه له، فإنه وإن كان كذلك فإن الأخبار الواردة من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوجبت متابعة من عدا عترته من القبائل، فالآية وإن كانت عموما قد خصتها الأخبار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والكتاب والسنة يحذيان إلى جهة واحدة، فلا يجوز الفرق بينهما ولم ينص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أن قول غير عترته من القبائل حجة، فيجب حمل الآية على أن المراد بها عترته عليهم السلام دون ما ولد إبراهيم لهذه الدلالة، فهذا الذي دل عليه الكتاب.
وأما السنة: فالدلالة منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين:
Bogga 20
أحدهما: في صحته في نفسه. والثاني: في وجه الاستدلال به.
أما الكلام في صحته فإن ظهوره بين الأمة وانتشاره فيها بحيث لا دافع له ولا راد له دلالة على صحته، لأنه لو لم يكن من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لدفعوه وردوه، لأنه يتضمن وجوب متابعتهم قولا وعملا واعتقادا، وذلك يقضي بوجوب اتباعهم في الأصول والفروع عاما.
وأما الوجه الثاني: فهو أن ظهور هذا الخبر جار مجرى الأخبار الواردة في أصول الشرائع كالصلاة والزكاة والحج والصوم لأن وصولها إلينا على حد واحد، والعلم لنا بأحدها كالعلم بالآخر، فالمنكر لذلك متجاهل أو جاهل.
وأما وجه الاستدلال به فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبدا ما تمسكنا بعترته، والتمسك بهم هو متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد.
والثالث : أنه لو لم يكن إجماعهم حجة لما أمننا.
والذي يدل على الأصل الأول وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبدا ما تمسكنا بعترته، فذلك ظاهر في لفظ الخبر بحيث يستغني عن تبيينه والاستدلال عليه لأنه قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا). وهذا في غاية الظهور والجلاء.
Bogga 21
وأما الأصل الثاني: وهو أن التمسك بهم هو متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد فلأنه لا يحسن من أحدنا أن يقول: إني متمسك بطريقة فلان، ولكني لا أقول قوله ولا أعمل عمله، ولا أعتقد اعتقاده بل يعد من يقول بذلك مناقضا نازلا منزلة من يقول: إني متمسك بطريقه وغير متمسك، ولأنه عليه السلام قرنهم بالكتاب ولا خلاف في وجوب متابعة الكتاب في الوجوه الثلاثة التي قدمنا، وكذلك العترة لأن حالهم عنده صلى الله عليه وآله وسلم على سواء .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك في الأصول ؟.
قلنا: هذا تحكم لأنه لم يفصل، ولأن الواجب في الأصول الرجوع إلى أدلة عقلية يجب اتباعها دعا إليها الواحد أو الجماعة العترة أو غيرهم، وتجويز من يجوز ممن قال: إجماعهم غير حجة مخالفتهم في الفروع لا وجه له؛ لأنه لا يخلو إما أن يقول: بأنه أمارة مفضية إلى الظن كخبر الواحد أو دلالة مؤدية إلى العلم أو القطع. فإن قال بالأول بطل بشهادة الكتاب والسنة، ولأنه لا يجوز مخالفة خبر الواحد في الشرعيات متى حصل الظن بصدقه، وإنما تجوز مخالفته عند فقد الظن فقد ثبت بطلان جواز المخالفة على هذا الوجه.
وإن قال بالثاني من الوجهين فكيف يجوز مخالفة المعلوم والمقطوع به إلى المظنون المتوهم هل ذلك إلا عين التنكب لطريق الإنصاف.
Bogga 22