الثائر يجد الدنيا والمجتمع والإنسان والعلم موضوع اهتمامه بدلا من تلك الاهتمامات الصغيرة، التي تمتلئ بها النفوس الصغيرة من السعي وراء الثراء والتفوق والجاه. •••
إن جوركي واقعي، يصف لنا أحيانا الظلام الحالك في النفوس المريضة التي أفسدتها مظالم المجتمع، وهو مع أنه يضيف إلى هذه الواقعية في أغلب الأحوال أملا مشرقا في المستقبل، فإنه لا يتعامى عن المصير المحزن، واليأس الشامل اللذان يسودان الناس في بعض الأحوال.
وقصته «مخلوقات كانت رجالا» هي قصة الانهيار النفسي أو الجسدي فيمن صدمتهم الحياة وحطمتهم، فهم ليسوا أناسا وإنما هم حطام من الناس، يرتكبون الجريمة، ويجرأون على الفضيحة، ويفرون من الزوجة والأبناء، ويهيموا لصوصا أو مشردين، ويعالجون بؤسهم بالخمر، ويحيون حياتهم في ظلام لا يتخلله بصيص من النور أو شعاع من الأمل.
إن العلاج يقتضي أن يولد هؤلاء الساقطون ميلادا جديدا كما ولد «بافيل فلاسوف» على أيدي الشبان الثائرين الذين علموه قصدا جديدا في الحياة أعم وأكبر من الأهداف الشخصية الصغيرة ، وحين لا يوجد هذا القصد، الأعم الأكبر، يكون الموت أو الجنون، ونحن نجد الموت بالخمر قبل الدفن الرسمي، في هذه المخلوقات التي كانت رجالا، ونجد الجنون في قصة «فوما جوردييف»، فان هذه القصة أيضا لا تنتهي بالنور يشرق على الظلام، وإنما نهايتها جنون يطبق على العقل العاجز.
ولكن في كلتا القصتين نحس وطأة المجتمع، التي تدفع بهذه «المخلوقات» إلى الخمر، تدفع «بفوما جوردييف» إلى الجنون.
نشأ «فوما» في عائلة يرأسها أبوه التاجر الذي لم يكن يفهم من معاني الصلاح والخير والاستقامة في هذه الدنيا سوى تحقيق النجاح، والنجاح عنده هو جمع المال، أليس هو خيرا؟
ويموت الأب، ويرثه الابن في ثروته المؤلفة من بخاريات تنقل البضائع في نهر الفولجا، ثم يشرع الشاب في التعرف إلى الدنيا، فقد أهمل أبوه تعليمه، ولم يلتفت إلى تربيته، وكيف كان يمكنه أن يربيه مع أنه هو لم يحصل على تعليم أو تربية؟ كما أن أمه كانت قد ماتت وهي في ميلاده، وهو يتعرف إلى الدنيا من أسفل، فيشرب الخمر وينزق نزق الشباب محروما من الصديق الناصح أو الكتاب المنير، كانت كل ميزاته أنه ثري، بل كان له صديق هو شبينه، وكان للشبين مقام كبير في روسيا القيصرية.
ولكن هذا الشبين كان أيضا تاجرا، ينظر إلى الدنيا ويتخير منها كل ما له قيمة تجارية، والنجاح عنده هو الثراء.
والتاجر هو أكره ما يكره جوركي، هذا التاجر الذي كثيرا ما يفخر بأنه عصامي، مجد، مثابر في أي شيء؟ في جمع المال، يجمع المال لمحض جمع المال، وهو يحتقر كل من لا يثرى مثله، ويتهمهم بأنهم كسالى خائرون لا نفع منهم.
وفوما يتعرف إلى صحفي منهار وعلى دراية بالبؤس الاجتماعي، وهو ينهار ويدمن الشراب؛ لأنه يعجز عن الإصلاح.
Bog aan la aqoon