قالت: أنت أدرى بمصلحتك، على أني أود لو تستعمل اللين في خطابك، فلا ترهب قلب هذه الصبية (وأشارت إلى عفيفة)، فهي شديدة التأثر رقيقة الشعور، لطيفة الطباع، وتنزعج لسماع أقل كلمة غضب أو نفور، ولا أظنك جافي الطباع حتى لا تبالي بحياة فتاة جميلة كهذه، وأنت لم تسألني بعد عنها.
فتفرس غانم عفيفة، وقد أدهشه جمالها البديع ثم قال لسيدة: قبل أن أسألك عن اسمها أسألك إن أذنت لي عن السبب الذي بعثك على تشريفي بهذه الزيارة.
قالت: السبب هو أنك في كتابك لم تقتصر على إهانة أخي همام حتى أسأت الظن بابني فؤاد وثلبته ورشقته بالتهم الفظيعة، قلت عليه الأكاذيب الفاضحة، وزعمت أنه يعجز في الدفاع عن نفسه تبرئة له وصونا لاسمه عن العار والابتذال، ثم لو أن طعنك جاء مقصورا على همام وفؤاد لما اهتممت، ولا كلفت نفسي مشقة الحضور إلى مكان لا يليق حضور السيدات المخدرات مثلي فيه، ولكنك تعرضت في كتابك لثلب سيدة شريفة كريمة عذراء فاضلة، فمسست من كرامتها، ووضعت من قدرها تهاونا في عرضها، ورجمتها بالظنون الخبيثة، وهي مما رميتها به بريئة، والبريء قوي على رد افتراء المفترين، وقد كبر علي سماع الثلب، فدعتني المروءة والشهامة لأنتصر لها وأدفع عنها القول الباطل، وأنشر فضيلتها وآدابها ومحاسنها وكمالاتها، فهذه الفتاة التي تراها أمامك هي عفيفة بنت أختك المرحومة، هي هي بعينها، وقد كانت شقيقتك - رحمها الله - من أعز رفيقاتي، صحبتها زمنا طويلا، واتخذتها لي صديقة حميمة، فذكرت عهد الصداقة القديمة والمحبة الوثيقة، ورأيت من الواجب علي أن أتولى أمر بنتها، ولو كنت أنا منها وتوفيت عن فتاة لفعلت أختك بها مثل فعلي بابنتها، فها أنا أسلمها إليك كما استلمتها عذراء طاهرة نقية بريئة من العيب، وما أطلب أجرة ولا ثوابا، ففعلي لوجه الله الكريم، وكفى بذلك حجة تدفع قول المبطلين المفترين، وتزيل كل ظن فاسد خبيث، وتمنع أسباب الخصام واللجاج بيننا.
فانذهل غانم عند ذلك وحار في أمره شديدا، وعلم أن خليلا قد خدعه وأضله ليورثه الهموم والتعب، فجعل ينظر تارة إلى سيدة وتارة إلى عفيفة، ويقول في نفسه: ليس لي - والله - خلاص من هذه الفتاة، وقد كنت ظننت أني نجوت منها، فإذا هي قد بعثت حية، وهبطت علي كالصاعقة تصعقني، فما الرأي والعمل، ما الوسيلة لدفع هذه النازلة؟ قاتل الله خليلا وقومه المفترين، وتعسا لمن يسمع له قولا أو يصدقه في أيمانه، كيف قبلت الرأي منه بغير تدبر؟ وكنت عجولا، والعجلة تورث الندامة، وكان الجدير بي أن أتبصر وأتأمل.
قالت سيدة: ما لي أراك مبهوتا مضطربا بدلا من مشاهدتك فرحا مسرورا بلقاء ابنة أختك بعد طول البعاد؟! فلعل السرور ملأ قلبك، فعقد لسانك عن الكلام، أو ترى يكون قد كدرتك رؤيتها ... بالله انظر إليها فهي غاية اللطف والرقة والكمال، فلو جعلتها في وصايتك، ووسعت لها في منزلك طابت نفسك حبورا، وأقامت عندك كإحدى بناتك.
قال: علمت أنها أقامت مع فؤاد بعد وفاة والدتها، ولم يبلغني أنها كانت في منزلك.
قالت: لم يكن فؤاد إلا واسطة بيني وبين والدتها، وأنت ترميه بالتهمة وترجم فيه الظنون، فاعلم أن كريمة شقيقتك عند احتضارها وانقطاع أملها من قبولك عفيفة في منزلك تذكرت صداقتي القديمة، فجعلت ابنتها وديعة عندي، ووكلت إلي أمرها حتى يهون الله عليها بنصيب حسن، وقد أحسنت - رحمها الله - بي الظن فوفيت الأمانة حقها، وأنقذت الصبية من خطر مبين، فأبعدتها عن خليل اللئيم الفاسق الشرير، وجعلتها في حفظ قوم كرام يهتمون في أمرها ويعتنون بها، فلما رأيت جميلي منكرا عندك والمعروف ضائعا رددتها إليك لتحسن مثواها، وتجبر خاطرها الكسير، وتكفيها العوز والشدة، وتعزيها على فقد والدتها.
وكانت عفيفة تسمع هذا القول فلا تعي منه شيئا، وتتعجب ودمعت عيناها عند ذكر والدتها، فناولتها سيدة منديلا لتمسح به الدمع، وقالت: والله إن قلبي لينفطر من ذكر كريمة، كيف قاست من العذاب في آخر عمرها، رحم الله ثراها، وأسبغ عليها بركاته ورحماته، وعزى أهلها وذويها، وألهمهم صبرا جميلا على فقدها.
ثم قالت لعفيفة: كفكفي كفكفي يا ابنتي الدمع، وسكني الروع أيتها الفتاة المحبوبة، وقري عينا، واشكري الله على عنايته الفائقة، إذ رزقك خالا رحيما شفوقا يتولى أمرك، رزق غنى واسعا عميما، فلا يبخل عليك بجوده، ولا يضن بمعروفه ، يواسيك ويسلي قلبك المحزون، أبشري فقد أقبل عليك الزمان، ووافتك السعادة وزال الشقاء والتعس.
وكان غانم يسمع هذا القول وقلبه مفعم غما وكدرا، وكان يقول في نفسه: لئن أقبل الزمان على هذه المنحوسة فلقد أدبر عني، ولئن وافتها السعادة فقد وافتني النحوس، واستقبلني الخراب والدمار، فما يكفيني همي بأولادي حتى أهتم بأولاد الغير، وجعل يسخط على خليل، ويلعنه إذ كان هو السبب في هذه البلية.
Bog aan la aqoon