الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
ملكة القلوب
ملكة القلوب
تأليف
نجيب الحداد
الفصل الأول
يعلم أهل مدينة القاهرة، والذين قدموا إليها متفرجين من الأجانب وغيرهم من عهد قريب أن في قسم الأزبكية فندقا شهيرا بالفندق الشرقي مكتوب عنوانه بالفرنسية (أوتيل أورينتال)، فوق واجهته هدى للقاصدين.
كان في إحدى غرف الفندق قريبا من بابه الجنوبي رجل يناهز عمره الستين، جميل الهيئة، عريض المنكبين، مرتفع القامة، ممتلئ البدن، قوي الجسم، طلق الوجه، لين العريكة، مولع بالمزاح والمجون، واسمه «همام». كان جالسا على مقعد من القطيفة الحمراء، لابسا أوسمة الجهادية، فإنه سبق فقضى السنين الطويلة في هذه الخدمة الافتخارية، ونال المراتب السامية والدرجات الرفيعة فيها.
وكان في وسط الحجرة مائدة معدة لجلوس أربعة أشخاص، وعلى بابها غلام قائم في الخدمة، وللحجرة شباك جنوبي فوق باب الفندق مطل على حديقة الأزبكية وموقف العربات، وعليه واقف فتى لم يتجاوز السابعة والعشرين، جميل الصورة، صبوح الطلعة، نظيف الثياب، لبق، جلس متكئا على مسند الشباك، ينظر إلى الخارج بتمعن واهتمام ... واسم الفتى «فؤاد».
فبعد أن فرغ همام من كلامه مع الخادم نادى فؤادا، فلم يسمع نداءه؛ لاشتغاله بأمر ذي بال، فكرر همام النداء، ثم تقدم إليه ينبهه، وأمسك بطرف ثوبه قائلا: ما بالك لا تجاوبني؟ أناديك فلا تسمعني حتى كأني أصرخ في جماد، فقد بح صوتي من النداء ... أخبرني ماذا تنظر؟ وأي شيء يشغل فكرك؟
قال: أنظر إلى امرأة أرى منها أمورا غريبة لو يهمك ذلك.
قال همام: وأي شيء لا يهمني من حديث النساء؟ ألعلك رأيتني في زمرة المتقاعدين، فظننت أني أعرضت عن زهرات الدنيا، أو زعمت أني عاجز عن القيام بخدمة أهل الجمال. أين غادتك الهيفاء؟ أرنيها.
قال ذلك وتقدم إلى النافذة، فأشار فؤاد بيده إلى امرأة جالسة على رصيف عند موقف العربات بثياب رثة، تلوح على هيئتها أمارات الحزن والضعف والكبر، فلما رآها همام رجع إلى الوراء مستعينا بالله من سحنتها، وقال لصاحبه: أنت تسخر بي، أهذه المرأة الدميمة شغفتك؟! فكأنها من بقايا ثمود وعاد، أو أنت تخفي الحقيقة عني؟!
قال فؤاد: وحق معزتك عندي إني ما نظرت إلا إلى المرأة التي رأيتها، ولم يشغفني هواها، إنما نبهني إليها اضطرابها وعلامات الغم الظاهر على وجهها، فتيقنت أن لها شأنا من الشئون غريبا.
قال همام: ظننتك تتصابى شغفا في غادة هيفاء، مشرقة الوجه، لينة المعاطف، فأوليتك عذرا، ولم ألمك مع علمي بأنك راغب في الزواج، فلا يغفر لك عملك ... فشفيعك عند لائمك وعذولك تجرد خطيبتك من الجمال، فإنها ليست فريدة في عصرها حسنا وظرفا، ولا وحيدة في دهرها أدبا ولطفا، فلا عجب إن صبوت إلى حسناء، والله ما أراك باشتغالك في المرأة التي أمامك إلا باردا صقيعا.
ولما قال همام هذا، أعرض عن فؤاد، وإذا بعربة وقفت أمام باب الفندق تحت شباك الحجرة، فقال فؤاد: إن لم يخطئ ظني فهذا غانم مع ابنه سعيد.
فضحك همام وقال لصاحبه: إنك تجهل ولا شك أمر غانم وبخله الموصوف. فوالله إنه ليطوفن مصر جريا على قدميه، فلا يركب عربة أو حمارا، أما لو رأيته راكبا يوما فاعلم أنه مدعو وأن الذين معه هم الذين يدفعون الأجرة عنه.
ثم إنه تقدم وفؤاد لينظرا جلية الأمر، فأبصرا المرأة المحكي عنها قادمة حتى وقفت أمام باب الفندق متفرسة جيدا وجوه الذين في العربة، فخرج منها أربعة أشخاص كانوا من نزلاء الفندق، فلما لم تجد بينهم مطلوبها ارتدت على عقبها، واشتدت علامات الغم والحزن على وجهها كمن هو في درجة اليأس الرائع.
فقال فؤاد: إن أمر هذه المرأة لغريب، فهذه هي المرة الخامسة أراقبها، فأراها كلما أقبلت عربة دنت من باب الفندق ثم ترجع، فما أعلم أي شيء يحركني لمعرفة سرها والاهتمام بأمرها.
قال همام: لأعظم من استغرابك أمرها، استغرابي تعبك واشتغالك بالسفاسف، فكأن شباب هذا العصر اتفقوا على حب العجائز، أو زعموا أن ذلك من علامات التمدن، فوالله إني غير هذا المشرب لا أميل إلا إلى الغيد الحسان وكل كاعب زهراء.
قال فؤاد: لم يشغفني منظر المرأة، وإنما أدركت أن لها نبأ غريبا فأحببت أن أستقصيه، وقد يتفق أن تكون المرأة تعيسة ومسكينة شابة وعجوزة؛ إذ ليس لنزول البؤس وقت محدود، ولم أنظر إلى هذه المرأة نظرة شهوة وهي نصف شوهاء. وجدت في حالها ما يوجب الأسف عليها والرأفة بها؛ فراقبتها لأعلم النهاية.
قال همام: إنما يشغف الناس ويهتمون للجمال أن تصيب أهله مصيبة، ولا يهتمون بمن مضى زمنه، وذوى غصنه، وأفل نجم سعوده.
قال فؤاد: إن كان لا يعجبك إلا الظواهر، وليس في قلبك محل للرقة والحنان، فلا عجب أن تنفر من رؤية هذه المسكينة، وتعد كبر سنها ذنبا كبيرا لا يغتفر.
قال همام: أما ترى أن من طعن في السن هو أولى بعناية الله لا البشر؟
ثم إن همام انصرف بوجهه عن صاحبه لحظة، وأخرج من جيبه ساعة، ونظر فيها ثم قال: مضى الوقت المعين لأكل الطعام، وصاحبنا غانم غاب مع ابنه لم يحضرا، فوالله إني ما أكره شيئا كرهي الانتظار، وما أرى الرجل أقل أدبا مثل أن يخلف ميعاد أكله مع صحبه وخلانه.
قال فؤاد: إن حضرا فأهلا وسهلا، وإن غابا فتوفير ولا أسف.
قال همام: ما أراك إلا مبغضا لغانم وأهله، رغما عن إرشادات والدتك ومواعظها ونصيحتها لك بمجاملة أهل هذا الرجل وتبجيله واحترامه كما يجب، فمن اللازم أن أكلمك قليلا في هذا الصدد، فاقفل هذه النافذة، واجلس على كرسي في جانبي، فقد صعقتني ضجة الطريق، ومشاهدة سحنة صاحبتك العجوز قتلتني، وإن رؤيتها لتقطع الرزق وما في ذلك شك.
ولما جلس فؤاد قال له خاله: قد بلغت يا فؤاد السابعة والعشرين من العمر، لك إيراد بالغ خمسة آلاف فرنك في السنة تقريبا، وهو مبلغ طفيف قليل، لا يمكنك من المعيشة بين أقرانك بالراحة والانبساط، وكثيرا ما خاطبتك والدتك بشأن زواجك بالسيدة سعدى بنت صاحبنا غانم التاجر الغني المشهور فامتنعت وعاندت. ففي أي زمن تتزوج إن تخلفت عن التأهل في زمن الشباب؟ وماذا يجول في رأسك من الخواطر حتى امتنعت؟ أخبرني عن السبب ولا تغالط.
قال فؤاد: تسألني عن سبب امتناعي فأجاوبك أولا أن السيدة سعدى في غاية الدمامة والقبح، وليست على شيء من الحسن.
قال همام: قد ضللت، ولك علي البرهان بأن الدمامة في المرأة من السجايا الحميدة.
قال فؤاد مستتبعا، كأنه لم يسمع خطاب خاله: ثانيا أنها غير نبيهة.
قال همام: وهذه صفة ثانية مطلوبة في النساء.
قال فؤاد: وبالتفرس فيها نراها متصنعة، قليلة الذوق، عديمة الإحساس.
قال همام: كل هذه أوصاف سنية في النساء، تفوق الذهب والفضة قدرا وقيمة.
قال فؤاد: وكأنما هي صنم من أصنام الجاهلية، لا يؤثر عليها كلام، ولا يظهر في وجهها كدر ولا شيء من الترح والفرح، خلقها الله لحما على عظم، مجردة من مميزات نوعنا الإنساني عن غيره.
فأجاب همام مسترسلا في رده قائلا: والله يا فؤاد إنك لجاهل بالنساء، فلا تعي من أحوالهن شيئا، ولا لوم عليك إذ لم يتثقف بعد ذهنك ولبك لتميز بين السخيف والحسن، ولم يفدك شيئا ذكاء والدتك وما قام فيها من صفات الحزم وسمو المدارك وإصابة الحدس، فخذ الخبر الصحيح مني عن أمور النساء، فإني عارف بأطوارهن، عالم بأسرارهن وسرائرهن، وسأبسط لك القول بالكفاية لتنجلي لك الحقائق، فتميز بين الغث والسمين، وتعلم ما يحمد وما يذم من خصالهن، وما هو جوهري لازم نافع، وما كان بعكس ذلك عرضا لا عبرة به تغني الحال عنه، وهذه نصيحتي إليك: إن رغبت في خليلة تلهو بها لأجل مسمى من الزمان فاطلب الجميلة ذات الظرف والدلال والذوق اللطيف والمحاسن والعقل، وإن رغبت فيها خليلة شرعية تتزوجها على سنة الله ورسوله، فأنت في غنى عن كل ذلك بامرأة غنية، وإلا فرأيك ضليل وعن الصواب بعيد بعد السموات العلى عن أرضنا السفلى وما دونها في الهابطين.
قال فؤاد معترضا: كيف يمكن لزوج الدميمة محبتها إن أمكن اجتماع أليفين على غير المحبة؟
فأجاب همام بقوله: حسبك يا فؤاد دليلا على غرورك وجهلك العناء الذي تجلبه لك الزوجة الجميلة الوجه، الرقيقة الشعور، الدقيقة الفكر، فلن تجد معها راحة البتة ... فإن جمالها الفتان يستأسر القلوب، ويسلب عقول العشاق؛ فيرنون بألحاظ الغرام إليها فتصيبهم وتبادلهم الهيام والشوق، فصور لعقلك ذلك، وتأمل جيدا حالة الزوج المغبون تجدها بئس الحالة، فما أظن أن رجلا عاقلا شريفا على صون عرضه وحفظ كرامته يقبل بها. أما لو كانت الزوجة بعكس ذلك قليلة الحسن إلا أنها صحيحة الجسم حسنة التهذيب كالسيدة سعدى، وجدت الهناء في معاشرتها، وطابت أوقاتك بقربها، ولم يزاحمك عليها مزاحم، فحفظت عرضك. والعرض ليس بالشيء اليسير عند اللبيب الحازم العزيز النفس. ثم قال: ولو تدبرت قولي وتأملت أن ابنة غانم موسرة، يبلغ إيرادها السنوي أضعاف إيرادك ودخلك، لرأيت أنها غنيمة باردة تصيبها بغير عناء، فكيف تعرض عنها؟ وبعد فإني أخاف عليك من الغيرة تأخذك إن تزوجت بامرأة مليحة حسناء، فينغص عيشك؛ لعلمي بغيرتك الشديدة، وما هو قائم من أخلاقك من الأنفة وعزة النفس، فلا أضمن لك السعادة وراحة البال وصفو الخاطر ورغد العيش إلا أن تتزوج بامرأة قليلة الحسن والأوصاف الجميلة.
قال فؤاد: أجل، قد قلت حقا، ولكنني أعترف بضعف طبيعتي البشرية، فإني أفضل الزواج بحسناء مليحة الأوصاف، غير مكترث بالعناء الذي يصيبني بسببها، فذلك أهون علي من زواجي بامرأة دميمة الشكل، لا يميل إليها قلبي.
قال همام: ليس حديثنا في المحبة.
قال فؤاد: إن صدقتك، فإنني لم أشعر بعد بنار الحب في فؤادي، وإنما أخاف أن يثور سعيرها دفعة واحدة، وأكون قد تزوجت، فأحار كيف أصنع؟ فإما أن أقتل نفسي، وإما أن أخرق عهد زوجتي فتخونني، وتقوم القيامة بيني وبينها. ولا يخفى عليك أن قوام العائلة محمول على تبادل المحبة بين الرجل وقرينته؛ فأي قوام وأي نظام ترجوه إن تزوجت بامرأة لا أحبها إلا أن تكون يا خالي قد رضيت لي التعب والنصب والبلاء المقيم؟!
فلما سمع همام حجة الفتى، حاول المغالطة بالضحك وقال: أخطأت يا عزيزي الصواب، وأنزلت الزواج غير منزلته، فقد يصح قولك على القوم الذين يأخذون على الظواهر، ولو بحثت ودققت لرأيت أنك لم تقل شيئا معقولا، ولئن سألتني عن رأيي أجبتك أني ما أرى بأسا أن يتزوج الرجل كل يوم بامرأة، فما يكلف بمحبتها والإخلاص إليها، وإلا فالزواج هلاك يحشر فيه الزوج حيا.
ومضى همام مطنبا في شرح حالة الرجل المتزوج بامرأة قبيحة الشكل دميمة المنظر، وأنه يكون خلوا من الشواغل والمتاعب. وبينما هو يتكلم دخل خادم الفندق يخبر بقدوم امرأة تطلب الدخول، فسأله عن صفتها وسنها، وهل هي قبيحة أو جميلة؟ فأجابه الخادم أنها قبيحة متقدمة بالسن، فأنف همام عند سماع ذلك من دخولها، وقال للخادم: أغنانا الله عن رؤيتها، ثم سأله: هل أخبرته بشيء؟
فقال: إنها طلبت مقابلة الخواجه غانم، وزعمت أنه في هذه الحجرة.
قال همام: أدققت النظر فيها؟
قال الخادم: نعم، دققت فيها النظر وسوف تبصرها.
قال همام: صدقتك، وعرفت أنها ثقيلة بمجيئها في هذا الوقت، وهو أوان الطعام.
ثم إنه التفت إلى ابن أخته يقول: من الواجب علينا احتراما لصاحبنا غانم أن نقابل من يأتي لزيارته أو يكون له معه اتصال ومعرفة.
فقال فؤاد: لا بأس بذلك. وأمر الخادم بأن يدخل المرأة، فلما دخلت إذا هي تلك التي رآها تقف مضطربة أمام باب الفندق عند موقف العربات، فقطب همام جبينه لرؤيتها، وانصرف بوجهه عنها إلى أقصى الحجرة ساخطا لاعنا يقول: ألا قبحها الله من عجوز تكاد تنال الأرض بوجهها ... إن منظرها ليقطع شهية الأكل للجائع، ويتخم طعام المتغذي، قاتل الله غانما وعشيرته.
وكانت المرأة على الحقيقة شمطاء، مجعدة الجبين، صفراء اللون، واهية القوى، رثة الثياب، وعلى وجهها علامات الغضب، وعيناها جاحظتان، وأخذت تلتفت يمينا وشمالا باحثة عن غانم، فلما لم تره أرادت الخروج، فمنعها فؤاد لشفقة أخذته عليها، وقال لها: لم يحضر بعد صاحبنا غانم، فإن رأيت أن تنتظريه، فهو لن يتأخر في ظني عن الحضور، وهذا أوانه.
قالت: أخشى إزعاجك يا سيدي.
قال: لا بأس، فادخلي واقفلي الباب، واجلسي على هذا المقعد، فتولى المرأة الذهول، فلم تدخل، واستمرت واقفة على الباب متكئة، وزاد اصفرار وجهها، ورجفت قدماها حتى كادت تسقط على الأرض لولا هم همام وصاحبه فؤاد فسنداها بكلتا يديهما وأجلساها على المقعد، ثم إنه أصابها الإغماء فأنعشاها بالروائح، وجعلا يعالجانها حتى أفاقت وعادت إلى رشدها.
وكان همام في أثناء ذلك يلوم نفسه، ويلعن الساعة التي رأى فيها وجه تلك المرأة. ونهض فؤاد يناولها كأس ماء لتشرب، ونادى الخادم فأحضر لها طعاما فامتنعت، وقالت: مرضي في كبدي لا في معدتي، فما يفيدني الطعام شيئا، وكثيرا ما يصيبني الإغماء، والله وحده يعلم السبب فيه.
قال همام: أنت على خطر دائم من مرضك، فلا يصح خروجك من منزلك؛ لئلا يصيبك الإغماء في الطريق؛ فلا تجدين من يهتم بشأنك، وينظر في أمرك معتنيا، وقد تصدمك الخيل الجامحة فتكون العاقبة سوءا عليك.
قالت: كل شيء مصيره للفناء، والموت واحد وإن تنوعت الأسباب.
قال: تستهينين بالموت، فوالله إني رأيته عيانا، فلم أسمع به، وخضت المنايا في ميادين القتال، فما أتهاون به مثلك.
ثم إن همام خشي أن يطول الجدال، ولرغبته في انصراف المرأة قال لها: مضى الوقت على غانم، فما أظنه يحضر الآن، فمن العبث مكوثك في انتظاره، وأرى الأنسب أن تختاري وقتا غير هذا لمقابلته، ولك فسحة لتزوريه، فإنه سيقيم في القاهرة مدة من الزمان.
قالت: إن لي شانا مهما يحملني على مقابلته في نفس هذا اليوم، فلا أستطيع التأخير.
وما أتمت كلامها حتى ابتلت بالدموع عيناها، وزاد الوجد في وجهها، فعطف قلب همام عليها، فطيب خاطرها بقوله: ما يمنعك أحد من انتظاره، وإن شئت فأقيمي هنا إلى أن يحضر.
ثم جعل ينظر في ساعته متأففا، ويقول لغلبة الدعابة في طباعه: ليس من حسن المعاشرة أن يبطئ الصاحب على الصاحب وقت الطعام، فها نحن في انتظار غانم نحمل في أيدينا البطون والمعدة خاوية، وما كان لي قبل عادة بتأخير ميعاد أكلي.
وما إن أتم كلامه حتى سمع حركة قادم، وانفتح الباب لغانم مسلما على همام وفؤاد، معتذرا عن إبطائه.
وقد كان هذا الرجل غنيا واسع الثروة، حصلها بالتجارة في السودان، وأحرز فيها صيتا عظيما وشهرة فائقة، واستمر هناك حتى انقطعت الأسباب فآب إلى مصر، وأقام في إحدى مدنها التجارية.
وكان بخيلا شديد الحرص على متاع الدنيا مقترا على نفسه، وفي قلبه قسوة، وفي طباعه جفوة، فلا تأخذه رحمة على فقير، ولا يجير المستجير، وسنه تبلغ الستين، وكان في قامته طول، وفي جسمه هزال، غير أن بنيته كانت شديدة.
تقدم هذا الرجل في دخوله نحو همام وجعل - كما تقدم القول - يعتذر عن تأخره لبعض الأمور العارضة، وأنه تكدر من ذلك، وحمل على التأخير قسرا عنه لا برضاه واختياره.
ثم إنه التفت يسأل عن ابنه، فلما لم يجده جعل يستقبح سيره، ويعنف على غيبته، قائلا: لي عذر يشفع بي إن أبطأت، فما العذر الذي يقدمه سعيد عن تأخره عن الوقت الموقوت؟!
وبينما هو يمشي وقع نظره على المرأة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانقبض وجهه، وانقلبت سحنته، وبدت علامات الكدر في عينه، فلم تمهله المرأة أن تقدمت إليه ودموعها تنسكب، وقالت: حبيبي أنعم الله أوقاتي برؤياك ... لو تعلم مقدار شوقي إليك بعد غيبة سبع سنوات خلتها دهورا، أطال الزمان علي فنسيتني، وغيرت صروف الدهر أحوالي وصورتي فما عرفتني؟
ثم إنها قبضت على كفه، وجعلت تضغطها، وهو في أثناء ذلك يتأخر عنها كمن يبغي الفرار، وحار في أمره كيف يصنع، وانحبس لسانه فلم ينطق بكلمة، وكان فؤاد ينظر مندهشا تارة إليه وأخرى إلى شقيقته، وخاله يراقب حركات الجميع مبهوتا معربدا يخشى أن يطول الوقوف فيتأخرون عن تناول طعامهم على تضوره جوعا، ولبث هكذا واجما حتى انطلق لسان غانم، فقال مجاوبا شقيقته: لا جرم أني نسيتك بعد طول الفراق وخصوصا أني لم أكن منتظرا مشاهدتك، ولا خطر في بالي قدومك هنا.
ثم إنه التفت إلى صاحبه يعتذر عن هذا التثقيل الذي جاء في غير أوانه، والتمس إمهاله ربع ساعة من الزمن ليصرف المرأة عنه وأن يحادثها على انفراد.
فقال همام واجما: اقتضى رأيك ذلك، فلا بأس أن نأكل طعام المساء سحورا، فانظر في أمر قريبتك، بينما أنا مع فؤاد نروح حتى تكون قد فرغت من شغلك.
فلما خلا المكان لغانم نظر إلى شقيقته شزرا، واسمها كريمة، وكانت علامة الغيظ بادية على جبينه المقطب، كمن قد جرد من الإنسانية، فلم تعطفه على أخته أواصر القربى، وكأن لم يكن بينهما تعارف البتة، ودار بينهما ما سيأتي من الحديث بعد هذا.
الفصل الثاني
بخروج همام وابن أخته أوصيا خادم الفندق بأن يستدعيهما عند ذهاب المرأة الزائرة، وانطلقا يمشيان قريبا من قهوة البورس، وكان على وجه همام الوجوم، وفي قلبه الكدر، ورأسه يهتز من الغيظ، وأسنانه تصطك حنقا، وفؤاد إلى جانبه يجيل أفكاره في أمر الأخت وأخيها ملتزما الصمت حتى بدا له أن يسأل خاله مستفهما بقوله: أكان في علمك أن لغانم أختا؟
فأجابه خاله مستغربا من سؤاله بقوله: أي عجب أن يكون له أخت كما لغيره من الناس؟!
قال فؤاد: ما هذا مقصدي، بل سؤالي: هل كنت تعرف أن لصاحبنا شقيقة على هذه الحالة، قد رأيتك متكدرا من أجلها؟!
قال همام: لا تلمني، فإني سريع الغضب، أتكدر من أقل شيء، وفي دمي حرارة لم تبردها الستون من عمري، فكأنني لا أزال في ريعان الشباب، ولتعلم أنني لم أتكدر من شناعة منظر هذه المرأة، بل إن تأخري عن أكل الطعام في المواعيد هو الذي كدرني وأزعج معدتي. ولا يخفى عليك أن المعدة أساس قوام الجسم وعليها مداره، بل هي مصدر الحياة، إن اعتلت؛ اعتلت سائر الأعضاء، فلا تعجب إن رأيت مني اهتماما بشأنها، وقد قرأت في الكتب الطبية أن الخروج عن العادة يهلك الأجسام، وأن التأخر عن مواعيد الطعام يورث الخلل في المعدة؛ فتبطئ حركتها، ويكسل الجسم عن القيام بوظائفه، وأكثر عجبي من الناس الذين يدعون التمدن ولا يراعون الواجبات الصحية فيخلفون موعد الأكل.
قال فؤاد: صدقت في قولك. وإنما أرجوك أن تجاوبني عن سؤالي الأول: هل كنت تعرف قبل الآن أن لصاحبنا غانم شقيقة؟
قال همام: سمعت أن له أختا تزوجت برجل رزقت منه بفتاة جميلة، وأن أخته لم تقم مع زوجها أمدا مديدا حتى توفي، فتزوجت برجل آخر اسمه قاسم، كان في خدمة أخيها غانم، وكانت تزيده بعشر سنوات، وقد علمت أنه سيئ الطباع، ذميم السيرة، قبيح السريرة، فهي في عناء مستمر من معاشرته، فلو قسم الرحمن لك الزواج بسعدى ابنة صاحبنا غانم، كانت المرأة عمة لعروستك.
قال فؤاد: أسأل الله ألا يتصل نسبي بهذه العائلة إن ملت إلى الزواج يوما.
قال همام: أراك رجعت إلى المحاولة والقول السخيف، وأرى حجتك ضعيفة في عدم الزواج بسعدى لكونها غير جميلة، والحال - كما قدمت - أن الجمال لا عبرة به عند المتزوج، فدولة الحسن - كما قيل - زائلة يتبعها زوال الحب والسآمة والضجر، والحكيم الحازم من ينظر إلى ثروة المرأة وعلمها، فإن كانت غنية كسعدى فمن الغلط تأخره عنها، والغنى أساس كل سعادة وهناء، فاجعل في خاطرك أن من كان حسيبا كريم الأصل نظيرك لا يجدر به الزواج إلا بامرأة غنية، تمكنه بغناها من المحافظة على مقامه وشرف اسمه.
قال فؤاد: إذن أتزوج غناها، وهي تتزوج حسبي ونسبي؟
قال همام: وأي حرج في ذلك؟! أليس الزواج واحدا على اختلاف علله وظواهره؟! ابحث قليلا عن الغنى تجد أكثره من مال الزوجة، فقد أصبح الزواج في عهدنا مربوطا بالثروة، وما ترى للابنة الجميلة الحسناء خاطبا إلا إذا كان المال موفورا عندها، فما الذي تنكر - والحالة هذه - وتكره بسببه زواجك بسعدى؟! هل كبر عليك أن تكون نسيبا لهذه المرأة المسكينة ، أو تجد في ذلك عارا؟! فأنت في سائر الأحوال حر بأن تقطع العلاقة مع أهلها، وتسد عليها بابك، فلا تنزعج بقربها.
قال فؤاد: وحقك يا خالي إني لا أنزعج من رؤية هذه الحزينة المنكودة الحظ، بل بعكس ذلك تجدني عطوفا عليها شفوقا، أتوجع لها من تقلب الأحوال وتغير الزمان، الرافع لكل وضيع، الواضع لكل رفيع، ولن أشمئز لمخالطة الحزانى البائسين، ولا أجد التقرب منهم عارا، وعندي أن التخفيف عنهم من الأمور الواجبة على كل ذي لب، والأجر في ذلك جميل، وإني عطفت قلبا على هذه المرأة عند رؤية ذلها وانكسار خاطرها، ولم يكدرني سوى سوء مقابلة أخيها لها وانقباض وجهه وتغير سحنته سخطا وغضبا حين رآها، بينما هي تبش في وجهه وتهش إليه وهو معرض ببصره عنها نافر من قربها، ألا قاتل الله قوم الشح، كيف يتجردون من الرقة، وتقسو قلوبهم، ويعدمون المروءة والشرف؟!
قال همام: إن ما تعده من الأمور نقائص إن هو في الغالب إلا أساس الغنى والثروة ... فهذا صاحبنا غانم، ولولا شدة بخله لما خلف لابنته ثروة وافرة تزيد في كل يوم جديد ... فلو تزوجت بها وقاسمتها ذلك الغنى الواسع؛ لانقلب هجاؤك إياها مدحا، وجعلت تتيه بتدبير الرجل وحزمه، فإنه جمع ما جمع من الأموال لتتمتع بها غنيمة باردة، ولولا بخله لم تصبها. وهكذا قد يكون الحرص نافعا وهو رذيلة، وقد يضر الكرم وهو فضيلة، إن تدبرت قليلا وجدت الصواب في قولي.
قال فؤاد: إني لا أنكر الثروة المجموعة إلا أن تكون مكتسبة بوجوه الحلال.
قال همام: غلطت وضل زعمك، فالغني معتبر على الدوام ومحترم، وترى الجميع يرحبون به، فلا يسألون عن أمره، وكيف جمع ثروته، وإذا حضر في مجلس قام في الصدر وبالغ الناس في إكرامه واحترامه، ولم نسمع واحدا منهم يسأل أو يعيب عليه جمعه الأموال بالوجوه المحترمة أو الخسيسة.
قال فؤاد: لن أوافقك على زعمك، فعندي أن الثروة المجموعة بالظلم والتقتير تضع من قدر صاحبها، فلو تزوجت بسعدى كنت لها كارها كرهين؛ فالأول لذاتها ، والثاني لأبيها، وبئست المعيشة.
فنظر همام عند سماع ذلك شزرا إلى فؤاد، وقال له: أزهقت روحي، أنا أكلمك في حديث الابنة وأنت تكلمني عن أبيها، ومرادك مخالفتي فافعل ما تشاء، وسواء عندي تزوجت أم لم تتزوج، فما أنت إلا عنيد تجهل مصلحتك.
وجعل همام يعربد واشتد به الغضب، فأسرع في مسيره حتى صادم رجلا كان أمامه واقفا أمام أحد المحلات، وكانت الصدمة شديدة كادت ترميه على الأرض لولا استناده إلى الحائط، وبدلا من أن يعتذر إلى الرجل بادره بالزجر قبل أن يتفرس وجهه، وقال له: أعمى الله بصرك ... تنتصب في وسط الطريق كالصنم وتضايق المارين يا بلية.
فأجابه الرجل قبل أن يرى وجهه قائلا: تصدمني ثم تزجرني.
فلما تفرس به همام إذا به سعيد بن غانم، فقال له: عفوا فإني لم أنتبه، وسأله: أين كان؟ وإلى أين ذاهب؟
فأجابه سعيد بقوله: أنسيت أنك دعوتني إلى الفندق، وعزمت علي بأكل الطعام معك؟!
قال همام: كان الموعد أن تحضر بعد الغروب لا في الساعة التاسعة، فما شاء الله إنك تعتبر الأصحاب، وتقيم عند قولك، وتحفظ مواعيدك، ولكن لا عتب عليك بمشابهتك أبيك، فمن يشابه أباه فما ظلم.
وبعد أن نطق همام بهذا تركه وأسرع في مسيره، فتقدم سعيد نحو فؤاد يحييه ويسأله عن كدر خاله وهياجه، فقال فؤاد مجاوبا: إن خاله متكدر بسبب إخلاف الموعد في الحضور وكرهه الإخلال في نظام معيشته.
قال سعيد: إنك لا تجد الترتيب إلا عند الكبار الطاعنين في السن، وهو عندنا نحن الشباب سبب للمضايقة، ومن عادتي أني لا أجعل لطعامي ميعادا، وإنما متى جعت أكلت، ولي - بحمد الله - اشتهاء وقابلية، وقد أكلت ثلاث مرات في هذا اليوم، ولو حضر الطعام أمامي الآن لما تأخرت عنه.
كان سعيد أشقر الشعر، عريض الكتفين، كبير القدمين، حسن الثياب، وله من العمر خمس وعشرون سنة، وكانت تلوح على وجهه لوائح الطيش والجهالة، كما يظهر من الحديث الذي دار بينه وبين فؤاد وهذا ملخصه:
قال سعيد: لا أقدر أن أشرح لك عن مقدار انشراحي في مصر، فقد حضرت إليها منذ خمسة عشر يوما قضيتها بالأنس والطرب، واللهو في مجالس الغيد، والحمد لله أبي لا يعلم شيئا من ذلك، وهو لو علم لسخط علي وعذبني عذاب الجحيم، وقد كلفت ثلاثة خياطين بأن يصنعوا لي ملابس من الزي الجديد، عشرة من كل زي، واشتريت دبابيس للصدر وخواتم وساعات وكثيرا من الحلي، وفي كل يوم أنزل إلى السوق وجيبي مملوء نقودا فلا أعود ومعي قرش واحد.
قال فؤاد: إن مضيت على هذا السبيل لا يطول الزمان حتى تكون قد بددت ما جمع الوالد.
قال سعيد: جمع الوالد أموالا لا تأكلها نيران، وله أملاك واسعة لا يفنيها التبذير، فحقا لو علم بمقدار ما أصرفه لأقام القيامة علي، وتراني من مكري إن اشتريت شيئا بالدين أشترط على المداينين أن يكتموا الأمر عنه وإلا امتنعت عن شراء شيء منهم، ولا يخفى عليك أني بالغ رشدي، وأن أمي توفيت من سنة، وخلفت لي عقارا وأموالا، فإن عنفني والدي وغضب علي طلبت حصتي من ميراثها فلا أكون مضطربا، ولا يعوزني شيء، فلذلك تجدني قرير العين، مرتاح البال، أنفق بغير حساب، وأدخل القهاوي والخمارات ومحلات القمار ومنازل العاهرات فيستقبلني الجميع بغاية الترحاب وغاية الإكرام، فلا يخالفوني في كلمة أو إشارة.
قال فؤاد: أنت تفتخر بهذا، وتزعم أن لك الوجاهة بترددك على هذه الأماكن والمحلات.
قال سعيد: أنت لا تعلم أسباب الحظ والسرور، ودواعي الحظ والانشراح فيها، ولو وافقتني على رأيي ولو شاركتني في حظي وأنا متأكد من محبتك، وستزيد المحبة بيننا تمكينا عندما تقترن بأختي قريبا، وتصبح نسيبي، وأظن أنك تعلم تضييق والدي علي في المصروف، وأنه لم يكن ينقدني القرش الواحد إلا بعد زهوق الروح، فإذا خرجت سألني: كيف صرفت ذلك القرش؟ فكانت حياتي عذابا، لم يخرجني منها إلا بلوغ رشدي، فأصبحت حرا، وأشبعت نفسي من ملذات الدنيا وملهياتها ومطرباتها؛ لأعتاض عن حرماني في الزمن الماضي، وأنسى أكداري في زمن الصبا، وهذه أموال والدي كثيرة، وأنا وريثه مع أختي ، فإن فرغ جيبي من النقود أقترض من الصيارف، فهم لا يبخلون علي بشيء؛ لعلمهم أني موفيهم حقهم عاجلا أم أجلا مع الفوائد رغما عن أنف والدي، فإن شئت أن ترافقني هذه الليلة دللتك على محلات الأنس والطرب، وشرحت صدرك بسماع الغناء الحسن؛ فتعود شاكرا لي مثنيا علي مجبورا مسرورا.
قال فؤاد: جزاك الله خيرا، ولا تؤاخذني إن لم أقبل دعوتك، فمشربي غير مشربك، ولو سمعت نصيحتي فارتدع عن مثل هذه العادات التي تظنها من أسباب التسلية والانشراح، وهي طريق ضلال تقود صاحبها إلى الشقاء والتعاسة، فلا يمضي عليه زمن مديد حتى يسوء حاله، وينفد ماله من يده فيندم حين لا ينفع الندم، ولكم رأيت شبابا خلف لهم آباؤهم أموالا كثيرة فما مضى عليهم أمد قريب حتى بددوها بالطريق التي ذكرتها، فأصبحوا في فقر مدقع وحالة من النكد والبؤس يرثى لها، والسبب في هذا الضياع سوء التربية في الصغر وشدة تقتير الوالدين البخلاء على أولادهم، وإن قصتك لتحاكي قصتهم، وإني لأعلم أن الذي دفعك إلى الجهل والغواية والاسترسال في التبذير هو شح أبيك عليك، فلو أنصفك وتوسع في الإنفاق عليك لصرف عنك سبب الغواية، ولكنه ظلمك فأضاعك، وسوف تلقيك جهالتك في هاوية الدمار والخراب، ويكون والدك هو المأزور بما بخل وأنت بما تفعل.
وبينما كانا يتكلمان أقبل همام لخاطر ورد له، وتذكر أن شقيقة سعيد ستصبح زوجة لفؤاد، فرأى من الضروري تمكين علاقات الوداد بين العائلتين؛ لرغبته في هذا الزواج لتتسع ثروة فؤاد وتقبل أحواله، فقال لسعيد يمازحه: إن رغبت أن أصفح عنك فأخبرني ماذا كنت تنظر في هذا المخزن حين صدمتك وأنت غير ناظر؟ قل الصحيح، ألم تكن تغازل واحدة من الخياطات الجالسات داخلا؟ أرنيها فلعل ذوقك لطيف يقارب ذوقي أو يناسبه.
قال سعيد: أشهد لك أيها البطل بسداد الرأي وشدة العزم، وأنك من أظرف الناس خلقا، حلو الطباع، جميل المعاشرة، حتى كأنك من أترابنا، وقد سألتني أن أريك الفتاة التي شغلت أفكاري، فانظر إلى واجهة المخزن، وتمعن في الفتاة الهيفاء الشقراء الجميلة الثياب اللطيفة القوام، هل رأيت أحسن منها خلقا وتكوينا؟
وكان المخزن المذكور معدا للخياطة وعمل برانيط النساء، فتقدم همام ينظر، فرأى خمس بنات جالسات حول مائدة مستديرة يشتغلن، فأبصر فيهن اثنتين بغير حسن، فصرف نظره عنهما إلى الثالثة، وكانت سمراء اللون، قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، لا تتجاوز السادسة عشرة من السن، سريعة الحركة، لينة الجانب، تسطع على وجهها أنوار الصحة والعافية، فراقت في عينه.
وكانت البنت الرابعة أكبر من الثالثة سنا، ويظهر أنها المتقدمة عليهن جميعا في العمل، كانت شقراء اللون، طويلة القامة، ليس فيها شيء من البهاء والصباحة، وعمرها يبلغ الثلاثين، وشعرها كثيف أشقر مسترسل، وثيابها من الحرير الأزرق معقود ببنود ملونة، وفي أذنيها الحلق، وفي عنقها سلسلة مدلاة على صدرها، وتحت نهدها ساعة صغيرة معلقة بالسلسلة، وفي أصابعها الخواتم المتنوعة بالأحجار الكريمة، فلو رآها أحد لأكبر أنها تكون قد أصابت هذه الجواهر بشغل الخياطة، وهو لا يكاد يفي بمصروف زينتها، وعلم أن لا بد أن يكون لها دخل آخر. فهذه كانت الفتاة التي راقت في عين سعيد فوقف ينظر إليها.
وكانت في آخر المائدة البنت الخامسة بمعزل عن أخواتها، وهي فتاة لطيفة الذات، دقيقة القوام، لابسة ثيابا سوداء، كانت جالسة تشتغل ووجهها محول عن الباب، فلم يتيسر لهمام رؤيتها، وكان قد دقق النظر، فلما انتهى من المعاينة تباعد قليلا عن مكانه، والتفت إلى سعيد يقول له: قد انتقدت الوجوه، فلم أجد صاحبتك الشقراء على شيء من الحسن والجمال، وهي قد بلغت الثلاثين ولونها زاه. وأما شعرها الكثيف فما أظنه إلا مستعارا، وأنا أشبهها بالطاووس؛ لتعدد ألوان ثيابها، أو كالحرباء يتلون جلدها. فتكدر سعيد لسماعه هذا الحكم، وتأخر إلى الوراء بعض خطوات، فقال له همام: لئن كدرك كلامي فقد وجب علي قول الحق، فأنتم معشر الفتيان تنخدعون بسهولة، وتغركم كثرة الشعر، وزينة الثياب، والتبييض والتحمير، فتنشغلون بالعرض عن الجوهر، وأما العاقلون العارفون نظيري فلا يلتفتون إلى تبرج المرأة وزينتها بل إلى نفسها، فلو أنك ذكرت لي تلك الفتاة السمراء الجالسة بقرب حبيبتك الشقراء لحكمت لك بإصابة الرأي وصحة الذوق وحسن النظر، فإنها بالحق تساوي ألف واحدة من صاحبتك التي افتتنت بها.
فنظر سعيد إلى الفتاة السمراء التي أشار إليها همام، فلم ترق في عينه وقال ساخرا: أتستلطفها ولا تنظر إلى رثة ثيابها وقصر قامتها؟! فهي والله لا تجدر بأن تكون خادمة لصاحبتي البهية المشرقة النظيفة الثياب المزينة بالحلي الذهبية.
قال همام: لا يعيبها حقارة ثوبها، فنحن في حديث الجمال لا في حديث الغنى، وكفى السمراء فوزا على صاحبتك الشقراء بصغر السن وملاحة الفم، فهي لا تزيد على الثامنة عشرة، وعلى وجهها علامة الصحة والقوة، وتلك من الصفات المحمودة المرغوبة في المرأة.
قال سعيد: أي حسن لها وهي بغير حلي وحلل؟! أكان التجرد من الزينة محبوبا في النساء؟ أوتجهل أن الملابس الباهرة تكسب المرأة حسنا فائقا وجمالا رائعا، وتزيدها جلالا وإشراقا؟!
قال همام: قد اختلفنا، وللناس فيما يعشقون مذاهب، فلا سبيل لأن أقنعك بالقول حتى نحكم بيننا رجلا آخر.
قال سعيد: ربما كان انشغافي بالشقراء للمشاكلة في اللون بيني وبينها.
فتبسم عند سماع ذلك همام، فإن سعيد كان أحمر الشعر ومعشوقته شقراء شديدا، وجاهد نفسه ليمتنع عن الضحك مخافة أن يغضبه في ساعة يرى استرضاءه واجبا؛ لإتمام زواج فؤاد بشقيقته سعدى، فرأى أن يغير موضوع الكلام، وقال ملتفتا إلى فؤاد: لو لم تكن ابن أختي وعلى أهبة الزواج، والمطلوب منك أن تكون قدوة في السلوك الحسن لأقمتك بيننا حكما تفصل في الخلاف.
قال سعيد: وهل الزواج يمنع فؤادا عن إبداء رأيه؟ إنه صاحب نظر دقيق، وذوق صحيح، ولي ركون إلى قوله واقتناع بحجته.
قال همام: ماذا تقول شقيقتك حين يبلغها أنا انتدبنا خطيبها حكما بيننا يقضي في خلاف مثل هذا يتعلق بالنساء؟
قال سعيد: كيف يبلغها الحديث؟! فإن من عاداتي ألا أفوه ببنت شفة.
قال همام: ونحن أيضا نكتم الخبر، فلا يظهر له من أثر، وشرطنا على فؤاد أن يتقدم، ويدقق النظر في البنات، ويفصل المشكلة بيننا ، فقد قبلت برأيه وحكمه.
فتقدم فؤاد ودقق النظر في البنات تدقيق المنتقد الخبير، فأبصر أولا الفتاتين الشقراء والسمراء، فوجدهما لا تستحقان النظر أو تليقان أو تروقان في أعين أهل الذوق السليم، ووجه بصره إلى الابنتين الأخريين فلم يجد فيهما شيئا من الحسن، فلوى عنقه لينصرف إذ وقع بصره على الابنة الخامسة المقيمة بمعزل عن رفيقاتها ... وكان قد سقط الشريط من يديها على ركبتيها، فتنهدت الصعداء من التعب، ووقفت تنظر إلى ما فوقها، ومالت بوجهها نحو باب المخزن بحركة من يستيقظ من نومه مضطربا بسبب الأحلام المزعجة، وانكشف وجهها بنور الغاز فزاده اصفرارا، فتأمل فؤاد فيها مندهشا من بديع جمالها، ولطف قوامها، وبهائها، وملاحة فمها، وسحر عينيها، ورأى آثار النباهة على جبينها، فكأنما في وجهها مادة شفافة عما يخالجها من الشعور إن محزنة وإن مفرحة، فيرتسم فيه ذكاء الفضل والنباهة والفضول والمكر والخجل والسذاجة، وغير ذلك من العلامات التي تقرأ في العيون إن سكنت أو تحركت، فترسل الشرر عند الغضب، وترشق القلوب بلواحظ الرقة في ساعات الرضا.
وبينما كان فؤاد ينظر مبهوتا تفرس فيها أمارات الحزن الشديد، وكأنها سابحة في أبحر التصور والافتكار، فلا تعي شيئا مما حولها، ولا تدري ماذا تفعل، حتى هبت كبيرة الخياطات تناديها زاجرة بقولها: أعدت إلى الكسل يا عفيفة - وهو اسم الفتاة - أضجرت من الشغل ففتحت للهواء فاك؟ فإن استمرت الحال هكذا مضى الشهر كله فلم تفرغي من عمل البرنيطة التي تصنعين شريطها مع علمك بأن صاحبتها مستعجلة في طلبها.
فتنبهت الفتاة واستأنفت العمل ورئيستها توبخها وتعنفها بكلام أحد من ضرب الحسام، والرفيقات الأخريات يهزأن بها. فرق لها قلب فؤاد، واشمأز من سخرية البنات الأخريات منها، واستمر ناظرا إليها لعلها ترفع رأسها ثانية فيتمتع بمرأى جمالها البديع.
وكان همام في أثناء ذلك قد ضاق ذرعا من انتظار حكم ابن أخته في الأمر الذي اختلف مع سعيد عليه، فتقدم وأمسكه بيده وخاطبه بقوله: إن سليمان الحكيم لم يصرف من الزمان في إبرام حكمه المأثور ما صرفت لإصدار رأيك في المسألة التي جعلناك حكما فيها ... فأفتنا، أليست السمراء الحديثة السن الجيدة الصحة أجمل من رفيقتها الشقراء المقيمة إلى جانبها؟
قال سعيد: لا ريب أنه استحسن الشقراء لجمال قوامها ولياقتها، فهو على الذوق الحسن ورأيه لا يختلف عن رأيي.
قال همام: تكلم يا فؤاد ... أينا المصيب وأينا المخطئ، وأينا سليم الذوق؟
قال فؤاد: ترغبان مني الوقوف على رأيي فأقول: إني لا أرى الشقراء والسمراء تستحقان الالتفات، فهما مجردتان من الحسن، فالشقراء كالحة اللون بغير لطف ولا ظرف، والسمراء قصيرة القامة ليس فيها ما يدل على الرقة والنباهة.
فلما سمع همام هذا الحكم جعل يضحك ويقول: اتبع صاحبنا فؤاد العادة في مسائل التحكيم، إنه يرضي الطرفين، فلو قال الواحد: هذا اللون أبيض، وقال الآخر مغالطا: بل أسود، جاء الحكم يقضي بينهما فيقول: اللون أحمر، فيفصل الخلاف بينهما بقضائه. ثم إنه تضاجر وقال لصاحبيه: دعانا من الجدال فهذه الساعة التاسعة، وقد فات ميعاد طعامنا، وأشهد الله على نفسي أنني لن أعود بعد هذا أدعو أحدا من بيت غانم إلى طعام.
قال فؤاد: سألتماني عن رأيي فأبديته، فأخبراني الآن هل أبصرتما الفتاة الجالسة بمعزل عن أخواتها منعكفة على شغلها ومحولة وجهها إلى الداخل؟
قال همام: إنها فتاة رقيقة الجسم، دقيقة القوام، لا ترفع رأسها عن عملها، لم أتبينها جيدا لأحكم في أمرها.
قال سعيد: والغالب في الظن عندي أنها حديثة عهد في هذه الصناعة، وأنها فقيرة بدليل رثة ثيابها وتجردها من الحلي، فليس في أذنها قرط ولا في أصابعها خواتم.
قال فؤاد: هذه الفتاة الضعيفة النحيلة القوام هي الجميلة وحدها بين أخواتها، كالنجم اللامع والبدر الساطع.
قال سعيد: رأيتها حين التفتت فإذا هي صفراء اللون حزينة كالثاكلة، ليس على وجهها شيء من الحسن، فأنا أستغرب كيف تجدها جميلة؟
قال فؤاد: إن كان الجمال بعرفك هو جمال الصور والتماثيل المصنوعة للتزويق؛ ليطرف إليها الولدان، فهذه الفتاة أجل من أن توصف بذلك، فجمالها بديع حقيقي لتجرده عن التصنع والتطرئة، وقد تفرستها فرأيتها قد جمعت مع اللطف والظرف همة الرجال وشهامتهم وكملت بالأوصاف البهية.
قال همام: أكثرت من الإطناب، فوالله لو سمعك سامع تمدحها وتصفها بهذا الوصف لظن أنك مشغوف بها مفتون.
قال فؤاد: إني أعرف طبعك يا خالي، فالمزاح غالب عندك، وتحب التهكم في كل شيء، ولكني أشهد لك بلطف الذوق وسلامته، وأنك تقدر الأمور قدرها، وتعطي الجمال حقه، فأرجوك أن تعيد النظر إلى الفتاة مدققا فيها، ثم بعد ذلك تعلمني هل تستحق وصفي وأكثر منه أم لا؟
قال همام: مضى علينا الوقت وفرغ صبري، فوالله لو عرضت علي نساء العالم لما ساوين عندي طحنة ضرس، فقد اشتد بي الجوع وزاد ضجري من غلاظة غانم التي بلغت النهاية، فإن طال الزمن وقعت في داء يكون سببه غانما وابنه، قبح الله كل (ثقيل).
وبينما همام يتكلم والغضب يعمي بصره أقبل خادم الفندق، فتباشر همام برؤيته، وابتسم منشرحا مسرورا سرور قوم نوح حين عادت الطير إليهم تحمل عرق الزيتون.
قال الخادم: إن المائدة قد أعدت للطعام فتفضلوا.
فاتجه الثلاثة الرفاق نحو الفندق، وكان همام في مقدمتهم يسرع في جريه فقابلوا في أثناء الطريق شقيقة غانم وعلى وجهها الحزن الشديد والغم الكثير، فكأنما قد زادت أوجاعها، وكثرت آلامها بمكوثها في الفندق، غير أن همام لم ينتبه إليها لاشتغال فكره بالطعام. أما فؤاد فأمال رأسه مسلما، وأما سعيد فلم يعرفها؛ لأن الفقر والغم غير حالتها بعد فراقها وغيبتها سبع سنوات.
مرت المرأة المذكورة أمامهم، واستمرت سائرة إلي مخزن الخياطة، فوقفت برهة تنظر إلى داخله متنهدة ثم سارت في سبيلها.
الفصل الثالث
ندع هماما ورفيقيه عائدين إلى الفندق، ونحدث القارئ بما جرى من الحديث بين غانم وشقيقته.
بخروج همام وفؤاد جلست كريمة شقيقة غانم على كرسي، وجعلت تنظر إلى أخيها منتظرة منه المجابرة، وأن يترحب بها ويبش في وجهها ويفرح بمقابلتها بعد طول فراقها وغيبتها؛ فخاب ظنها وضاع الأمل، فإن أخاها كان يرمقها شزرا، ويلحظها بعين الغضب والانزعاج وفكره مضطرب اضطراب البخيل من سؤال المسكين، فكأنه قد خشي أن تكون زيارتها لطلب صدقة، فانتظر أن تبادره بالكلام، فإذا بها لبثت صامتة، فلما طال على ذلك الأمد قال لها مغاضبا: تكلمي فإنه لا يليق قضاء الوقت سكوتا والأصحاب في انتظاري خارجا ... أخبريني باختصار عما ترغبين مني.
فانقبض قلب الشقيقة عند سماعها هذا الكلام الخشن، وعظم الأمر عليها، فأطرقت في الأرض، وأذرفت الدموع الساخنة.
فقال غانم: أجئت تبكين وتندبين؟ تكلمي ما الذي حضرت بشأنه؟ أجئت تصنعين مأتما؟ فإني أعلم براعتك في التصنع، ما الداعي لحضورك في هذا المكان؟
قالت وقد رفعت رأسها، وتأثرت من جفوة أخيها: كنت أظن نفسي قبل أن أقابلك أشقى خلق الله، وأن تعاستي بلغت النهاية، فإذا التعاسة لا نهاية لها، وما كنت - والله - لأتوقع منك أن تقابلني بالإعراض أو أسمع من فيك هذه الألفاظ الموجعة بعد فراق السنين الطويلة، وأنا شقيقتك من أبيك وأمك، وأنت سند العائلة وكبيرها ورأسها، وإليك وجهت آمالي، وجعلت اتكالي عليك، أفتحرمني من مجابرتك ولا تواسيني بلطفك ورحمتك، وقد جئت أشكو إليك أحزاني وما أنهكني من الشقاء والعناء؟! فارحم ضعفي، واجبر كسري، ولا تعرض بوجهك عني في أوان الشدة، وتفضل بالإصغاء إلى أمري، فإنه وحقك لذو شأن عظيم يستوجب أن لا تعاملني من أجله بالقساوة. نعم، إنا افترقنا على كدر وحقدت علي بسبب زواجي بخليل، وكان الحق، وقد اعترفت بخطئي، وعرفت مقدار جرمي بمخالفة أوامرك، فأي إنسان لا يخطئ؟ هذه كثير من السنوات صرفتها في التعب والأوصاب، فكانت كفارة عما جنيت، فأرجوك يا حبيبي أن تصفح عني وترثي لحالي، فالرأفة واجبة لمثلي، وقد رثى لحالي الأجانب، وشفقوا علي، وحزنوا لحزني، وأنت أخي وشقيق روحي تعرض عني وتصم أذنيك عن سماع شكواي ونداي حين آتيك طالبة إحسانك وإسعافك.
فاسود وجه غانم، وتقطب جبينه لسماعه كلمة الإحسان والإسعاف، فقال في نفسه: هذا والله ما كنت أخشاه.
فتفرست أخته فيه الكدر، فقالت له: الله يا أخي، هون عليك، فلا تقطب وجهك، وتحول نظرك عني، أي ذنب جنيت حتى ...؟!
قال غانم وقد اشتد به الغضب: أي ذنب جنيت؟! أبلغت بك الوقاحة حتى أتيت التمويه وتجاهلت حتى كأنك لا تعرفين شيئا؟ أم كان مرادك تكديري بحضورك إلى هذا المكان، وأنا في صحبة الإخوان، قد اجتمعنا لمسألة مهمة، فجئتنا على غفلة لتقلقي الأفكار، وزدت على ذلك أنك لبست هذه الثياب الرثة التي لا يلبسها الخدم، أما كان من الواجب عليك على الأقل أن تلبسي ثيابا لائقة، وتحفظي مقامي، ولا تضعي من قدري أمام صحبي وخلاني؟
قالت كريمة وقد تبسمت: وحقك يا أخي هذه أفخر الثياب عندي قد لبستها، ويشهد الله أن ليس عندي أحسن منها.
فرأى غانم أن الإسهاب في هذا الموضوع يجر إلى أمور يرغب أن يتجنبها، فصرف الحديث إلى موضوع آخر، وقال لأخته: كان من الواجب عليك أن تقابليني في الفندق الذي نزلت فيه لا أن تحضري إلى هذا المحل.
قالت: ذهبت خمس مرات إلى فندقك فلم أجدك، فسألت الخدم فقالوا لي: إنك لا تحضر إلا قليلا.
قال: كيف علمت الفندق الذي نزلت فيه؟ ألعل عندك جواسيس يسعون في أثري؟
قالت: أعلمني بحضورك رجل من معارف زوجي، وكان ذلك بطريق الصدفة.
قال: رأينا حضرة زوجك خليل، فإنه لم يحضر لزيارتنا والسلام علينا، فكأنه بسلامته يضن علينا بهذا الشرف، وبالحق فإنني ممنون من غيبته ومسرور أن لا أراه.
قالت: ولعل سرورك أن لا تراني أيضا، فإني أرى حضوري قد كدرك، فوالله ما جئتك إلا للضرورة القصوى، فإن عطفت علي أعرتني سمعك قليلا؛ لأعرض عليك الغاية من حضوري.
فتضاجر غانم من هذه المحاورة، وحار في أمره، وأشفق أن تكون نتيجة هذه المقابلة اغترام صدقة يدفعها إلى أخته؛ فقاطعها بالكلام قائلا: علمت السبب في حضورك بدون أن تتكلمي، إنك جئت تخبريني بسوء أحوالك، وأن زوجك بدد أموالك، فأصبحت وإياه صفر اليدين، لا تملكين شيئا، ومرادك أن أنعم عليك بشيء تعيشين به، وأسلفك نقودا لتفتحي لزوجك دكانا يبيع فيه ويشتري، ويتخذها له معاشا، فارفعي هذا الأمل من قلبك، واعلمي أن مسعاك خائب، فلا تكلفي نفسك العناء والشرح الطويل، ولتعلمي أني لا أريد أن أعرف زوجك، ولا أعطيه أو أن يعطيه أحد خلافي مليما واحدا، فقد علم الجميع بسوء أخلاقه وفساد سيرته وإسرافه وقلة أمانته. وهذا كلامي إليك بصريح العبارة، فلا تطمعي مني شيئا، وقد أفهمتك أني لا أتدخل في أمره، وتذكري أني لم أرضه لك بعلا، ومنعتك عنه فلم تمتنعي، ونصحتك فلم تقبلي النصيحة، فالذنب ذنبك، تحملين عواقبه؛ لتعلمي نتيجة العناد، وتكوني عبرة للآخرين.
قالت: قد اعترفت لك يا أخي بخطيئتي، والله يرحم الخاطئين، وأي ذنب في الكون لا يغفره الله للتائبين! فارحمني يرحمك الله، وأشفق علي إني حزينة مسكينة.
قال: إني لا أشفق على من يجلب على نفسه الشقاء ولا ألتفت إليه، فلو أنك سمعت نصيحتي لدفعت عن نفسك النكد، وكنت في ألف خير، فلم تقاسي ما أنت فيه الآن من العناء والبلاء. وبعد، أفإنك وإن كنت في ضيق يوجب الأسف عليك، فإني أيضا في مركز صعب لإعسار الأحوال، فإن أملاكي قليلة الإيراد، والمحصولات متأخرة، وجميع أشغالي في تقلب، وعلي ديون كثيرة ونفقات جسيمة، وما أرى أمامي غير الخراب والدمار، فلا أستطيع أن أحسن إليك بشيء.
قالت: ما يليق هذا القول بك يا أخي، لا تجحد نعمة الله عليك، فأنت في نعمة سابغة، وفضل الله عميم وكرمه عظيم.
قال: وبفرض أني بعد كل التعب الذي تجشمته والمشقات التي كابدتها قدرت أن أجمع شيئا من المال أنفقه على نفسي في الكبر، وأبقيه لأولادي من بعدي، أفيكون من العدل أني أبدده، أو أتبرع به على زوجك الفاسد الطوية القبيح السيرة؟ وهل يفعل هذا الفعل إلا كل أبله معتوه ليس في رأسه ذرة من العقل؟ نعم، أكلف بأمرك وأمر ابنتك لو كنت أرملة، ولكنك في عهد زوجك وهو الملزوم بك، فما يعنيني من أمره وأمرك شيء. وليكن في علمك أني جمعت المال اليسير الذي عندي بغاية التعب والصعوبة، فما يلومني أحد إن حافظت عليه، فلم أضيعه هبة أو أبذله إلى من لا يعرف قيمته. والحمد لله أني من العقلاء، أصون نفسي عن فعل أفعال المجانين الجاهلين، فاقطعي الأمل، ولا تكلفي نفسك التعب ومضض السؤال.
فوقع هذا الكلام في نفس كريمة وقع الحسام، ولا سيما عند إشارته إلى أنه لا يسأل بأمرها إلا بعد وفاة زوجها، فسالت العبرة من عينيها، وقالت: زدتني يا أخي حزنا على حزني ولم تشفق علي، وأنا في حالة الفقر المدقع من زمان طويل محرومة من كل هناء وراحة، صابرة على البلوى حمولة موجعة القلب، أتمنى الموت وفراق هذه الدنيا التماسا لراحتي في الأخرى ... فاعلم يا أخي أني لم أحضر لأطلب منك مالا، فالمولى يزيدك عزا وغنى، وإنما مطلوبي شيء أعز من المال.
قال: أي شيء أعز منه غير الروح، وما أظن أنك حضرت لتطلبيها؟!
قالت: محبتك يا عزيزي أغلى من كل شيء، وأثمن من كل نفيس في العالم، وأعز من روحي إلي.
قال: إن كان ما تطلبين محبتي، فهي مبذولة لك غير ممنوعة.
وكان غانم حين سمع كلام أخته تهلل وجهه، وقر عينا بما سمع، وانشرح لانحصار الطلب في أمر ليس له قيمة واعتبار عنده، ولا يكلف شيئا.
قالت كريمة: إن صدق قولك، فدعني أختبرك، واسمع قصتي: إنني متألمة وبي مرض يلازمني من عدة أشهر، وهو يزداد يوما عن يوم، وقد شعرت بدنو أجلي وانصرام أيامي.
فأظهر غانم لأخته الحنو، وقال لها: بالله أن تصرفي عنك هذه الأوهام، فإنه لا يليق مثل هذا التصور بامرأة عاقلة مثلك، وأنت صحيحة الجسم، وليست نحالتك دليلا على المرض، فإني مثلك ناحل، وعافيتي جيدة، وليست بسطة الجسم دليلا على الصحة وقوة البنية. تذكري أن امرأتي المرحومة كانت سمينة، فلم يحفظها سمنها من القضاء المنزل، فتوفيت في الرابعة والأربعين من عمرها، وبقيت حيا بعدها، فمن ذلك تعلمين أن تصوراتك محض أوهام وأضغاث أحلام.
قالت: ليست رغبتي من الموت ولا أسفي على حياة هذه الدنيا، وأنا لا أرجو منها شيئا، وإنما أعلمني الطبيب أني مصابة بداء في القلب يجعل صاحبه في خطر دائم من النكسة، وهكذا فإني أشعر بانحطاط كلي في قوتي، وضعف جسمي لم أكن أعلمه قبل اليوم.
قال: كل هذه أوهام باطلة، فاصرفيها عن خاطرك.
قالت: بل هي حقيقة أعلمها حق العلم، والإنسان أدرى بنفسه وحاله من غيره، حتى إني الآن من برهة وجيزة أصابني الصرع، فظننت أن ساعتي الأخيرة قد دنت الأجل، ويا ليت ذلك قد تم لأرتاح من العذاب وأخلص من مصائب هذه الدنيا وأكدارها، وإني لأتمنى الموت، وأرحب به لولا شفقتي على ابنتي وحشاشتي وقرة عيني.
وهنا تنهدت كريمة، وزفرت زفرة المتأوه، وأذرفت الدموع، وقالت: إنما قلبي على بنتي وشفقتي عليها لا على نفسي، فقد لزمت التعاسة هذه المسكينة منذ يوم ولدت؛ فعاشت ذليلة يتيمة من أبيها الكريم الفاضل ووا لهفي عليها، كيف تكون حالها حين تفقد أيضا والدتها؟!
فعاود غانم انشغال البال والقلق عند سماعه هذا الكلام، فقال لأخته: أي شيء تخافين على ابنتك، فهي تقيم من بعدك في حجر زوجك خليل؟
فارتعشت عند ذلك فرائص كريمة، وقالت: هيهات هيهات أن تجد لها سندا عنده، وهي بعد مماتي تكون غريبة، فلا تبقى علاقة أو قرابة بينه وبينها.
قال: إن لم يكن هو القيم عليها، فإن أهالي زوجك الأول يهتمون بأمرها.
قالت: يا ليت لزوجي أهل في قيد الحياة، ولكن قد توفاهم الله جميعا لتمام نحسها وتعاستها، فليس لها راحم ولا ناصر.
فاضطرب خاطر غانم وعلم أن الكلام موجه إليه في الوصاية على الابنة اليتيمة.
فقال: ما أعلم كيف يؤول أمر الأيتام، فالله يبعث رزقهم ويتولى أمرهم.
قالت: إني لا أجد لي في الكون ناصرا إلا رجلا أثق به، وأجعله وصيا على ابنتي بعد مماتي. إنه عضدي المتين وسندي المكين، ومحط رجائي، واعتمادي واتكالي عليه ثابت، ألا وهو أنت يا أخي وعزيزي المحبوب الشفوق، فإليك أعهد أمر ابنتي اليتيمة.
فانخطف لون غانم واضطرب جنانه، وأراد أن يتكلم فانعقد لسانه، ورجفت أركانه، فلم يكن برهة من الزمن حتى عادت أخته إلى الكلام، فقالت: أوصيك خيرا بتلك اليتيمة، وأستحلفك أن تنظر إليها بعين الشفقة والرأفة، فمن أجلها حضرت إليك غير طالبة منك إحسانا، وإنما سألتك أن تكون كفيلا لها بعد وفاتي تجعلها في حضانتك، وتوسع لها محلا في منزلك، وتسندها وتعضدها، فهي على الأخلاق اللطيفة والصفات المحمودة، ولا شك أنها تجد السعادة عندك بعد مقاساتها مر الشدائد عندي، وأخاف عليها أن يصيبها مكروه، وأما منزلك فواسع رحيب، فإن شئت جعلتها كأبنائك، وإن شئت فهي من إحدى جواريك.
فغلبت طبيعة البخل على عقل غانم، وتأمل في النفقة التي يغترمها في الوصاية على ابنة أخته، فقال: تتكلمين كأنك على فراش النزاع ومفارقة الحياة الدنيا، وأنت - بحمد الله - صحيحة الجسم، لو سألنا الأطباء عني وعنك، واتبعنا القواعد العمومية في مسائل الطب والأجسام لرأيتني أقرب منك إلى الوفاة؛ لكوني أكبر منك بست سنوات، وفضلا عن ذلك فالنساء على الغالب يعشن فوق ما يعيش الرجال، فلا محل لرهبتك ولا صحة لتصورك وتوهمك وتنغيص عيشك بدون موجب، والاهتمام بشأن ابنتك قبل الأوان، والواجب عليك أن تكوني حزومة، وتجانبي هذه الأفكار وتطرحيها، ولو كان في قولك مسوغ لأجبتك بالإيجاب، ولكنني لا أرى داعيا إلى ذلك.
قالت: لك يا أخي أولاد، وأنت تعلم مقدار حنو الوالدين وعطفهم على أولادهم، وشدة اهتمامهم بأمرهم، وكل رجائي عندك أن تسكن حرقتي، وتريح بالي، وتخبرني هل تجد ابنتي من يتولى أمرها بعد وفاتي؟
فحار غانم في أمره، وجعل يضرب أخماسا في أسداس، ويتدبر كيف يتخلص من هذه الورطة التي وقع فيها، فرأى أن يوافق أخته، فلا يخالفها في النظر، وأن يعدها بما شاءت لتسكين بالها، وناهيك من وعد البخيل، فقال لها: إن حصل الأمر الذي تخشينه، وقدر الله أن يحين أجلك قبل أجلي فلك العهد علي أن لا أهمل شأن ابنتك، وأن أعتني بها، وأبذل لها الجهد في الخدمة، فتكون مرتاحة مطمئنة مقيمة عندي كالابنة في بيت أبيها، فسكني الخاطر ولا تجزعي، والله سبحانه يرحم كل ضعيف.
فأشرق جبين كريمة عند سماع هذا القول، وانتعش فؤادها فقالت: تعدني يا أخي بأنك تجعل عفيفة ابنتي في منزلك، وتتولى أمرها والحفاظ عليها؟
قال: نعم، أعدك بذلك ، وأشهد الله على نفسي، وأجتهد في صلاح أمرها، وتزويجها برجل كفؤ لها تقيم بالراحة والسعادة عنده، وأتعهد نفقتها، وإن احتاج الأمر إلى جهاز لم أتأخر عن ذلك.
فتهلل وجه كريمة، وقالت من فرط حبورها: حفظك الله يا أخي وأنعم عليك، فسامحني واصفح عني، وتجاوز عن خطيئتي حين رجمت فيك الظنون، وأنت واسع النظر، وألتمس منك الإقالة فليست تخفى عليك أعذاري.
قال: غفر الله لك ولا بأس عليك، إنما الناس صناديق مقفلة مفاتيحها التجارب، فقد يتظاهر كثيرون بالاستقامة والكرم والعفاف وهم خبثاء ماكرون، ويظن المرء في قومه سوءا وهم صلاح مستقيمون، وينسب إليهم من المفاسد والرذائل ما هم عنه بمعزل، وربما ظهر لك مني الجفاء والغلظة والخشونة فكانت الحال بالعكس، فقري عينا وطيبي نفسا وسكني البال، واعلمي أني ما دمت حيا باذل جهدي والعناية في شأن ابنتك إن كنت ترغبين مني فوق هذا، وقد أجبت سؤالك فاصرفي عنك الأكدار، والآن فقد مضى الوقت علينا والأصحاب في انتظاري، ولا ريب أني ضايقتهم بطول الحديث معك.
فتقدمت كريمة إلى أخيها، وأقبلت على يده تقبلها ودموعها منسكبة على الخدين وقالت: إني مقصرة عن شكر جميلك، أوليتني نعمة لا أستحقها، وفرحت قلبي فرح الله قلبك، وجعل أوقاتك سعودا وسرورا، وجزاك الله خيرا، فقد أنقذت ابنتي من مخالب الجوع والعار، وفتحت لها باب السعادة والراحة، فآخر رجائي عندك يا عزيزي أنك تعجل معروفك، ولا تؤخره إلى وفاتي، وكن بي وبابنتي رءوفا، واجعلها منذ الآن في منزلك، ليهدأ بالي وتصفو أفكاري، وأقابل الموت مطمئنة محبورة.
فما فرغت كريمة من قولها حتى انقلب وجه أخيها، وتبدلت بشاشته غضبا، وتولاه الذهول والدهشة، فجعل يروغ كالثعلب في فخه، وحار في أمره كيف يفعل، فلما رأت تغيره وتبينت السخط فيه اضطربت وعلا وجهها الشحوب، قالت: إني أشعر برجوع المرض، وأخشى أن يغتالني الألم ويعجل علي الوفاة على غفلة، فتشاهد ابنتي نزاعي، فتموت جزعا على أنها لطيفة المزاج والشعور، ضعيفة الجسم، حديثة السن، لا تقوى على احتمال المشهد المحزن، فأكرر الرجاء وألتمس منك يا أخي العزيز الحنون أن تبادر إلى البر، فلا تنتظر آخر ساعة من حياتي لإنجاز وعدك وإتمام مقاصدك النبيلة، ونواياك الجميلة، فاجعل ابنتي في حرزك، واكفها الكرب والعذاب، ولا تدعها تتجرع مرارة الكأس ومكابدة ما لا تطيقه من الروعة والأسى، ودعني أموت ذاكرة فضلك داعية لك بطول البقاء والإقبال، إن أعظمي في قبرها تثني عليك، وقد شهدت أنك تحبني، فانقل محبة الوالدة إلى الابنة، واجعل عفيفة بمعزة أولادك، فتلك أعظم مجابرة وتعزية لي قبل حلول رمسي.
فاشتدت حيرة غانم وتنبه إلى غلطه، كيف قادته سماحته الموهومة إلى حيث لا يحب الوصول، فقد كان كل قصده الوعد لا الوفاء، ولكن ساقه الحديث إلى ما لا يشتهي، وغلبت عليه طبيعة البخل، فانقلبت سحنته، وأجهد قريحته ليرى كيف يتخلص من أخته وابنتها، فقال: غمض علي ما تقولين فلم أفهم مرادك، أترين أن تجبريني على فعل ما لا يليق، ولا يحتمل وقوعه من ذي لب؟ ترغبين أني أفرق الأم عن ابنتها عند قرب الوفاة؟ أفي الكون أفظع من هذا العمل الذي تشمئز منه النفوس الأبية، وتكرهه الطباع الإنسانية، وتحرمه النواميس الإلهية والطبيعية؟ وبفرض التسليم بأنك على آخر رمق من الحياة كما تدعين، أيستلزم ذلك مفارقتك ابنتك ولو دقيقة واحدة؟ إذ الواجب أن تلازمك ليلا ونهارا، وتجلس على فراشك، وتغمض بيديها عينيك، وتتلقى آخر نسمة من فيك، فهذه فروض مقدسة يقوم بها البنون، وعلى ظني فإني لو رضيت بأن أجعل ابنتك عفيفة عندي، فهي تأبى أن تفارقك لحظة ما دمت في قيد الحياة.
فسكبت كريمة الدموع الساخنة، وقالت لأخيها: أظننت يا شقيقي أني راضية بمفارقة ابنتي بخاطري؟ كلا ثم كلا ... وحبك الصادق إنها سلوتي الوحيدة في الدنيا وتعزيتي، بل حياتي وروحي، ولكن الأمر خطير والأسباب عظيمة والله يعلم مقدارها.
قال: ما تلك الأسباب؟
قالت: لا أستطيع بيانها، فأعفني من ذلك.
قال: من لي بعلم الغيب؟
قالت: سيان بوحي وكتماني، فلست طالبة منك غير النعمة التي وعدت بها.
قال: تطلبين مفارقة ابنتك والانفصال عنها قبل وفاتك ولا تبينين الأسباب؟
قالت: بحقك يا أخي لا تزد أحزاني وأشجاني، وأن تعفيني من ذكر أمور تقطع كبدي، وهي أمر من الموت عندي، فمصائب هذا العالم كثيرة وبلاياه وفيرة، وقد لا يجوز للإنسان أن يصرح ببعضها فتوارى بموته، والأسباب التي تريد الاطلاع عليها من ضمن المصائب التي لا يجوز البوح بها، ويلزم أن تموت بموت صاحبها.
قال: تتكلمين بالأحاجي والمعميات والألغاز كأن لي وقتا أضيعه في التفكير في حل الرموز، أخبريني باختصار عن الأسباب الداعية لافتراقك عن ابنتك. ثم قال لها وقد ضاق صدره: إن لم يخطئ حذري فإن خليلا زوجك يسيء معاملتك ومعاملتها، ويتصرف تصرف الأنذال الأخساء، فترغبين خلاص ابنتك من جوره، تلك أمور معتادة تحدث غالبا عندما تتزوج أرملة ولها أولاد من زوجها الأول.
قالت: لم يكن هذا هو السبب.
قال: لا سبب غيره، وإن أخفيته عني، فإني لا أستغرب صدور الأمور الشائنة من زوجك الذي أعلم له من الأخلاق وسوء الطباع ما أعلم.
فكانت كريمة كلما لفظ أخوها اسم خليل - زوجها - تضطرب وتنقبض، فقالت: بحقك يا أخي أن تدع ذكره.
قال غانم: أعلم أنك واسعة الخلق صبورة، فيجب عليك أن تحملي المصيبة بشكر وتصبري على بلواك، وتكتمي الأمر عن كل واحد، ولتعلمي أني لا أنظر فيما لا يعنيني، ولا أدخل في عداوة زوجك وأكدار أغناني الله عنها.
قالت: أنسيت وعدك الآن لي؟
قال: كان وعدي مشروطا.
قالت: والشرط وفاتي.
قال: أسأل الله أن يتوفاني قبلك.
قالت: إذن ترفض التماسي، ولا تقبل ابنتي عندك.
قال: محلها عندك لا عندي.
قالت: عندي تعيش في التعاسة وبالشقاء تموت.
قال: ما قدر الله كان، وما لم يقدر لم يكن، ولم يسمع البتة في الغابرين أن الحزن أمات صاحبه.
قالت: قد تكون ابنتي على خطر رائع وريب هائل إن أقامت في بيت زوجي وعذاب يهون دونه الموت الزؤام.
وهنا خرت كريمة على الأرض راكعة، وانسكب الدمع من عينيها، وقالت مستعطفة: أحلفك يا أخي بالمرحوم والدي والمرحومة والدتي، وأقسم عليك بالديانة والشرف وبأولادك الأعزاء وبابنتك أن تسمع مقالي، فالمقام جليل، أسأل الله أن لا تقف فيه وقفتي هذه، فتلتمس ما أنا ملتمسة منك الآن.
فانحنى غانم قليلا لينهض شقيقته من ركعتها وقال: اعلمي أننا في فندق عمومي لا في ملعب تياترو وتشخيص روايات.
فنهضت كريمة بانكسار وتألم عناء شديد، وفي عينيها الجمود، تنظر إلى أخيها نظرة الغائب عن رشده أو كالأبله المعتوه.
فقال لها غانم: تستحلفيني بالأيمان وشرف ابنتي فأجاوبك أن مصلحتها تحملني على رفض التماسك، ولتعلمي أن في قلبي الشفقة عليك، ولكن مبادئي المقدسة تحكم علي بأن أجفوك، ولعلك تتذكرين أني بعد وفاة زوجتي لم أفكر في زواج، وأني آليت على نفسي ألا تدخل بيتي امرأة بعدها، وحاش أن أكون قد حقدت على النساء من أجل ريب رأيته في زوجتي، فلن أذكرها إلا بخير، واحترام الأموات عندي سنة مقدسة، ولكني تذكرت كثرة النفقات التي كنت أغترمها لمرضاتها، والنفقة الكثيرة مكروهة عند الرجل العاقل، ولا غلط أعظم من غلط من يزعم أن المرأة لازمة بمنزل الرجل لترتيبه وتدبير أحواله، فالأمر بالعكس إذ رأيت النساء من بلايا الكون ومصائبه، وعلة الشرور ومصدر كل ضرر، ولذلك فإني أطلب من الله لأحبابي ألا يذوقوا يوما ولا ساعة ما ذقته من الكدر في حياة زوجتي المرحومة بسبب إسرافها وإنفاقها بغير حساب، وخصوصا عندما كنت أرى الخياطة تقدم حسابا بمطلوبها أو التاجر كشفا ببضاعته التي باعها، فأدفع الثمن وروحي من الكدر تكاد أن تزهق، ثم إنه بأسباب النساء تكثر الزيارات والمقابلات وتستمر الولائم، وتتواصل السهرات، وجميع هذا يحتاج إلى النفقات الباهظة والمصاريف الفادحة. فيكف تكون حالة الرجل وهو يرى جنى غرسه مبددا وثمرة أعماله ضائعة؟! فوالله ليس من مصيبة لرجل عاقل حازم تعدل هذه المصيبة، ولو لم تدارك المنية المرحومة عاجلا لهلكت غما وحزنا وكنت في الغابرين. وأكرر القول: إني لا أريد قذفا بها ولا حقدا عليها، فالله يشهد أني حزنت كثيرا على فقدها، وغفرت لها ما أسرفت، وسألت الله أن يسامحها، وإنما أردت تذكيرك بخبرها، وأني أقسمت على نفسي ألا أدخل النساء في بيتي قطعا لأسباب السرف والتبذير، وهو يمين مقدس عندي أحافظ عليه إلى مماتي، وفي هذا كفاية إن كنت تفهمين الإشارة.
قالت: أعجم علي يا أخي كلامك فما فهمته.
قال: كلمتك بالعربية وهي لغة تعلمينها، ونتيجة قولي وخلاصته: أني لا أقبل في منزلي امرأة ولا بنتا، وهذا الشرط فرضته على نفسي من نحو عشر سنوات فحفظته، فلا يسعني الإخلال به البتة، ولشدة حفظي عليه أجريته على ابنتي فأبعدتها من منزلي، وجعلتها في المدرسة تقيم مع ترائبها نائمة قائمة فلا تخرج حتى لم يبق في منزلي أثر جنس النساء ... ومتى خرجت ابنتي فإلى بيت زوجها تدخل لا إلى بيتي، وكذلك فقد أعلمت ابني سعيدا أنه يخرج من منزلي حين يتزوج، فأبقى وحدي بعيدا عن النساء خاليا من الهموم، فكيف يمكنني أن أقبل ابنتك في منزلي وقد أبعدت عنه أبنائي؟!
قالت كريمة: تجفوني هكذا يا أخي، فلا يبقى في قلبك محل لرحمة ولا تشفق على شقيقتك المسكينة؟!
قال: ليس الأمر بوسعي، ولن أحنث في اليمين، فدعي اللجاجة، إنها لا تفيد شيئا.
وكان كلام غانم بصوت جاف يقطع الأكباد تقطيع الحسام الهام، فانفطر قلب أخته، وتمزقت أحشاؤها، وعلمت أن تذللها بين يديه لا يفيد شيئا، فتجلدت لبلواها، وقالت وهي تنظر إليه واجمة حاقدة: تمتع بظلمك قليلا، ها أنا خارجة عنك، أذهب فلا تراني بعد هذا يا قاسي القلب يا عديم الشفقة والرحمة، تهيأ فسيبلغك عما قليل نبأ - والله - فظيع لم تدفعه وأنت مقتدر، فلعلك تندم وتبكت الضمير، ولن ينفع التبكيت شيئا، وقد قضي الأمر ونفذ السهم ... أفارق هذه الدنيا ساخطة عليك لاعنة اسمك داعية بتقطيع قلبك الصخري إن كان لك قلب، وهذا وداعي الأخير إليك لا وداع بعده، ولا لقاء إلا في الآخرة يوم ينصب الميزان، فتحاسب على ما جفوت وعتوت وتجردت من الإنسانية، وتخلقت بالأخلاق الذميمة، وتكالبت في محبة المال تجمعه، وضننت به أن تنفقه في سبيله؛ لتدفع عني وعن ابنتي وعنك العار والشنار. إن ذلك اليوم لرهيب، أجيء مطالبة وابنتي بالعرض المهتوك، وأرفع وإياها الأيدي للانتقام منك يا ظالم.
وهناك انقطع صوت كريمة، فخرجت مسرعة، وهي لا تبصر ما حولها كفاقدة الشعور.
أما غانم فلم يجاوبها بكلمة، ولم ينتقل من مكانه، ولم يتأثر مما سمع كالوحش الذي ليس له قلب، وقال في نفسه وهي خارجة: إنها مجنونة، وليس على المجانين حرج.
ثم نادى الخادم ليدعو هماما، وقد طال عليه الانتظار.
الفصل الرابع
دخل همام وفؤاد وسعيد، فاعتذر إليهم غانم عن التأخير بسبب حديثه مع شقيقته، ثم جلسوا للطعام، وقد جاعوا فأكلوا باشتهاء.
وكان غانم على بخله أكولا يلتهم الطعام، كلما قدمت إليه صحيفة ابتلع ما فيها شاكرا فضل همام على دعوته، ولو أن الحديث الذي حصل بين غانم وبين شقيقته حصل لغيره لانقطعت قابليته، ولكن غانم كان على طبع لا تؤثر فيه الفواعل، ولا تعمل العوامل ولو بلغت ما بلغت من الشدة، غير عامل البخل وخوف النفقة، وهي الآن على همام صاحب الدعوة، فمن أجل ذلك كان ناعم البال منشرحا يتناول طعامه بكل اشتهاء، فيا ليت كان قلبه سويا كمعدته!
وكان سعيد يحذو حذو أبيه، فلا يتخلف عن الأكل على كثرة الألوان، حتى كأن معدته بئر لا تمتلئ.
وقام همام بواجبات الدعوة وإكرام المدعوين، يسكب لهم الخمر في الكاسات البلورية، ويلاطفهم بالحديث والمنادمة.
وكانت شهوة الشرب عند سعيد بقدر شهوة الأكل، فجعل يتناول الكاسات من يد همام يحسوها على عجل، ويرجع إلى أكله كأنه لم يذق طعاما منذ يومين أو ثلاثة!
وكان فؤاد صامتا غارقا في بحر الهواجس والأفكار، ولا يأكل إلا قليلا، ولا يتعاطى الخمر، فإنما قد حضر حضور افتخار لإكرام المدعوين، فلم يرق ذلك في عين همام، وقد أشار إليه خاله ونبهه ليأكل ويتكلم فلم يفعل.
ولما انتهوا من طعامهم أحضر الخادم القهوة، وأخرج همام من جيبه علبة سجائر من أفخر ما يدخن، وقدمها بين أيدي غانم وابنه سعيد، فتناول غانم أكثر من النصف وقال لهمام: تعذرني أني أخذت أكثر من واحدة، فإني مواعد على زيارة في هذه الليلة، ولا يتبشر لي الذهاب إلى دكان تاجر الدخان عميلي لأشتري منه ما يلزمني، وفضلا عن ذلك فإن سجائرك تعجبني؛ لأنك لا تشتري إلا من الصنف الأعلى، وأنا أقنع بأقل شيء؛ وذلك لأننا معشر الرجال المتزوجين نتعب ونشقى ونسعى في أثر الرزق آناء الليل وأطراف النهار، فلا نبلغه إلا بشق الأنفس، فتأكله النفقة على البيوت المعلقة بأعناقنا، ولا يعلم مقدار ما نعاني من المشاق إلا المتزوجون، وأما العازبون مثلك فيجهلون ذلك، فلا تلمني أن رأيتني مقترا على نفسي في النفقة.
ثم إن غانم التفت إلى فؤاد وقال: إني أعجب منه كيف لم يفه بكلمة طول مدة العشاء؟ ولعله تكدر من معاشرتنا، فلم يرق حضورنا في عينيه أو ضايقه حجز حريته عليه.
فجعل همام ينبه ابن أخته، ويحثه بالإشارة على ملاطفة المدعوين ومسامرتهم، فلم ينتبه فؤاد لهذه الإشارة كأنه في سبات النوم لا يسمع ولا يرى.
فتكدر من ذلك همام، وساءه عدم اكتراث ابن أخته بأهل خطيبته، فكان يصر على أسنانه، ويعض على شفتيه من الغضب فلا يتكلم.
ثم إن غانما نهض لينصرف، فخرج همام معه، وانطلق فؤاد مع سعيد يتنزهان في حديقة الأزبكية.
وكانت الليلة مقمرة، ينجلي في سمائها البدر في تمامه مرسلا أشعته الفضية على سندس خضرة الحديقة؛ فيتلألأ بهاء وإشراقا، وكأن البحيرة لجين نقي تتموج فيها أشعة القمر الساطعة، وتتحرك الأغصان بمرور النسيم اللطيف المحيي القلوب المنعش الأجسام.
وكان حول البحيرة جماعة المتنزهين والنساء يتمايسن بالقدود اللطيفة، فيخجلن البدور السوافر والأنجم الزهرية، وكانت الموسيقى العسكرية تصدح بألحانها الشجية فتأخذ أصواتها بمجامع القلوب، والمغنون في القهاوي يوقعون على الآلات الأدوار الجديدة، والناس حولهم جلوس يرددون أصوات الاستحسان، وغير ذلك من المطارف التي جمعتها حديقة الأزبكية، وكان سعيد في تلك الليلة قد أكثر من الشراب فجعل يعربد ويمزح ويقهقه كالسكارى.
وبعد أن قضى فؤاد برهة من الزمان يتنزه في الحديقة دائرا حول البركة، استأذن لينصرف فمنعه سعيد بقوله: أنت الليلة معي، لن أفارقك، ولن أدعك تذهب في هذا الوقت، والمكان زاهي الحظ جميل، فلنغتنم الصفو ولنمتع القلوب بسماع الآلات، وإن شئت نمتع النواظر بمشاهدة النساء الحسان المتنزهات، فلعلنا نجد بينهن صيدا شهيا نتفكه به بعد الطعام الفاخر الذي أكلناه في دعوة خالك، فأنت الآن في رفقتي، فلا تخف إنما قد استغربت أمرك إذ رأيتك تأكل أكل الأطفال وتشرب شربهم، وأنت حيي خجول كالبنات العذارى، وهذا ليس من شأن الشبان، وجئت الآن تطلب الانصراف كأنك تخشى طارقا إن غبت عن منزلك فلم ترجع إليه في ميقاتك، فما الذي يعكر عليك؟ أيكون السبب في انشغال بالك وحبك العزلة عن الناس عشقك لأختي سعدى التي ستكون قريبا زوجتك؟ وإن شاء الله كان اسمها مقارنا مسماها، فتجد في قربها السعود، فإنها سترث من أبيها أملاكا واسعة تتمتع بها، وقد بلغني أنك محب للمال راغب في تعجيل اقترانك بها، ولأجل مرضاة خاطرها تحرم نفسك من الطيبات، وتمتنع عن الحضور في مجامع الناس ومجالس أنسهم وطربهم لتحسن خطيبتك فيك الظن، فلا تنسب إليك شيئا من الباطل والعيب.
قال فؤاد: أخطأ ظنك يا صاحبي، فلا عتب عليك فيما تقول، إنما العتب على الخمرة التي أنطقتك بالقول السخيف، فأنت معذور.
قال سعيد: تستعمل المصانعة في حضوري، فبالله دع ذلك إلى مجلس شقيقتي وخاطبني بحرية، فإن التكلف يقبض الصدور، ويدفع أسباب المباسطة والانشراح، ولك العهد علي أني لا أخبر أختي بشيء.
قال فؤاد: الرأي عندي أنك تنصرف إلى منزلك، فالنوم أنفع لك، وهو الدواء الشافي لسكرك، ومتى صحوت غدا تكلمني على هدى، وتذاكرني الحديث الذي تبتغيه.
قال سعيد: رأيتني أكثرت شرب الخمر، فزعمت أني سكرت وما أنا بسكران، فإني وحقك معتاد على شرب أضعاف ما شربته في هذه الليلة، فلا يحصل لي أقل انزعاج، ولا خرجت البتة عن صوابي ورشدي، وأنا الآن أكلمك على انتباه، فلا تسلك معي سبيل المكاتمة، ودع التقوى والتصاون إلى وقت آخر، وتظاهر بما شئت أن تتظاهر من الورع والفضيلة في مجلس أختي؛ لاستجلاب خاطرها ورضاها.
قال فؤاد: وهمت يا صاحبي، فأفعالي منطبقة على أقوالي، فلا أقول شيئا إلا ومصداقه في قلبي ويقيني، ولك أن تحكم في طباع أختك، فأنت أعلم بها مني، وليس لك أن تعلم طباعي وتحكم لي أو علي في أمر تجهله.
قال سعيد: أؤكد لك يا فؤاد أني أعزك فوق ما أعز أختي وأفضلك بالتهذيب والأدب والرقة حالة كونها على الأخلاق المنافية لذلك.
قال فؤاد: تحكم على أختك بالكبرياء وقلة الأدب والتهذيب إن كان يصدق قولك؟
قال سعيد: ما كلمتك والله إلا عارفا، غير راجم طعنا فيها، وفي استطاعتي أن أبرهن لك على قولي لولا خشيتي نقل حديثي إليها، فيقوم بينها وبيني النزاع، فتضربني وأضربها وتنتف شعري، وتخمش وجهي، أو تسمل إحدى عيني بأظافرها.
قال فؤاد: من يصدق قولك وأنت أقدر منها، والنساء أضعف من الرجال عموما؟
قال سعيد: إن قدرت الخبيثة فعلت، وإن لم تفعل فليس من عدم الإرادة.
قال فؤاد: شيء عجيب، كنت أظنها وديعة هينة الطباع، وأنت تخبرني بالعكس.
قال سعيد: خدعتك كما خدعتها أنت بتقواك وأدبك وحيائك، وما أخبرتك بهذا إلا لتحاذر حين زواجك بها أن تسمل عينيك بأظافرها الطويلة.
فقلق فؤاد لسماع هذا القول، ومع علمه بأن سعدى دميمة الوجه مجردة من الذكاء والمعارف، كان يظنها هينة الطباع رقيقة الجانب لطيفة المعاشرة وديعة النفس - كما هي الحال عند النساء المجردات من المحاسن الظاهرية - وجعل يتفكر في أمره، كيف يمتنع ويخالف رأي والدته إن صدق كون سعدى على هذه الصفات القبيحة.
فلحظ سعيد اضطراب خاطر فؤاد وانفعاله من كلامه، فأراد أن يتدارك ما فرط منه فيصلح الخطأ فقال: إن ما أبديته من القول على أختي سعدى مزاح، فلا تحله محل الجد، واعلم أنها حسنة السيرة طيبة السريرة، إن تزوجت بها كنت في سرور وحبور.
قال فؤاد: وحياتك إني لم أخف على عيني سملا، ولا أرهبني طول أظافرها.
قال سعيد: لا تعر قولي جانب الصحة، فهي مباسطة ومجون، وإن شئت فهيا بنا للخروج فقد غلب النوم علي، وإني أحب مجاراتك ومرافقتك.
فجالت الخواطر في رأس فؤاد، وكان في الابتداء راغبا عن الخروج، فأصبح الآن بعد سماع كلام سعيد راغبا فيه، مريدا ملازمة سعيد ومصاحبته ابتغاء استطلاع أحوال سعدى وخوافي أمرها، فالتمس منه أن يقيم معه إلى آخر الليل.
قال سعيد: قد سألتني من دقيقتين أن أنصرف وأنت الآن تطلب إقامتي، فلي الحق في ملامتك.
قال فؤاد: لم يحن وقت الرقاد، ونحن في أول الليل، وقد قلت: إنك لا تسكر من شرب كأسين، فأخذت قولك على وجهه.
قال سعيد: هوم النعاس في رأسي، فلا أستطيع السهر، ولو عيرتني فاسمح لي بالانصراف، وإن شاء الله قابلتك غدا وكلمتك مديدا عن سعدى وخلافها.
وكان فؤاد شديد الرغبة في استطلاع حقيقة قول سعيد على شقيقته سعدى، واستغرب أن يسمع حديثا كهذا منه مع أن العادة أن أهل العروسة لا يبلغون عنها إلا كل حسن، ويخفون شوائبها ومعائبها، فوقع في نفس فؤاد من كلام سعيد أن سعدى على سوء الأخلاق وذميم الطباع، وأنه إنما أنطقه السكر فألح خطابه وقال له: إن كان لا بد من توجهك للرقاد فلنشرب كأسا أخيرة من الكونياك ثم ننصرف، وشراب الكونياك موصوف بخاصيته في هضم الطعام وللنوم والاستراحة.
قال سعيد: أصبت، فالكونياك من خاصيته أيضا التنبيه وإصلاح ما أفسد النبيذ، فاخرج بنا إلى قهوة البورس فإن مشروبها جيد موصوف.
فانطلق الصاحبان معا، وقد انطلت الدسيسة على سعيد فلم يدرك الغاية، وانتهيا إلى القهوة، وجلسا يتحادثان، وأحضر الخادم لهما زجاجة كونياك فشربا، وأكثر فؤاد من العزومة على سعيد في الشرب، فأجاب هذا دعوته، وجعل يتناول الكأس بعد الكأس حتى فرغت الزجاجة، فنادى فؤاد الخادم ليحضر أخرى، وكان قد أخذ السكر في رأس سعيد كل مأخذ، فاستخفه الطرب، وجعل يعبث ويضحك، وعند ذلك سأله فؤاد قائلا: أمن أمد بعيد فارقت سعدى شقيقتك؟
قال سعيد: أراك جاعلا سعدى شقيقتي محور الحديث فلا بأس في ذلك، املأ الكأس لي أولا، فإني أرى الكونياك باردا خفيفا لا يروي الظمأ.
فملأ له فؤاد وهو يقول: تتعجب مني كيف أسألك عن شقيقتك، وهي ستكون عما قليل زوجة لي، والحديث عنها يسرني.
قال سعيد: والله يا صاحبي إني أرى حالتك كحالها، أنت ترغب في سماع أخبارها بقدر رغبتها في سماع أخبارك.
قال فؤاد: أي شيء تحبه من أخباري وتنشرح لسماعه؟
قال سعيد: لك علي قول الصدق لغير رياء، إن شقيقتي لا تسأل عن مزاياك الحميدة وأدبك وحشمتك وذكائك ولطفك ودعتك ورقة جانبك، فإنها متكبرة لا تحتفل بهذه الصفات، وإنما تتحدث في شرف أصلك ونسبك بما جبلت عليه من حب الفخفخة والعظمة، وقد بلغتها المفاوضات الحاصلة في شأن زواجك بها، فجعلت تنظر إلينا بعين الاحتقار كأننا أوضع منها أصلا، وقال محتدا: ولا شك أن ذلك من قصر العقل وقلة التمييز.
وكان سعيد قد شرب كأسه، فسكب له فؤاد، وهو يقول في نفسه: رحم الله عاصر الشراب، فأقف في هذه الليلة على طباع وأخلاق مخطوبتي، وأعلم الحقيقة المكتومة، ثم إنه ناول سعيد الكأس ليشربها، فقال والكأس في يده: ليتك يا فؤاد كنت حاضرا فترى حركاتها، وتسمع حديثها عند تعريفها بذكرك وافتخارها بنسبك، وأنها ستكون لك زوجة، فتبدو منها إشارات الطرب، وتهتز كما يهتز الأحداث عندما يعطون ألعوبة أو شيئا من الحلويات، فيكون نصيبها مني أني أعبث بها بما أوتيت من الإدراك فأوبخها على حديثها لو أنها تسمع تأنيبا، وأكرر عليها القول فتجاوبني بالشتم وتهينني فأشاتمها وتشاتمني، ويقع بيننا النزاع، فلا تلمني إن قلت لك الحق، ولا تعتب علي إن رأيتني لا أحبها؛ إذ لا شيء فيها يحب.
ثم إنه شرب الكأس وقدمها لفؤاد فملأها، وجعلها على المائدة أمامه وقال: وأخبرك على سبيل المباسطة بما حصل بيني وبينها وأنا في حداثة السن، فقد كنا كلانا كالعدو مع عدوه لا نتفق، والخصام مستمر بيني وبينها، فكنت أقوى جسما منها، وهي أشد مكرا مني وخبثا، ومن مكيدتها أنها لا تقلم أظافرها حتى إذا وقع بيني وبينها خلاف هجمت علي وهشمتني، فما تنفصل عني إلا وقد خمشت وجهي وشوهتني، وقد نبهتها كثيرا لتقطع أظافرها التي هي أشبه شيء بالمخالب أو بأسنان مسنونة فلم تفعل، فبينما كانت تنازعني يوما من الأيام، وثبت علي وثبة الأسد الضاري، وخمشت وجهي بأظافرها حتى سال الدم منه، وشعرت بألم لا مزيد عليه، فكنت من شدة الغيظ لا أهتدي، فبادرتها بضربة عنيفة على رأسها، ولكنها أفلتت مني، وأسرعت وراءها فلم أدركها؛ لشدة عدوها، فتناولت حجرا صغيرا رجمتها به بمنتهى عزمي وقوتي فأصاب وجنتها، وقلع لها ضرسا من الأضراس، وبقي أثر الجرح في وجهي ظاهرا مدة شهرين، وكادت تشوه خلقتي.
قال فؤاد: لله درك ما أشد بأسك وانتقامك! أنت على الوصية بأن تعتدي على من اعتدى عليك، وعلى مذهب النبي موسى بمعاملة الناس بالمثل.
قال سعيد: عاملتها كما عاملتني، هشمت وجهي، وكسرت ضرسها، فعدوان بعدوان. وقد كان لهذه الحادثة شأن كبير بيني وبينها، وترتب على ذلك العداوة الخالدة، فتراني حاقدا عليها، وتراها ساعية في الانتقام مني، وكلانا محاذر من الآخر.
قال فؤاد: لم أشاهد لها سنا مفقودة، فالظاهر أن قد نبت لها ضرس جديدة، إذ كنتما في حداثة السن أثناء تلك المشاجرة.
قال سعيد: كان عمرها في ذلك الحين ست عشرة سنة، ولا تنبت الأسنان في هذا الدور من أدوار الحياة على أن والدي صنع لها سنا صناعية عوضا عن المفقودة، فلا تستطيع أن تميزها عن الطبيعية إلا بشدة بياضها إن دققت النظر.
فعندما سمع فؤاد ذلك تعجب واهتز مقشعرا، فاستتبع سعيد الكلام قائلا: وقد جاء تركيب السن في غاية الإحكام بحيث يستحيل الفرق بينها وبين بقية الأسنان، وهي في الفك الأعلى وبعد زواجك تتذكر قولي، وتخبر شقيقتي بحديثي، فترى كيف تغضب وتصخب، وربما أخذتني على كلامي، وأكون قد أخطأت بما أخبرتك، إذ كان الواجب علي السكوت، ولكن الحق عليها لا علي إذ نصبت لي العداوة، فلا بد أن أنتقم منها، ولست أنتقم إلا بالحق.
فاستغرب فؤاد من هذا الأمر، وكان يقول في نفسه: أود أن يعلم خالي همام بهذه الحادثة، فلعله يقنعني بأن قلع الأضراس من المحاسن في المرأة.
ثم إن سعيدا تناول الكأس وشربها وقدمها إلى فؤاد فملأها وجعلها أمامه وأردف بقوله: وقد كان قلعي ضرسها سببا للنزاع والخصام المستمر بيني وبينها حتى إن والدي حقد علي أيضا، وكان لكرهه الإنفاق واغترام المصاريف قد أبى أن يصنع لها سنا عوضا عن المفقودة؛ لاعتقاده أنه لا يغير في محاسن الوجه نقصان سن من الأسنان، ولا يعوق عن الأكل، ولكن أختي جعلت تعكر عليه وتلازم النوح والبكاء حتى رق لها، فاشترى السن المصنوعة، وتراه إلى الآن كلما رآها يتذكر الخسارة التي اغترمها وفي قلبه الأسف والحسرة.
قال فؤاد: فقد الأسنان مصيبة عظيمة عند النساء، فأختك سعدى معذورة بما تكدرت، فبالله أن تخبرني هلا فيها شيء صناعي غير سنها؟
قال سعيد: شعرها صناعي أيضا، وهي تعيرني بلون شعري أنه مائل إلى الحمرة، وذلك أفضل من الشعر الصناعي على كل حال.
قال فؤاد: لله درك، ما أبرعك ناقدا تعرف الخفايا!
فتناول سعيد الكأس وشربها وهو يضحك، فجعل فؤاد يضحك مثله ويقول: شرط الأصحاب على بعضهم المشاركة ورفع الكلفة والتصنع، وأن لا يكتموا شيئا من هواجس أفكارهم، فأخبرني عما يجول في خلدك.
قال سعيد: ضحكت من أمر خطر في بالي، وأخشى أن أخبرك به فتتكدر.
قال فؤاد: معاذ الله أن يكدرني سماع حديثك، وأنا أسر سرورا فائقا به، وأجده في غاية الظرف واللطافة.
قال سعيد: أرجوك أن تعفيني هذه المرة من الكلام.
قال فؤاد: والله ما أحب أن أثقل عليك في السؤال، ولكنني أتلذذ بسماع أقوالك، فإنك تروي بأجمل تعبير وألطف إشارة، وفيك تمام الظرف والمؤانسة.
قال سعيد: تتملقني لأطلعك على كل شيء فمحبة وكرامة، ولكنني لا أجد بدا من كتمان ما ورد في خاطري مخافة أن يبلغ أختي سعدى حديثي وتنزعج له، ويدفعها الغضب، فتنشب في أظافرها، وتسمل عيني الواحدة أو تفقأهما معا، ولا تلام على ذلك، ومن العادة أن لا يستهزئ أحد بالعيوب الطبيعية في الجسم، وفوق ذلك فإنه لا يصح وقوع هذا الأمر بين الأخ وأخته.
فرأى فؤاد أن استجلاء الأمر يحتاج إلى حسن السياسة والبداهة، فقال لسعيد يخاتله: لا أخالفك في الرأي، وأراك على مذهب شقيقتك في المكاتمة وستر العيوب، فأنت تعاملها بمثل ما تعاملك، وتخفي عيوبها كما تخفي عيوبك.
قال سعيد: وأي عيب تجده في؟
قال فؤاد: لا يليق بنا الخوض في هذا الموضوع، ونحن عما قليل سنصبح أهلا، ومرادي أن تكون دائما أبدا مسرورا منى، ولعلمي أنك بصير رزين، ما أراك تهتم بتشويه قليل في الجسم لا يستحق الذكر.
فتكدر سعيد من سماع هذا الكلام، واشتغل باله، فقال: بل أريد أن أعلم ما أشرت إليه.
قال فؤاد: تذكر يوم توجهنا معا لزيارة سعدى شقيقتك في المدرسة، إذ قادتني من يدي بعيدا عنك، وجعلت تهمس في أذني كلاما خفيا، بينما أنت واقف وأبوك تخاطبان المعلمة؟
قال سعيد: أذكر ذلك.
قال فؤاد: وتذكر أنك كنت لابسا ثوبا جديدا تخطر فيه كالبدر الساطع، فقد أخذت أختك تضحك عليك لعيب يسير وجدته فيك، وزعمت أنه يذهب بلياقة ملبوسك وإتقانه.
قال سعيد: أفرغت صبري، أخبرني عما رأت في من العيب أختي.
قال فؤاد: لست أخفي عنك شيئا، فإن شرط الصاحب على الصاحب الإخلاص، فاعلم أن أختك قبضت على يدي وهي تبتسم مشيرة إلى حذائك، وقالت ساخرة منك: انظر إلى قدمي أخي ما أغلظهما كخفي بعير، ما كان يليق لبس الأحذية المتقنة بالأقدام الغليظة هكذا.
قال سعيد وقد احمر وجهه كدرا وخجلا: تقول أختي علي هذا الكلام، وتعيرني بكبر قدمي، وفي قدمها الواحدة ستة أصابع بدلا من خمسة!
فقال فؤاد متعجبا: ألها ستة أصابع في القدم؟
قال سعيد: نعم، في القدم الشمال، وكنت عزمت على أن أكتمك الأمر شفقة عليها، فزالت من قلبي الشفقة إذ أراها تعيبني، فسترى أينا يغلب صاحبه، واعلم أن أختي لرغبتها في إخفاء هذا التشويه تحب أن تترك نصف ثروتها لمن يذهبه عنها.
قال فؤاد: والله ما أراك إلا مازحا.
قال سعيد: لا أمزح، والله هو أمر عاينته بنفسي، وستعاينه حين تتزوج بأختي، وقد رأيتها تنوح وتبكي كثيرا، وأبي يسليها بقوله: لا تزعلي فزيادة إصبع في الرجال أو النقصان لا يضر إذ لا يزيد في ثمن الأحذية.
وسكب سعيد ما بقي من الكونياك في كأسه، وقد أفرغ القنينة واتكأ على كرسيه كمن يبغي الرقاد.
وكان فؤاد يقول في نفسه: شكرا لك أيها الكونياك، لولاك لم أعلم شيئا مما علمت، ولولاك لسقطت في هوة لا خلاص منها إلا بانقضاء العمر، مصائب قد اجتمعت، فشعر اصطناعي، وسن مفقودة، وإصبع زائد في القدم، ووجه دميم، وأخلاق قبيحة ذميمة، معائب ندر اجتماعها في الشخص الواحد، شكرا لك ولله درك أيها الكونياك، ما أعظم سلطانك على العقل، وأقدرك على كشف الحقائق، فعلي أن أخبر خالي ووالدتي بجميع ما سمعت؛ لأعلم كيف يكون الرأي عندهما، وكيف تكون حجتهما في قلب هذه المعائب محاسن في المرأة.
ثم إن سعيدا قال وعيناه مغمضتان من شدة السكر: سقيتني يا فؤاد كثيرا، فأنا الآن لا أملك قوة للقيام، ودارت الخمرة في رأسي، فلا أعلم أين نحن، أحجرتي بعيدة عني؟
قال فؤاد: كلا، إنها على بعد خطوات قليلة.
قال سعيد: ادفع ثمن المشروب واخرج بنا، فلعل دكان الخياطة مفتوح بعد لأشاهد البنت الشقراء التي سلبت عقلي، وأضاعت رشدي.
قال فؤاد: أراك بها هائما ولها.
قال سعيد: ادفع الثمن ولا تتأخر قبل أن تقفل الدكان، فهذه ليلة الأحد والخياطات يتأخرن عن الميعاد نظرا لكثرة الشغل، فخطر في بال فؤاد جمال غادته الهيفاء التي رآها في جملة البنات الخياطات، فدفع ثمن المشروب، وانطلق وصاحبه سعيد إلى جهة الدكان.
الفصل الخامس
كانت دكان الخياطة على بضع خطوات من قهوة البورس، وصاحبتها امرأة أوروبية قد انتقلت إلى محل آخر، وهي حية إلى اليوم الحاضر. وقد وجد فؤاد وسعيد الدكان مفتوحة، والبنات يتأهبن للرحيل، فالواحدة منهن تضع عملها على كرسي أو تحته لتكمله في الغد، وتلبس الأخرى ثوبها، وتكبس الثالثة على برنيطتها، وهكذا حتى يصدر لهن الإذن بالانصراف، فجعل فؤاد وسعيد يترقبان خروجهن، ودارت بينهما المحاورة الآتية:
قال فؤاد: أتفكر أن تكلم صاحبتك الشقراء حين تخرج؟
قال سعيد: ألغير هذا الشأن حضرنا؟
قال فؤاد: تكلمها وليس لك بها معرفة واتصال؟
قال سعيد: أتعرف بها والأمر هين.
قال فؤاد: تتعرف بها في الطريق.
قال سعيد: وأي حرج من ذلك، أمرك والله عجيب، فكأنك قد ربيت في عزلة الجبال، لا تعلم من أمور المدن شيئا.
قال فؤاد: لا يليق أن تكلمها البتة في الطريق، والرأي عندي إن كان لا بد من تعرفك بها أن تدخل إلى الدكان بحجة أن تشتري برنيطة أو شيئا آخر فذلك أليق وأجمل.
قال سعيد: تريد أن تضحك البنات علي، كأنك تزعم أنه يفوتهن العلم بغايات الرجال، ويعدو خاطرهن أسلوبك الذي أشرت إليه. كلا، فالأفضل أن أكلمها على حدة فلا يدري بنا أحد، دعني وشأني، وانظر كيف أتدخل وأبلغ الغاية، وتكون البنت بين يدي وطوع إرادتي قبل أن ترد طرفك إليك.
ثم إن سعيدا لم يتم كلامه حتى خرجت تلك الفتاة الشقراء تخطر وتتهادى، متصنعة في حركاتها، متلبقة في إشارتها، ومرت من أمام سعيد، فلحظته بطرف الإغواء كأنها تستدعيه، وسارت الهوينا تهتز معاطفها يمينا وشمالا.
فقال سعيد وقد أشرق وجهه حبورا: أرأيت كيف أشارت إلي باتباعها وغازلتني بسحر عينيها؟ فأنا الآن أفصل عنك وغدا تأتيك أخباري، ثم إنه انطلق وراء محبوبته، يقتفي أثر خطواتها مبتهجا مسرورا. ولم تكن برهة من الزمان حتى خرجت عفيفة، وهي الفتاة التي شغف بها فؤاد، وكانت لابسة ثيابا سوداء، وعلى وجهها علامة البؤس والحزن، فجعل فؤاد يتأمل معاني حسنها البديع وجميل قوامها حتى مرت من أمامه، فلم تلتفت إليه، وأسرعت في سيرها فتبعها على بعد قريب منها حتى انتهت إلى عطفة الطريق شمالا في الشارع المعروف بشارع الباب الشرقي، فجعلت تعجل في سيرها أحيانا وتبطئ أحيانا لأفكار كانت تخالجها، فتبدو منها الحركات بحسب تأثير فواعلها، ثم سارت يمينا في شارع البواكي حتى انتهت إلى الصيدلية النمسوية، وقفت قليلا تتفرس، وبعد التردد دخلت إليها، فتقدم فؤاد قريبا من واجهة الدكان ليبصر ما يكون من أمرها، رآها قد دنت من شاب مرتفع القامة، واقف وراء مائدة مستطيلة، وجعلت تكلمه همسا خفيا، وأبصر وجه ذاك الشاب تغير وجبينه قد تقطب، وأجابها برفض طلبها، فألحت عليه وتضرعت فأبى وكلفها بالخروج، فانصرفت ورأسها منكس إلى الأرض، واشتدت على وجهها أمارات الحزن فاستطردت المسير، فتفرس فؤاد أن الفتاة قد التمست شيئا من السموم المحظور بيعها، وإلا فكيف امتنع الصيدلي عن تلبيتها. وبينما كان يجيل هذه الخواطر في رأسه تلفت فلم يبصر الفتاة، فجعل يهرول يمنة ويسارا مفتشا عليها حتى رآها قد دخلت صيدلية أخرى عنوانها الصيدلية السويسرية، كانت على بعد خطوات قليلة من الصيدلية الأولى على رأس الطريق المؤدية إلى شارع العتبة الخضرا، وكان في الصيدلية شاب لطيف حسن الوجه جالسا على كرسي يطالع كتابا، فلما أبصر الفتاة داخلة عليه وقف لها، وسألها بكل تأدب عما تريد، فلما أجابته انقبض وجهه كما انقبض وجه زميله في الصيدلية الأولى، وقال للفتاة بكل حشمة وبشاشة: إنه لا يستطيع إجابة سؤالها، فألحت في طلبها فامتنع وخرجت من الصيدلية فتبعها وهو يعتذر بقوله: أتأسف لكوني لا أستطيع قضاء حاجتك، فإن ما تطلبين ممنوع بيعه بأوامر مشددة من الحكومة، فلا يمكننا مخالفتها إلا بتعريض أنفسنا لمسئولية كبرى وعقوبة جسيمة.
وقد سمع فؤاد كلام الصيدلي فتحير وقال في نفسه: أستغرب والله أمر هذه الفتاة، أي علاقة بين ما تطلبه وبين الحكومة؟ فلا بد أن أستجلي الأمر وأكتشف السر.
وجعلت عفيفة تسرع في سيرها أكثر من الأول، فمشت محاذية محل الضابطة القديم، ثم وقفت كأنها تبغي العود على عقبها، فوقف فؤاد ناظرا إليها، وأحس بعاطفة سرية تقوده، فإذا الفتاة قد أخذت تسعى بعد وقوفها برهة، فتبعها فعطفت سيرا على يمينها في الطريق المؤدية إلى جهة الموسكي المعروفة بشارع الجوهري، وظلت سائرة حتى انتهت إلى صيدلية ثالثة قريبة من شارع الموسكي إلى جهة الشمال عنوانها الصيدلية الفرنسية، فوقفت على بابها تشاور نفسها في الدخول، فبادر فؤاد بحجة أنه يشتري حبوبا للسعال، فدخل الصيدلية وفي نفسه أن يسمع كلام الفتاة وما تطلبه. وكان في الصيدلية ثلاثة أشخاص يظهر أن أحدهم صاحبها وأن الاثنين الآخرين من عماله، فأحدهما واقف وراء التختة ويسد بالفلين والشمع الأحمر القناني، والثاني جالس بقرب مكتب بين يديه الدفاتر، يكتب ويحسب، وكان صاحب الصيدلية مضطجعا على كرسي، وقد غلب عليه النعاس، فبينما نهض الغلام لقضاء حاجة فؤاد دخلت عفيفة متقدمة نحو الشاب الجالس على مكتبه، وكلمته بصوت منخفض، فنظر إليها الشاب مندهشا، وقد سقط القلم من يديه وقال لها: تطلبين الزرنيخ وليس في يدك رخصة من طبيب؟ فسمع فؤاد الخطاب، والتفت إلى عفيفة وتفرس بها، وصادف أن سقطت قنينة من يد الغلام فاستيقظ صاحب الصيدلية من هجعته، ونهض من كرسيه يكلف الغلام بالإسراع في الخدمة وأن ينتبه.
وتقدم نحو عفيفة يسألها عن مطلوبها، فأجاب الشاب الجالس على المكتب أنها تطلب زرنيخا، فقال صاحب الصيدلية: أي زرنيخ ... البوتاس أو الصودا أو النشادر؟ فهذا الدواء موصوف لمعالجة الأمراض الجلدية ولتحسين البشرة، وتستعمله النساء دهانا لتحسين الوجه وتنعيمه.
قالت وقد احمر وجهها خجلا: ليس بي مرض، ولا حاجة لي في دهان وجهي.
قال الصيدلي: لم يكن معناي أنك تطلبين الزرنيخ لنفسك، فقد أغناك الله عنه بجمالك الرايق. أين روشتة الطبيب لأنظر؟
قال الشاب: ليس معها كتابة من طبيب.
قال الصيدلي: لا نستطيع أن نبيع مطلوبك بدون أمر الطبيب، وخصوصا لمن كان في سنك. فما تبغين من هذا الدواء؟ قالت: في بيتنا فيران كثيرة تأكل المتاع، وقد وصفوا لنا الزرنيخ لقتلها. قال: عندنا حبوب جاهزة لإتلافها أعطيك منها ما يلزم. قالت: أفضل أن أركبها بنفسي.
قال وقد أوجس من كلامها شرا: أخشى أن تكون في رأسك مكيدة، وليست مسألة فئران في البيت تهلكينها، وإن كان لا بد لك من هذا الدواء، فليحضر والدك أو خلافه يستلمه.
قالت: أبي توفي وليس لي أهل.
قال: توفي أبوك وليس لك أهل، وترغبين أن أبيع لك زرنيخا، وهو من شر السموم القاتلة؟! كلا، هذا مستحيل، ولا بد أن يكون في الأمر سر خفي، فأخبريني أين أنت مقيمة؟
فرفعت الفتاة رأسها، وقد انقشعت قليلا غياهب الهواجس من عقلها فأجابت قائلة: ما يعنيك من معرفة محل إقامتي وأن تسألني هذا السؤال؟
قال: بل يعنيني ذلك ويهمني جدا، وفي قلبي محل للريب من فتاة مثلك وفي سنك تسير وحدها في الشوارع ليلا تبتاع سموما لسوء نية وخبث قصد، فاعلمي أننا مسئولون عن بيع العقاقير السامة، فمن الواجب علي معرفة اسمك وعائلتك ومحل إقامتك، فإن لبيت الطلب فبه وإلا استعملت الطرق الأخرى. فنظرت إليه عفيفة بعين الازدراء والاحتقار والنقمة، ثم ولت بوجهها معرضة عنه، وسارت نحو الباب تبغي الخروج، فأشار الصيدلي لأحد غلمانه بأن يمنعها عن الخروج، وأمر غلاما آخر بأن يستدعي أحد رجال البوليس، فتقدم الغلام الأول ليقبض على ساعدها، ويحجز عليها ...
فتعرض له فؤاد ودفعه بعنف إلى داخل الصيدلية، والتفت إلى الفتاة يكلمها قائلا: لك الأمان، اذهبي بسلام.
ثم التفت إلى الصيدلي وقال: لا أنكر عليك امتناعك عن بيع الزرنيخ للفتاة، إنما أراك قد جاوزت حقوق الوظيفة وواجبات المهنة، فصنعتك بيع العقاقير لا إجراء التحقيقات.
وكانت عفيفة لا تزال واقفة عند الباب، فرجع إليها فؤاد يخاطبها بقوله: أنت حرة في قيامك وذهابك، فلحظته الفتاة شاكرة وانطلقت مسرعة كالطير يفلت من القفص.
فغضب الصيدلي وغلمانه، وتعجبوا من تصرف فؤاد وانتصاره لفتاة حلت نفسها محل الشبهة، وقصدت قتل النفس تعمدا، فقال له فؤاد: وهل ظهر على وجهها أنها تقصد تسميم أحد، فسعيت في أذيتها، وهي لا تريد إلا تسميم نفسها؟ ألم تر أمارة اليأس والقنوط عليها؟ ثم إنه جعل على التختة ريالا ثمن الدواء الذي اشتراه، وخرج مسرعا يعدو على أثر الفتاة.
فقال صاحب الصيدلية: إن الفتاة مختلة الشعور، والشاب معتوه دفع الريال ثمن الدواء ولم يأخذه، وجعل فؤاد يلتفت يمينا وشمالا ليرى الفتاة، فإذا هي آخر الطريق المؤدية إلى تياترو الأوبرا الخديوية، فتبعها وقد توجهت من شارع التياترو إلى شارع المغربي المجاور للفندق المعروف ب (نيو أوتيل) بالإنجليزية أو الفندق الجديد، وكان يسرع في السير مثلها، ويقول في نفسه: إن لهذه الفتاة شأنا عجيبا ونبأ غريبا، وهي حديثة السن تشكو تصاريف الزمن، وقد طلبت السم لتميت نفسها في تجرعه، فالظاهر أنها عاشقة، كلفت بهوى رجل فتركها، فابتغت من اليأس قتل نفسها لأجله، وإلا فما الباعث يا ترى لها على هذه الجرأة والإقدام على مثل هذا الأمر المنكر؟! ولتفطر قلب فؤاد عليها من الحزن عزم على أن يتبعها أيان ذهبت ليعلم حقيقة الخبر ويمنعها عن قتل نفسها. وكانت الفتاة سائرة لا تدري بأمر فؤاد أنه يقتفي أثرها، وكانت كلما تقدمت في السير تزداد اضطرابا وحزنا حتى وصلت إلى منتهى الشارع، فعرجت شمالا إلى شارع مصر العتيقة قريبا من نمرة 24 وهي لا تلتفت إلى جهة ما، فلو رآها راء على هذه الحال لجزم بأنها مجنونة هائمة على وجهها في شارع الإسماعيلية، ضالة عن الطريق، فظل فؤاد يتبعها إلى رأس الشارع المؤدي إلى كوبري قصر النيل، وهنالك حديقتان صغيرتان مستديرتان في وسط كل منهما بحيرة جميلة مزدانة بالأزهار والنبات، يحيط بهما سياج من الحديد، فجلست من التعب على رصيف إحدى الحديقتين تطلب لنفسها راحة، وتقول: قرب الله يوما أبلغ فيه الراحة الدائمة وألحق بوالدي. وبعد أن جلست قليلا من الزمن استأنفت المسير، وقالت تناجي نفسها: لا يسوغ لي صرف الوقت سدى وأبي ينتظرني، وأنا مشتاقة إلى رؤياه ... فتبعها فؤاد حتى أدركت كوبري قصر النيل، فرآها وهي تنظر إلى المياه الجارية من تحته خائفة من سكون الليل وهيبته، وقد سارت فوق الكوبري ملتفتة يمينا وشمالا تقيس العلو، ثم توجهت مستقيما، ثم عرجت يمينا، ثم قعدت، قاومت، ثم وقفت في محل مرتفع على شاطئ تجري من تحته المياه في عمق عظيم، وكان في قرب المحل شجرة من النخيل اختبأ فؤاد في ظلها كي لا تراه الفتاة.
وكانت عفيفة مستغرقة في بحار الأفكار غير متنبهة لأحد، وكانت الليلة مقمرة والبدر في تمامه يسطع بأنواره البهية على المياه الجارية، ويتألق بضيائه كالفضة النقية تتماوج موجا خفيفا، فتقدمت عفيفة حتى أصبحت على قيد خطوة من النهر، ونزعت عن رأسها النقاب، فأخجلت بطلعتها البدر الساطع فوقها، ثم أرخت شعرها فانسدل على الكتفين، وجثت على الركبتين رافعة إلى العلا رأسها تضرع وتصلي، وكان الوقت ساكنا والنسيم عليلا، يحرك بلطافة شعرها المسترسل، فلو أن ناظرا نظر إليها خاشعة راكعة شاخصة إلى السماء، رافعة يديها في الضراعة، تناجي ربها صاحب العزة والملكوت، وتأمل بهجة المكان وهيبة الليل لاندهش من ذلك المنظر، وخر خاشعا مثلها لعزة ذي الجلال، وظن الفتاة ملكا هبط من السموات العلا يسبح على الأرض، ويتلو آيات العبادة لربه، وقد أثر هذا المنظر على فؤاد أشد التأثير، فرجفت أركانه، وتوجس أن الفتاة تريد بنفسها شرا، ورآها بعد عشر دقائق قد نهضت، وأضاء وجهها، كأنما الصلاة أزالت عنه ما غشيه من أكدار الهواجس والأفكار، فأنارته وزينته بأبهى زينة التقى والوقار. ثم رآها وقد مدت يدها على جيبها، فأخرجت علبة صغيرة ذهبية قبلتها مرارا كثيرة والدموع تتساقط من عينيها، ثم أعادتها إلى جيبها، وضفرت بيدها شعرها ضفيرتين ربطتهما على عنقها، وحلت شريطة سوداء فربطت ثوبها من أسفل ركبتيها صيانة للأدب والحشمة، وتقدمت قليلا تنظر في الماء فراعها المنظر وتولاها الجزع، وكان البدر قد احتجب وراء سحابة فأظلم المكان، فتربصت الفتاة انجلاء السحابة وتجلي البدر اللامع، وأرسلت بصرها إلى العلا، وهي لا تبدي حراكا. وكان فؤاد يراقبها فلا يتحرك من مكانه، وفي قلبه الاضطراب الشديد والجزع الذي لا مزيد عليه، فلما انقشعت السحابة، وأضاء البدر بنوره، سمع عفيفة تستغيث بأسماء الله العظيمة، ثم صرخت قائلة: «ربي ارحمني ... بين يديك أستودع روحي يا أرحم الراحمين» ... وهمت أن تزج نفسها في اليم، فهب فؤاد من مكانه كالبرق، وقبض على طرف ثوبها قبل أن تندفع، فصاحت مرعوبة، ووقعت على الأرض مغشيا عليها، فنزع الفتى سترته، فجعلها بساطا أضجعها عليه، وحل شعرها المربوط على عنقها والرباط المعقود على ركبتها، وانتظر أن تفيق من إغمائها ليرجع بها من ذلك المكان، وطال عليها الأمد فلم تفق، فانحدر إلى النهر، وبل منديله بمائه، وجعل يرش على وجهها، ويمسح جبينها، فانتعشت قليلا، وفتحت عينيها، ونطقت بغير رشد، ثم تلفتت إلى ما حولها، فكأنها لم تبصر شيئا، فعلم فؤاد أنها في بحرين من شدة الأوهام والخيالات، وأنها لم تملك حواسها، واستمرت كذلك حتى سمعها تهتف قائلة: أبي أبي ... ألست بين يديك؟ وبسطت ذراعيها كأنها تريد معانقة فؤاد ظنا منها أنه والدها المحبوب.
فقال لها فؤاد وقد اضطرب جنانه: التزمي السكون إن شئت رؤيا والدك، واجمعي أفكارك وحواسك وقوتك.
فأطاعت الفتاة كلامه كأنها في حلم، وجعلت يدها على جبينها لتجمع أفكارها بعد الشتات. وجعل الفتى يلاطفها، ويتجمل في خطابها، ويمسح وجهها بالماء، وهي أثناء ذلك لا تهتدي رشدا تصدر منها الحركات على غير انتظام، وتنطق بلا وعي، ثم قالت: أسمع صوتا لطيفا يشبه صوت والدي، ولعله غير بعيد عني، ليحضر قريبا إلي، فأستغني به عن سائر الكون.
فقال فؤاد في نفسه متوجعا للفتاة: يا لها من تعيسة فاقدة السعادة! أنقذتها من الموت، فهل أنقذها من الجنون؟ فإني أراها تختلج اختلاجا، وتبدو حركاتها بلا ترتيب كحركات معتل الشعور.
ثم إنها نطقت كأنها تناجي أباها بقولها: أبي أنت في السماء، وأنا مقبلة إليك مبرأة من العيب والريب، والناس يقولون: إن من يقتل نفسه يصبح في الهالكين، لقد ضلوا سبيلا، إنما ملكوت السموات للمساكين الحزانى، وأنا منهم أقضي أيامي حزينة مسكينة ومعذبة ومحرومة. ثم جعلت رأسها بين يديها، وأذرفت الدموع الساخنة، وقد أفاقت من صرعتها قليلا، وخشي فؤاد أن يعاودها الإغماء من شدة البكاء، فاجتهد في ملاطفتها وتعزيتها وتسكين خاطرها، فانتبهت شيئا فشيئا، ثم انتصبت واقفة تنظر إلى ما حولها قائلة: أين أنا؟ من أحضرني هنا؟ من هذا الشاب؟ أين أبي؟
فقال لها فؤاد: سكني البال، أنت في أمان، وأنا صديقك وبين يديك.
قالت: ليس لي صديق ولا رفيق، أخبرني أين نحن، الوقت ليل وقلبي مضطرب خوفا؟
قال: لا تخافي شيئا، إنك في رفقة صديق أمين مخلص، لا يبغي بك شرا، ثم إنه قادها من يدها نحو الكوبري رجوعا إلى المدينة، فارتعدت فرائصها من رؤية الماء، فسكن فؤاد خاطرها، ومشى بها حتى انتهت إلى الكوبري، فأجلسها قليلا على حافة رصيف الشارع لتملك بعض الراحة، فإن قدميها لم تستطيعا ثباتا من شدة الرجفة، ولبث فؤاد محتارا كيف يوصل الفتاة إلى بيتها وهو لا يعرفه والمسافة بعيدة، والعربات معدومة في مثل هذه الساعة من الليل، فبعد أن استراحت قليلا استأنفت السير، وهي متكئة عليه حتى وصلا الحديقة الصغيرة التي جلست عليها الفتاة قبل حين قريب، فخطر في باله أن يدعها هنالك قليلا وأن يذهب في طلب عربة، ولكنه أشفق أن تعاودها الأفكار في أثناء غيبته فتقتل نفسها، فرأى الصواب أن يقيم معها حتى تكون قد استراحت، وتمر عربة فيجعلها فيها. ولتوسط المكان جملة شوارع كان المحتمل أن يرى عربة خلوا من الركاب، فأقام في مكانه ينتظرها. وكانت عفيفة تقول من حين إلى حين: يا عجبا! ماذا جرى؟ ماذا عملت؟ وكم الساعة الآن؟ ومن جاء بي إلى هذا المكان البعيد؟ كيف أني مقيمة خارجا عن بيتي في هذا الوقت؟ وما حال والدتي وهي لا تراني؟ قالت: أرجوك يا سيدي أن ترافقني في الطريق إلى بيت أمي، فإني لا أبالي بالتعب، واسمح لي أن أتوكأ عليك، وأنت صاحب الفضل والمعروف، وبينما هي تتكلم مرت عربة من أعلى شارع مصر العتيقة المعروف بشارع 24، فاستبشر فؤاد برؤياها، فما لبثت أن دنت منها، فأومأ إلى السائق يستوقفه، وأجلس عفيفة في العربة بعد أن امتنعت وأبت إلا التوجه ماشية على القدمين، وجلس فؤاد إلى جانبها، وأمر السائق أن يسير إلى جهة الأزبكية قريبا من قهوة البورس لظنه أن محل إقامة الفتاة قريب من هنالك، فسارت العربة.
وجعلت عفيفة تنظر حينا بعد حين إلى الفتى متعجبة مستغربة حتى قالت له أخيرا: أخال يا سيدي أني رأيتك، ولكنني لا أتذكر المكان ولا الزمان.
فقال لها فؤاد: لا تجهدي النفس في التفكير، فإنه يلزمك الاستراحة واطمئنان البال، وجعل يواسيها بالقول الجميل ويلاطفها، ويعزي قلبها المحزون متوجعا لها ولوالدتها ولانشغال بالها. ثم جعل يخبرها عن قصته وكيف تتبع أثرها من وقت خروجها من مخزن الخياطة ودخولها إلى الصيدليات الواحدة بعد الأخرى، وكيف أنقذها من كيد الصيدلي، وتبعها إلى كوبري قصر النيل، وأنقذها من الغرق، وكان في أثناء ذلك يتلطف في عتابها ويلومها على فعلها قائلا: إن الكون مخلوق للشقاء والتعب، ولا بد لكل خليقة في حمل ما قسم لها مولاها من الأتعاب والأوصاب بصبر وطيبة خاطر، ولا يليق بأحد معارضة الله في أحكامه، وكل مصيبة - وإن عظمت - فوقها مصائب أعظم. وقد تهون على المرء أتعابه حين يقابلها بأتعاب غيره، وليس على البسيطة مستريح خال من الهم والتعب، وإن الأحزان في الكون أكثر من الأفراح، سنة الله في خلقه، فعلى العاقل البصير أن يكون حمولا غير جزوع، متجلدا لملاقاة الأهوال بالعزم والحزم لتهون عليه مصائبه. وقال: أنت أيتها السيدة نبيهة، وعليك دلائل الذكاء، فيلزمك التصبر على الشدائد، فلكل أمر نهاية، ولا يدوم في الكون فرح ولا ترح، فأشفقي على والدتك، وتأملي مقدار ما تأسى عليك وتجزع حين يبلغها وصول أقل ضرر إليك، فتعروها الأكدار والأشجان، وتكثر أحزانها وأوجاعها، وربما قضت وجدا عليك، وسكنت الرمس قبل الأوان، وتكونين أنت السبب في ذلك والخطيئة مضاعفة، وكانت العربة تسير مسرعة سير السحاب، وعفيفة تصغي إلى كلام الفتى، وقلبها يخفق إلى أن وصلا أمام دكان الخياطة، فقال لها فؤاد: وصلنا إلى محل عملك فأين منزلك لأوصلك إليه؟
قالت: تفضلت يا سيدي بالمعروف، فلا تتعب سرك، وأنا لك ممنونة، دعني أذهب إلى منزلي وحدي فإني أعرف الطريق.
قال: بل أمضى معك، فلا أدعك تذهبين وحدك في مثل هذه الساعة.
قالت: بل نفترق هنا، فلا يراك أحد برفقتي، بالله أن تجيب طلبي فالطريق مأمونة، ولا خوف علي من شيء ما.
قال: لا يمكن ذلك، ولا بد أن أسلمك إلى والدتك وإلا لم يسكن لي بال، ولا يقر لي فكر. فلما رأت عفيفة أن لا سبيل إلى مخالفته انقادت له، فنزلا من العربة وسارا من وراء دار البوسطة في الشارع المعروف بشارع البواكي، وانتقلا إلى الشارع المعروف بشارع المجلس القديم، واستمرا سائرين إلى شارع درب الجنينة، ومرا تحت القنطرة المقابلة للطريق، ثم عرجا شمالا بعض خطوات، ووقفت الفتاة فسلمت على فؤاد مصافحة بيدها، وقرعت الباب، ففتح لها ثم أغلق في دخولها. وكان قد رفع فؤاد بصره إلى فوق فرأى امرأة تنظر من إحدى نوافذ الدور الثاني، فلم تبرح حتى دخلت عليها الفتاة، فعرف المنزل جيدا، وانطلق في حال سبيله، وكان منزله قريبا يشرف على ميدان التياترو، فمشى تنازعه الأفكار متعجبا من هول ما سمع ورأى في تلك الليلة.
الفصل السادس
نهض في الغد همام إلى منزل شقيقته أم فؤاد واسمها سيدة، وكان حضوره قبل الظهر بنصف ساعة، فدخل قاعة الاستقبال، وجلس على كرسي مكسو بقطيفة حمراء من عادته الجلوس عليه في كل مرة يجيء، ثم أوقد كبريتا فأشعل سيجارة، وتناول جرنالا ليقرأه وجده على طاولة وسط المكان منتظرا قدوم شقيقته، وكانت الحجرة مزينة مزخرفة بالصور والتماثيل الدينية الدالة على تقوى ربة المنزل وعبادتها، وكان همام لا يعتقد بالديانات، ويعبث بأخته ضاحكا عليها بجعلها الصور في حجرة الاستقبال، وهي أولى بالمعابد والمساجد. وبينما هو جالس يتأمل سمع صوت قادم فأبصر فإذا هي شقيقته سيدة قد أقبلت، وكانت تناهز الخمسين سنا، وعليها الملابس الفاخرة المتقنة، دخلت وفي يدها كتاب مذهب له قفل فضي، ولم تكن متبرجة بحلاها وأزهارها شأن النساء الجاهلات المجاوزات الأربعين سنا المكثرات من التبرج وأسباب الزينة وصباغ الوجه زعما بأنهن يرددن بالصباغ والزينة ما محت الأيام من محاسنهن أيام الشباب، فيعرضن بذلك أنفسهن للسخرية والاحتقار بدلا من الإكرام والاحترام الواجبين للطاعنات سنا. وكانت ممتلئة الجسم طلقة الوجه، عليها لوائح الهيبة والكرامة، تقدمت فحياها همام بالسلام، وبادرها بقوله: نفعنا الله ببركة صلواتك، إنك إن لم يخطئ حذري آتية من الصلاة، والدليل الكتاب الذي في يدك.
فلم تجاوبه شقيقته بشيء ما على قوله، وهبت مسرعة تفتح نوافذ الحجرة معربدة من رائحة الدخان تقول: قطعها الله من عادة رديئة تمسك بها أهل هذا الزمان في التدخين، فلا نراهم يستطيعون الإقلاع عنها، وقد جعلها الشبان - لجهلهم - من علامات التظرف والتمدن، والبالغون قد زعموا أنها من الضروريات لحفظ الصحة، وساء ما يزعمون. ثم إنها التفتت إلى همام تقول له: ما من شيء أشد كرها من شم رائحة دخانك!
فقال همام مبتسما: تجدين دخاني كريها، وقل أن تجدين مثل السجائر التي أدخنها، فإن لم تصدقي ذلك، فاسألي فؤادا ابنك.
قالت: الظاهر أنك علمته التدخين، فأصبح مثلك أو يزيد عليك، وبئس العادة عودته.
قال: بيني وبينه مراحل حتى يعرف التدخين مثلي، وأي سوء ترين في هذه العادة؟ فوالله إني لا أخشى أن يكتسب فؤاد بإرشاداتك صفات التخنث التي لا تليق إلا بالنساء.
قالت: من المعلوم عندي أنك لا تستحسن تربيتي لاختلاف المبادئ عندي وعندك وعدم موافقتها لعاداتك، فسواء كنت مصيبة في رأيي أو مخطئة فإني والدة فؤاد، ولا يلومني أحد إن حملته على اتباع الطريق الأفضل، وأظنه الصراط المستقيم.
قال: لن أعارضك في تربيته، وأعلم حق العلم أن من المفروض على الوالدة تربية الأولاد والعناية بهم وتعليمهم وتهذيبهم، فقد قيل: الابن سر أبيه وصورة والدته، فإن كانت مهذبة عاقلة اكتسب تهذيبا وعقلا، ونشأ على الفضائل وعاش سعيدا، وإن كانت ذميمة الأخلاق سيئة السيرة انتقلت رذائلها وعيوبها فيه، وعاش تعيسا مخفقا. فالأم عندي أساس السعادة والشقاوة، ولكني أرى الواجب الاعتدال في التربية، فإن التطرف في كل شيء مضر.
قالت: أتحسب المبالغة في حسن التربية تطرفا؟
قال: الإفراط والتفريط رذيلتان؛ لأنهما خروج عن الاعتدال، ولكن لكل شيء حدود معلومة لا يجوز تجاوزها، فؤاد ابنك قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، وأنت لا تزالين تعاملينه كابن اثنتي عشرة، فتنهينه عن معاشرات الناس، وتعلمينه كثرة الصلاة والصوم والعبادة والحياء، وهي صفات جديرة بالنساء لا بالرجال، ولتفهمي قولي، أضرب لك مثلا البارود، فهو في حد ذاته نافع مفيد، وكذلك الأسلحة النارية فلو جعلناه في البندقية بمقدار يزيد على اللازم تفجرت وتفرقعت ولم تتحمله، وهكذا نتيجة المبالغة والتطرف في سائر الأمور.
قالت: أي نسبة بين السلاح الناري وتربية فؤاد؟
قال: النسبة واضحة، ووجه الشبه ظاهر، فكما أن العيار الناري لا يتحمل البارود إلا بقدر معلوم وبقانون، فكذلك الإنسان لا يمكنه أن يحمل من الفضائل فوق طاقته وزيادة عن استعداده، وأنت قد أفعمت قلب فؤاد بالمواعظ الدينية والإرشادات التي ربما كانت تناسبه في حداثة السن فأما الآن فتضر به، والواجب أن توسعي عليه في الحرية مخافة أن يشتد الضغط عليه، وتقوده طبيعة سنه إلى خلع العذار والاسترسال في الغوايات، فينبذ إرشاداتك ونصائحك ظهريا، وتخيب آمالك، وتضيع أتعابك.
قالت: الظاهر أنك لرغبتك في منفعته ومنع حدوث الثورة فيه أبقيته في الأمس معك إلى الساعة الواحدة بعد نصف الليل وقاسمته اللهو والانشراح وأضفته إلى مائدتك الشهية، وقدمت بين يديه أصناف المأكول والمشروب حتى أضعت رشده وحجاه.
قال: أغاب فؤاد حتى الساعة الواحدة بعد نصف الليل، إذن أخطأ والله فيه ظني، فهي علامة حسنة فيه.
قالت: دع مزاحك، فأنت تعلم تربيتي لفؤاد، وأني عودته على الترتيب والنظام في الأكل والشرب والذهاب والإياب وسائر الأعمال، فكان من الواجب عليك أن تراعي ضميري، ولا تخرج فتاي عن هذه العادات الجميلة.
قال: ولعلك زعمتني مسئولا عن تأخره في الحضور إلى البيت كعادته؟
قالت: بالضرورة، فإنه كان في رفقتك.
قال: كان برفقتي إلى الساعة التاسعة من الليل، وأكل الطعام، ثم خرج مع سعيد بن غانم، فلم أعلم إلى أين، وخرجت أنا مع غانم.
قالت: أين صرف وقته؟ فقد - والله - أشغلت بالي، فإنه أتى إلى البيت بعد نصف الليل بساعة، وخرج في هذا اليوم باكرا على خلاف عادته، بعد أن كان يقضي صباحه بالمطالعة والتصوير، فلم يطالع اليوم ولم يصور.
قال: دخل ابنك في طور جديد، وتحققت أفكاري، فاعلمي أن الذي دفعه إلى ذلك هو شدة تضييقك عليه، فقد صح قول القائل:
كثر التناهي غلط
خير الأمور الوسط
ثم إنه جعل يكلمها على الفضيلة بقوله: إنها ما كانت وسطا بين طرفي التفريط والإفراط، فهي إن زادت عن قدرها أو نقصت عنه أصبحت رذيلة، فأنت قد ربيت غلامك تربية تليق بأهل النسك والزهد والعبادة، وهو بالفطرة بعيد عن ذلك، فلا تعجبي إن نبذ أقوالك ظهريا، فلقد نبهتك فلم تذعني لقولي، ولم تنتبهي.
قالت: ما العمل إذن؟
قال: كان من الواجب عليك أن تبعديه عن التشبع وشدة التمسك في الدين، وترشديه إلى ما فيه خيره وصلاحه ودفع الضرر عنه، وأن تطلقي له شيئا من الحرية ليتصرف حسب طبيعته، فتلك هي الدرجة الوسطى، وهي الفضيلة اللازمة. أما كثرة التشديد على الأولاد وحجز حريتهم تماما فأدعى إلى الضرر ولا يجدي الوالدين نفعا، ومن المعلوم أن الأبناء يتلقون الآداب والأخلاق عن آبائهم وأمهاتهم، فإن رأوا في سيرتهم الصلاح كانوا صلاحا، ولم يخش عليهم بأس من إطلاق الحرية لهم، فإن المثال الحسن يؤثر على ضميرهم، فيصبحون قادرين على كف شهواتهم، ويجدون في أنفسهم زاجرا عن الشرور، أما التضييق عليهم فقد يكون سببا لخروجهم عن الصراط المستقيم، وداعيا لهلاكهم كمثل الآلة البخارية يشتد عليها ضغط البخار فتنسحق.
قالت: لله درك، ما أبرعك في التمثيل والتشبيه! شبهت في الحين فؤادا بعيار ناري ثم بآلة بخارية، فبماذا تمثله أيضا؟
قال: دعاني إلى ذلك سياق الكلام، فما أقول شيئا عنه بعد هذا، إنما أذكرك بأمر زواجه بسعدى ابنة غانم.
قالت: تكلم ... هل أنت مبارك هذا الزواج؟
قال: أباركه، وإنما الرأي إلى فؤاد، وهو يكره عائلة غانم من كبيرها إلى صغيرها، ويمقت على الأخص ابنته سعدى.
قالت: إذن قد ضاع تعبنا سدى، وخابت مساعينا، فقد كان فؤاد في الواقع كارها مصاهرة هذه العائلة، فانقاد من حين قريب إلى الرأي الذي عرضته عليه، فلم أعلم كيف اختلف الآن وعاد إلى نفوره الأول.
قال: كنت عزمت أن لا أنقل إليك حديثه لئلا تتكدري، ولكني رأيت من اللازم أن أخبرك به لتكوني على بصيرة من أمره، فقد جرى الكلام بيني وبينه أمس، فسمعته يقول على سعدى: إنها قبيحة الشكل، قليلة العقل، ثقيلة الروح، لا يجد في نفسه ميلا إليها، وأسهب في ذمها وعيبها، وبلغ النهاية في التشنيع.
قالت: أخاف إذن أن يكون قد قابل غانما وسعيدا ابنه بكل برود.
قال: وأي برود! فقد التزم السكون فلم يكلم أحدا، وكثيرا ما أومأت إليه بيدي وبعيني ليتكلم، فلم يفعل حتى خجلت والله، وتكدرت كدرا فائقا، وحدثت نفسي أن أعنفه، ولكنني ملكت ثورة الغضب، وجئت لزيارتك ومقابلته لأوبخه على تصرفه وقلة إيناسه وتجمله بحضرة الضيوف.
قالت: بل الأوفق أن تعاتبه بلطف وتجاريه على أفكاره وإلا أفلت من يدنا.
قال: إذن خاطبيه بنفسك في هذا الأمر، فإنني لا أضمن أن أملك نفسي من الحدة.
قالت: لا بأس فأنا أكلمه، ولا أخفي عليك أني صرت أخشى عدم نجاح مساعينا في زواجه بسعدى، وليته كان عاقلا ليعلم أن الفائدة العظمى عائدة عليه، فإن سعدى غنية جدا، ورثت من أمها شيئا كثيرا، دخلها سنويا فوق ألف جنيه فضلا عن ميراثها من أبيها.
قال: أظننت أن غانما يحاسبها على الذمة، ويؤدي إليها حقوقها تماما مع «الفوائد»؟ فهو إن أوصل إليها رأس المال فتلك منة عظيمة منه.
قالت: لئن لم يفعل ذلك باختياره ورضاه، فهو ليفعله برغم إرادته ويكلف بمحاسبة بنته على آخر مليم.
قال: إنه يحاولها، وأبواب الشرع واسعة، والدعاوى تستغرق الزمن المديد، وتستهلك شيئا كثيرا للمصروف والتكاليف، ولقد عرفت أشخاصا كثيرين ظهرت عليه الاستقامة والعفة فأقيموا أوصياء على تركات القاصرين، فغرهم الطمع فاتجروا بأموال التركة، فأصابوا المكاسب العميمة والأرباح الجسيمة، فلم يحاسبوا الوارثين إلا على رأس المال بعد خصم رسوم أتعابهم، ولم يتحرجوا من شيء، ولم يستطع أحد خطابهم أو الانتقاد عليهم، وعلى سائر الأحوال فأولئك قوم أقرب من غيرهم، وأقرب ذمة ممن يهضمون أموال التركة من أصلها، ويدعون الإفلاس أو يتخذون الحيل والأساليب لأكل الأموال حراما.
قالت: تظن غانما يقدم على أفعال كهذه؟
قال: لا يبعد ذلك عليه، إنما المناسب أن لا نخوض في هذا الموضوع لئلا يعدل الرجل عن مصاهرتنا، فإن من كان على شاكلته بخيلا لجدير بأن يأبى زواج ابنته فرارا من محاسبتها، فمال سعدى كله في حوزته يتصرف فيه كيف يشاء، فلو تنبه لزواجها، وأنه يلتزم بدفع ميراثها إليها ومحاسبتها على الأرباح لتعلل وامتنع بالضرورة عن تزويجها، ولو كان خطيبها من أعظم الناس فضلا وعلما وجاها.
قالت: وحقك إني أكره هذا الرجل، وأرى أخلاقه ذميمة، ولكن مصلحة فؤاد تجبرني على رعاية خاطره.
قال: وأنا كذلك، لو أن فؤادا يحفظ لنا هذا الجميل، ويقدر أتعابنا قدرها.
قالت: يأتي يوم يذكر فيه جميل صنعي واهتمامي بشأنه، ولكن ما العمل في طمع غانم الأشعبي ودناءة أخلاقه؟
قال: ليس في ذلك ما يوجب الاهتمام الزائد، فقد يشره في مال ابنته لطبيعة البخل التي فيه والطمع الزائد، ولكن ميراثه سيفضي بالضرورة إليها عاجلا كان أو آجلا مضافا إليه الأرباح والفوائد، فلا خوف على الدرهم يضيع في كفه، فهو لا يخرج منها ولو ثقبناها بمسمار.
قالت: إن البخلاء يعمرون مديدا، فأخشى أن يعيش غانم ثلاثين سنة أيضا، فلا يموت إلا بعد موت البنين والأحفاد، وعلى كل حال فالصواب برأيك عدم التكلم في هذا الموضوع حتى يكون قد تم الأمر، فإن فؤادا هو الغانم في هذا الزواج، ولا بأس من تساهله في الطلب. ثم إن سيدة قربت كرسيها من أخيها وقالت له بطلاقة وجه وتجمل: خضنا في سيرة فؤاد، وقدحنا فيه وما قصرنا، وربما كان بريئا، وهو الآن سيحضر لقرب أوان الغداء، فنسأله عما جرى في الأمس ونأكل الطعام سوية.
قال: أكلت طعامي على عادتي قبل الظهر بساعة، فإني لا أحب تقديم ميعاد أكلي ولا تأخيره.
قالت: نسقيك من نبيذنا المعتق، فإنك تحب الخمرة.
قال: أشرب وأتناول شيئا من التفاح في أثره مزة، فاستدعت أخته الخادم ليحضر زجاجة مختومة، وصحنا من التفاح، وكبريتا للسيجارة، فاستغرب همام من هذه العناية الفائقة.
فقال لها: يظهر من تجملك غير المعتاد أن في نفسك حاجات، فأخبريني بغير تكلف عما ترغبين، كنت تحافظين على نبيذك القديم محافظة غانم على الدرهم أن يضيع من يده، وكنت تكرهين رائحة الدخان كرهك العمى وإبليس اللعين، وأنت الآن تجودين بالنبيذ المعتق المختوم، ولا تشمئزين من التدخين، فما سر المسألة؟ وما هذا التجمل؟ فوالله إني لأرى في نفسك حاجة تسألينها!
قالت: تأتي المزاح في كل حين فلا تعدل عنه، سبحان الله!
قال: أتذكرين أنك لم تسمحي لي بالتدخين إلا مرتين في حياتي، فأول مرة بعد وفاة زوجك حين طلبت مني خمسمائة جنيه على سبيل السلفة، فلم ترجعيها إلى الآن، وثاني مرة حين سألتني أن أهدي فؤادا حصانا عربيا من جياد الخيل، فهل خطر الآن في بالك أن تسأليني هدية أخرى أغترمها؟
قالت: ما أشد حذقك وأبلغ إدراكك، وكأنك تقرأ في الضمير، وتعلم غيب القلوب، فلا سبيل لكتمان شيء عنك، فالذي أخبرك الآن عنه لم يكن من مجرد فكري، وإنما قد سمعته من غانم في أثناء محادثتي معه في الأمس، فقد قال لي: إنه لعلمه بمحبتك لفؤاد وحنوك عليه حنو الوالد الشفوق على ولده، وبالنظر لخلوك من الأهل والأقارب، ولمناسبة العقد لابنته عليه أن تجعله وريثك الوحيد؛ ليصبح غنيا مثريا، فلا يتكل على ثروة امرأته.
قال: ومن أدراه أني أقيد نفسي في حياتي، فلا أتصرف بمالي كيف أشاء؟! أما والله فهذه نهاية السماجة وغاية الطمع الأشعبي، ولقد كنت عازما على تقديم هدية فاخرة برسم هذا الزواج، فعدلت الآن عن ذلك مكتفيا بالرضا والدعاء والبركة.
قالت: أي شيء يكدرك أو يوجب الزعل؟ أليست العادة عند المتقدمين في السن أنهم يوصون لأقاربهم بميراثهم؟
فاستشاط همام غضبا عند سماع ذلك، وقال لأخته: تزعمين أني طعنت في السن، وأصبحت هرما ولا تقبلني النساء ومحروما من زهرات الدنيا، لقد ضللت، فهذا عزيز أحد أصحابي كان أكبر مني سنا وأقل مقاما ووجاهة، قد تزوج بامرأة غنية لا تزيد على الثلاثين سنة، أفيصعب علي أن أتزوج بامرأة مثلها أو أحسن منها؟
قالت: لا ريب عندي فيما تقول، ولكنني سمعتك تقول كثيرا: إنك لا ترغب في الزواج مخافة حجز حريتك والارتباط بالعيال، فتجاسرت أن أخاطبك بهذا الشأن.
قال: نعم، إني لا أميل إلى الزواج، ولكن الإنسان متقلب في رأيه، فقد أجد في نفسي ميلا واحتياجا إليه.
قالت: وقد قال لي غانم كلاما آخر أحب أن أقصه عليك لغرابته، وهو أنه بلغه عزمك على وضع مالك في أحد البنوك، فتستولي على مبلغ مقرر في السنة، وتستمر كذلك إلى آخر حياتك، وإذا توفيت بعد زمان مديد يبقى المال للبنك.
قال: ما أزال على هذا العزم، وهي طريقة مناسبة للخلو من الشواغل والهموم، وبه التأمين من كل خطر وعطب على المال.
قالت: فكلامه إذن صحيح، ومرادك قطع الميراث عن ابن أختك.
قال: أكنت مكلفا بابن أختي؟! وهل يحملني أحد على التوصية له بمالي، وأنا حر إن شئت ورثته وإن شئت منعته، وما لأحد علي من سؤال؟
قالت: كنت أظنك على غير هذه الشعائر، وأحسب أنك تحب فؤادا، فظهر أنك لا تحب غير نفسك.
قال: إن أحببت نفسي فقد صنعت مثلك، فلا عتب علي ولا عيب، أنت تسعين في زواج فتاك لمصلحتك لا حبا به، حتى إذا تم الأمر تصرفت في ثروة امرأته كيف شئت، وأقمت في بحبوحة العيش والرغد، ووجدت ما يكفيك لحفظ مركزك بين ترائبك، وإتيان أسباب الترف والمباهاة، إذ إن إيرادك السنوي حاليا لا يزيد على مائتين وخمسين جنيها، وهو قليل في جنب ما تنفقين.
قالت: لم يكن حسباني أنك ترميني بسوء الظن، وتتهمني بما اتهمت قذفا وافتراء.
وبينما هي تتكلم دخل فؤاد فقطعت الحديث، وأشارت إلى همام بالكف عن الخطاب في هذا الموضوع.
الفصل السابع
تقدم فؤاد في دخوله وحيا، ثم جلس بين خاله وأمه، فقالت له أمه: لماذا أبطأت يا فؤاد؟ مضى وقت الطعام، وأنت تعلم أني لا أجلس على المائدة وحدي.
قال فؤاد: كان السبب في تأخري خالي، فإنه أطعمني وسقاني فوق القانون، فألم بي من جراء ذلك صداع شديد، لم يصرفه تروحي في الجنينة أربع ساعات متوالية من الزمان.
قال همام: شيء عجيب، تنزهت أربع ساعات من الزمان أمس وأربعا مثلها في هذا الصباح، ولم ينصرف صداعك، فلم لا تقول إن ألمك في المعدة وليس في رأسك، فإنك لم تأكل إلا القليل كما يأكل الطفل، ولم تشرب إلا الماء صرفا، ولو كان سعيد يدعي الصداع لصدقته، أما أنت فأرتاب في قولك.
وهنا دخل الخادم يدعوهم إلى السفرة فنهضوا جميعا، ومال همام جهة أخته يخاطبها بقوله: هذه أول مرة سمعت ابنك فؤادا يكذب.
وجلسوا على المائدة يأكلون، ودار الكلام في أثناء ذلك على مواضيع شتى، ولما فرغوا جاءوا إلى القاعة الكبيرة، فقالت سيدة لابنها فؤاد: صدق خالك، فليس بك صداع إن أوهمتني كون الصداع يستمر يوما كاملا، وإلا فكيف لا تستدعي الطبيب، ولم لا تخبرني عن سبب غيابك عن ميعادك مع علمك بمقدار ما يشملني من الكدر بسبب تأخرك عن الحضور في أوانك؟
قال فؤاد: إن قبلت اعتذاري، فإني متأسف غاية الأسف بتكديرك لو أن هنالك داعيا حقيقيا للقلق والجزع من غيابي، وقد بلغت سن الرجال.
قالت: أهذا اعتذار تقدمه؟!
قال: لم أعتذر لذنب جنيته، وما خطابي إلا في غاية الأدب، ولم أتجاوز حدود الاحترام الواجب على البنين نحو والديهم، فقط أذكرك بأني بلغت السابعة والعشرين من عمري وملكت رشدي تماما، فلا وجه لأن تؤاخذيني على غياب لم تعلمي له سببا، فعجبت سيدة من سماع فؤاد يكلمها هكذا بعد أن كان سميعا مطيعا لها متبعا أوامرها ونواهيها، فأيقنت بزوال سلطتها عنه.
وجعل همام يهمس في أذنها قائلا: هذه نتيجة التضييق على الأولاد، وصدق المثل القائل: «كثرة الشد ترخي».
فرأت سيدة أن المناسب تغيير موضوع الحديث؛ لئلا ينزعج فؤاد بالجدال على غير فائدة، فقالت له: البس ثيابك لمقابلة السيدة سعدى، فقد وعدتها بالزيارة في هذا اليوم.
قال: أرجوك أن تعافيني من زيارتها، وتتركي ذكر زواجي بها.
قالت: وعدتها ولا يمكنني الخلف في وعدي.
قال: ما أمنعك عن زيارتها، لكن بالنسبة لي فإني لم أعد بشيء فأرتبط به.
قالت: أهذا كلام يسمع يا قليل الوفا والعقل؟!
قال: تسمعين الملامة بغير الحق، سامحك الله، ثم إن هماما هم في الخروج فأمسكه فؤاد، وقال له: أرجوك يا خالي أن تنصت إلى حديثي، فما أطيل عليك الشرح، قل ما السبب في اهتمامك الكثير بزواجي بسعدى؟ فقد حدثتني أمس مديدا في هذا الشأن، ومرادي أن أخبرك الآن عن أسباب عدم قبولي.
قال همام: أعرف أسبابك كلها.
قال فؤاد: لم تعرف إلا البعض منها.
قال: أخبرتني عنها في الأمس تفصيلا وإجمالا، وخلاصة حجتك أن الفتاة دميمة الوجه ناقصة العقل، فهل وجدت غير ذلك من العيوب فيها؟
قال: أخبرتك عن العيوب الظاهرة، وفيها عيوب خفية لا تعرفها.
قالت سيدة: سبحان الله! عمن جئت تقول: إن في سعدى عيوبا كثيرة، وأنا لا أجد فيها شيئا من ذلك، فقد رأيتها مرارا كثيرة، ودققت فيها النظر، وتأملتها جيدا فعرفتها حق المعرفة؟ نعم، إنها ليست على جمال يعشق، ولكنها ليست دميمة قبيحة - كما تزعم - ولا فيها شيء ما يشوه الخلقة أو يعيبها فتنفر منها، كثير من الرجال يتزوجون بأشنع منها.
قال: تقولين إنك أمعنت فيها النظر، فهل لاحظت أن شعرها مستعار؟
قالت وهي تخلط الجد بالمزح لعلمها بالأمر: أنت بالحق طفل، تظن في الشعر المستعار عيبا في المرأة، وأغلب النساء يستعملنه للزينة والتطرئة، كما تقتضيه الأزياء الحديثة على اختلاف ضروبها وفنونها، وما وجدنا في الكون هاجيا أو من يعيب ذلك.
قال همام: ما أراك مصيبة يا أختي، أردت أن تستري فكشفت الستر.
قالت: ليس في الأمر سر يحفظ.
قال همام: ليس الأمر جوهريا، فكثرة الشعر على الحقيقة أو قلته لا تزيد أو تنقص من مقام المرأة، ولتعلم يا فؤاد أن النساء كالخيل تباع وتشرى بأثمانها، فلا تزيد ولا تنقص بقلة شعرها أو كثرته، والشرط أنها تكون خالية من العيوب الشرعية، فإنها وحدها تفسد البيع، أقول ذلك بحجة واختبار، فإني خدمت في الجهادية وتعاطيت بيع الخيول وشراها.
قال فؤاد: وما رأيك بنقصان سن من الأسنان لسعدى علاوة على استعارة شعرها، أفليس ذلك عيبا شرعيا يفسد البيع؟
فتلفتت أمه إليه وقالت: ماذا تقصد في قولك؟
قال: أقصد أن أخبرك بأنك تدققي النظر في السيدة سعدى ولم تشاهدي سنها المصنوعة.
قال همام: من أدراك ذلك؟
قال فؤاد: ستعلمه بعد، ولي عندك سؤال آخر أرجوك أن تجاوبني عليه: أليس وجود ستة أصابع في القدم بدلا من خمسة عيبا شرعيا في المرأة أم لا؟
قال همام مندهشا: لم أسمع بمثل ذلك في الغابرين، وتلك فلتة من فلتات الطبيعة، وعلى كل حال فخير من نقصان الأصابع زيادتها، وقد قيل: زيادة الخير خير.
قالت سيدة: إن صدق ما تقوله يا فؤاد، فلا بد أن تكون قد علمته من إحدى البنات رفيقات سعدى في المدرسة.
فقال همام: العياذ بالله من النساء، كيف يبغضن البغض الشديد، فلا يخفين من الأسرار سرا ولا يسترن عيبا، فدأبهن القدح والقذف والوقيعة لطبيعة الغيرة والحسد فيهن، على أن أسألك يا أختي: كيف أدركت أن الفتنة صادرة من رفيقة لسعدى في المدرسة؟
قالت: عرفت ذلك بطبيعة جنسنا، وعلمت أن الضرر لا يأتي إلا من الأصحاب والمعارف كما قال الشاعر:
وما زلت مذ خط السواد بعارضي
أفتش في هذا الزمان وأكشف
فما ضرني إلا الذين عرفتهم
جزى الله خيرا كل من لست أعرف
قال همام: أخبرنا يا فؤاد عن ناقل هذه الأخبار إليك، فهو لا بد أن يكون عدوا لسعدى مبينا.
قال فؤاد: الفضل كل الفضل لك يا خالي ولمأدبتك في الأمس، إن كنت تذكر شهادتك لي الآن بأني لم أشرب الماء إلا صرفا بعكس غانم وابنه سعيد، فإنهما كانا يشربان الخمرة بالأكواب.
قال همام: قلت الحق فإنهما أكثرا من الشرب ولا سيما سعيد، فإنه كان كالجرة المثقوبة يسكب فيها الماء فلا تمتلئ، فحقا ما رأيت في هذا الفتى مزية تذكر مثل اقتداره على المسكرات.
قال فؤاد: وفيه مزية أخرى مذكورة هي قدرته على الكلام والانتقاد، فقد أطنب في عيب أخته ووصفها حتى لم يخف عني شيئا من خفاياها.
قال: إذن هو الذي نقل الأخبار عن أخته؟
قال: نعم، هو الذي نقلها والفضل الأول لمأدبتك ونبيذك، ولولا ذلك لما نطق صاحبنا بشيء من الحديث، ثم الفضل للكونياك الذي سكبته له في سهرتي أمس معه.
قالت سيدة: هذا ما كنت أخشاه، أرأيت يا أخي كيف كانت مأدبتك سببا للبلبال؟ قطعها الله من مأدبة، كانت ساعة شؤم علينا، فليتني لم أسمح لفؤاد بالحضور.
قال فؤاد: تلعنين الساعة يا أمي، وإننا أحرى بمدحها وشكرها، ألا تسرين بنجاتي من الداهية الدهماء والبلية العظمى؟
قال همام: أصاب فؤاد بعض الإصابة في قوله، فإن تكامل الأسنان في المرأة ضروري للنساء وزائد في جمالهن، وبعكس ذلك نقصانها، وقد يأبى الطبع أن يرى زيادة في أخمص المرأة، فإن لم يعده عيبا فيها فحسبه أنه فلتة من فلتات الطبيعة.
قالت: هذه أحوالكم أنتم معشر الرجال، لا تنظرون ولا تهتمون إلا للصفات الظاهرة العرضية وتغفلون الجوهر، وعندكم الفضل والأدب والحشمة شيء قليل لا عبرة به وصفات ثانوية لا تعبأون بها.
قال: وحقك يا أماه أني أجعل المقام الأولى في المرأة لصفاتها الجميلة أقدمها على محاسن خلقتها، وما كرهت الزواج بسعدى إلا لتجردها من المحامد، وما كان ليكرهني بها شعرها المستعار وسنها المصنوعة وزيادة أخمصها لولا أني رأيتها قليلة الآداب وعلى غير الأخلاق الفاضلة.
قالت: نصدقك حين تقول على سعدى إنها مجردة من الحسن والجمال، ولا نوافقك حين ترميها بسوء الأدب، فأنا أعرف منك بها، وقد اختبرتها فوجدتها معدن اللطف والظرف، على غاية التأدب، عاقلة، مهذبة، لينة الجانب، زكية، لا تجد فيها عيبا يقدح بأدبها، فهي ملك كريم، حوت صفات الكمال، ولا مبالغة في القول.
قال: صدقت، فهي بالحقيقة ملك أظافره أطول من أجنحته.
قالت: أراك قد صدقت قذف أخيها.
قال: إن لم أصدقه، فمن أصدق؟ وأي فائدة له حتى جاء يثلبها ويكذب علي قاذفا بها على علمه بأني أرغب في زواجها، ولقد تدبرت قوله فوجدت أخباره صحيحة لا ريب فيها، فالفتاة مجردة من محاسن الأخلاق والخلق، ليس فيها شيء من المحامد التي تعشق في النساء، فلو تزوجت بها أقمت تعيسا طول حياتي، وأقامت هي تعيسة مثلي، فيكون اقتراننا مجلبة الشقاوة والنكد لي ولها، فهل ترضين لي ذلك؟ وقد وضحت لك أن بين طباعي وطباعها تباعدا كثيرا واختلافا وافرا، والبون عظيم في الأخلاق والأفكار والمشارب، فلو تزوجت بها ظلمت نفسي وظلمتها ، والظلم ممنوع في سائر الأديان، والعاقل من يسعى لسعادته وراحته في هذه الدنيا، فهل من ملام علي إن عملت لخيري ودفعت عن نفسي الكدر والغصة وأنا لم أرتبط بوعد؟! تذكري يا أماه أن المحبة أساس راحة العائلة، بوجودها توجد السعادة، وبفقدها تفقد، ويتغلب سلطان الشر، وتتوفر أسباب الخصومة والعدوان، وتنفى السكينة، ويستمر الويل والثبور، إن كان يقبل بذلك عاقل فهذا الذي يحملني على الامتناع، وإني لا أتزوج إلا امرأة أحبها، فلو بذل لي مال قارون - المشهور بالغنى - على أن أتزوج بامرأة لا تناسبني لما قبلت، وفضلت المقام عازبا أبد أيامي، ولو ذقت أشد العذاب والفقر والفاقة.
فلما رأت سيدة تهيج أفكار فؤاد علمت أنها تضرب في حديد بارد، فرأت أن تؤجل الكلام في هذا الموضوع إلى وقت آخر على عادة دهاة الناس وحذاق السياسة، فإنهم عند سقوط برهانهم وضعف حجتهم يطلبون تأجيل المناقشة في أمر إلى وقت آخر لعل الله يفتح لهم يسرا.
ثم إن سيدة قالت لفؤاد: مسألتنا دقيقة تحتاج إلى التروي والتدقيق، وأنت الآن في حدة تمنعك من النظر والتمحيص، وأراك حاقدا علي تنظر إلي شزرا، أخاطبك فتأخذ خطابي على غير وجهه، وتحمله على البغض لك، وأنت غير مصيب في زعمك، فإني ما أكلمك إلا بحقوق الأم على ابنها؛ لأردعك عن غيك وغوايتك، فلو كان ما تقول صحيحا على سعدى ونسبتك الجهل وقلة الأدب إليها، فإني أول ناصح لك بالابتعاد عنها، فدعنا الآن من هذا الحديث ولا لزوم لتحضر معي في الزيارة، فإني سأعتذر عن غيابك بما يحضرني من الأعذار.
قال: ما الفائدة من مقابلتها بعد هذا الذي سمعته عليها؟
قالت: وعدتها منذ يومين بالزيارة، فوجب علي القيام بما وعدت سواء رغبت في زواجها أو لم ترغب، وإن شاء أخي همام مرافقتي فمن فضله.
قال همام: بالله أن تعافيني من هذه الزيارة، فلا تنقبض روحي لسماع القيل والقال. وبينما هم كذلك دخل الخادم مخبرا بقدوم سعيد ورغبته في مقابلة فؤاد فانكمش وجه سيدة، وأمرت فؤادا أن يستقبله في حجرته الخصوصية لعدم قدرتها على رؤيته، فخرج فؤاد يستقبله، ونزل الخادم يحضر لسيدته العربة، وخرج همام إلى النزهة.
الفصل الثامن
لم استقر الحال وخلا المكان قال سعيد لفؤاد: كانت ليلتي بالأمس عديمة النظير أنسا وحظا، فلم أذق نوما حتى الصباح من فرط انشراحي.
قال فؤاد: قص علي أخبارك، وما جرى لك مع صاحبتك.
قال: كانت ليلة سرور، يبخل الدهر بمثلها، وهيهات أن أتمتع كما تمتعت فيها، أو أرى فتاة تفضل صاحبتي التي رأيتها لطفا وبداهة وفكاهة وعقلا، وتراني الآن سكرانا من نشوة أمس، مدهوشا من حركاتها وإشاراتها وجميل حديثها، وتفصيل القول: أني بعد أن فارقتك انطلقت وراءها، فأدركتها قريبا من باب حديقة الأزبكية الشرقي، فلما دخلت تبعتها وبادرتها بالتحية حين دنوت منها مسلما بقولي: يا مساء النور، يا خفة يا دلال يا صاحبة القد والاعتدال والخد الأسيل والطرف الكحيل، مني علي بنظرة، وارفقي بالمحب الولهان، فقد أحرقت الفؤاد بنار حبك، سلم الله وجهك النضير الزاهر، فالتفتت إلي مبتسمة، فقلت لها وقد تهلل وجهي حبورا: يا شقيقة الروح تكرمي علي بلحظة، وجوابي قتيل غرامك. فعند ذلك تقدمت نحوي، وتقدمت نحوها قليلا، فجعلت ذراعي في ذراعها، وكان قد انتصف الليل، وقل عدد المتنزهين، فقمت بها إلى انفراد في جهة قليلة الأنوار من الحديقة، وطفقت أقبلها بشوق وأضمها إلى صدري، وهي في أثناء ذلك تمتنع نافرة مني، ثم انطلقنا إلى جهة البحيرة وجلسنا على مقعد، فشرعت تحدثني عن نفسها، وتخبرني عن أحوالها وما حصل لها في سالف الزمان، وأنها من عائلة شريفة غنية، وأن والدها توفي في الحرب وخلف لها أموالا طائلة أكلها الوكلاء، وبددتها المصائب، فوقعت في هوة الفقر، وأنها لأنفتها ورغبتها في الحرية أبت الزواج على كثرة خاطبيها من الشبان، ولم يكن قولها فريا فإنها على غاية من الحسن والجمال.
قال فؤاد: أخبرني بالاختصار، هل توجهت إلى بيتها، فهو المهم من الحديث؟
قال سعيد: تواعدنا على المقابلة في الساعة الرابعة بعد الظهر قريبا من باب الجنينة أمام دار البوسطة، وأن نأخذ عربة ونتوجه للنزهة سويا.
قال فؤاد: ولعلك تكون قد أخبرتها عن نفسك، وأحطتها علما بغناك وثروتك.
قال سعيد: أتشك في ذلك، وأنت تعلم أن الدينار مبلغ الأوطار؟
قال فؤاد: نصيحتي إليك يا سعيد أن لا تغتر بقولة، فأنت غريب الديار، لا تعلم أحوال وشأن بنات الهوى مكرا وخداعا، وأخشى عليك الوقوع في شرك حبهن، فيسلبن مالك وعقلك حتى تفرغ النقود من يدك، فيعرضن عنك بالوجوه العوابس، فإنهن إنما يطمعن في ثروتك لا في حسنك وجمالك، فهي عادة بل مهنة للمعاش يأتينها، فلا يعلمن ما الهوى والمحبة الصادقة، ولا تتأثر طبيعتهن من شيء، وما أجسامهن إلا كآلة لبلوغ الغرض وسلب أموال الناس حراما، وقد عرفت شبانا كثيرين وقعوا في شراكهن ففقدوا طريفهم وتليدهم وهدمت صحتهم، وأصبحوا في الخاسرين، فاجتنب فعلهم، واعتبر بمثالهم، ولا تعاشر نساء يتخذن الفساد تجارة، ولا تنخدع لكلامهن اللين ومظاهر المحبة التي يوهمنها سفها، وهن أروغ من ثعالب.
قال سعيد: لا تقس هذه الفتاة بغيرها، فهي على كمال فائق وأدب باهر، وعلى سائر الأحوال فإني بصير عاقل، لا تخفى علي أمور النساء ومكرهن وخداعهن.
قال فؤاد: سمعنا الشبان قبلك يقولون: إنهم يترددون على بنات الهوى طلبا للمسامرة ومساجلة الحديث، فما يلبثون أن يقعوا في حبالهن، ولا بد أن يصيبك ما أصاب غيرك، فتذهب لأول مرة على سبيل الفرجة، ثم تعقبها الثانية فالثالثة، وينتهي بك الأمر إلى التعلق بمجلسهن، فلا تستطيع عنهن انقطاعا، وتبتدي في تبديد مالك بغلبة الحب على قلبك، فما تشعر إلا وقد فقدت ما ورثه لك أهلك، فتندم حين لا ينفع الندم.
فتضجر سعيد من تحذير فؤاد وقال: قد أزف الوقت ولا بد أن أذهب، فإن شئت أن ترافقني فهذه عربتي تنتظرني على الباب.
قال فؤاد: أرافقك إلى قهوة البورس.
قال سعيد: استحسانك.
ونهضا معا فركبا العربة، ثم قال سعيد لفؤاد يسأله عما جرى له مع صاحبته الصفراء الناحلة المكتئبة.
قال فؤاد: وحياتك يا سعيد إني لم أهتم لاقتفاء أثر النساء، فقد تركت الفتاة وشأنها وحضرت إلى البيت بعد انفصالك عني.
قال سعيد: حسنا عملت، فأنت على وشك الزواج بأختي، ولا يليق بك التشاغل بمرافقة النساء ومعاشرتهن، ولكن بالله عليك أن تخبرني عن حديثنا في الأمس عن أختي، فإني لكثرة ما شربت من الخمرة لم أدر ما قلت، وربما تكون قد سمعت مني قذفا بحقها، فلا تأخذن قذفي على وجهه.
قال فؤاد: لست متذكرا أنك أخبرتني عن شقيقتك بشيء، فإني لم أسألك إلا عن صحتها فأخبرتني أنها بخير.
ولما كان من عادة شاربي الخمرة أن لا يعوا ما يقولون في حالة السكر صدق سعيد كلام فؤاد، وانشرح صدره، واطمأن خاطره. ثم وصلا قهوة البورس، فنزل فؤاد من العربة، واستمر سعيد سائرا إلى جهة باب الجنينة يبحث عن محبوبته، وانطلق صاحبه إلى منزل عفيفة في درب الجنينة.
الفصل التاسع
ندع فؤادا سائرا في سبيله إلى منزل عفيفة، ونخبر بما جرى له من الأمور بعد إنقاذه الفتاة من الغرق وعودته إلى بيته، فقد كان لشدة اضطرابه لم يذق نوما، وظل ليله هاجعا كأنه على شوك القتاد، تخطر على باله حوادث تلك الليلة، من حين شاهد عفيفة في دكان الخياطة واقتفائه أثرها، وإنقاذها من يد الصيدلي، إلى حين إنقاذها من الغرق وإيصالها إلى بيتها. فكانت كل هذه الحوادث تجول في خاطره، فتهزه وتحرم جفنيه لذيذ الكرى، ولو أن رجلا غيره شهد هذه الأحوال، فربما لم يندهش لها كثيرا غير أن ما نشأ عليه فؤاد من التربية، واعتزاله الناس جعله يضطرب لأقل أمر يراه، فكيف لأمور خطيرة كهذه؟ وكان فؤاد من بلوغه سن الرشد مطيعا لوالدته سميعا لقولها، فلم يكن بعيدا أنه يتزوج ابتغاء مرضاة أمه بسعدى وهو لا يحبها، على أن عيشه كان منغصا، ونفسه منقبضة من أخبار هذا الزواج، وقد لحظ ذلك خاله همام حين أدب مأدبته في الفندق الشرقي إكراما لغانم وابنه سعيد، إذ لبث فؤاد - كما تقدم القول - واجما لا يفوه بكلمة. وقد زاد كراهة الفتى في الزواج ما سمعه من سعيد من القول الشنيع على شقيقته سعدى، وذكره عيوبها الخلقية والخلقية، وقد غالبته طبيعته، فلم ير وجها للاستراحة إلا بالمجاهرة في مخالفة أمه كما ظهر للمطالع الناظر في الفصول السابقة، وعلى أن هذا الفتى لم يكن يتخلص من بلية إلا ليقع في شر منها، ولم يكن اقتفاؤه أثر بنت جميلة أنقذها من الموت غرقا ليذهب بلا أثر، فالنساء الحسان نكد في الدنيا على من يقاربهن، فلا يسلم من غوائلهن أحد سواء صنع معهن خيرا أو شرا - كما سيظهر فيما يلي من الحديث - ولما لاح الفجر لبس فؤاد ثيابه وخرج من البيت وهو لا يعلم كيف يتجه، ولم يكن من عادته الخروج باكرا، وكان ذلك داعيا لاستغراب والدته - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في سياق الحديث الذي دار بين غانم وشقيقته - وجعل فؤاد يسير على غير هدى هائما على وجهه في الشوارع، تقيمه الأفكار وتقعده حتى وصل إلى مخزن الخياطة فأبصره مغلقا، فتعجب ثم سقط عجبه إذ تذكر أن ذلك اليوم الأحد ينقطع الناس عن العمل فيه طلبا للاستراحة، فمضى قاصدا درب الجنينة إلى منزل الفتاة، فلما اقترب منه جعل يتروح آتيا رائحا من أول الطريق إلى آخره ناظرا إلى الدور الأعلى من البيت، حيث شاهد في الأمس المرأة ناظرة من الشباك، وحدث نفسه برؤية وجه عفيفة، فخاب ظنه وطال عليه الزمان، فهم أن يقرع الباب، ولكنه تذكر أن الوقت بكور، لا يليق الدخول فيه على الناس ولا سيما الفقراء منهم، وكان من مبادئه التأدب واحترام العادات وإكرام المساكين ومواساة أهل الحاجة ولا سيما الذين يخني عليهم الزمان فيسقطهم من ذروة العز إلى حضيض البؤس والهوان، فقفل راجعا على عقبه محدثا نفسه بالرجوع للزيارة بعد الظهر معتقدا أن الواجب عليه مقابلة والدة عفيفة ليخبرها بما كان من أمر ابنتها في الأمس، فقد كان يخشى أن لا تعدل الفتاة عن غيها، وأنها تصر على قتل نفسها، فرأى أن يحيط أهلها علما بذلك ليتداركوا الأمر وفي الوقت سعة، وكان في نفسه شوق شديد لمعرفة أسباب يأس هذه الفتاة المنكودة.
وقد تصور أنها تكون قد أحبت رجلا فهجرها، فسعت في قتل نفسها اختناقا بأسفكسيا الغرق تخلصا من عذاب الحب وبلوى الفراق. وعند انتصاف النهار نهض فؤاد إلى منزل الفتاة فرأى الباب مفتوحا، فدخل وصعد على سلم عال، وانتهى إلى الدور الأعلى فقرع الباب بلطافة، فانفتح له، فوجد فسحة وبابا آخر مفتوحا فدخله، ورأى امرأة جالسة على كرسي قريبا من الشباك وعلى وجهها الكدر وفي لونها الشحوب، وكانت الحجرة قليلة الأثاث حقيرة، فتمعن في المرأة فإذا هي شقيقة غانم التي رآها في الأمس في الفندق الشرقي فلما أبصرته عرفته، وتذكرت أنه الفتى الذي اعتنى بأمرها عندما أصابها الإغماء، فهمت أن تقف إجلالا له وإكراما، فمنعها عن ذلك فؤاد وقال لها: أرجوك أن تستريحي فلا تزعجي نفسك.
فشكرته على تفضله، وقالت له ببداهة: حضرت لفضلك لمقابلة زوجي؟
فتذكر فؤاد أن الرجل الذي سمع القول عليه في الأمس هو زوجها، وأن عفيفة ابنتها من زوجها الأول، فقال لها: مرادي أن أكلمك بنفسك، وليس لي حديث عن زوجك، وربما تستغربين أني حضرت إليك على غير معرفة بيننا سابقة، فقد جرأني على ذلك معرفتي بغانم أخيك.
قالت كريمة: من قبله حضرت إلي؟
قال: كلا، إنما قادني إليك أمر مهم لا يعلمه جنابه، ثم إنه صمت قليلا ورجع يحدثها قائلا: لك ابنة اسمها عفيفة شابة، لا تزيد في العمر على الثامنة عشرة؟
قالت: نعم، وما مفاد سؤالك؟
قال: والفتاة جميلة مؤدبة لطيفة؟
قالت: هي كذلك لنكد الطالع، فالجمال يزيد المساكين بؤسا على بؤس إن كانوا من أهل التقى والصيانة.
قال: اعلمي يا سيدتي ولا تستغربي قولي أن ابنتك في حال تستدعي الانتباه ومزيد الالتفات، وأرى من الواجب علي إخبارك بأسباب ذلك، ولو أحزنك قولي وزادك هما على هم، وضاعف منك الآلام والأكدار.
قالت: قد بلغت بأكداري النهاية، فقل ما شئت أن تقول ولا تخش بأسا.
قال: إن ابنتك في شدة تجهلين مقدارها، وفي حال من البأس لا تتصورينها.
قالت: بالله أن تخفض الصوت قليلا فهي نائمة في الحجرة الثانية، وأخشى أن تفيق فتسمع حديثنا، وفي النوم راحة من تعب وتسرية من كرب وأحزان ولو بعض حين.
قال: راحة النوم ساعة تفضلها الراحة الدائمة.
قالت: أفي غير الموت الراحة الدائمة؟
قال: قد يعتاد العقل على التصور المزعج واليأس والقنوط، فينشأ فيه بغض الحياة فيطلب الموت، فإن لم يجده سعى إليه بالأقدام ركضا.
قالت: تخبرني بما أنا بصيرة فيه، فلئن لم أسع إلى الموت فهو إلي ساع.
قال: لعلك قد توهمت أن الإشارة إليك، كلا، فتوجيه الكلام إلى ابنتك، فاعلمي أنها لكراهتها الحياة حاولت قتل نفسها في الأمس.
فلما سمعت كريمة هذا الخطاب ضجت صراخا، ولطمت يديها على صدرها، ثم أكبت على الأرض مغشيا عليها، فأيقظت الصيحة الفتاة، فهبت من سريرها مجفلة، فأبصرت والدتها كريمة على الأرض لا حراك لها، فانطرحت عليها ولم تنتبه لفؤاد. وجعل فؤاد ينظر إليهما وقد عراهما الجمود حتى أصبحتا كالأموات، فتقطع صدره لهذا المنظر الرائع، وأثر عليه ما رأى من الحنو وسلامة الضمير ولطف الحس وروعة مشهد التعاسة والشقاء، فدمعت عيناه وتولاه ضيق الصدر، فنهض من مكانه متنحيا إذ لم يستطع رؤيتهما مديدا على هذه الحالة، ثم بعد قليل من الدقائق فاقت عفيفة من روعتها، ثم أفاقت والدتها فتعانقتا، وقالت عفيفة لأمها: يا أماه سمعت صراخك، فقمت من نومي مذعورة، أظن عمي زوجك خليلا عاد إليك؟
قالت: وما علي من عودته، وأنا لا أخشاه.
قالت عفيفة: لا تخشينه وهو إن عاد أعدمك الحياة.
قالت: لئن خشيت الموت فليس ذلك حرصا على حياتي، فوالله لم أصرخ إلا جزعا عليك، إذ بلغني أنك أقدمت على قتل نفسك عمدا في الأمس لولا عناية الله قد وقتك، ولطفه قد حماك.
فخفق جنان عفيفة رقة وحنوا، وتلفتت فرأت فؤادا، فعبست في وجهه واجمة وقالت: عداك الصواب يا رجل، جئت تخبر امرأة حزينة بما يزيد حزنها وتفجعها، ولا تخشى الله أن تزيد علتها فتهلك أسى وتفطرا.
قال: أجبت داعي الذمة فأخبرت بما رأيت، ولأنت أحرى بدفع الهموم وصرف الأكدار عن والدتك، فأقسمي بين يديها ألا تعودي إلى مثل فعلك المنكر في الأمس الغابر، تعد إليها الحياة، وتزل عن قلبها الغمة، فهي إنما جزعت عليك وروعت بسببك.
فوقعت هذه الملامة في نفس الفتاة، وعلمت أنها الخاطئة، فجثت على الركبتين تقبل يدي والدتها، وقالت بصوت مرتجف حزنا واضطرابا: عفوا يا أماه عما جنيت، فوالله لم يدعني إلى محاولة قتل نفسي سوى جزعي عليك مما تقاسين بسببي من الأتعاب، وتكابدين من الآلام المبرحة، وإني أشهد على نفسي بالوهن وقلة العزم وفتور الهمة عن مقاومة الهموم ومغالبة الأكدار، فقد عميت بصيرتي، وفقدت صوابي ورشدي، وساورتني الأفكار المزعجة، فأجدني في كل حين أتصور والدي يناديني للقياه بين الأموات، فأضطرب وأبغي الموت شوقا إلى رؤياه، فسامحيني يا أماه، سامحيني بحق والدي المرحوم، وتجاوزي عن خطيئتي، واصفحي عما جلبت لك من الأكدار، وارحميني يرحمك الله. فهيجت الفتاة وجد أمها فانهمر الدمع من عينيها، ودار بينهما حديث يصدع الأكباد، نغفله ابتغاء الاختصار، وشفقة على القلوب الرقيقة. ثم إن كريمة التفتت إلى فؤاد تعتذر إليه بقولها: عفوا كريما سيدي، فقد استقبلناك كما لا يليق بمقامك، وقد أوليتنا جميلا لا نستطيع القيام بحق شكره، وفضلك مقيم لا يبرح تذكاره من فكري ما دمت حية، والله عالم بذات الصدور، سبحانه يولي الإحسان من يستحقه، ولا يضيع أجر المحسنين.
قال فؤاد: لا فضل لي في شيء، فقد قمت بفرض أوجبته الإنسانية علي، وغاية ما أرجوه أن أخدمك خدمة تصرف عنك الأحزان.
قالت: عرفت مكارم أخلاقك أيها السيد الأمثل، قدرنا الله على مكافأتك.
ثم إنها التفتت إلى ابنتها عفيفة وقالت لها: لا تنسي أن عليك عملا تتمينه في هذا اليوم. فأجابتها عفيفة وهي تمسح الدموع: نعم علي شغل وعدت بإنجازه إلى غد صباحا، وليس عندي وقت كاف لإتمامه.
قال فؤاد: وهذا يوم الأحد حرام الشغل فيه، وهو يوم مقرر للراحة.
قالت كريمة: ليس للمساكين أيام راحة، إنما الراحة للسعداء والأعياد لهم وحدهم، وراحة المساكين بالأشغال، وبالاجتهاد سعادتهم ونفي همومهم وإبعاد أحزانهم وتشريد أفكارهم المزعجة وما يخالج قلوبهم من النكد، ثم التفتت إلى ابنتها تأمرها بالانصراف وإنجاز عملها وتسليمه حسب الوعد.
فتقدمت عفيفة تقبل يديها، وسلمت على فؤاد باحترام وقالت له: لو زرتنا أيها السيد فلك الفضل العظيم إن كان يطمع أمثالنا بمثل هذا الشرف، ولنا الفخر بأنك ستصبح نسيبا قريبا لنا.
قال فؤاد: كيف علمتم بأني سأتزوج قريبا بالسيدة سعدى ابنة غانم؟
قالت كريمة: علمنا ذلك في وقت قريب، على أنني أرغب أيها الشاب الأريب أن أتحدث معك في أمر ذي شأن لا يوافق أن يطلع عليه الغير، ولأجل هذا السبب صرفت ابنتي كما رأيت، فأرجوك أن تقترب مني فلا تسمع عفيفة حديثنا.
قال فؤاد: لبيك، وأدنى كرسيه منها.
فشرعت كريمة في خطابه وقالت: ربما استغربت مني السؤال ورأيته خارقا، فأرى من الضروري قبل الشروع في الحديث أن أبسط لك الأسباب التي حملتني على ذلك، فقد جمعتني وإياك الأقدار للمرة الثانية، وتوسمت في طلعتك من المروءة وكرم الأخلاق ما ملأني ثقة بك وأطمعني بجودك، كأن لي سابق معرفة بشخصك الكريم وقديم عهد بالصداقة، وكفى لتحقيق ظني ما فعلت بالأمس إذ أنقذت ابنتي من الهلاك غرقا، ولي عندك منة أخرى ألتمسها من جودك وإحسانك، فلا تلمنا أيها السيد إن قصرنا بشكر جميلك، فالمساكين يعجزون عن مكافأة أهل الفضل، وليس لهم إلا الدعاء لهم بطول البقاء ودوام السعادة والخير، ولي إدلال على حضرتك يجرئني على تقديم توسلي إليك أنك ستتزوج قريبا بابنة أخي غانم، فيتصل نسبنا بنسبك الرفيع، وإن كنت من الشهرة والشرف فوقنا كثيرا، فمكارم أخلاقك وجميل صفاتك أعظم وأرفع، فما تجد في ملابسة الفقراء عارا.
قال فؤاد: إن تم زواجي بابنة أخيك أو لم يتم، فإني لك محب مخلص قائم بفائق اعتبارك ومزيد إكرامك، وأنا لا يمنعني القيام بقضاء حاجاتك عدم زواجي بابنة أخيك، فأنا على الحالين مجيب طلبك. وكان قد رأى فؤاد أن يجاري كريمة على خطابها فأوهمها الرغبة في زواجه بسعدى ابنة أخيها لتفيض في الحديث الذي توسم أنه يتعلق بعفيفة.
قالت كريمة: أنقذت يا سيدي ابنتي من الموت، وعما قليل ستصبح لنا قريبا، أمران يجعلاني أتجاسر بالتثقيل عليك، وأنت أفضل من يعذر، لمن يبح الناس بأسرارهم إن لم يبوحوا للأهل والمحبين والأنسباء؟!
قال فؤاد: لك أخ تلقين إليه أسرارك.
قالت: ليس لي سند من أخ ولا زوج، وأنا في هذا الكون وحيدة ليس لي سند، وعلى عاتقي ابنة هي سلوتي من الدنيا وعذابي فيها، وقد التزمت الصبر مديدا حتى آن الأوان لأتكلم وأكشف النقاب عن وجه ضمير، وأفتح كنوز أسراري والحال داعية، وفي الكتمان ذنب أحمله وإثم لا يغتفر. ثم إنها سكتت لتستريح قليلا، ثم قالت: لا ريب أن تكون قد قلت في نفسك إذ رأيتني لأول مرة هذه المرأة مسكينة موجعة، لو أن في إمكانك العلم بمقدار أوجاعي وأحزاني، وإذ دخلت إلى هذه الحجرة فلا بد أن تكون قد قلت أيضا هذا مكان الشقاوة والتعاسة، لو يخطر على بالك أن عندي من النوائب ما لا يستطاع وصفا، فاعلم أن في البيت ثلاثة أشخاص قد اجتمعوا الواحد إلى جنب الآخر: ملك كريم هي ابنتي عفيفة، وامرأة متعوسة على مشارف الموت هي أنا، وذئب كاسر شرير هو زوجي خليل. وهنا انقطعت كريمة عن الكلام، وجعلت يدها على قلبها كمن يشعر بألم، ثم قالت: إن في حياتي التي قضيتها لعبرة للنساء القليلات البصر، العديمات الفهم، اللواتي يتزوجن برجال أصغر منهن سنا، فلقد تزوجت بزوجي الأول، وليس بيني وبينه في السن تفاوت، فعشنا بأرغد عيش وأهنأ بال وأتم وفاق، وكانت فيه - رحمه الله - صفات جميلة ومحاسن، لو ذكرتها ولو تدبرتها بعد وفاته؛ للزمني أن أقاطع الرجال فلا أتزوج بعده، ولكن غلب نحس سعدي فخطفت المنية روح ذلك الزوج المحبوب، وهذه ابنتي تلبس السواد حدادا عليه من تسع سنوات، وكان يلزمني أن أفعل فعلها، فقد أخطأت وكابدت جزاء خطيئتي، ولا أطيل عليك الشرح في إخبارك عن تبديد ثروتي التي ورثتها وسقوطي السريع من بحبوحة اليسر ومراحه إلى مضايق العسر وعذابه، والتزام ابنتي العمل الجهيد للقيام بأودنا ومعيشتنا، فهي تشتغل فلا تقطع عن عملها آناء الليل وأطراف النهار، وقد أنهكها التعب حتى أصبحت كالخيال كما رأيتها، فلو طال المدى عليها وهي على هذه الحالة هلكت لا محالة، وفضلا عن ذلك فإنها لا تأمن كيد خبيث يريد بها شرا، وهي في مخزن خياطة تتعامل مع الشبان الفنانين والسفهاء من كل قوم.
قال فؤاد: في الحقيقة إنها عرضة للأنظار، فحرام أن تكون في هذه الخدمة.
قالت كريمة: لست أحدثك عن أوجاعنا الناشئة عن الفقر، ولا أذكر لك ما أقاسي من الآلام والأحزان بسبب هذه الحالة، فقد كنت حمولة صبورة لا أعتبر الآلام بشيء، وإنما كان أعظم النكد علي نكران الجميل وخيانة زوجي لي بعد أن قربت على مائدة حبه حياتي وجميع ما أملك، فهذا الزوج أصغر مني بعشر سنوات، وربما يرى البعض أنه معذور بسوء تصرفه معي لتفاوت السن بيني وبينه، ولو شكوت أمري إلى الناس لأوسعوني لوما وتعنيفا بما جلبت من التعاسة لنفسي بيدي، وقد جال في خاطري أن أنتحر - كما همت أن تفعل ابنتي بالأمس في نفسها - فما صرفني عن ذلك إلا حبي لها، وخوفي عليها أن تقيم في خطر بعدي، وكنت أتمنى الموت، وأجد قربه لذيذا بقدر ما كنت أكره الحياة وأجدها مرة، فلولا شفقتي على ابنتي لرحلت عن هذه الدار، ولكنني كتمت أمري وصبرت على أوجاعي وأوصابي، وفي كل يوم لي بلاء جديد، وقلبي يتقطع حزنا إذ أرى عفيفة منهوكة القوى لا يطمئن لجنبها مضجع، فأجد بالموت لي ولها راحة، وكثيرا ما حدثت نفسي بأن أوقد فحما فنختنق كلانا بالأسفكسيا، فمنعني عن ذلك خوفي أن أراها تتعذب قبل موتها.
قال فؤاد: والله إنها لحالة تستوجب مزيدا من الأسف.
قالت: ليست حالتي هي التي تستوجب الأسف، وإنما حالة ابنتي هي المريعة، وقد وصلنا الآن إلى النبأ الهائل، فأرجوك تنصت إليه وتتدبره.
وهنا دخلت عفيفة مذعورة تقول: ها هو صاعد على السلم، قد عرفته من مشيته.
فاضطربت الأم كاضطراب ابنتها، وقالت لفؤاد: هذا زوجي قد حضر الآن، فلا أعلم ماذا يصنع إذ يراك هنا.
قال فؤاد: طمني البال، فلا خوف عليك ولا علي، فإن عربد أخبرته بأني خطيب ابنة أخيك فيسكن.
ثم إن عفيفة دنت من فؤاد وكلمته بصوت منخفض قائلة: لي حديث أسره إليك، فمتى نزلت اقرع باب الدور الأسفل فإني في انتظارك. وخرجت، فدخل على أثر خروجها زوج أمها، وكان طويل القامة، شديد البنية، جميل الصورة، يناهز الأربعين سنا، وكان لجمال صورته في صباه ينادوه بيوسف لحسنه، على أنه كان قبيح السيرة، شرس الأخلاق، شديد الطمع، فاسقا شريرا، لو تفرس الإنسان فيه لرأى دلائل المكر والخبث على وجهه. دخل هذا الرجل إلى البيت فرمى بنظرة على ما حوله، وجعل يحملق بفؤاد بعد أن سلم سلام المغاضب ينظر شزرا. فقال له فؤاد وهو يرد عليه السلام: لعلك سيدي استغربت زيارتي على غير معرفة حتى تعلم السبب فيسقط استغرابك، فأنا خطيب السيدة سعدى كريمة غانم شقيق زوجتك المحترمة.
قال خليل: بلغني هذا الأمر، ونعم الزواج يجلب لك الغنى والمال الكثير تتمتع به في حياتك، فاشمأز فؤاد من سماع هذا القول، ولكنه التزم السكوت قطعا لأسباب النزاع، فاستتبع خليل بقوله: أي علاقة بين زواجك وبين زيارتك؟
قال: أليس من العادة تعرف الرجل بأهل امرأته؟
قال خليل: نعم، ولكن العادة أيضا ألا يحضر الرجل وحده، فكان من الواجب عليك الحضور برفقة والد خطيبتك فيقدمنا إليك ويعرفنا بك على قبح سحنته، وبعد فقد أحسن أنه لم يحضر وإلا كان يومه أسود، أستقبله برميه من هذه النافذة.
فغضب فؤاد وكظم الغيظ وقال: علمت بأن بينك وبين غانم نفورا، فجئت لعلي أتمكن من إصلاح ذات البين.
قال خليل ساخرا متهكما: شكرا لفضلك، فالله إني أراك كالثعبان تدخل للإفساد والإغواء لا للإصلاح وتأليف الشمل، فلو كنت صادقا في قولك، وكان عزمك على الزواج بابنة غانم أكيدا فأخبره بالعداوة والحقد عليه حتى الممات إن زعم أن عداوتي يسيرة يتهاون بها، ولي الآن كلام يخصك فلا يناسب أن ألقيه على مسمع من امرأتي فتنزعج، فتعال اتبعني. ثم إنه سار نحو الباب وقال: لتعلم أني زوج كريمة وابنتها عفيفة في عصمتي، وقد راقبت حركاتك وعلمت أنك رافقت بالأمس الفتاة إلى البيت فنبهتك لترتدع، فإن أصررت على عنادك لقيت ما لا يرضيك، وفي هذا القول كفاية. وعندما قال ذلك تركه على السلم، وأغلق الباب عليه ودخل مغاضبا على امرأته يسألها عن عفيفة، فقالت: هي في حجرتها، فتقدم إلى باب الحجرة فوجده مغلقا، فجعل ينادي الفتاة باسمها، فلما لم تجبه قالت له كريمة: دعها، فلعلها نائمة، واتركها تسترح قليلا وتستقل من التعب. فلم يصغ خليل إلى هذا الكلام، واستمر ينادي ويضرب على الباب، ثم ذهب إلى الحجرة الأخرى وقبض على قضيب من حديد فلما رأته كريمة قادما وفي يده القضيب، وثبت على القدمين مرتاعة مرتعدة، وقالت: ويك، ماذا تصنع، لعلك تبغي قتلها؟ وأرادت أن تمنعه فدفعها على الأرض وجعل يطرق الباب بالقضيب فكسر قفل الباب، ودخل فلم يجد أحدا، فخرج يصخب ويلعن ويقول: أين الخائنة؟ أين توجهت؟
قالت كريمة: لا أعلم.
قال: هل رأت فؤادا؟
قالت: كلا.
قال: أنت تعلمين مقرها فأخبريني أين ذهبت؟
قالت: لعلها ذهبت إلى الكنيسة تصلي، فهذا يوم الأحد تخرج للصلاة على عادتها فيه.
قال: أحوال المجانين عند النساء شائعة، فابنتك هذه لا بد أن يختل شعورها بكثرة العبادة والركوع والبكاء والنحيب.
قالت كريمة: هكذا عبادة المساكين البائسين.
قال: بئست عبادة تورث الخبل وتحط من قدر القائم بها، فالعبادة الحقيقية لا تقوم بالأعمال الخارجية، وبعد فإني سأمنع عفيفة عن التوجه إلى الصلاة بعد، ولا بد أن تكوني قد علمت أن ابنتك تأخرت في حضورها الليلة البارحة من محل شغلها، والله يعلم أين كانت، فيجب أن أقف على جلية الأمر، إذ لا يدخل في تصوري أنها قامت في شغلها إلى ما بعد نصف الليل بساعتين. وإذ قال هذا الكلام خرج من الحجرة تاركا زوجته كريمة في حال من القلق تتصور ما بدا منه، وكيف قابل فؤادا وأخشن له القول، ثم رجع ساخطا يسب ويلعن، وتذكرت مزيد كلفه بابنتها، فضاق صدرها انقباضا، فجمعت قواها تريد وقوفا لتمشي في الحجرة فلم تستطع رجلاها حملها، فسقطت على الأرض مغمى عليها.
وكان في أثناء ذلك قد جرى في الدور الأسفل حديث بين فؤاد وعفيفة، فإن فؤادا بعد أن فصل عن خليل في أعلى السلم نزل محتدا وجال في خاطره أن يصعد لينتقم من خليل بما رأى من الخشونة وقلة التأدب والغلظة الوافرة، فصرفه عن ذلك افتكاره بأن عفيفة تنتظره تحت، فأجل انتقامه إلى فرصة أخرى، ونزل السلم وانتهى إلى باب الدور الأول فقرعه خفيفا فأسرعت عفيفة في فتحه له وقالت له: ادخل حالا، فهذا محل جارتنا أنيسة وهي الآن غائبة، فدخل وقلبه يخفق، فأغلقت الباب، ودخلت معه إلى حجرة صغيرة فيها شيء يسير من المفروش يدل على فقر صاحبته، وبعد سكوت برهة قالت له: دعوتك سيدي هنا، وقد تأسفت على دعوتي فقلبي يخفق وجناني يضطرب من الخوف أن يعلم عمي بمكاننا، وهو شديد الغضب، جبار عنيد، فلو رأيت أن نخرج عاجلا قبل أن يدركنا، فلا يحصل على ما يكدرك، وفي الوقت سعة لتخرج فلا يعلم بنا أحد.
قال فؤاد: لا أذهب من هنا قبل أن أسمع قصتك وما تريدين مني، ولا بأس عليك ولا علي من حضور عمك، وأنا قادر على دفعه إن استطال، أو قصدنا بشر فسكني البال وأمني الخاطر.
قالت: أنت شجاع حازم وعزوم، وأنا ضعيفة القلب، انظر كيف أرتعش.
قال: بي مثل ما بك من الخفقان في القلب، ثم أخذ يدها فجعلها على قلبه.
فاحمر وجهها وحاولت الهرب منه، ثم أطرقت في الأرض حياء، وقالت: لا تؤاخذني، فقد أجريت ذكر القلب والارتعاش عرضا فلم أنتبه.
قال: لو رأيت الخوض فيما ترغبينه فإني منصت إليك.
قالت: ستصبح أيها السيد الكريم عما قليل من الزمان قريبا لنا بزواجك بابنة خالي، فبحق حرمتها أسألك الرأفة بوالدتي، فإنها منهوكة، وأنت قادر على إنقاذها من الويل والنكد.
قال: تحلفيني بابنة خالك، وأنا لم أتزوج بعد بها؟!
قالت : أحلفك بها، فإن لها أيها السيد السند بقرب منزل والدها بيتا صغيرا كنا نسكنه في حياة المرحوم والدي. وهنا انحدرت دموع الفتاة حزنا على والدها، وأخرجت من جيبها علبة فقبلتها.
فقال لها فؤاد: رأيت هذه العلبة معك أمس.
قالت: نعم هذه العلبة التي رأيتها أحفظها على قلبي فلا تفارقني، وفيها رسم والدي المحبوب، ولم ينظر هذا الرسم أحد، وقد أخفيته عن والدتي شفقة على قلبها، ولا بأس عليك أن تراه.
فتناوله فؤاد بيده متأملا وقال: أرجو سماحا وعفوا يا سيدتي، فقد أسأت بك الظن، ولم يخطر في بالي أن تكون العلبة متضمنة رسم والدك، وما شككت في طيبة قلبك وكرم أخلاقك.
ثم إنها ارتعدت وانخطف لونها واشتد عليها الاضطراب فأومأت إلى فؤاد بيدها ليسكت، وقالت: هذا عمي خارج، فاسترنا يسترك الله.
قال لها فؤاد: كيف علمت أنه عمك؟
فلم تجبه عفيفة بكلمة، بل أطبقت فمه بكفها كالجليد من شدة الخوف، وبعد برهة سكن خفق الأقدام، فقالت: قد خرج عمي، فهيا بنا إلى فوق نشاهد والدتي، ثم عرض لها فكر فرجعت إلى الخلف، وقالت لفؤاد: تمهل قليلا فربما يرجع.
قال فؤاد: لا تخافي واصرفي عنك الأفكار، ثم إنه أجلسها على كرسي وقال لها: أخبرتيني في الحين عن بيت كنتم تسكنونه فتممي حديثك عنه.
قالت: كان هذا المنزل لخالتي في الأصل فورثته لابنتها خطيبتك، والمنزل يشتمل على أربع حجرات وحديقة صغيرة كنت أسميها جنة الفردوس، وفي ذلك البيت ولدت وربيت، وكل شهوتي في الدنيا ومرام والدتي أن نصرف بقية العمر فيه لو تتكرم علينا بذلك حضرة خطيبتك، فهي - بحمد الله - واسعة الغنى وفي سعادة تامة، فإن فعلت فلها الفضل علينا والجميل الذي لا ينسى مدى الدهر.
قال: أهذا كل مطلوبك؟
قالت: هذا كله، وهو تفضل نلتمسه من حضرة خطيبتك لا واجب عليها تقضيه، وإن أحبت جعلته إحسانا لتذكار عهد الصبا والصداقة القديمة.
قال: كم بينك وبينها فرقا من السنين؟
قالت: الفرق قليل، هي تكبرني بأربع سنوات، على أننا لم نأتلف في الطباع لتكبرها ومحبتها الرئاسة، فكانت تجور علي أحيانا ونحن في المدرسة، وأنا بالطبيعة أنوفة كنت أحقد عليها.
فتذكر فؤاد كلام سعيد على أخته، ولم يقل شيئا.
وأردفت عفيفة قائلة: أبى الله أن أبرئ نفسي من العيب، فالعصمة لله وحده، والكمال لذاته، والطبيعة الإنسانية مجردة عن الكمال، فقد كنت في جدال مستمر مع ابنة خالي، وما أعلم إن كانت تذكر ذلك، ولعلها لا تفتكر إلا بأوقات الصفو واللهو، ولا يضيع جميل أينما كان، فهي لو أجابت التماسنا دعونا لها بالسعادة والتوفيق ومديد البقاء، فلم نثقل عليها فوق هذا التثقيل، ولو أننا فقراء ووالدتي عاجزة فلنا ما يقوم بأودنا، وأنا شابة صحتي جيدة أكسب بشغلي ما يكفيني ويكفيها، والله كريم يرزق عباده. ثم إن عفيفة انقطعت عن الكلام، واقتربت من فؤاد تقول بصوت منخفض: ها هو راجع، والظاهر أنه غضبان، عرفت ذلك من حركة مشيه.
وكان الاصفرار على وجهها والارتعاد في قدمها حتى صعد عمها على السلم فقالت: ها هو صاعد إلى البيت، فلا يمكننا الخروج بعد، فدخل خليل حجرة امرأته ساخطا واجما غضبان، فلم يبصرها، وكانت ملقاة على الأرض وراء كرسي جلوسها، فهم أن يذهب إلى الحجرة الثانية ليفتش عنها، فوجدها مطروحة على الأرض عديمة الحراك، فشفى غيظه بالسباب وقال: إن شاء الله هي القاضية، ثم رفعها بيديه وجعلها على فراشها، فوجدها على رمق قليل من الحياة، وقد تحركت قليلا من إغمائها، فقال: خطف الشيطان روحها الخبيثة، إنها لتموتن في اليوم ثم تحيا ألوفا. ثم إنه بدلا من أن يرق لحالها ويعتني بها تركها وطفق يتمشى في الحجرة طولا وعرضا مزمجرا، كأنه الوحش الضاري يبحث عن ضحية يفترسها، ففي خروجه أفاقت كريمة من إغمائها، فتنهدت من صميم الفؤاد، وجمعت قواها، وجلست على فراشها وغبار الموت على وجهها، فلم تمكث أن رأت خليلا زوجها قد رجع فجعل أمامها كرسيا وجلس يقول لها: مرادي أن أكلمك في مسألة مهمة، فأعيريني السمع وتفهمي قولي، قد أنفقت عمرك على ابنتك عفيفة، فتزوجتني فكنت بالطبيعة قيما عليك وعليها، نعم كان أخوك أحق مني بالوصاية على الفتاة، ولكنه أهمل جميع الواجبات، ولم يلتفت إلى شأنك وشأنها فآلت الوصاية إلي، فليس لك أن تعترضي أو تخالفيني في شيء ما، وقد حملتني جميلا كثيرا أو ذكرتني بثروتك التي قضى الزمان عليها بالضياع، ووبختني كأني كنت المضيع لها، وهذا القول أسمعه منك في كل يوم، فمن اللازم أن تمتنعي عن ذكره بعد هذا، واعلمي أن ضياع ثروتك حصل بتقادير التجارة لا بتقصيري، فلا سبيل علي ولا حق لك بتسكيتي ولومي، والتجارة قد يصادفها الربح والكسب، كما يعتريها الخسارة، فأي لوم علي والزمان لم يساعد والبخت عاثر؟!
قالت: ما أذم التجارة، وأعلم حق العلم أن ممارستها بالتدبير والحكمة تفيد غنى وافرا، أما الذين يتعدون قواعدها ويجرون على غير الصواب فيها - كما فعلت أنت - فمصيرهم إلى الخسارة والبوار، وقد نصحتك كثيرا وتذللت لديك وقبلت قدميك أحيانا لتتدبر في المعاملة، فلا تتهور في الأعمال فلم تقبل نصيحة ولا شورى.
قال: دفعني إلى التجارة رغبتي في إحراز المكاسب سريعا، فجاء الأمر بخلاف ما كنت أنتظر من النتيجة، فأي جناح علي وأي ذنب أتيته والحظ لم يساعدني؟! ولو حاسبت نفسك قليلا لعلمت أني قهرت على التهور في الأشغال توخيا لمرضاتك والقيام بمصاريف الزينة والتطرئة والبهرجة، وما كنت مولعة بحبه من الملاهي وأسباب المباهة والنفقة الباهظة حتى قصر دخلنا عن نفقاتنا، وكانت حاجاتك متجددة في كل حين تبغين قضاءها بلا تأخير، فالتزمنا أكل جانب من رأس مالنا في كل سنة، وهكذا حتى قل شيئا فشيئا، ثم نفد بالتمام والكمال. مع ذلك فأنت على عادة السرف لم تجدي عنها تبديلا، اذكري أني كنت أقضي الليالي الطوال ساهرا منكبا على العمل ابتغاء حفظ مركزي والثبات أمام جيوش نفقاتك الجرارة، فلا أستطيع شيئا، فوالله لو أن ما في الأرض من مال يبذل إليك لنفد وما وفى بمطلوبك.
قالت: تريد أن تجعلني مسئولة عن إخفاق أعمالك وسوء تدبيرك، مع أني نبهتك كثيرا فلم تتنبه، ونهيتك عن التهور في الأعمال كأعمال البورصة وخلافها محذرة إياك بأنها تعقب الخراب والدمار ما أذعنت لقولي، وقد جئت الآن تزعم أنني كنت السبب في الخسارة.
قال: لم لا تتذكرين ملابسك الحريرية والحلي والجواهر الكريمة التي كنت تكلفينني بجلبها إليك لتتبرجي وتخطري مباهية النساء المثريات الموسرات؟ ثم لم تكتفي بها حتى طلبت خلافها، وكلفتني الإنفاق على ملبوس المودات والأزياء الجميلة، وحتى كان عندك خياطات كثيرات يشتغلن في المنزل لتفصيل الأثواب ملبوسا لك مؤنقا بهيا، وكنت لا أستطيع مخالفتك مخافة الفضيحة والخصام بما قام فيك من طباع العتو والعظمة، وتذكري يوم بقيت غضبى واجمة بسبب امتناعي عن شراء عربة تركبينها للمباهاة وإبراز زينتك وجمالك، وكيف أنك أصررت فلم يكن لي مناص للنجاة من غضبك إلا بإجابة مطلوبك، ولولا ذلك لفقدت راحتي، والله أعلم بمقدار ما تستلزمه العربة من كلفة وأجرة سياس وخدمة ومئونة خيل وغير ذلك من المصاريف، وأنت بين ذلك جالسة كسلطان على عرش عزة متزينة بنفيس حلاك وملابسك ركوبا على عربتك أمامك السياس والخدم، وأنا متعوس مكب على عملي كتابة ومراجعة وبحثا في الدفاتر والأوراق، أجهد النفس في الاشتغال ليلا ونهارا ابتغاء الكسب حتى يفي إيرادنا بنفقتك الجسيمة، وكان الخراب ماثلا أمام عيني يضطرب خوفا من سوء العاقبة، وأنت لا تتحولين عن عهد نفقتك الباهظة وقلة تدبيرك، فأخبريني الآن أين الرفيقات اللواتي قد صحبتك في أيام اليسر والسعادة؟! فإني لا أجد منهن ولا واحدة والكل يتجاهلنك، أين النساء اللواتي كن يلازمن مجلسك تمليقا ومداهنة؟! هل منهن واحدة تفتكر فيك أو تذكر سابق فضلك؟! فوالله إني أراهن يهربن منك هربهن من الجيفة أن تمس لهن ثوبا.
ولقد كان كلام خليل على شيء من الصحة، ولكنه قد بالغ بقصد تكدير امرأته ... وهذا القول ينطبق على كثير من النساء اللواتي يخربن بيوتهن بكثرة الصرف طلبا للمباهاة وابتغاء التشبه بمن فوقهن درجة وغنى واقتدارا، ومن المعلوم بالتجربة أن كل امرأة قامت هذه الصفات فيها، وكان رجلها ضعيف القلب عاجزا عن كبح جماحها أعدت بيتها للخراب وبئس المصير.
وكانت كريمة تسمع كلام زوجها فلا تجاوبه بشيء لعلمها أن قوله محض افتراء وبهتان، وأنها ليست من النساء الموصوفات بوصفه.
ثم إن خليلا استطرد بقوله: قد علمت إذن أني لم أبدد ثروتك، وإنما أنت التي بددتها بيديك، وبفرض أني كنت السبب في ضياعها، أفتنسين أنك تكبرينني بعشر سنوات، وأني ما تزوجت بك إلا رغبة في مالك الكثير؟ فلئن كنت أضعته بكثرة الإنفاق، فقد أضعت لذة شبابي زواجا بمن هي فوقي سنا، لعن الله الساعة التي رأيتك فيها وعرفتك، كانت ساعة شؤم فقدت فيها عقلي وبصري، وما أرى أجهل من الشبان، يبتغون الزواج للمال يبادرون إليه بغير ترو ولا يبصرون، فإن لمعان الذهب يغشي عيونهم فيدهشهم عن رؤية المرأة وانتقاد أخلاقها، واختبار صفاتها الملازمة لها مدى العمر، فهم يتزوجون المال لا صاحبة المال، وعلى الغالب فإنا نرى النساء الموسرات مجردات من الجمال ومحاسن الطبيعة، وقد يتجردن أيضا من الأخلاق الجميلة فيعاني الأزواج الجاهلون نصبا كثيرا بسببهن يدوم مدى الحياة، ويكونون قد أفاقوا من غفلتهم وشعروا بخطئهم، فلا يفيدهم الندم، وقد نفذ السهم وانقطع الوتر، فيقوم النفور بين الأزواج، وتعظم الوحشة والكدر، فتفقد العائلة راحتها ونظامها، ويقوم النكد بديلا عن الصفاء، والذنب ذنب الرجل، والخطيئة خطيئته، فهو الذي ظلم نفسه، وألقى بيده إلى التهلكة.
وكان قد زاد اصفرار كريمة، واشتد عليها المرض من سماع الثلب، فقالت لزوجها: رحماك، فبالله ترثي لحالي، إني شاعرة بانحطاط كلي في جسمي وزيادة بالغة في أوجاعي، وقد بردت أطرافي، ولم يعد لي قوة على الحركة.
فقال لها خليل: نؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر، وإن شئت دعوت إليك الطبيب.
قالت: لا يفيدني حضور الطبيب شيئا، وقد حم الأجل، وأحسست بقرب الموت، فوفر الأجرة إلى ما يفيد.
قال: لا بد من إحضاره، على أني أطلعك قبل توجهي على أمر ذي بال، وهو أني توجهت اليوم إلى دكان الخياطة لأسأل مستفهما على تأخر عفيفة أمس عن الحضور إلى البيت في وقتها كالعادة، فعلمت أنها خرجت من العمل قبل نصف الليل، فلم تعد إلا بعد ساعتين من مضيه.
قالت: كانت تحاول قتل نفسها.
قال خليل: حاولت الخائنة قتل نفسها، وجعل يسرع في مشيه من أول الحجرة إلى آخرها، ومن عينيه يتطاير الشرر.
وكان قد اشتد الألم على كريمة، وكاد ينقطع صوتها وخف سمعها، فقالت لخليل: عندي رجاء قبل أن أفارق هذه الحياة، وهو أنك تعدل عن هوى عفيفة، فأنت السبب في تعاستها وشقائها، حسبها ما حملت من الكدر فلا تلبسها فوقه ثوب العار والفضيحة، وكفاها ما قاست من الأشجان والأحزان.
أما خليل فإنه لم ينصت إلى حديث امرأته، وكان يكرر قوله هاتفا: حاولت الخائنة قتل نفسها، أين هي الآن؟ أين ذهبت؟ ثم إنه خرج مسرعا من البيت تاركا امرأته في حالة النزاع، فاستلقت كريمة على فراشها، وهالها غضب زوجها، فبقيت برهة فاقدة الإحساس كأن قد قبضت روحها، ولما انتبهت قليلا جمعت ما تبقى من القوة لها، واستوت قعودا على فراشها، فشعرت أن ساعتها الأخيرة من الحياة الدنيا قد دنت، وقالت في نفسها: ذهب زوجي، وتركني أتقلب على وسادة الموت شاكية أوجاعي وآلامي، وأشد تلك الآلام خوفي على ابنتي من غرامه وسفاهته، فقد سلب الهوى رشده وكاد يخرجه عن الصواب، اللهم اهده الصراط المستقيم، ولم تكن الغيرة هي التي تمزق أحشائي، بل مخافتي على عرض ابنتي أن يتخدش، فيا أيها المولى العلي العظيم، إني أقيمك على ابنتي وليا وحفيظا، فصنها بكنف وقايتك من مكائده وخبائثه وفجوره، اللهم احفظها بقدرتك ورحمتك يا مغيث الأيتام والمساكين.
وكانت عفيفة في الدور الأول - كما سبقت الإشارة - فلما سمعت صراخ خليل وخروجه مغاضبا بادرت بالصعود إلى والدتها، وانطرحت أمام فراشها تسألها قائلة: ما بالك يا أماه؟ وماذا جرى لك؟ ألعل بك آلاما أو تكون أوجاعك قد زادت عن الأول؟ فإني أرى وجهك متغيرا كئيبا، أخبريني ولا تكتمي عني الحقيقة، وأريحي بالي وقلبي.
فقالت لها أمها: لا يزال مرضي على حاله فلا تنزعجي، وإن شاء الله يزول عني قريبا، وكان فؤاد واقفا على الباب فأبصرته كريمة، وأشارت إليه ليدخل فدخل ، فلما دنا منها ورأى اصفرار وجهها أيقن أن قد دنا أجلها وأزف ترحالها من هذه الدنيا.
وقالت عفيفة لفؤاد متوجعة: انظر كيف تغيرت هيئة والدتي؟ فوالله إني لم أجدها على شحوب مثل هذا اليوم، فبالله عليك أن ترثي لي ولها وتستدعي الطبيب.
فتقدم فؤاد مقتربا من كريمة وقال لها: أراك في غاية التعب والانزعاج، فها أنا ذاهب أدعو الطبيب لعيادتك في الحال.
قالت كريمة: لا فائدة من حضوره، فهو لا يرجع الحياة إلى الأموات، ثم إنها التفتت إلى ابنتها تسألها أن تناولها زجاجة فيها ملح النشادر، مودعة في درج من الحجرة الثانية، فذهبت عفيفة مسرعة لتحضرها، والتفتت كريمة إلى فؤاد قابضة على يده، وقالت له بصوت منخفض: لا تتعب سرك يا سيدي، فلا لزوم لإحضار الطبيب، وليس لي إلا ربع ساعة من العمر أعيشها، ولا حاجة لي أيضا بقسيس أقدم التوبة بين يديه، فقد غفر الله خطيئتي بما حملني من الأوجاع والآلام، وذمتي نقية لا يثقلها شيء فأحاسب النفس على عصيان، ولي عندك رجاء أيضا أن تسرع لتحضر عربة تجعلها أمام البيت، فإذا فارقت الحياة عهدت إليك بابنتي عفيفة عهد الله أن تحميها وتجعلها في محل أمين، وقد مضى الزمان فبادر ولا تتأخر وأحضر العربة في الحين.
فخرج فؤاد على عجل وحضرت عفيفة وفي يدها زجاجة النشادر، فجعلت تنشق والدتها والدموع منهملة على الخدين، وفي قلبها الأسف على أمها استشعارا بدنو أجلها.
قالت لها أمها: كفكفي الدمع يا عفيفة، ولا تزيدي أوجاعي وآلامي، فقد تمضي هذه الساعة وأبلغ الراحة الدائمة، ثم قالت: أخبريني ... هل أبصرك خليل وهو خارج؟
قالت عفيفة: كلا، كنت في بيت جارتنا فلم يعلم بي.
قالت كريمة: أخاف أن يرجع عاجلا.
قالت: لا تخافي شيئا، من عادته التوجه في مثل هذا الوقت إلى الصلاة لمراقبتي، فلا يعود قبل ساعة من الزمن.
وكانت كريمة تسمع الكلام بقلب منفطر؛ لانخفاض صوتها وظهور علامات الانحلال عليها حتى وقعت على ظهرها، فظنت عفيفة أنها قد فارقت الحياة، فضجت بالبكاء والعويل، وشهقت شهقة الحزن، وأذرفت الدموع مدرارا، وبعد برهة قليلة تحركت كريمة وقالت لابنتها: اصرفي عنك يا ابنتي الحزن، فقد استودعتك الرحمن خالقك، وأموت راضية عنك، وأسأل الله أن لا تفارق روحي البدن حتى يكون قد رجع فؤاد.
فأكبت عفيفة على يدي أمها تقبلهما فوجدتهما كالثلج صقيعا، فخرجت من الحجرة صارخة مولولة، وكان قد رجع فؤاد فسألته عن الطبيب، فأخبرها أنه يحضر قريبا، ودخل إلى حجرة المريضة، فتنهدت كريمة حين رأته وقالت: أشكر الله على أنك حضرت قبل خروج روحي، ثم نادت عفيفة وقالت لها: لا فائدة من حضور الطبيب، وأنا شاعرة بزهوق روحي وتفريق شملنا تفريقا لا اجتماع بعده إلا في الدار الأخرى، وما كانت خشيتي من الموت إلا جزعا عليك أن تصبحي في الكون وحيدة بلا سند ولا مأوى.
فعندما سمعت عفيفة هذا الكلام انفطر قلبها فسقطت في حضن والدتها تنوح وتبكي، فضمتها كريمة إلى صدرها قائلة: وقاك الله يا بنتي، وهو سبحانه المعين المغيث يتقبل الرجاء والدعاء الصالح. وكانت قوة كريمة تنحط شيئا فشيئا، وترتخي منها الأعصاب حتى لم يعد في استطاعتها ضم الأصابع إلى بعضها، فأغمي على عفيفة وهي فوق أمها على فراش النزاع، فأراد فؤاد أن ينهضها ويخفف عن قلبها العذاب، ولكنه ألفى فؤاده ينفطر من رؤية هذا المنظر المحزن.
ثم إن كريمة نظرت إليه وكلمته بصوت يكاد لا يسمع، وسألته أن يدنو منها، وقالت: لي عندك وصية وحيدة هي أعز شيء أرجو محافظتك عليه، وأنا الآن على فراش الموت ليس بيننا غير الله الشاهد، وهو الحي الباقي القيوم الذي لا يموت، إني أوصيك بابنتي عفيفة خيرا، وأسلمها إليك تسليما، وهي عما قليل تصبح ولا قريب لها ولا صديق ولا معين ولا ثروة تتكل عليها، ولا ملاذ تحتمي في ظله، فكن ذلك الملاذ والصديق المغيث ولك الأجر عند رب العالمين.
قال فؤاد وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ: هوني عليك أيتها السيدة وسكني البال، فوصيتك محفوظة عندي ومقدسة، انعمي بالا وطيبي نفسا، فأنا كفيل ابنتك أدفع عنها كل مكروه، وسأجعلها شقيقة لروحي، ويقضي الله ما يريد ويشاء، ولك القسم على تربة أبي وحرمة هذا المشهد أني أحفظ العهد.
فعندما سمعت كريمة هذا القول تلألأت أسرة جبينها، وقالت لفؤاد: بارك الله عليك، ووفقك للخير والسعادة، فقد صدقت أيمانك، وكانت على يديك نجاة ابنتي من الموت لأول مرة غرقا، والآن أنقذتها من الموت عارا، وحفظت لها الشرف والكرامة والاسم الحسن، أسأل الله أن يجزيك خيرا، ويسبغ عليك من فيض آلائه الحسنى، ثم قالت: أرجوك أن تفتح هذا الدرج فتجد مقصا تأتيني به. فنهض وتناول المقص فسلمه إليها فأخذته بكل عناء، فقصت خصلة من شعرها فسلمتها إليه وقالت له: هذه أمانة تسلمها إلى ابنتي عفيفة لتجعلها مع صورة أبيها، فهي الميراث الوحيد الذي أورثه لها، ثم سكتت قليلا وسألت: هل أتت العربة؟
فقال لها فؤاد: نعم، وهي تنتظر بقرب الباب.
قالت: وما تصنع بعفيفة؟
قال: أجعلها في بيتي عند والدتي.
فقالت: جزاك الله خيرا، فقد سكنت آلامي، صرف الله عنك كل مكروه، وحفظك من كيد الأعداء، ثم قالت: أرجوك أن تبادر بابنتي إلى والدتك عند فراق روحي، فليس بعد الموت حيلة ولا ضرورة لأن تبقى هنا.
قال: وهل عندك وصية أخرى؟
قالت: تقابل أخي وتعلمه أني سامحته ما أساء إلي وأنا على فراش الموت، وإن قابلت خليلا زوجي فبلغه أيضا أني عفوت عما عذبني وكابدت بسببه من النكد والمصائب.
وكان قد اشتد النزاع على كريمة، وتصبب العرق باردا من جسمها، وعرت وجهها غبرة الموت وغشي ناظريها الظلام، فنطقت بآخر جملة قائلة: أدن مني ابنتي عفيفة لأقبلها القبلة الأخيرة، فامتثل فؤاد إشارتها، وقرب بين يديها الفتاة جاعلا رأسها على صدرها، فحركت الأم شفتيها وأسلمت الروح، فارتعد فؤاد من هذا المنظر، ورجف جسمه وسال الدمع من عينيه غزيرا، ولبث مبهوتا قليلا من الزمن ينظر إلى كريمة مرة وإلى ابنتها مرة أخرى حائرا فيما يفعل، فجس يدي كريمة فإذا هما قد جمدتا فأيقن أنها ماتت حقيقة، فأغمض عينيها، وتلا سورا من الكتاب الكريم المقدس، وحمل عفيفة بين يديه نزولا على السلالم فلم يشاهده أحد، فأشار إلى سائق العربية فتقدم وجعل عفيفة في صدر العربة، وجلس أمامها وهي في حالة الإغماء وقال للسائس: بنا إلى مصر العتيقة، فانطلق يعدو بخيله سريعا.
الفصل العاشر
بعد مضي خمسة شهور من وفاة كريمة، كان في صباح يوم من شهر نوفمبر همام جالسا في فسحة الفندق الكبير المعروف بنيو أوتيل يدخن سيجارته إذ أبصر سعيدا مارا في عربة من أمام الفندق، فأشار إليه فنزل من العربة وحياه مسلما، فلما جلس قال له همام: كيف حالك؟ إني مسرور بمشاهدتك، أمن زمان أنت في القاهرة؟
قال سعيد: من يومين، وكنت عزمت على مقابلتك في هذا اليوم، فجمعني بك الاتفاق، والحمد لله على رؤيتك بخير.
قال همام: هذه المقابلة لا تعفيك من الزيارة المرسومة.
قال سعيد: واجب علي أن أزورك في محلك.
قال همام بعد أن بادله كلام الوداد والصفاء على عادة الناس: هل حضرت بإذن والدك؟ فقد بلغني أنه متغير عليك، وأنه هددك بقطع ميراثك إن جئت إلى القاهرة.
قال سعيد: أخبرتك عن الكتاب الذي أرسله إلي منذ شهرين يدعوني به إليه إن كنت تذكر ذلك.
قال: أتذكره جيدا، وكان الكتاب ردا على خطاب منك، وجهته إليه في طلب نقود فعوضا عن إرسالها أرسل إليك بعض نفثات غضبه.
قال سعيد: نعم، وفوق ذلك يهددني بقطع ميراثي إن لم أعد إليه في الحال.
قال همام: عهدي بالآباء يغضبون ويتهددون فما يفعلون، ويبرقون فلا يمطرون.
قال سعيد: ليس الآباء سواء، فوالدي قاسي القلب جافي الأخلاق، إن قال شيئا فعل، ولعلمي بطباعه انقدت لأمره مطيعا، وتركت القاهرة قهرا عني، وكنت إذا طلبت منه النقود التمستها من إيراد مالي الخاص الموروث عن أمي، وهي في إدارته وتصرفه فأبى أن يرسل إلي القرش الواحد، وكان متكدرا كثيرا لما بلغه أني صرفت خمسة عشر ألف فرنك في مدة ثلاثة شهور، فخفضت لإرادته الجناح، ولم أستعمل معه العناد لئلا يجفوني ويحرمني من الميراث، وهو - كما لا يخفى عليك - كثير الأموال تبلغ ثروته زيادة على مائتي ألف جنيه، فضلا عن تجارته الواسعة، ومن كان مثله في هذا الغنى فهو جدير بالرعاية والإكرام، ولذلك قد لبيت أمره بالإطاعة مرغما، وفي ودي أني أقيم في مصر مديدا لدواع كثيرة.
قال همام: أظن أن من تلك الدواعي كلفك بالفتاة الشقراء التي رأيتها في مخزن الخياطة.
فابتسم سعيد وقال: سبحان الله! تحب الهزار في كل آن، فدعني الآن أخبرك عما جرى بيني وبين والدي، وكيف سمح لي بالعودة إلى القاهرة ثانية.
قال همام: أخبرني الآن عن أمرك مع أبيك، ثم تخبرني عن صاحبتك.
قال سعيد: بعد وصولي إلى بيت أبي بثلاثة أيام كابدت العناء من خشونة المعيشة عنده، والفرق بينها وبين المعيشة في القاهرة بعيد المدى، ففي مصر تكثر أسباب الحظ والانشراح والملاهي المتنوعة، وفيها الشوارع الجميلة والأنوار اللامعة البهية والجنائن الباسقة الزهية، وهي تزيد في الحسن يوما عن يوم، فلو استمرت على هذا الترقي أصبحت ولا شك أجمل مدينة في الشرق، ومن اعتاد على المعيشة فيها لم ترق في عينيه المعيشة في الأرياف بين الفلاحين، ومن أجل ذلك عقد عزيمتي على العودة إليها، وجعلت أختلق الأسباب للتعكير على والدي، فاشتريت خيلا كنت أركبها، وأعبث في المزارع أتلفها، واقتنيت كثيرا من كلاب الصيد كنت أذهب بها فأتلف النبات، وأنا دائما ثائر غضبان أخاصم من أراه حتى زهقت روح والدي، فصرح لي بالعودة إلى القاهرة وفي قلبه النقمة، وقد ودعني وهو يقول لي: الخير أن تبدد مالك من أن تبدد مالي، فاذهب إلى حيث شئت، فإني لا أستطيع رؤيتك ومشاهدة ما تصنع من الأمور السمجة وما تبذر من الأموال سفها، حتى أصبحت أخشى على أيامي أن تنفد هما وغما عليك وكدرا منك، فعندما سمعت هذا الكلام منه أظهرت الأسف وأبطنت السرور، فلما أصبح الصباح جهزت أدوات السفر، وجمعت شيئا من النقود أنفقته على نفسي في سفرتي، وكان حضوري إلى مصر أمس، وها أنا الآن بين يديك.
قال همام: تسمح لي أقول الحق، فقد كثرت في القاهرة أسباب الفساد وأنواع الرذائل، واشتد بطر الشبان الأغنياء وغوايتهم، فأنفقوا ما ورث لهم الآباء من مال وعقار، فهم الآن من سوء تدبيرهم ومعصيتهم في فقر مدقع، والخمارات أصبحت في طول الشوارع، وكذلك القهاوي ومحلات القمار وبيوت العاهرات المنتشرة في جميع الأقسام، وكل ذلك أسباب لتخريب البيوت العامرة، فما يكاد يسلم فتى من شرها، واتصلت الرعونة بالبعض من الشبان حتى جعلوا يتباهون في الفساد وفي العناد، وهم عن عاقبة أمرهم لاهون، يجدون ملازمة هذه الأماكن المعدة للفسق واللهو نعيما لهم، وهي على الحقيقة جهنم، تأكل بنيرانها أبدانهم وأموالهم، وقد تفرس والدك بحزمه جميع الشرور فمنعك عن المقام في هذه المدينة مخافة عليك أن تغوى مع الغاوين، وقد أصاب لعمري بما فعل، وفي ظني أنه سيجيء بنفسه هنا إذ لا بد أنه يكون مشتغل البال من جهتك.
قال: حزرت، فهو سيحضر عما قليل من الأيام لا لأجلي بل لأجل دعوى كبيرة له في المحاكم تهمه كثيرا، وله خصوم شديدون قادرون بعلاقاتهم مع بعض القضاة، فيخشى على دعوته من الضياع والخسران.
قال همام: لا أظن ذلك ممكنا، فالأحكام قد انتظمت عن الأول والعدل موجود، فإن كان والدك محقا في دعواه كسبها لا محالة، على أني أسألك عن أختك سعدى هل تحضر معه أو لا؟
أجاب سعيد: تحضر، فهو لا يمكن تركها وحدها في الريف.
قال همام: أتعجب كيف أنها لم تتزوج إلى الآن؟
قال سعيد: خطبها كثيرون من الشبان، فحصلت أحداث أجلت قبول طلبهم في الوقت الحاضر، وأخصها مسألة الحزن الذي نحن فيه الآن.
قال همام: إن كان الحزن على كريمة عمتك فقد انقضى بمرور خمسة شهور.
قال سعيد: ليس الحداد عليها، بل على خالة لنا في بر الشام، توفيت من عهد قريب، وكانت تكره الرجال كره العمى، حتى لقد حرمتني من إرثها، وأوصت بجميع أموالها لشقيقتي سعدى، فأصبح الآن إيرادها السنوي زائدا عن الأول نحو خمسة عشر ألف فرنك، فإجمالي دخلها السنوي يبلغ خمسة وأربعين ألف فرنك، ولكن لسوء الحظ من الزمان لم تتم لشقيقتي السعادة، فإنها بعد استيلائها على هذا الميراث ابتلاها الله بداء الجدري، وكان متفشيا في الجهات، فاستمرت تقاسي عذابه مدة طويلة، والآن شفيت والحمد لله وزال عنها الخطر، غير أنه قد تخلف في وجهها أثر الداء فشنع منها الوجه، ولا عبرة بذلك فإن الغنى الواسع يستر العيوب، ولا شك أن فؤادا ابن شقيقتك سيدة نادم كل الندم على رفضه الزواج بأختي واغتنام غنيمتها.
قال همام: كنت أنت السبب في رفضه بما قصصت عليه من الحديث بعد شرب الكونياك.
قال سعيد: أتأسف جدا على ما فرط مني وبدر من الكلام، فقد احتال علي ابن أختك فاقتنص أسراري.
قال همام: كنت أظنك صديقا له راغبا في مصاهرته ومناسبته.
قال: كنت ولم أزل صديقه، ويعلم الله أني أتمنى له الزواج بأختي.
قال همام: ليت الأمر ممكن، وبعد فليس في الكون شيء مستحيل، فكلامك على أختك لا يعلمه أحد غيري وغيرك وغيره، وأما شقيقتك فلا تدري منه شيئا، ولم تقطع المخابرة بعد، وغاية ما هنالك فتور حصل في العلاقات، وهو أمر يمكن تلافيه وإصلاحه في كل حال، وقد كانت وفاة عمتك كريمة وخالتك الشامية ومرض شقيقتك من الأسباب الموجبة لتأخير الزفاف، أما الآن وقد صفا الوقت، وهدأ البال، فلا مانع يمنع من استئناف الأمر، وأنت فهيم حاذق، وأنا خبير مجرب، فنتفق معا على تدبير الأسباب لإتمام هذا الزواج وإقناع الطرفين.
قال سعيد: وقد سره وصف همام له بالنباهة والحذق: نعم الرأي رأيك، ونحن قادرون على التدبير، فمرني بما تشاء، فإني مستعد للقيام به.
قال همام: يلزمك أن لا تغير شيئا من معاملتك لفؤاد، وأن تبقى معه على التجمل والوداد، واحذر أن تجالسه في خمارة أو تتناول من يده كأس مدام، أو تخوض في محادثته، فتعطل علينا التدبير، وكذلك يجب أن لا تخبره بشيء مما عزمنا عليه، وأنا سأقابله في هذا اليوم إن شاء الله، وفي غد أخبرك عما يكون قد تم.
قال سعيد: إني وإن كنت راغبا شديدا في هذا الزواج إلا أني أخشى امتناع فؤاد عن قبوله، فإن شقيقتي فضلا عما قام فيها من العيوب قد زادت تشويها بتخلف آثار داء الجدري في وجهها.
قال همام: لم تكن شقيقتك جميلة في البدء حتى يقال إنها أصبحت الآن دميمة، فالقبح مستوف عندها على كل حال، أما الآن فأستأذن منك بالانصراف لأهتم في الأمر حالا، فقد حضرت عربتي، فالمولى يوفق أعمالنا.
قال سعيد: اتكل علي، فإني أعاونك في تدبيرك.
وهنا ودع همام سعيدا، ونهض إلى عربته، فنزل السائق يكلمه قائلا: يا سيدي إني بينما كنت ماشيا في الأمس قريبا من القصر العالي في الطريق المؤدية إلى مصر العتيقة أبصرت فؤادا راكبا جواده الأشقر، فسرت في أثره لأدركه وأسلم عليه، فحانت منه التفاتة فرآني، وجعل يسرع في عدوه فاقتفيته، وظللت سائرا في أثره، فلوى نحوي مغاضبا يزجرني بقوله: أكنت جاسوسا علي تقتفي أثري؟! فوالله لئن رأيتك بعد هذا لأوسعتك ضربا أليما مبرحا، ثم قال: سر في سبيلك، وأخرج من جيبه ريالا رماه إلي، ثم قال: لا ترني وجهك المنحوس بعد هذا، فاضطربت من كلامه، وحرت كيف أصنع، هل أحفظ الريال الذي ألقاه إلي أو أرده إليه، فما أمهلني أن وخز جواده فانطلق به كوميض البرق إلى مصر العتيقة، فغاب عن بصري سريعا.
قال همام: كان الواجب عليك أن لا تقتفي أثره، ففعلك بالحقيقة تجسس أوجب كدره، فاجتنب أمثال هذه الأفعال بعد الآن، وسر بنا إلى منزل شقيقتي فهو غير بعيد، واذهب بعد ذلك إلى البيت، وأعلم السائس بأن يحضر لي حصان الركوب، وأن ينتظرني أمام بيت شقيقتي، فسارت العربة، وصعد همام إلى منزل شقيقته فوجدها وقوفا أمام مائدة كبيرة في حجرة السفرة ترتب المأكولات والحلويات المجلوبة في علب خشبية من دمشق الشام، وكان قصدها أن تقدم من تلك الحلويات هدية إلى رئيسة مدرسة البنات، فتناول همام شيئا من ذلك، فوجده لذيذا جدا، فقال لشقيقته: إن أهل الشام قد تناهوا في إتقان أصناف الحلوى مربيات، وهذا دليل على حسن ذوقهم في المطعوم والمشروب، فإن بلادهم كثيرة الأثمار شهية ومصنوعاتهم لطيفة ودقيقة للغاية، على أني لا أعلم الباعث على تقديم هدية لرئيسة المدرسة على انعدام العلاقات معها.
قالت: معنى ذلك أني أكلف الرئيسة باختيار عروسة لفؤاد من البنات الشابات، وهي مهتمة في ذلك كثيرا، وقد قطعت الأمل من زواج فؤاد بسعدى.
قال: لم أكن أعلم قبل اليوم أن رئيسات المدارس ينظرن في أمثال هذه الأمور، فقد جمعن إذن بين تربية الشابات وتعليمهن وبين النظر في زواجهن، على أني لا أظن أننا نكون في حاجة إلى تدخل هذه الرئيسة في عقد النكاح، فهيا بنا إلى القاعة الكبيرة لأخبرك عن بعض أمور جديدة تجهلينها، فنهضت سيدة معه إلى القاعة، فلما جلست قال لها همام: قابلت اليوم سعيد بن غانم أخا سعدى، وجري بيني وبينه الحديث على أمور لا تخلو من الفائدة.
قالت: وأي فائدة ترجوها من إنسان كسعيد كان السبب في تعطيل ما دبرناه من زواج شقيقته بفؤاد؟
قال: أظن لم يتعطل شيء بعد، وفي الوقت فسحة، وفي استئناف المخابرة محل للأمل بالفوز والنجاح، فإن سعيدا أخبرني بأن والده وشقيقته سيقدمان إلى مصر القاهرة بعد يومين أو ثلاثة، وأن سعدى لم تتزوج بعد، وأن خاطبيها من الشبان كثيرون، ولكنه وقعت بعض أمور أوجبت التأخير لحسن الحظ وموافقة الطالع لنا.
قالت: وما تكون تلك الأمور؟
قال: أولا: موت كريمة، ثانيا: فقد عفيفة ابنتها، فإنه لم يقف لها أحد على أثر، واختلف الناس في شأنها، فقال البعض: إنها ألقت نفسها في النيل فاختنقت بأسفكسيا الغرق.
قالت: هذا رجم ظنون بعيد عن الثبوت، ولا يدخل في وهمي أن تكون الفتاة قد هلكت غرقا، وإنما هي مختفية والله أعلم.
قال: ظهر بعد البحث والتحري أنها قتلت نفسها يقينا؛ بدليل أنها كانت كثيرة التفكير والوجوم، وكانت تحب والدتها شديد المحبة، وآلت على نفسها ألا تبقى حية بعدها، فمن المحتمل أنها تكون قد ضاع رشدها بعد وفاتها، والذي يثبت ذلك أن سعيدا وغانما بحثا مديدا عنها، فعلما أن في الليلة السابقة لوفاة والدتها حضرت فتاة في زيها وقدها ووصفها تطلب زرنيخا من الصيدليات ابتغاء قتل نفسها تسميما، فلما لم يمكنها الحصول على مطلوبها فألقت نفسها في النيل تغريقا.
قالت: كلامك معقول، وقد يكون صحيحا، فأعلمني الآن عن الأسباب الأخرى التي أوجبت تأخير زواج سعدى.
قال: من تلك الأسباب وفاة خالة لها في دمشق الشام، توفيت عن أموال كثيرة أوصت بها جميعا لها، فزاد دخلها السنوي خمسة عشر ألف فرنك.
فابتسمت سيدة عند سماع هذا القول، وعطف همام بقوله: والسبب الأخير في التأخير هو أن سعدى ابتليت بداء الجدري، فلازمت الفراش أياما كثيرة، والحمد لله أنها شفيت، ولكن تخلفت في وجهها بسبب الداء آثار سوداء زادتها قبحا على قبح.
قالت وقد انقبض وجهها لسماع هذا الخبر: إن الفتاة شنيعة دميمة بدون الجدري، فكيف بها الآن؟! ولا شك أن يكون السبب في هذه البلية بخل والدها عليها بالتطعيم في زمن الصغر، قاتل الله أهل البخل إنهم يكفرون بنعم ربهم، فوالله إني يا أخي لأخشى حبوط التدبير فلا يتم زواج ابني بسعدى.
قال: الزواج في الدنيا نصيب، وكل شيء مقدر.
قالت: هل تظن أن غانما يقبل في استئناف المخابرة.
قال: لا ريب في ذلك، فقد علمت أن له في المجالس دعوى منظور فيها، وسيصحب معه ابنته، ومن الضرورة أنه يفتش على خاطب لها، وإلا فلو كانت الدعوة هي السبب الوحيد في حضوره لم يكن موجب لحضور ابنته معه، ولا أراه إلا راغبا في أن يزوجها برجل شريف الأصل كريم الحسب كفؤاد، وأنت راغبة في زواج فؤاد بفتاة كثيرة الغنى كسعدى، وهذه الفتاة تحبه محبة شديدة، وكذلك أخوها سعيد جعل نفسه وفقا لخدمتنا ابتغاء تيسير المشروع.
قالت: كيف نستأنف المخابرة معه، وفي الأمر حطة وتنازل ووضع من قدرنا.
قال: كلى إلي التدبير، فأجتمع به بطريقة يظنها من قبل الصدقة، فإنه لمحبته الفخار يرغب في مرافقتي، فأعزم عليه بالركوب معي في العربة، وأجيء به إليك، ونسوق الحديث في الأمر الذي نبتغيه.
قالت: فهمت إشارتك، والأمر في رأيك هين، فهل يكون مثل ذلك هينا من جهة فؤاد؟
قال: صدقيني، هنا الصعوبة الكلية ولعلنا نبلغ المراد، وفي قصدي أن أقابله اليوم وأعود غدا فأخبرك بما يكون قد تم.
ثم إن هماما نهض ليذهب فشيعته سيدة إلى قرب الباب، وعادت وهي تقول: ليت فؤادا يقتنع، كانت سعدى شنيعة في الأصل، فكيف بها الآن وقد عرتها آفة الجدري؟ فلا شك أنها أصبحت في صورة إبليس اللعين تعاف العين رؤياها.
وكان خادم همام ينتظر قابضا بيده على رسن حصان الركوب، فامتطاه همام قاصدا مصر العتيقة، وفي عزيمته أن ينتظر فؤادا إن لم يقابله، وبينما هو سائر في طريقه رأى راكبا مارا بقربه، فتأمله فإذا هو فؤاد بعينه، فهمز الجواد جريا في أثره حتى أدركه، فجعل يده على كتفه وكلمه مباسطا بقوله: ما تصلح أن تكون من فرسان العرب، فقد جريت على عادة معيبة في الركوب، بأنك تنحرف إلى الأمام، فقد يحصل بذلك خطر عليك، كأن يخطئ الحصان الحركة وقربوس السرج حاد فيولج في صدرك.
فانذعر فؤاد من سماع صوت خاله، فأجاب مبتسما وقد عراه الاحمرار في وجهه: ما كنت متوقعا مقابلتك في هذا المكان، فلعلك تقصد النزهة.
قال همام: ليس إلا النزهة، فتعال نتروح معا.
قال فؤاد: لا يمكنني لسوء الحظ أن أرافقك مديدا، مضطر لزيارة بعض أصحابي قريبا من المكان الذي نحن فيه.
قال همام: نتوجه معا إليه إن لم تجد عارا في مرافقتي.
قال فؤاد: أستغفر الله يا خالي، يحصل لي الفخر، وأزيد شرفا بمرافقتك، على أن صديقي مريض، وقد لا تسرك عيادته، وأخشى أنك تتضايق من ذلك.
قال همام: كفاك شطارة يا فؤاد، فمن أين تعلمت الكذب، وكيف اهتديت إلى الحيل؟ أراك تحاول الهرب مني وتنتحل الأسباب، فما تبرع في حيلتك، فلا شك أنك حديث عهد بهذه الطريقة، فوالله إني أراهن على أنك ناهض في زيارة صديقة لا صديق لك، وبرهاني على ذلك سكناك في مصر العتيقة وترديدك الوفادة إليها يوميا، فلو كان من تزوره أو تعوده صديقا لما كلفت نفسك عناء الركوب في كل يوم إليه، ولو بلغت درجة صداقته ما تبلغ من التمكن، فالمزور امرأة رفيقة لك، وهي في حالة الصحة واعتدال المزاج بدليل أنها مقيمة في مصر العتيقة بعيدا عن وسائل المعالجة، فلا يغمنك اكتشافي أسرارك وخفاياك ومعرفة حقيقة أمرك، ولا تلمني، فأنت تعهدني حر الضمير في نقيض أمك، ولا تزعمن أني ألومك باتخاذ صاحبة لك، فذلك عندي خير من ملابسة العواهر.
قال فؤاد وقد احمر وجهه: لم تصب يا خالي الصواب في قولك، فإني لم أرافق امرأة، وبون بين ما تدعي وبين الحقيقة، وما يحمل بك سوء الظن بي.
قال همام: جرت العادة عند الشبان الإنكار، فينفون عن أنفسهم تهمة مرافقة النساء، فاجتهادهم في تأكيد النفي برهان على ثبوت ما ينسب إليهم، ولا يدخل في ظني أن معشوقتك بكر عذراء.
فلما سمع فؤاد كلام خاله أيقن أنه يجهل حقيقته، فانشرح صدره، وأراد أن يزيده ضلالا على ضلاله، ويخفي عنه أمر عفيفة فقال له: لله درك، ما أشد حذقك وأثقب فراستك! فلا يفوتك شيء، إلا أن لهذه المرأة المعشوقة زوجا سيئ الطباع كثير الغضب شريرا.
قال همام: لئن كان شريرا غضوبا فلن يمنعك شره وغضبه من نوال الإرب وقضاء الوطر، بل قد يكون خبثه داعيا لتمكين المودة بينك وبينها، فبالله عليك أن تخبرني بعض الخبر عن وصيفتك المعشوقة.
قال فؤاد: يكون من سوء الأدب أني أبوح بشيء من ذلك.
قال همام: ما طلبت التعريف عن اسمها وعن أهلها، إنما أسألك مثلا عن عمرها.
قال فؤاد: وما الفائدة من معرفة عمرها؟
قال همام: ستعلمه بعد.
قال فؤاد: نفرض أنه 35 عاما.
قال همام: نفرض ذلك ولا بأس، فهذا هو السن الذي جال في خاطري.
قال فؤاد: أدهشتني يا خالي، إن أمرك لغريب، فأخبرني أي قاعدة حسابية أو هندسية أدت إليك معرفة السن.
قال همام: هدتني إليه الفراسة والخبرة لا الحساب والهندسة، وتذكرت سابق أوقاتي وميول صباي، فقستها على أطوار سنك، فاعلم أني كلفت في زمن الصبا بامرأة تزيد في العمر ستا من السنوات كما تزيدك وصيفتك المعشوقة، ولما تقدمت في السن تغير ذوقي، أصبحت كلفا بحب النواهد الكواعب، أفضلهن على الكبيرات المجاوزات العشرين، ومتى صرت في سني اختلف ذوقك وسرت في مذهبي، فلا ألومك الآن على هواك، فهذا ما كنت أبغيه لك من قديم الزمان.
قال فؤاد: ما أدركت والله معنى حديثك، ولا أعلم كيف أفضل النصف الكبيرة السن على الفتيات الكواعب!
قال همام: سأشرح لك عن ذلك بتفصيل، وإنما أكرر لك القول بأني حر الأفكار أختلف عن والدتك نزعة، فلا أتفق معها إلا على رأي واحد، وهو أن أراك متأهلا في أقرب وقت، ولا بد لك أن تنقاد إلى رأينا.
قال فؤاد: أضعت والله رشدي، فإنك بينما تقول برغبتك في زواجي أسمعك تقول: إنك مسرور من اتخاذي رفيقة ألهو بها، فلا أعلم بأي القولين آخذ! فلعل قولك من قبيل الألغاز يغمض علي فهمه.
قال همام: الأفضل لك أن تتعلق بهوى امرأة متزوجة، على شرط أن تختارها عاقلة نبيهة لتعاوننا على زواجك بمن نبغي.
قال فؤاد: زدتني جهلا على جهل، فأنا على غير هدى مما تقول.
قال همام: في عبارتي إيهام، فاعلم أنك لو أحببت فتاة صغيرة السن فأبلغتها أنك عازم على الزواج لشق عليها الأمر كثيرا، وجعلت في سبيلك الموانع فتهددك بالقطيعة، وتعكر عليك مواردك، وتحقد أيما حقد عليك، وربما ينالك من كيدها ما لا تستطيع معه صبرا، وقد اختبرت الأمر بنفسي، فكلامي عن ثقة ويقين، وقد علمت أن حلاوة البداية في هوى الغيد الكواعب شيء يسير في جانب المرارة التي تعقبها النهاية. أما لو كانت المرأة الرفيقة على درجة مستوفاة في السن، فإنها تكون بالضرورة خبيرة تميز الأشياء فلا تسومك المستحيل، وتعلم حق العلم أن هواك ينقضي سريعا ووشيكا، وأنك لا بد أن تتزوج يوما، فمن أجل ذلك تكف عن ملامتك وتعذيبك.
قال فؤاد: أتظن أن المرأة التي أحبها تقابل زواجي بالارتياح، فلا تنصب إلي الموانع؟
قال همام: ليس هو الظن، بل اليقين، ولا ريب أيضا أنها تسهل الأمر لمرغوبك، لعلمها أن الحب أشبه شيء بالجبل يصعده الساري، فمتى انتهى إلى قمته نزل إلى الوهاد، وإن كانت المرأة المعشوقة عاقلة، وكنت أنت قليل الثروة، أشارت عليك بامرأة غنية تتزوجها، ثم اعلم أن خير الأمور ما جاء معجلا، وتدبر أن فيك الآن الصفات اللازمة للزواج، فأنت شريف النسب، وهذا الأمر لا يعتد به كثيرا في يومنا الحاضر، وأنت جميل الصورة في ريعان الشباب، ولا بد للجمال أن يزول بزواله، فيتجعد منك الجبين وينحني الظهر، وتزول نضارة وجهك، فتفقد الصفات التي تؤهلك للزواج بامرأة تناسبك، فيلزمك إذن التعجيل، وكما قدمت لك القول فإن كانت رفيقتك مخلصة إليك الوداد، فلا بد أنها تدرك قولي، وتشور عليك بمثل شوري، وتؤكد بتعجيل زواجك ابتغاء تحصيل الثروة الواسعة التي لا سعادة بدونها في الكون، ولا تنظر بعد ذلك إلى الجمال، فقد أغناك المال عنه.
قال فؤاد: سبحان الله! ما أراك يا خالي تختار لي إلا النساء القباح.
قال همام: قد اخترت لك ابنة غانم خطيبتك القديمة، فلم أختر لك غيرها، إنها أصبحت الآن في غنى أوسع من الأول، إذ ورثت من عهد قريب عن خالة لها توفيت في دمشق الشام مبلغا يزيد إيراده السنوي على خمسة عشر ألف فرنك.
فعند سماع فؤاد هذا الكلام همز حصانه وهو يقول لخاله: لا تؤاخذني، فقد مضى الوقت، ولا بد لي من القيام بزيارتي التي أخبرتك عنها.
فتبعه همام فلم يدركه، وغاب فؤاد عن بصره، فرجع همام ساخطا، يلعن الساعة التي وهب فيها ابن أخته ذلك الجواد السريع الذي يمتطيه، ثم قال: والله لأنتقمن منه، أو يكون زواجي بأشنع امرأة في الأرض جزاء.
الفصل الحادي عشر
لم يلبث فؤاد أن وصل إلى مصر العتيقة إلى المنزل الذي سبق فاستأجره وأعده لسكنى عفيفة، وكان المنزل صغيرا أمامه حديقة تكاثفت فيها الأشجار، وحوله سور مرتفع من الأحجار، وكان قد مضى على عفيفة في سكنى ذلك البيت خمسة شهور؛ أي من تاريخ وفاة والدتها. وكان باب الحديقة مفتوحا ، فدخله فؤاد قائدا حصانه بيده، وتقدم بعض خطوات، فدنا منه البستاني، وكان رجلا قوي البنية، مرتفع القامة، يناهز الأربعين سنا، وعليه لوائح الهمة والبساطة، فبعد أن حيا بالسلام، استلم من فؤاد رسن الحصان، فسأله فؤاد عن عفيفة، فقال: هي في غاية الصحة يا سيدي، وقد تكدرت من الزوبعة الشديدة التي عصفت في الأمس، فأتلفت أزهار البستان ونثرت أوراقه، وكان الغم أزيد عندي وأعظم.
قال فؤاد: لا بأس، فلا تحزن، فهل لديك شيء آخر تخبرني عنه؟
قال البستاني: أخبرك أن الوقت مختلف يناسب اللصوص الذين دأبهم السطو على البيوت والمزارع، ولكن كن مطمئنا أني ما دمت في عافية وقوة ومعي كلبي وبارودي لم أخف من أحد عدوانا.
قال فؤاد: وهل أنت مواظب على المراقبة في البستان كما أخبرتك؟
قال البستاني: أطوف في البستان مرتين قبل النوم، ثم أعهد المراقبة إلى كلبي، فيقوم بها إلى الصباح، فأنهض من نومي، وأشرع في العمل والزراعة، فتأكد يا سيدي أن سيدتي في مأمن من كل طارق هنا.
قال فؤاد: يكفيك ما تجري من المراقبة ليلا، وأما في النهار فلا تسمح لأحد بالدخول أيا كان، فقد يأتي بعض اللصوص بزي الأفندية وملبوس حسن، فاحترس منهم، ولا تدعهم يدخلون إلى البستان البتة، والآن فعليك أن تأخذ الحصان وتريضه قليلا ثم تربطه في مكان، وتضع له علفا وافيا، وكن منتبها دائما، واجعل وصيتي في قلبك.
ثم إن فؤادا دخل إلى المنزل فاقتربت الخادمة منه فسألها عن سيدتها فقالت: هي في الكشك، أتريد أن أدعوها؟
قال: هل روعت من الزوبعة التي عصفت بالأمس؟
قالت: بلغت بها الروعة الغاية حتى ارتعبت لارتعابها، وذلك فإنها عند اشتداد الريح نهضت من سريرها وفتحت النافذة المشرفة على الخلاء، ووقفت تنظر، فحاولت كثيرا أن أبعدها عن مهاب الرياح، وأن أرجعها إلى سريرها فأبت، وهي تقول: إن استنشاق الهواء ينعشها، فقدمت لها كرسيا جلست عليه ووقفت إلى جانبها، فابتهلت إلى الله بالصلاة الخاشعة، وجعلت تحدثني بقولها: إن هبوب الرياح واشتداد العواصف يذكرها بقدرة الرحمن، فهي جنده القوية تذكر بالفائتين، ثم قالت: فكأنني عند عصوفها أرى المقابر مفتوحة، وأسمع الأموات يستغيثون، فلنصل عليهم خاشعين.
فأجبتها بالإيجاب، وظللت وإياها أصلي حتى استولى علي النعاس فاعتمدت بيدي رأسي، وكان القمر يضيء بأشعته الساطعة، تستره الغيوم ثم تنقشع عنه فيسطع نوره الباهر في الحجرة، فتجهش سيدتي بالبكاء، وتزيد في التضرع والابتهال، وكنت أراها تتقدم أحيانا وقوفا على النافذة، فأخشى عليها السقوط، وأنهض مرعوبة فأقبض على أطراف ثوبها.
قال فؤاد: يالله، كيف أن فكر الموت لا يزال يتردد في بالها، وتساورها الأحزان، وتغالبها الأوهام والتصورات الرائعة، فهي في حالة توجب الغم والكدر؟!
قالت الخادمة متتبعة: وكنت أحاول إجلاسها على الكرسي، فما أبلغ ذلك إلا بغاية المشقة، وكنت أرها تغمض عينيها كأنها تبغي فرارا من رؤية منظر يزعجها ثم تفتحها على الخلاء، وكنت كلما تأملتها في هذه الحالة دخل الرعب قلبي، ولولا فرط حبي لها وشدة إخلاصي لما أمكنني الجلوس معها في حجرة واحدة، وكانت حين أطلب إليها أن تنهض إلى سريرها وتشرد عنها الأفكار فلا تسمع أصوات الرياح العاصفة تقول لي: إنها تتلذذ جدا من سماعها وتطرب للغاية، كأنما قد تهيأ لها أنها أصوات الراقدين وتهاليل نزلاء القبور، فكان يرتعش جسمي من سماع قولها، ويضطرب قلبي أيما اضطراب.
فتنهد فؤاد، وجعل يتوجع لعفيفة ويحزن لحزنها وروعتها، ثم قال للخادمة: تممي حديثك.
قالت: كانت سيدتي تقول لي: إنها تسمع في هزيز الريح رقة صوت أمها وأبيها، وأكثر ما ترجعه الريح صوت أمها لقرب عهدها بالوفاة فتهيج بها الأشجان وتبتل الدموع منحدرة على الخدين، حتى بكيت لبكاها، وما زالت - وزلت كذلك - حتى مضى هزيع من الليل، وكان قد أعياها التعب وأضناها الكلال والبكاء، فأخذت بيدها وأضجعتها على سريرها فغالبها النوم، فما أفاقت من سباته إلا عند الظهيرة.
قال فؤاد: لعلها تتذكر ما حصل منها في الأمس.
قالت: ما أظن أنها تتذكر شيئا، فهي لم تفه بشيء ما في هذا اليوم.
قال: إذن لا تذكريها بشيء، وأنا مسرور منك للغاية، فامكثي في مكانك فإني ذاهب إليها بنفسي، وكان الكشك في وسط الجنينة شبيها بحجرة صغيرة يصعد إليه بثلاث درجات من الخشب، وله نافذة من الجهة الشرقية تطل على سياج البستان، وكان مستدير الشكل يحيط به النبات الأخضر، فيظهر من الخارج كالقبة الخضراء حوله الأشجار قائمة، وبالقرب منه تحت النافذة قناة تجري فيها الماء، وفي داخل الكشك عند النافذة مقعد من الخشب كانت عفيفة جالسة عليه وفي يدها كتاب تقرؤه، إذ دخل فؤاد فتهلل وجهها، وأشرق جبينها فهبت إليه مسرعة، فبادرها بالتحية القلبية، وأجلسها على المقعد جاعلا يده في يدها.
وقال لها: إنه محبور لانشراح صدرها.
قالت: تأخرت في هذا اليوم عني، فانشغل بالي كثيرا، وظللت أفكر وأخمن وأظن الظنون في غيابك، وأسأل نفسي عن السبب في تأخيرك.
قال: هل استعملت الاستخارة للعلم بوقت حضوري؟
قالت: بل كنت أستشير هذا الكتاب فأفتحه على الصدفة فأعد سبعة أسطر من صفحاته على اليمين ثم أقرأ، فإن وجدت الكلام خيرا تباشرت بمجيئك، وإلا تولاني الغم والكدر.
قال فؤاد ضاحكا: أعندك علم الغيب؟
قالت: أنت تهزأ بي، وتزعم أني مصدقة بالاستخارات وضرب الرمل وفتح الورق والمندل والخرافات الأخرى التي من هذا القبيل، المتسلطة على عقول العامة من الناس بمعزل عن العقلاء العارفين بأنها من الأباطيل والمضحكات، فلا يعتبرونها بشيء ولا يعتقدونها إلا شعوذة أو مهمة اتخذها بعض الناس وسيلا للمعاش، أما لو رأيتني أفتح الورق أحيانا فليس إلا على سبيل التسلية في وحدتي.
قال: ما دمت لا تصدقينها فإني لا أصدق الأحلام.
قالت: ولعلك أبصرت في منامك شيئا، فأخبرني عنه لأفسره لك.
قال: أبصرت في المنام كأنك موجعة متكدرة، فرأيتك في اليقظة مسرورة محبورة، فأشكر الله على كذب أحلامي.
قالت: أكان هذا السبب في غمك؟ فإني رأيت على وجهك علامات الكدر في دخولك إلي.
قال: كنت مضطربا خوفا عليك أن أراك متكدرة ومنحرفة المزاج.
قالت: كدرك مجرد الظن أن تراني - كما قلت - موجعة، فوالله إنك لصديق صادق، لا ريب في شهامتك، ولكني أراك بعض الأحيان عابثا واجما فيضعف اعتقادي بمحبتك، ويعروني الكدر الشديد، وكل مناي في الدنيا أن أكون محبوبة لك عزيزة مجبورة الخاطر على فقد الملجأ والسند، ولولا رجائي منك واتكالي عليك واعتقادي بأنك تحبني وتهتم في شأني؛ لفارقت هذه الدنيا، وكفى بالأمل تسلية للحزون، أذهب الله عن قلبك الأكدار، وبلغك الفوز والسعادة.
قال فؤاد: ما هذا الكلام يا عفيفة؟ يعلم الله أني محبك من صميم الفؤاد، ولا شيء في الكون عندي بمعزتك، فقد كدرتني بحديثك.
قالت: في إمكانك أن تجعلني مسرورة دائما أبدا لو تبش في وجهي فلا تعبس، فإني عندما أراك مبتسما يفرح قلبي، وبعكس ذلك إذ أراك عابسا واجما فإني أنقبض، وتعروني الغمة والله يعلم. ثم إنها حولت وجهها عنه، وأذرفت الدموع من شدة التأثر ورقة الإحساس، فزادها الوجد ظرفا وجمالا.
فاندهش فؤاد من رؤية محاسنها البديعة، وتحركت عواطفه نحوها، فجعل يحدث نفسه بقوله: لقد صدقت - والله - أمها حين قالت لي وهي على فراش الوفاة: إن عفيفة ستكون حملا ثقيلا عليك، فها أنا أشاهدها كل يوم وألازمها الساعات الطوال شاعرا بلوعات الهوى، أحبها وتحبني، فأكتم وجدي حتى برح بي الجوى وأضناني الغرام، واشتدت وطأته علي، فأخشى الاحتراق في ناره، فأنا بين أن أهلك أسى وكتمانا وبين أن أبوح لها بحبي، أكاد لا أهتدي سبيلا، وأشفق أني أصرح لها بوجدي فأكون قد خدعتها ونكثت بالأيمان التي حلفتها لوالدتها في ساعة النزاع، وهي يمين معظمة أقوم بها حتى يواريني التراب، وخير لي أن أهلك وأفارق هذه الدنيا من خيانة الأمانة والعهد ونقض الشرف، فهذه الفتاة محرمة علي إلا أن تكون لي زوجة على الحلال، فتتم سعادتي، وأنال من الدنيا جميع ما أشتهي، وأما أن أفسق بها فمعاذ الله من ذلك.
ثم إنه تأمل قليلا في أمر والدته، ماذا تقول إذ يبلغها عزيمته على الزواج بعفيفة؟ هل تقبلها زوجة له على فقرها؟ إذ هي لا تفكر إلا بامرأة غنية، ولا ترى السعادة إلا بالغنى، فتنهد لخطور هذه الخواطر فيه.
فأبصرت ذلك عفيفة وبلغ التنهد أذنيها فقالت: ما بالك تتنهد وأرى علامات الحزن بادية على وجهك؟ فإن كنت أنا السبب في ذلك رجوت منك السماح.
قال: بل أنا أرجو سماحا، فإني بدلا من تسليتك وتعزيتك وتسرية الكرب عنك في وحدتك قد زدتك غما وحزنا.
قالت: لا، بل إنك واجد في أمور تكدرك، ولكنك سيد كريم كتوم لا تريد إخباري لئلا تغمني، وتراني في حضورك هنا حزينة باكية، فتسعى في تعزيتي وتسليتي، وتوبخني أحيانا على فرط حزني، وإن كنت في باطن الأمر تعذرني، فلما حضرت اليوم ووجدتني أبتسم على خلاف عادتي ظننت أن أوجاعي قد زالت وأحزاني قد فترت، وربما توسمت من ذلك نسياني لوالدتي، وهي نصب عيني وأحزاني مستمرة ما بقيت في هذه الحياة الدنيا.
قال: هذا ضرب من اليأس لا يجمل بالعقلاء، فالعاقل من يسلم إلى أحكام الله، ويصبر على المصائب مهما بلغت منه الشدة، فإنه لا راحة في الكون حقيقة ولا سعادة تدوم، وكل شيء زائل باطل، وكل بداية ولها نهاية، ولا يدوم غير وجه الله الكريم.
قالت: الصبر كلمة لا تجول في خاطري البتة والسلوان لا أعرفه، وليس لي غير البكاء سمير، فلأبكين والدتي - كما بكيتها يوم وفاتها - حتى تزهق روحي، وإن كان خمودا في أحزاني، فإن ذلك الخمود يعقب شدة تذر ما قبلها.
وهنا انهملت الدموع من عين عفيفة، وكثر اضطرابها واصفرار وجهها، فانفطر قلب فؤاد لرؤيتها، فقال لها: هوني عليك يا عزيزتي، وسكني البال، فليس يخفى علي كثير محبتك لوالدتك، وفرط حزنك عليها، وأنك تذكرينها على الدوام.
قالت: أتعلم السبب في رؤيتي متهللة في هذا اليوم، فذلك أني رأيت في المنام والدتي وسمعتها تناديني. ثم إن عفيفة جعلت تمرر يدها على جبينها لتجمع شتات أفكارها، وتتذكر ما رأت في الحلم، وقالت: حقا إني رأيت في الأمس أمرا شديد الغرابة، أثر على قلبي تأثيرا كثيرا، رأيت كأني في برية، فهبت زوبعة أتلفت الأزهار وطبقت الأكوان.
قال: ما أظنه حلما، كان عيانا.
قالت: قد بلغ بي الاضطراب مما رأيت حتى غبت عن رشدي، ولا يزال بي بعض الشدة من تأثيره.
وبينما كانت عفيفة تتكلم، قرع جرس المنزل، فأقبل البستاني يخبر بأن هماما واقف، فلم يكمل حديثه حتى قرع الجرس ثانية، فقال البستاني: إن قرعه لثالث مرة كسره لا محالة.
قال فؤاد: اذهب إلى عملك، ولا تفتح لأحد أيا كان، ثم قال له: مؤكد أن القارع هو خالي همام.
قال: نعم يا سيدي، فإني عرفته حق المعرفة، وقد صعدت من برهة وجيزة على شجرة لأقطع بعض أغصانها فرأيته مقبلا يدخل من بيت إلى بيت، فلا يمكث أن يخرج وعليه علامات الكدر، فكأنه يبحث عن شيء فلا يجده، ولعله يسأل عن منزل للأجرة.
ولما نطق البستاني بما نطق عاد إلى عمله، أما عفيفة فكانت جالسة في مكانها لا تتحرك، وعلى وجهها الشحوب، وكانت تشعر بانقباض وانكماش زائدين، فقال لها فؤاد: ما بالك يا عفيفي متغيرة، أراك مرعوبة ولونك شاحبا؟
قالت: ظننت القادم علينا خليلا زوج والدتي المرحومة.
قال: جاء ظنك في غير محله، كيف تتصورين أنه يدري بمكانك هنا؟
قالت: قد تقوده الصدفة كما قادت خالك إلينا.
على أن فؤادا علم أن حضور همام خاله لم يكن بطريق الصدفة كما ظنت عفيفة، بل إنه حضر للتفتيش عليه عمدا، فكتم ذلك عن محبوبته؛ لئلا يشتد اضطرابها، ويزيد انشغال بالها، وجعل يسكن قلبها، ويبرهن لها أن من المستحيل على خليل الاهتداء إلى عزلتها، ويؤكد لها أنه قد نسيها، فلا تخطر في باله، وما زال حتى سكن روعها، ثم استأذنها بالانصراف قائلا: إني وعدت والدتي بأن أقابلها في الساعة السادسة لحاجة ضرورية جدا، فلا يمكني أن أتخلف عن موعدي.
قالت: آن الأوان، فاذهب إليها. ثم نظرت إلى السماء وقالت: ربي متى أذهب للقيا والدتي؟
قال فؤاد: هلا تزيلين من عقلك هذه الأفكار المضنية، وتنفين عنك الأكدار؟
قالت: أجد بعض التعزية بأكداري، فلا أستطيع العدول عنها.
قال: إنك لا تعدلين عنها ابتغاء تكديري وغمي، فبالله عليك يا عفيفة أن ترحمي نفسك، فلا تظلميها، وسكني البال شفقة علي، ولا تقنطي من رحمة الله، إن بعد العسر يسرا، والله مولى الفرج القريب، وهو مجيب الدعاء، وكان فؤاد قد نطق بهذه الكلمات الأخيرة بصوت فيه رنة الحنان والمحبة.
فقالت عفيفة وقد تبسمت: أجاب الله دعاءك، وبلغت مأمولك، فأنت جدير بكل نعمة، والله يجزي المتفضلين خيرا، فاذهب يا حبيبي إلى والدتك، فهي في انتظارك، وما يحسن بك الإبطاء عن مقابلتها، وأرجوك أن لا تتأخر عن زيارتي في الغد، فأنت تعزيتي الوحيدة وسلوتي الأكيدة، لا أسكن إلا برؤياك ولا أطمئن إلا بوجودك، ولا يطيب عيشي إلا بقربك، اذهب ودعني أتقلب على جمر الأفكار مضطربة حتى تعود.
فقام فؤاد ورافقته عفيفة إلى باب البستان تودعه، وقلب كل منهما ينفطر من الفراق، وكان فؤاد قد غالب الوجد، وأصغى إلى حديث الشرف، فكبح سلطان الشهوة وفصل عن حبيبته، وهو لا يعلمها بحقيقة هيامه، وما يقاسيه من خمسة أشهر من عذاب حبها.
الفصل الثاني عشر
نهض همام في اليوم التالي وعلى وجهه علامات الغم والكدر، يتذكر ما جرى بينه وبين فؤاد في الأمس، فيحتدم غيظا، ويناجي نفسه بالانتقام. ففي الساعة العاشرة صباحا لبس ثيابه قاصدا حديقة الأزبكية يتنزه ويأكل طعامه في فندقها، لعله يزيل الأكدار عن باله، فجعل يدور حول البحيرة مديدا، ثم جلس على مقعد وأشعل سيجارة يدخنها متنشقا النسيم الرطب مارا على وجه الماء، ثم نهض عند الظهر ليأكل، فتناول من الطعام ما اشتهت نفسه بقابلية. ولم يتم غداه حتى حضر سعيد بن غانم، فجلس على مائدة إلى جانبه غير متنبه إليه، ففي جلوسه قال للغلام القائم في الخدمة: هذا الكرسي لصاحب لي يأكل معي، ثم إنه التفت فرأى هماما فحياه وسأله عن فؤاد، فقال له: هو بخير، وقد قابلته أمس فلم أخض في محادثته، ولم يتيسر لي إجراء الحديث بحضرة الناس فيما اتفقنا عليه، على أني أقابله في هذا اليوم، وغدا أخبرك عما يكون قد تم. وقد كان كلام همام تزويقا، فأظهر على نفسه الرضا وهو غضبان ساخط؛ لئلا ينعكس عليه المراد.
قال سعيد: لا بأس تكلمه اليوم أو غدا على أنني أسالك عنه: هل يقيم في بيته بعد الظهر؟
قال همام: المظنون عندي أنه يخرج للنزهة بعد الظهر، ثم إني أسألك في نوبتي عن الصاحب الذي تنتظره من هو؟
قال سعيد: لعلك تعرفه، فهو خليل زوج المرحومة عمتي، فقد التزم الحزن ولبس السواد، في قلبه الكدر الشديد والمرارة الزائدة.
قال همام: أمر عجيب، كان عهدي بهذا الرجل مبغضا زوجته يعذبها أشد العذاب ويمقتها كثيرا، فكيف انقلب بغضه محبة، وكان والدك يقول عليه الأقوال المبينة؟!
قال سعيد: لا تصدق كل ما يقال، فأكثر القول باطل، ولا تعول على ذم والدي له فهو يكرهه، وإلا فهل تعقل أن إنسانا يكره امرأته في حال حياتها، ثم يحزن عليها كل هذا الحزن بعد وفاتها ويبكيها الأشهر الطويلة؟! هكذا فوالله إني حينما أراه يذكرها أظنه قد فقد الشعور، وأخاله قد جن من شدة الحزن والغم.
وبينما كان همام وسعيد يتخاطبان دخل خليل، فجلس على المائدة تجاه سعيد وعليه ملابس الحزن السوداء، وعلى وجهه علامات الأسف فتأمله همام، وتوجع له ورثى لحاله، وحضر الطعام فأكل خليل شيئا كثيرا مما قدم له، والتزم السكوت فلم يفه بكلمة، فجعل سعيد يومي إلى همام ليذكره بحديثه عن حزن خليل على امرأته المتوفاة، ثم كلمه بقوله: انظر إنه من شدة حزنه عليها بنى لها ضريحا جميلا من الرخام منقوشا عليه الرسوم الحسنة الدقيقة.
قال همام: رأيته منذ ثمانية أيام فوجدته متقنا للغاية، يدل على حذق وبراعة صانعه.
قال سعيد: لعلك تتردد على المقابر كما يفعل بعض الناس الذين يقصدونها للفرجة أو النزهة أو التسلية بقراءة التواريخ المنقوشة.
قال همام: ما أكره - والله - شيئا كرهي مشاهدة القرافات، وإني لأستخف عقول الذين يقصدونها للنزهة، فيصرفون اليوم أو اليومين أو الثلاثة قياما بين القبور، تزكم أنوفهم الروائح الخبيثة المنبعثة من الرمم البالية، والعقلاء يجتنبون ما أمكن زيارة هذه الأماكن، فلا يأتونها إلا بحكم الضرورة كما حصل لي من ثمانية أيام، إذ توفي أحد الأصحاب الأعزاء فالتزمت مرافقة جنازته إلى القرافة، وهناك وقع نظري على قبر المرحومة عمتك، فاندهشت من إتقان بنائه ورقة حفره ونقشه، وتعجبت من أكاليل الزهور والنضرة التي فوقه، فكأنما هناك قوم مخصصون لخدمته.
وكان خليل في أثناء هذه المحادثة يتناول طعامه باشتهاء غير مكترث بما يسمع من القول حتى كأنه لا يعرف الفقيدة، فلو تأمله المتأمل في تلك الحالة لعلم يقينا أن حزنه ولبسه السواد إنما هو على شخص آخر غير شخص امرأته، ولكنه إذ سمع هماما يتكلم على ما فوق الضريح من الزهور هاج واضطرب، وصاح بصوت عال أوجب انصراف الأنظار إليه قائلا: أعلى الضريح زهور؟ إذن هي لم تمت، هي حية تعتني بالقبر، وتأتيه بالزهور.
قال سعيد وقد ظنه مختل الشعور: من تعني بقولك لم تمت ... أكريمة امرأتك أم غيرها؟
فصرخ خليل قائلا: ليس المراد امرأتي فقد توفيت يقينا، إنما عنيت ابنتها عفيفة، فعليها لبست السواد ولازمت الأحزان ومزيد الأسف، وقد أدركت أنها الآن حية، فزال اليأس من قلبي، وحل الأمل محله، وإلا فلا يحتمل أن أحدا خلافها يأتي بالزهور إلى قبر والدتها. وعندما قال هذا ذهب مسرعا قبل أن يفرغ من طعامه، وكان اليوم يوم السبت، وخرج على عجلة فركب أول عربة وجدها، وقال للسائق: اذهب بي إلى مقبرة الإفرنج في مصر العتيقة.
وكان من عادة عفيفة أنها تحضر مع فؤاد كل يوم سبت لزيارة قبر والدتها، فتحضر معها أكاليل من الزهور تصنعها بيديها فتجعلها على الضريح، وكانت كلما حضرت تتأسف لبناء الضريح على نفقة خليل، وتتعجب من إقدامه على ذلك مع أنه كان يكره زوجته شديدا، وكان من عادتها أيضا أن تلبس السواد كلما حضرت، وحين وصولها تركع على الركبتين مصلية مبتهلة إلى الله في الدعاء، ويقف فؤاد إلى جانبها، ويداه مضمومتان بغاية الخشوع والورع.
سارت عربة خليل فوصل إلى القرافة قبل قدوم عفيفة، وبعد برهة من الزمن أبصرها مقبلة مع فؤاد، فخفق فؤاده، فتوارى وراء بعض الأضرحة، فجعل يحدق بهما حينا ويختفي حينا لتسكين روعه، واستمرت عفيفة في صلاتها مديدا فوق عادتها لزيادة التأثير عليها في ذلك اليوم وشدة الحزن عندها، وكانت تذرف الدموع الغزيرة، وما زالت كذلك حتى مال رأسها من الألم، فاستندت على حائط القبر، فخشى فؤاد أن يغمى عليها، فتقدم ليمسكها فيمنعها عن السقوط، وإذا بكف قوية قبضت على يده ودفعته إلى الخلف، وقائل يقول: ويك إن لمستها فأنت مقتول. فرفع فؤاد بصره فرأى خليلا يزأر كالوحش الضاري الكاسر، فانذعر ولبث مبهوتا لا يعلم كيف يصنع. وكانت عفيفة قد وقعت مغمى عليها فاقدة الحس والحركة، فثار خاطر فؤاد عند رؤيتها، ولم يستطع ضبط نفسه، فتقدم لينهضها، فبادره خليل بالشتم، وأخرج من زناره خنجرا ماضيا يلمع كالبرق، وهجم عليه، فتأخر فؤاد، ولحقه خليل شاهرا الخنجر، وإذا بضربة شديدة وقعت على قبضة يده فرمت الخنجر، وسمع صوت قائل يقول: إن تحركت من مكانك هلكت لا محالة، وكان الفاعل همام، فإنه بعد أن فعل ما تقدم ذكره، وقف منتصبا بين الخصمين وقال يوبخهما: تتضاربان في هذا المكان ولا تخجلان، فأي فرق بينكما وبين الوحوش الكواسر، ثم إنه التفت يمينا فأبصر عفيفة ملقاة على الأرض مغمى عليها فأدرك سر المسألة، وقال: علمت الآن السبب، فعلينا أولا أن نتدارك أمر هذه الفتاة قبل أن تهلك إغماء، وإذ قال ذلك تلفت إلى سعيد، وكان قد جاء برفقته، فوقف بعيدا وراء شجرة. إذ رأى فؤادا وخليلا يتقاتلان، فقال له همام: ويك من جبان تجشمني الحضور ثم تتخلف عني، حقا إنك لا تصلح إلا لمعاقرة الخمور وملازمة مجلس الغيد الأوانس، فأسرع فلعلك تجد قليلا من الماء ترشه على وجه هذه الفتاة قبل أن يطول عليها الإغماء فتهلك، فذهب سعيد لجلب الماء، وتناول همام الخنجر من الأرض فجعله في حرزه، وكان سعيد أتي بالماء فجعل همام يرش على وجه عفيفة حتى أفاقت، فلما فتحت عينها ورأت خليلا كاد يغمى عليها ثانية، لولا أن هماما بادر إلى ملاطفتها وتسكين روعها فاستأنست به، وناولها الماء فشربت، وعاد إليها حسها وشعورها، فوقفت ونظرت شزرا إلى خليل تخاطبه بقولها: ما عساك أتيت تفعل في هذا المكان المقدس أيها القاتل الظلوم؟
قال: جئت للصلاة على زوجتي المرحومة.
قالت: أتجسر أيها العاتي الشرير أن تلفظ اسم والدتي بفمك المرجوس، ولا تخشى الأرض تنفتح فتبلعك، وتنقض الصواعق من فوقك فتطحن منك العظام؟!
فنظر إليها خليل نظر اليائس المستغيث، ووقع على قدميها ضارعا مستغفرا وقال لها: عفوا ومرحمة فإن كنت قد حملت إثما أو جنيت ذنبا فإني طالب الغفران، وكان الاصفرار قد صبغ وجهه والاضطراب قد أوهن قوته شأن المحبين المتيمين حين يقابلون محبوبا.
فقالت له عفيفة: تطلب مني غفرانا، وأنت جدير لطلبه من والدتي بما جنيت عليها، فمنها وحدها يجب الاستسماح، أيها الشقي الفاجر إن والدتي راقدة في القبر قد أنقذها الله من جورك وعدوانك، وجعل مقرها النعيم حيث لا كدر ولا انتقام على أني أجاوبك بما تستحق، فلتكن ملعونا إلى آخر فسحة من حياتك جزاء عما اعتديت وافتريت. ثم إن عفيفة أقبلت نحو فؤاد، وأخذته من يده وقالت: هلم بنا من هذا المكان فإني لا أستطيع المكوث فيه ولا رؤية هذا الغدار القاتل، فإنها تجدد أوجاعي وأحزاني وتثير همومي وأكداري، فما انتصب خليل وتقدم نحوها ابتغاء منعها عن الذهاب وقال لها: كلا لا أدعك تخرجين مع هذا الرجل.
فاعترضه همام وقال: حسبك أيها الرجل كفرا وعنادا، إن السيدة في زمام ابن أختي برضاها وخاطرها، فليس لك أو لغيرك منعها عن فعل ما تشاء، فلها الرأي وحدها.
فقالت عفيفة: الرأي لوالدتي، فإنها في ساعة النزاع سلمتني إلى هذا الشاب الكريم العزيز النفس، وهو عضدي الوحيد، وهو صديقي وأخي، لا يفرقني عنه أحد.
فقال همام لخليل: قد سمعت قولها، فليس من سبيل لك عليها. ثم إنه التفت إلى فؤاد يأمره بالانصراف، وعاد خليل يحذره التعرض له بقوله: إن تحركت من مكانك أخمدت أنفاسك بهذه الحربة. وكانت الحربة مهيأة بعصا تفتح ثم تقفل، فانطلق مع عفيفة، وخليل ينظر إليهما بوجل وعقله يكاد أن يطير من رأسه من شدة الغيظ والغضب، وحاول أن يلحق بهما فلم يستطع ذلك، فإن هماما كان يمنعه عن الانصراف حتى غاب ابن أخته والفتاة عن الأبصار، فناوله حينئذ خنجره وقال له: لا مانع من ذهابك الآن، وسأنظر في أمر هذه الفتاة فإن كانت لك حقوق عليها أوجبتها لك، وإلا فقد أخذت نصيبك، فصرخ خليل صرخة الحاقد المريد ورفع الخنجر شاهرا بيده وهو يقول: لا بد لي من أخذ الثأر.
الفصل الثالث عشر
بعد أن سار سعيد وخليل، ركب همام عربة وأشار إلى السائق بأن يتوجه إلى منزل شقيقته، وكان منزعجا مما شاهد، فلما وصل دخل البيت فوجده مرتبا نظيفا والسلالم مفروشة بالأبسطة، فظل داخلا إلى الحجرة التي اعتاد أن يجلس فيها، فرأى شقيقته جالسة على كرسي مزينة بأبهى الملبوس وأفخره، فلما رأته هرعت لاستقباله مبتسمة، وبادرته بالتحية والإكرام، وقالت: إني في انتظارك كما ترى، قد استعددت لكل شيء، وقضيت هذا اليوم في التجهيز منذ الصباح، ولم أفرغ من العمل إلا من نصف ساعة، فلبست ثيابي على عجل تشوقا لحضورك، جعل الله يومنا مباركا والخاتمة خيرا.
قال همام: ولمن هذا الاهتمام واحتمال العناء؟
قالت: لاستقبال صاحبك غانم، فإنك أخبرتني بعزيمته على زيارتنا في هذا اليوم.
قال: عوضك الله عن أتعابك خيرا، فقد بطل التدبير.
قالت وقد اضطربت: كيف هذا؟ وماذا وقع من الأمور؟
قال: ألا تذكرين قولي الذي فهت به من نحو خمسة أشهر؟
قالت: لا، وماذا قلت؟
قال: ألم ألمك على التربية التي نشأ فؤاد عليها وذممتها لخروجها عند حد الصواب والاعتدال؟ فقد بالغت في التضييق عليه، وبدلا من منحه قليلا من الحرية كما يجب لكل فتى في سنه، زجرته وتحكمت فيه، ومنعته الاستقلال في ميله وعواطفه، وضغطت عليه شديدا فصيرته في حالة سيئة العاقبة، ألا تتذكرين إذ شبهته بآلة بخارية يشتد عليها الضغط فتنفجر فيها؟ قد رأيت الآن مصداق قولي، ووقع ما كنت أخشى وقوعه وانفجرت الآلة.
قالت: تكلمني بالأمثال والأحاجي، فبالله عليك صرح عن مرادك، فقد أقلقت بالي.
قال: جلية الأمر أن فؤادا اتخذ له رفيقة.
فانذعرت سيدة عند سماع هذا الكلام، واصفر لونها واضطرب منها الجسم، فأمالت رأسها على مسند الكرسي وقالت: ويلاه، ماذا أسمع؟ اتخذ فؤاد له رفيقة؟
قال همام: نعم، وأتى عليه في مرافقتها خمسة شهور.
قالت: أشعر كأن النار اضطرمت في قلبي، فانظر يا أخي كم يحول من المصاعب بين فؤاد وبين الزواج بسعدى.
قال: لا شك أنه يكدرك - وأنت امرأة متعبدة - سماع مثل هذه الأخبار عن ابنك، وبالنسبة لي فإني لا أراه مخطئا بما يفعل.
قالت: لم أسألك عن رأيك، وإنما أرغب أن تعلمني كيف دريت أنه مرافق؟ ومن أدراك ذلك؟
قال: علمت ذلك من بعض الإخوان تلميحا، فلم أصدقهم حتى شاهدت الأمر عيانا، فقد رأيت فؤادا يذهب في كل يوم إلى رفيقته، فيقضي عندها الساعات الطويلة متمتعا في قربها وأنسها في منزل اتخذه لها في مصر العتيقة، ولا بد أن أعرفه.
قالت: هو مرافق من خمسة شهور، وأنا لا أعلم، فيا رب ما هذا؟ وكيف يستطيع قلب والدة حمل هم كهذا؟!
قال: هذا الأمر عظيم عند من كان ورعا تقيا نظيرك، على أن ما يزيد الأمر ارتباكا وبلبالا هو أن الصاحبة صغيرة السن، بهية المحيا، مشرقة الوجه سيجد المرء من فراقها، أما لو كانت كبيرة السن فإنها تدرك أن رفيقها سيتركها يوما من الأيام، ويتزوج بفتاة تناسبه سنا وتهذيبا ومقاما وثروة، فلا تمنعه إن رام الانفصال عنها، بل تحرص على صحبته، وتحفظ له الوداد، ولا سيما حين يبلغها أنه اتخذ سعدى زوجة له، وهي ذات غنى كثير، ولكن جرت الريح بما لا يلائم، فانظري وتفكري فلعلك تعرفين الرفيقة.
قالت: من لي بعلم الغيب؟ وأنى لي أن أتفكر أو أملك رشدي؟
قال: الفتاة عفيفة بنت كريمة شقيقة غانم التي شاع خبر موتها من نحو خمسة شهور.
قالت وقد ازداد اضطرابها واصفرار وجهها: هل عفيفة حية حقا؟
قال: نعم، وإليك تمام القصة التي وقفت عليها ... وجعل يخبرها بجميع ما جرى في ذلك اليوم من حين دخوله إلى حديقة الأزبكية إلى ساعة رجوعه من مصر العتيقة، ولما فرغ من روايته قال: وأرى النتيجة من هذه القصة أن فؤادا مرافق عفيفة من خمسة أشهر، وأنه كلف بحبها وهي تحبه، وقد أبصرتها على جمال مفرط وبهاء، فلا يدخل في تصوري أنه يهجرها ابتغاء الزواج بغيرها لو عرضت له الدنيا بحذافيرها.
فنهضت سيدة على القدمين وقد انزعجت، وأخذت تتمشى في الحجرة شمالا ويمينا وتناجي نفسها بقولها: لا بد لي من تذليل المصاعب وبالرغم أن زواجه بسعدى فهو نصيب لن يفوته البتة، ولا بد لي من إبعاد صاحبته عفيفة، ولي القدرة على ذلك. ثم التفتت إلى أخيها همام، وقالت له: أشكرك كثيرا على ما أخبرتني وكشفت من الأمور، وفي الوقت سعة لإنقاذ فؤاد من هوى عفيفة، فإن واجباتي الوالدية تجبرني على القيام بهذا الأمر، والفائدة عائدة إلي فؤاد لا إلي، فأرجوك أن تحفظ كلامي في سرك، فلا تتدخل بعد الآن في هذه المسألة، ودعني أنا أدبر وحدي.
قال: بالحق نطقت، فقد - والله - أتعبتني هذه المسألة جدا وأقلقت راحتي، فلن أهتم بها الآن، على أني لا أرى فائدة من حضور غانم إليك بعد هذا الذي جرى.
قالت: لا مانع من حضوره، ثق بي، فإني أحسن التدبير، أقطع بيد وأصل بأخرى.
قال: لا شك عندي في قدرتك وإقدامك على عظيم الأمور، أنجح الله مسعاك وجعل الختام خيرا.
ثم إن هماما لبث عند أخته برهة من الزمان ثم خرج إلى حال سبيله.
الفصل الرابع عشر
لبثت سيدة في مكانها بعد خروج أخيها وبالها مضطرب وفي النفس انقباض، وقد حارت من معاكسة الزمان لها، فاستدعت الخادم وقالت: إن جاء أحد يسأل عني فأخبره أني غائبة، ولا تدخل علي غير ابني فؤاد، وقد صادف أن ابنها فؤادا غاب تلك الليلة، فلم يحضر في ميعاده فزاد قلقها، وجعلت ترجم الظنون، واستولت عليها الأفكار واضطراب البال حتى قرعت الساعة إحدى عشرة، فجاء الخادم بخبر قدوم فؤاد، فسكن اضطرابها قليلا، فلما دخل عليها بادرته بالعتاب قائلة: لماذا تأخرت يا ولدي عن ميعادك؟ فقد أقلقت بالي وكدرت راحتي، أخبرني أين كنت؟ وماذا عملت؟
قال: ذهبت مع بعض الخلان إلى النزهة، فلم يمكني مفارقتهم.
قالت: من علمك الكذب يا فؤاد، وأنت تخفي عني الحقيقة، وتقص علي القصص الملفقة، وهذه أول مرة سمعتك تنطق بالكذب، فوالله إني لأفضل لنفسي الموت من أن أراك متخلقا بهذه الأطوار، ولا شيء عندي مثل الكذب يشين صاحبه، ويضع من مقداره، ويجعله سخرية بين الناس، فوصيتي إليك يا ولدي العزيز أن تجتنبه، وبعد فإني قابلت خالك هماما، فقص علي قصتك تماما، ولم يكتم عني شيئا.
قال فؤاد: إن خالي لا يعلم قصتي، فإن شئت رويت لك الحقيقة.
قالت: ما أجدني في حاجة إلى قصتك، وقد عرفت كل شيء والفضل لخالك بأنه أخبرني عما وقع لك، فقد خدمك خدمة تذكر، يجب عليك شكرها مدى الدوام.
قال: أشكره معروفه حين أعرفه.
قالت: أخبرني عنك بأنك قد اتخذت صاحبة.
قال: لا أعلم المعنى الذي يقصده بالمصاحبة، فإن كانت المرافقة البسيطة والمحبة الخالصة المنزهة عن الشوائب والعيب فقد أصاب وله المنة والفضل، وإن كان العكس فالرواية مختلفة والملام باطل وبعيد عن الحق. نعم، إن الفتاة مالكة قلبي ومستولية على عقلي وروحي، وكان في عزيمتي أن أخبرك عنها، وحاولت مرارا كثيرة أن أتكلم، فكنت أفتح فمي فيقف الكلام عند شفتي، فأطبقه مخافة أن أكدرك، وأما الآن وقد علمت ببعض الشيء، فلا مانع من أن أعترف لك بالحقيقة تماما. ثم إن فؤادا جعل يقص على والدته قصته من البداية إلى النهاية؛ أي من وقت معرفة عفيفة إلى انتهاء المشاجرة التي وقعت بينه وبين خليل في القرافة.
وكانت أمه تسمع حديثه منزعجة، وأفكارها تشتغل في استنباط الحيل للتفريق بينه وبين محبوبته، وفي نفسها الأمل بنجاح تدبيرها، فقالت له: أثر علي يا فؤاد حديثك جدا، وأرى قصتك غريبة للغاية، ولا شك أن خالك لم يصب في قوله، وقد توهم على غير صحة أنك ترافق امرأة فاسدة الأخلاق من بنات الهوى، فساءني الأمر كثيرا، أما الآن وقد علمت الحقيقة، وأيقنت أن رفيقتك مهذبة حسنة الأخلاق جيدة التربية، فقد انشرح صدري وزال كدري.
فابتهج قلب فؤاد من كلام والدته، فجعل يشكرها ويثني عليها، ويتأسف كيف لم يخبرها بقصته قبل الآن، وكان كلما ذكر اسم عفيفة يطنب في الوصف والمديح.
فقالت له سيدة: صفها بما شئت، فقل: إنها جديرة بالكمالات الإنسانية، وإنها ملك كريم، ولكنها أحلت نفسها محل الظنون، فكيف تنفي الريبة عنها إن رجمها الناس بالظنون؟! فقد يصعب عليهم التصديق مثلا بأن شابا في سنك يرافق فتاة بلغت الثامنة عشرة من العمر، يصرف معها الأوقات الطويلة، وهو ملتزم جانب الأدب والطهارة، فإن كنت مخلصا لها يقينا، ويهمك حفظ شرفها وصون عرضها من اللوم، فعليك أن تخرجها من محل الريبة.
قال: يعلم الله أنها عندي بمعزة الروح أحافظ على شرفها محافظتي على شرفي، فأرجوك يا أماه أن تعاونيني في الأمر الذي تستحسنينه.
قالت: اجعلني ولية عليها، آخذها في ضمانتي وحمايتي؛ فتنقطع الألسن عن اللوم، وتسقط الحبيبة في أعينهم.
فلما سمع فؤاد هذا القول أشرق وجهه فقال لأمه: جزاك الله خيرا، فهذا ما كنت أريد أن أطلبه منك، قد قلدتيني نعمة أحفظها ما بقيت حيا.
قالت: إن ما ذكرت لهذه الفتاة من المناقب الجليلة والمزايا الجميلة أمال قلبي إليها قبل رؤيتها، فعليك أن تحضرها إلي غدا أجعلها كابنتي في بيتي، أكرم مثواها وأرفع منزلتها، وهكذا يسلم عرضها من اللوم، ويحفظ شرفك بين الناس من الأذى، ثم نهضت إلى حجرتها، وهي تؤكد عليه بإحضار الفتاة في الغد.
فانفصل عنها فؤاد مقبلا يديها شاكرا لطفها بقوله: جعلتني أماه غريق بحر أفضالك، فأنت قدوة الأمهات الصالحات، ومنك يتعلمن الرقة والحنان، فلك العهد علي باتباع شورك وامتثال نصيحتك والسعي في مرضاتك، وأرى تمام سعادتي بسماعك تقولين لي: هناك الله بعفيفة، وتكونين قد أحببتها ورضيتها لي زوجة.
فدخلت سيدة إلى حجرتها، واتكأت على مقعد شاخصة إلى العلا، وتنفست الصعداء وقالت مستغفرة: اللهم عفوا عما أتيت في هذا اليوم من المنكر، فقد كذبت على فؤاد وخدعته بقولي: إني راضية عن عفيفة، وإني أحبها وأشتاق رؤياها ، والأمر بالعكس، والغاية أني أريد أن أفرق بينهما، ولكنه لسلامة قلبه وصفاء نيته انخدع لقولي، واعتقد بخلوص طويتي، فأنت أيها العالم بخفايا القلوب اغفر لي خطيئتي، وتجاوز عما اقترفت، فقد قيل: إن نبل الغاية يبرر الوسيلة، وغايتي حميدة ألا وهي سعادة ولدي بزواجه بسعدى الفتاة الغنية وبعده عن عفيفة، لأبعد عنه الشقاوة والتعاسة، ثم أنشدت هذين البيتين قائلة:
يا واسع اللطف قد قدمت معذرتي
إن كان يغني عن التفصيل إجمال
أصبحت بين يديك اليوم مغفلة
ولي بنفسي عن الأغيار إشغال
فجد علي ولاطفني بعفوك عن
ذنبي فشأنك إنعام وإفضال
الفصل الخامس عشر
انطلق في ثاني يوم همام إلى الفندق الشرقي في أول النهار، فسأل مستفهما عن غانم، فأجيب أنه قدم من السفر، وأنه على أهبة الخروج، فجعل همام يتمشى على الرصيف حتى خرج، فصافحه وسلم عليه سلام الأحباء المشتاقين، ثم سأل غانم هماما عن ابنه سعيد، فأجابه همام: إنه في صحة جيدة، ويزورني من حين إلى حين.
قال غانم: ما أكتمك الحقيقة، فهذا الولد قد أتعب سري وحملني النكد، فلا شك أنه إذا استمر على سلوكه المذموم قصر أجلي وأماتني كمدا وغما، فقد بدد ثروته، وفي نفسه أن يبدد ثروتي، فوالله لن أترك له قرشا واحدا من أموالي يتمتع به بعد مماتي.
قال همام: للشباب حقوق يستوفيها، ويجب على الوالد أن يكون واسع الأناة بصيرا حكيما في تربية الأبناء، فلا يصح حرمانه إياهم من ميراثهم لمخالفتهم رأيه وطريقته.
قال غانم: إن سعيدا أسرف إلى درجة لم يسبقه إليها سابق، فلست أرجو الخير منه، ولذلك صممت على حرمانه من الميراث، وأن أجعل جميع الأملاك والأرزاق لسعدى ابنتي، بحيث تبلغ ثروتها مبلغا جسيما فتتزوج برجل حسيب شريف عظيم المقام، والخاطبون كثيرون يهتمون رضاها والزواج بها.
قال همام: كيف صحتها؟
قال غانم: اعتراها من بضعة شهور داء الجدري، فشفيت منه بعناية الله، غير أنه تخلف في وجهها تجاويف سوداء بقدر حبة العدس، فترى وجهها أحمر اللون.
قال همام: إن احمرار اللون لا شيء يذكر، والحمد لله على سلامتها، إن السلامة غنيمة.
قال غانم: على أن سعدى ابنتي الوحيدة، فتراها دائما مكدرة، وقلت لها: إن آثار الجدري لا تمنع الراغبين على التماس الزواج بها، ولا سيما حين يعلمون أن لها خالة في بلاد الشام توفيت فخلفت لها ثروة وافرة، فضلا عن ثروتها الموروثة عن أمها.
قال همام: وهل أحضرتها معك؟
قال غانم: أحضرتها وجعلتها في الدير عند الراهبات لتستأنس بهن، وقد أشفقت أن أجعلها معي في الفندق فتضجر وتسأم الوحدة، ولا سيما أني مضطرب الفكر في دعوى لي في المحاكم، أتت عليها سنوات كثيرة فما انتهت، وقد كابدت التعب الكثير فيها حتى أصبحت ألوم نفسي على أني أقمتها، وتناجيت بأن أتنازل عن حقي، وأبرئ ذمة خصمي من الدين المعقود لي، ورأيت ذلك خيرا من شكايته إلى المحاكم واحتمال هذا العذاب، ولانشغال بالي في هذه الدعوى لا يمكنني الانتباه إلى ابنتي، فجعلتها عند الراهبات ابتغاء أنسها وتسليتها.
قال همام: أخطأت أيما خطأ بجعلك سعدى في الدير، فإن ذلك يزيد كدرها ووحشتها، فالرأي عندي أن تجعلها عند شقيقتي أم فؤاد تقضي مدة إقامتها في القاهرة بأنس وحبور، فتخرج معها إلى المتنزهات في كل يوم، فلا تضجر ولا تسأم.
قال غانم: حبذا الرأي لو أن الأمر ممكن، وعلى كل حال فإني ممنون لك حافظ معروفك، ثم نظر في ساعته وقال: أزف الوقت، فلا بد لي من مفارقتك الآن والنظر في دعواي.
قال همام: يمكن تأجيل دعواك إلى غد، فاجعل هذا اليوم للراحة، فإني أدعوك لمناولة الطعام معي في الجنينة، وعند العصر نذهب إلى النزهة في شبرا.
فلم يجب غانم دعوة همام خلافا لعادته، وربما كانت هذه الدعوة هي الأولى التي رفضها غانم في حياته كلها، فأجاب في اعتذاره بقوله: نبقي دعوتك إلى وقت آخر، فإني الآن مضطر لمقابلة رئيس محكمة الاستئناف؛ لأشرح له عن تفاصيل دعواي لعله ينظر في صرفها وقضائها على حسب المراد.
قال همام: يا عجبا من هذا الاتفاق الغريب، فإن الرئيس من أعز أصحابي فإن شئت توجهت معك إليه للتوصية بك.
قال غانم: إن كان لك به معرفة فقم بنا إليه من الحال، ثم نعود إلى دعوتك.
قال همام: إن ذهبنا إليه في هذا الوقت لن نجده، وأرى المناسب لنجاح عملك أن تحضر إلى منزل شقيقتي سيدة، فإن لها معرفة جيدة معه، وهو يقضي السهرات على الغالب عندها، فيتيسر لك مقابلته كأنها بالصدفة، فتكلمه مليا عن دعواك، وأنا وشقيقتي نساعدك على بلوغ الأرب.
قال غانم: وهلا ترى شقيقتك مانعا من التوسط في هذه المسألة؟
قال همام: لا مانع يمنع، وسوف تختبر الأمر بنفسك.
قال غانم: الأمر إليك، واستدعى همام عربة فركباها ذهابا إلى منزل سيدة أم فؤاد.
وما سارت بهما العربة بعض خطوات، وإذا بعربة مقفلة كانت واقفة على بعد قليل من باب الفندق سارت في أثر عربتهما وصائحا يقول للسائق: اتبع العربة التي أمامك، وقف حيث تقف، وكان المتكلم خليلا.
فلما وصل همام وغانم إلى منزل سيدة استقبلتهما بغاية الإكرام والترحيب، وكان همام قد تخلف إلى الوراء يغامز أخته على غانم، كأنه يقول لها: قد أحضرته فتممي الأمر، ثم تقدم فقال لها بصوت عال: أسعدني الحظ في هذا اليوم بمقابلة صديقي وعزيزي غانم، فقد جمعتني وإياه الصدفة، وهو خارج من فندقه فأحضرته إليك، ولولا هذه المقابلة التي أتاحها الله لسافر من العاصمة قبل أن نراه؛ لاضطراب باله وانشغال فكره بدعوى له في المحاكم سوف يخبرك عنها بنفسه.
قالت: إن كان الأمر إلي، فإني أبذل كل خدمة مستطاعة، ثم التفتت إلى غانم تسأله عن صحة ابنته سعدى وهل حضرت معه؟
قال غانم: أحضرتها معي، وهي بحمد الله بخير تدعو لك.
قالت: ولماذا لم تحضرها إلي فإني متشوقة لرؤياها، ويعلم الله أني أحبها حبا شديدا، وهي عندي بمنزلة ولدي فؤاد، أين هي الآن؟
قال: في الدير عند معلماتها.
فانقبض وجه سيدة عند سماع هذا القول لعلمها أن المعلمات يسعين في أمور الزواج، فخشيت أن يسعين في تزويجها بغير فؤاد إن طال مكوثها في الدير، فقالت لغانم: قد أخطأت في جعلك سعدى في الدير كأنك تبغي سجنها والتضييق عليها، وكان الحري بك أن تفرجها على القاهرة، فتقضي مدة إقامتها حبورا وانشراحا ولك الأصحاب الكثيرون، فلو خرجت في كل يوم إلى منزل واحد منهم وجدت في معرفة الناس أنسا، وتجعلني ممنونة لو تحضرها إلي فإني مشتاقة إليها أرغب في مقابلتها والأنس بمجلسها.
قال: أود أن أجعلها نزيلة عندك ما أقمت في القاهرة، ولكن الظروف لا تسمح بذلك، فحضرتك تذكرين أنه حصل حديث بشأن زواج سعدى بفؤاد ولم يتم الأمر، فلو أحضرتها إليك خرجت عن حدود اللياقة، وخالفت الأصول المتبعة.
فنظرت سيدة إلى همام كأنما تقول له: هذا صاحبك افتتح الحديث، فعليك بالجواب.
قال همام: لا يستدل من عدم إتمام الأمر العدول عنه.
قال غانم: لا يكون استئناف الكلام من أهل الخطيب.
قال همام: ما دام الحديث جرى بيننا إلى هذا الموضوع، فلا مانع من تقرير الأمر نهائيا الآن.
قالت سيدة: إني على رأي شقيقي.
قال غانم: لا أرى مانعا من اتصال نسبنا بنسبكم.
قال همام: نحن على اتفاق، فأختي راغبة في هذا الزواج وأنت ترضاه وأنا أتمناه، فالأمر مقرر ومن الآن نعتبر فؤادا خطيبا لسعدى.
قال غانم: كنت أود والله لو أني أسمع كلام فؤاد في الحضرة، فإني كنت توسمت فيه عدم الميل إلى مصاهرتنا.
قال همام: جرت العادة أن يعقد للخطيبين في غيبتهما، وأنا الضامن لقبول ابن أختي، فكن ضامنا من جهتك لقبول سعدى.
قال غانم: قبلت الضمان لسعدى، فهي لا تخالفني بشيء.
قال همام: وكذلك فؤاد فإنه ممتثل رأيي وشوري.
وهنا تصافح الجميع بالأيدي دلالة على تمام العقد وتبادلوا أجمل التهاني والدعاء بالسعادة والإقبال، واتفقوا على الاجتماع في اليوم الثاني لتقرير يوم الاحتفال بالفرح.
وبعد أن فرغوا من الكلام في أمر الزواج قال غانم: نرجع لأمر الدعوة التي لي أمام المحاكم، فكيف الرأي فيها أيها العزيز همام؟
فالتفت همام إلى شقيقته وأخبرها بالحديث الذي دار بينه وبين غانم في هذا الشأن، فقالت: إن رئيس المحكمة صاحبنا، وفي هذه الليلة يسهر عندنا، فإن رأيت يا أخي ورأى صاحبنا غانم أن تحضرا فتقابلانه وتكلمانه بكل ما يلزم، فلكما علي المساعدة في القول والتوصية.
قال: قضيتي مهمة جدا إن خسرتها خسرت جانبا عظيما من ثروتي، أعقبه نقصان في ثروة ابنتي، فإني عزمت على أن أوصي لها بكل أموالي.
قالت سيدة: كن مطمئن البال، فلن يضيع عليك قرش واحد، فرئيس المحكمة صديق لنا حميم، ولنا به معرفة واتصال من قديم الزمان، فلا يتأخر عن مساعدتنا ونوال المرام.
وبعد أن طال أمر الحديث في الدعوى، وقر الرأي على الحضور إلى السهرة لمقابلة رئيس المحكمة، نهض همام وغانم للانصراف، فشيعتهما سيدة إلى الباب مثنية على غانم مؤكدة عليه بإحضار ابنته سعدى إليها.
فلما انصرف رجعت إلى حجرتها مسرورة بنجاح مسعاها، وقد أيقنت بقرب العقد لابنها على سعدى، فيصبح غنيا سعيدا بهذا الزواج، فلم يكن عندها هم غير الاستعجال في إقامة الأفراح، وكذلك قد كان غانم مسرورا باتصال نسبه بنسب شريف؛ ليحصل بذلك على الوجاهة والنفوذ، وينفتح له باب الدخول على كبراء القوم وأمرائهم؛ فيتخذ ذلك سبيلا لقضاء دعاويه الكثيرة، فجعل يقول لهمام وهو خارج برفقته: إن من المناسب التعجيل في إقامة الأفراح، فذلك خير من الإمهال.
وقد ظهر للناظر في هذه القصة كيف أن سيدة وغانما أبرما الزواج لابنيهما بدون أن يعلم الابنان، ولا ريب أن أهل الذوق في هذا العصر لا يحبذون هذا العمل ويعيبونه ويعتبرونه ظلما واستبدادا منافيين لمبادئ الحرية والتمدن، على أن الوالدين قد راعيا المصلحة الشخصية، فلم يكترثا برضاء العروسين، وهل ينطبق هذا الزواج على مشربهما، ويجلب لهما الراحة والسعادة، فسيدة لم تنظر في إبرامه إلا لتحصيل الثروة والغناء لابنها، وغانم إلى ما يناله من الوجاهة والنفوذ. وهكذا فقد قربا مستقبل ابنيهما قربانا على مائدة المصالح الشخصية، ولم يفكرا أنهما بذلك يجلبان التعاسة والشقاء لفؤاد وسعدى، فمن المقرر أن لا راحة ولا سعادة في الكون لرجل يتزوج بامرأة على غير ميل أو تبادل حب، فمن الجور أن يتدخل أحد في زواج بإكراه، فإنه بما يفعل يكون قد سعى إلى الشر وإيجاد العداوة بين شخصين بريئين، لولا الزواج لم يتعاديا، فالعاقلون من الأهل والأصحاب يحجمون عن مثل هذا التدخل، ويدعون الشبان والشابات يختارون من يناسبهم للزواج على مودة وائتلاف، والحمد لله أن هذه العادة - أي إكراه الأولاد على الزواج بمن يختاره الآباء - قد أخذت بالاضمحلال شيئا فشيئا بفضل الترقي والحضارة العصرية.
وقبل أن يفترق همام وغانم اتفقا على أكل الطعام مساء في لوكاندة الجنينة، ثم يذهبان إلى السهرة عند سيدة، وانطلق كل إلى حال سبيله: غانم إلى الفندق الشرقي، وهمام إلى منزله.
الفصل السادس عشر
بوصول غانم إلى حجرته في الفندق جلس أمام تختة يكتب، فانفتح الباب عليه بغير استئذان، ودخل خليل وجلس غير مسلم، فتكدر غانم من مشاهدته حالة كونه قد خاصمه مديدا، واستغرب من مجيئه، فظل محدقا إليه النظر صامتا مبهوتا.
فقال خليل: تعجبت من زيارتي، فأصغ إلي سمعا لأحدثك بما يزيل عنك العجب، قد كان بيني وبينك خصام لديد، وأتى علينا سبع سنوات فلا تكلمني ولا أكلمك، واشتد الخلاف بيننا حتى أصبحنا كأننا أعداء ألداء، ولكن الدهر أبو العجب يحدث أسبابا تقرب البعيد وتبعد القريب، وتجمع بين الأخصام لملاقاة حادثة ودفع نازلة، فيتركون خصومتهم جانبا للمعاونة على الشدة الطارئة، وقد جئتك مخبرا عن أمر جليل، فأنصت إلي وأعرني السمع.
فظن غانم أن خليلا في مضايقة مالية، جاء يطلب مساعدة، فبادر بقوله: إن كنت تقصد أن تقترض مني نقودا، فأرح نفسك من الأمل الكاذب ولا تتعب، فليس عندي قرش أسلفه لك أو لغيرك.
فتبسم خليل ثم قال: سكن الروح ولا تجزع، فإني لم أحضر لطلب نقود منك على سبيل السلفة والإحسان.
قال غانم: لعل مرامك تكليفي بقضاء حاجة لك، فالجواب لا أستطيع شيئا، وليس عندي وقت أقطعه في مصالح الغير.
قال خليل: لم أحضر لهذه الغاية.
قال غانم: إن لم يكن حضورك لطلب سلفة أو لتكليفي بقضاء حاجة، فلأي شيء حضرت؟
قال خليل: حضرت لأخبرك عن أمر مهم جدا هو في غاية الغرابة والفظاعة أجارنا الله منه. فارتاع غانم من سماع هذا القول، فقال له خليل: إنك عند حضورك إلى القاهرة لم يخطر في بالك تزويج ابنتك بفؤاد، ثم عند خروجك من الفندق في هذا اليوم قابلت هماما، وكان ينتظرك على رصيف الفندق انتظار مقصودا، لا على سبيل الصدفة كما أخبرك، ثم توجهتما إلى منزل سيدة، فقضيتما عندها نصف ساعة من الزمان وخرجتما معا، وقبل الانفصال تواعدتما على أمل الطعام في لوكاندة حديقة الأزبكية، كل هذا علمته، فإن كان في قولي اختلاف أفدني.
فاستغرب غانم كيف علم خليل هذه الأمور، فقال ناهضا: من أطلعك على ذلك؟ ألعلك تعلم الغيب أو لك جاسوس يسرق الأخبار؟
فاستتبع خليل الكلام قائلا: وقد دار الحديث عند سيدة على أمر زواج فؤاد بسعدى، واجتمع الرأي عليه، وأنت لم تكن - كما سبق القول - عازما على ذلك، فتغيرت أفكارك بين لحظة عين وأختها.
قال غانم: أنا حر أفعل ما أشاء.
قال خليل: لا أعلم إذا كنت حرا تأتي ما تشاء أو مقيدا بضرورة الأحوال.
قال غانم: من يا ترى يعارضني أو يخالفني عن أي فعل شئت؟
قال خليل: أنا أعارضك وأنا أمنع هذا الزواج.
قال غانم: أظنك يا رجل معتوها لا تعي شيئا من القول.
قال خليل: بل إني رجل عاقل أتحرى ما أقول جيدا.
قال غانم: كيف تستطيع منعي عن فعل ما أريد؟
قال خليل: بل يمنعك علمك بأن هذا الخطيب الذي اخترته لابنتك لا يليق لها، فهو شرير قبيح السيرة ذميم الأخلاق.
قال غانم: قولك هذا افتراء، ولا يصدقه أحد.
قال خليل: بل هي الحقيقة أرويها بلا كذب، وإن شئت أقمت الدليل عليها.
فجعل غانم يهز رأسه استهزاء. فاستأنف خليل الحديث فقال له: إن المحبة القديمة التي كانت بيننا قبل اختصامنا لم يزعزعها كرور الزمان، فقد قاطعتك مديدا حتى رأيتك الآن على شفا الهبوط في هذه المصائب، فهزتني الحمية إلى إغاثتك، ومد يد المساعدة إليك، فاعلم أن فؤادا على الأخلاق الذميمة التي وصفتها، وليس قولي افتراء، بل هو الصدق بعينه، وأنا أبسط لك تمهيدا من القول قبل الخوض في ذكر ما جئتك بصدده، فأقول: إني من يوم زواجي بشقيقتك المرحومة رغما عن إرادتك، وقعت في مصائب جسيمة، وحملت أغلاطا كثيرة يعلم الله أني ندمت عليها، ولا ينفع الندم شيئا، وتأسفت كل الأسف، فأي إنسان يحيا ولا يخطئ، أو أي رجل غير الله معصوم في هذا الكون الفاني! وقد اعترفت بخطيئتي، واستغفرت الله عن سوء معاملتي شقيقتك، فتراني أتأوه مترحما عليها كلما خطرت على بالي، أو تذكرت ما كابدته من العناء والشقاء بسببي، فإقراري بذنبي يمحوه، وكفاني عذابا وخز الضمير وأني شقي متعوس.
فقاطعه غانم بقوله: لعلك جئت تتلو علي صلاة الندامة، فاتلها على غيري، وحدث عن مرادك بلا تمويه، فإني لست ممن ينخدع بزخرف القول كالأغرار، وأنا أعلم أحوالك، ولي خبرة بطويتك وأطوارك، فلا تزعمن أني أصدقك حين تتكلم لتوهمني أن نعمة الله هبطت على قلبك القاسي فألانته، وفاضت روحه القديسة على نفسك الشريرة الخبيثة فأصلحتها، فدع المراء عنك ولا تنطق بالمحال، وتكلم بالصدق، وأخبرني عن سبب حقدك على فؤاد وعن جلية الأمر.
قال خليل: رويدك قليلا، واسمع الخبر مني، فلن أخفي عنك شيئا، ودعني الآن أعترف بجنايتي، فقد أخطأت بحق شقيقتك المرحومة، فتراني لشدة الحزن أكاد أفارق الدنيا، وأنا في كل يوم بكدر مزيد.
قال غانم: رجعت إلى كلامك الأول لتوهمني أنك شديد الأسف والحزن على امرأتك، وتزعم أني أصدق ذلك على علمي بمكرك وطمعك وسوء أخلاقك وخبث سريرتك، وبعد؛ فلو فرضت أن قولك حقيقي لا ريب فيه، وأن النعمة الإلهية شملتك وقدستك، فتبت إلى الله بقلب خاشع، وندمت على ما فرط منك وبدر من البوادر والذنوب، فهل كنت مكلفا باستماع توبتك كأن لي وقتا أضيعه لسماع المراء، وفي الجملة فامرأتك قد توفيت وبليت عظامها، فلو صدقنا بتوبتك وندامتك على ما اقترفت من الذنوب لم يكن ذلك ليعيد لها الحياة من بعد هجعة القبر.
قال خليل وفي صوته أنة الحزن والأسف: أواه أواه ... رحم الله الفائتين، فقد ماتت المسكينة أسى وكمدا كما قضى الرحمن سبحانه ولا مرد لقضائه، ذهبت - رحمها الله - من دار الفناء إلى دار البقاء، وخلفتني أقاسي الهموم، وأتجرع البلوى آسفا على فقدها متفطر الكبد، وهيهات أن يرجع ما فات، فليس لي غير الصلاة والخشوع كفارة عن ذنبي أن يقبل الله صلاتي عليها، وإجلالي ذكرها في كل آن ومكان.
قال غانم: ما أرى والله إلا أن تعانق الرهبانية أو تلزم العزلة في جبل كالناسكين الزاهدين في الدنيا؛ فذلك خير تكفير عما اقترفت من الكبائر وما اجتنيت من الآثام العظيمة؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
قال خليل: كلا، فالتكفير عن الذنوب والسيئات والقيام بالأعمال الصالحات خير من النسك والعزلة، فأنا أستغفر الله سبحانه مولي النعم، ومزيل النقم، فامرأتي قد توفاها الرحمن فلا يفيدها أسفي عليها، بل رأيت الأنفع والأجدر بي أن أبذل مزيد استطاعتي والعناية الفائقة لتعهد شأن الشخص الوحيد الذي حصرت فيها محبتها مدة حياتها وهي ابنتها عفيفة، فإليها وجهت أنظاري وجعلت أيامي إلى آخر نسمة من حياتي وقفا على خدمتها، لعل الله يغفر لي ذنبي الذي جنيته على أمها.
فانذهل غانم لدى سماع هذا القول وجحظت عيناه، وحدق إلى خليل متفرسا به، ثم قال متعجبا: أعفيفة حية؟!
قال خليل: نعم هي حية صحيحة الجسم سليمة، وكنت ظننتها قد ماتت كما ظن غيري، فرأيتها في الأمس، فعلمت فساد ظني.
فانقبض وجه غانم، وتصور أن الفتاة لا تلبث أن تحضر إليه فتجشمه نفقة هو في غنى عنها، فجعل يكثر من السؤال مستفهما عنها، وكان خليل يجاوبه مؤكدا صحة الخبر، ثم سأله غانم: أين كانت من وقت وفاة والدتها؟
فقال له خليل بصوت مرتعش: كانت في حوزة رجل فاسق فاسد النية ذميم الطباع.
فاقشعر غانم وسأل عن الرجل: من عسى أن يكون؟
فأجابه خليل بقوله: ألم تعرفه؟ هو الخطيب الذي أعددته لابنتك سعدى ورضيته لك صهرا عنيدا، وبالغت في إكرامه وتبجيله، ووصفته بالصفات الكمالية، هو فؤاد بعينه خاطف ابنة شقيقتك وفاتنها، وملبسكم عارا لا يمحى مدى الزمان.
قال غانم وقد ارتاع: كبرت - والله إنها لتهمة - مثل هذه.
قال خليل: نعم إنها لتهمة عظيمة وفظيعة، فوالله لم يدفعني على ثقلها سوى أسفي على امرأتي المرحومة ورغبتي في حفظ شرف أهلها، فاعلم أني من نحو خمسة أشهر قبل وفاتها بليلة واحدة رأيت فؤادا مصاحبا عفيفة بعد نصف الليل آتيا معها إلى المنزل الذي كنا فيه، وحضر في اليوم التالي لزيارتنا، فأقام برهة من الوقت، وتوفيت امرأتي فاختفت على أثر وفاتها ابنتها عفيفة، وقد اجتهدت كثيرا وبحثت عنها مديدا فلم أقف لها على أثر، وحسبت أنها قد انتحرت حتى كان يوم أمس الغابر، فرأيتها في القرافة قياما فوق ضريح والدتها، ورأيت فؤادا واقفا إلى جانبها.
قال غانم: أذهلتني والله، هل أنت تقول الصدق؟
قال: إن لم تصدقني فسل ابنك سعيدا، وسل صاحبك هماما، وسل فؤادا نفسه ينبئوك جميعا بما أنا قائل، ولا أظنهم يكتمون عنك الحقيقة.
قال غانم: أتزعم أن فؤادا هو الذي اختطف البنت وأقام معها كل هذه المدة؟
قال خليل: نعم، ولا وجه للريبة في ذلك.
قال غانم: وهل كان ذلك برضاء البنت واختيارها أو كانت مرغومة؟
قال خليل: حاشا لله أن أرمي عفيفة بريبة، فهي نقية القلب مصونة، قد نشأت على أحسن تربية وأجمل الأخلاق الموروثة عن أمها والأدب وسلامة الضمير، فكيف أظن بها سوءا وأتوهم أنها تكون قد اتبعت فاتنها فغويت بغيه وضلت بضلاله إلا أن تكون مكرهة مرغومة، وهي ولا حول لها ولا قوة؟!
فأخذ غانم يهز رأسه مستعظما هول الأمر وفظاعته ويقول: أي فعل أقبح من فعل هذا الرجل، فقد خطف الفتاة بعد وفاة أمها في غفلة الرقباء، فهي لعمري جريمة تستوجب شديد العقوبة، ثم جعل يتمشى رائحا وآتيا يمينا وشمالا ويقول: يا للفظاعة ويا للبلاء العظيم!
قال خليل: هلا زلت مصرا على تزويجه بابنتك بعد هذا الذي سمعته عليه؟
قال غانم: إن ثبت قولك فسخ العقد، ولا أكتفي بذلك حتى أجر الجاني أمام المحاكم الجنائية لتقتص منه.
وكان خليل في أثناء ذلك يزداد انبساطا وانشراحا، كلما اشتد غانم غيظا واستشاطة، ثم قال له: جزاك الله خيرا عن حميتك، إنك لجدير بالثناء والشكر المزيد على ما بدا من اهتمامك، فتلك شيمة الكرام، والكريم من يأبى الضيم وتعاف نفسه الذل، فإن لم يكن في إمكانك رد فائت، فلا أقل من أن تنتقم من العتل الزنيم والفاجر اللئيم جزاء وفاقا على ما جنت يداه.
قال غانم: ما الرأي عندك، وما يجب أن نصنع؟
فابتدأ خليل في جوابه، وإذا بسعيد قد دخل من فوره: أتيتك يا أبي ببشرى، عفيفة ابنة عمتي كريمة حية، وقد رأيتها بعيني أمس.
فلما سمع غانم كلام ابنه أيقن بصدق الخبر، وذهب الشك من قلبه فقال: لا حاجة لي إلى برهان، فسواء اختطف فؤاد عفيفة قهرا وفتنها أو استرضاها فلا بد من مقاطعته، فلا يبقى بيني وبينه علاقات، وقد شان عرضه، فلست أرضى به لنا نسيبا فنلبس عائلتنا العار والذل حين ينكشف الأمر ويظهر المكتوم، فعلينا قبل الانتقال من هذا المكان أن ننظر في التدبير الواجب إتيانه في هذا الشأن.
فللعاقل أن يتدبر أحوال هذا الكون، فقد رأى الناظر في هذه القصة كيف أن سعدى لخلوها من الجمال أورثت والدها التعب والنصب، وكان زواجها عسيرا إلا أن ينفق والدها النفقات الجسيمة لهذا الغرض ... وكيف أن عفيفة على جمالها أورثت قلب ذويها التعب والخوف في كل حين عليها من الأعين الفاتنة، فالبنات على سائر الأحوال مصائب ونكبات على أهلهن سواء كن موسرات أو فقيرات، جميلات أو دميمات، ولعل هذا هو السبب في كره أبناء الشرق الإناث وتفضيلهم الذكور عليهن.
ثم التفت إلى خليل وقال له: سألتك فلم تجبني عما يجب أن ندبره، لعل عندك رأيا سديدا في الأمر؟
قال خليل: مصلحتنا واحدة تهمنا جميعا، فعفيفة ابنة أختك وابنة عمة سعيد وابنة امرأتي، فالنسبة توجب على كل واحد منا إبداء الرأي، فليبتدئ في الكلام أصغرنا سنا.
قال سعيد: إني عندما اطلعت على الحادثة ارتعدت فرائصي، وتصورت فؤادا كأقبح إنسان في الكون، ولكن زال هذا التصور مني شيئا فشيئا حتى لم يبق منه أثر، فالرأي عندي صرف النظر عن كل ما مضى واتباع وجه واحد يجمع بين المصالح والشرط في تمامه قبول فؤاد.
قال خليل: ما هو الوجه الذي تعنيه؟
قال سعيد: هو زواجه بعفيفة.
فانقبض وجه خليل، وانقلبت سحنته عند سماع الجواب، وجعل يهز رأسه مستهزئا.
فاستأنف سعيد الكلام بقوله: نعم إنها الطريقة الوحيدة للتوفيق بين الأغراض، ولو أني أود وأفضل زواجه بأختي، ولكن الظروف تمنع، فلو تزوج بعفيفة لم يخرج عن مناسبتنا والاتصال بعائلتنا.
قال غانم: أنت على غير هدي؛ كأنك تعتقد أن فؤادا يقبل الزواج بعفيفة، وهو اتخذها له صاحبة لا امرأة، وفضلا عن ذلك فإنه لا يعقل أنه يتزوج بفتاة فقيرة الحال.
قال سعيد: يمكننا مداركة الأمر، فنحن - بحمد الله - موسرون، ولو تبرعنا على عفيفة بجهاز نفيس فيحفظ شرفنا من ذل العار، ولا أظن أن فؤادا يمتنع عن الزواج بها عند ذلك.
قال غانم: نح رأيك الفاسد، أتريد أن نتبرع على هذه الابنة الشقية بمالنا؟! كأنك قد أضعت عقلك وضللت وفقدت رشدك، أفلا يكفيك ما أسرفت من المال المجموع حتى جئت تزيد الطين بلة، وتشير بتوزيع المال على من لا يستحقونه؟!
وكان كلام غانم بحدة شديدة أداه إلى الطعن بعفيفة وعيب سيرتها ووصفها بالأوصاف الشائنة، فقد قال لابنه في جملة ما قال: تشور علينا ببذل مالنا إلى ابنة شقية فاجرة قليلة الشرف فاقدة العفاف، إلى ابنة قبلت بالرضاء والاختيار مرافقة فتى شرير فاجر مثلها تقيم معه الأشهر الطوال المتوالية على فسق ودعارة، فما - والله - كنت أظن الجهل يقودك إلى هذا الجنون المركب.
فساء هذا الكلام خليلا، فإنه كان يحب عفيفة، ويكبر عليه سماع القذف بها، ولكنه كظم الغيظ وقال لسعيد مختالا: الحق مع والدك، فالشبان الذين على وتيرة فؤاد يتخذون البنات للمرافقة لا للزواج على الحلال، وفي ظني أن فؤادا يأبى التزوج بعفيفة، ولو دفعتم إليه ما استطعتم من الجهاز والمال، فشأنه افتضاح البنات وتركهن وقد قضى وطرا.
قال غانم: بالحق نطقت، فدعنا من قول سعيد وأفدنا عن رأيك.
قال: ينحصر رأيي في كلمة واحدة هي كلمة الانتقام.
قال غانم: الصواب عند قولك، لا ريب أن هماما وأخته سيدة عبثا بي، إذ خاطباني بزواج فؤاد بسعدى وهما يعلمان من أموره ما يعلمان.
قال خليل: قد عرفا ولا شك كل هذه الأمور، وقد رأيت هماما في القرافة عندما أبصرت عفيفة مع فؤاد فوق ضريح الأم.
قال غانم: أصبت ولا ريب فيما تقول، فأبن عن أفكارك، وكيف تنتقم من ذلك الوغد الزنيم؟
قال خليل: لو أن الإهانة لحقتني رأسا لتدبرت الأمر بنفسي، ولم أستعن بأحد، ولكنها لحقتنا جميعا، وكانت الجناية علينا عظيمة، ألبستنا أيما عار، فأرى أن نكيل لفؤاد بكيله، ونسعى في هدم شرفه وفضيحة اسمه برفع أمره إلى محكمة جنائية؛ فتناله العقوبة التي يستحقها، ثم أريق دمه هدرا، فنغسل به ما لحقنا من العار والشنار.
قال خليل: نقيم عليه إذن دعوى في شأنه.
قال غانم: ومن الضروري أيضا مطالبته بحقوق مدنية على أني أخشى إبطال دعوانا، فيحكم علينا بالمصاريف والرسوم والتضمينات، فيكون الحمل باهظا على عنقنا.
قال خليل: من المستحيل أن تخسر الدعوى، فنجاحها مؤكد عندي.
قال غانم: وباسم من نرفعها؟ فوالله إني خائف وجل من العاقبة.
قال خليل: لو كانت امرأتي في قيد الحياة لرفعت الدعوى باسمها، وقمت نائبا عنها، ولكن توفيت، فلم يبق لي علاقة قانونية أو صفة أهلية بالنظر إلى ابنتها، والله يعلم مقدار معزتي لهذه الفتاة، فهي لي بمنزلة الولد. على أنني غريب عنها في سائر الأحوال، وليس لي صلة قانونية لأرفع الدعوى باسمى، فالصفة لك وحدك في رفعها؛ لكونك أقرب الأنسباء إليها، وأنت كبير العائلة.
قال غانم: أنت تهزأ بي كأنما تظن أن ليس لي شغل غير شغل الدعاوى، فوالله إني لأعجز عن القيام بدعوى واحدة فتراني بسببها مضطربا دائما قلقا ومنزعجا، فكيف تكون حالتي إن تعددت الدعاوى؟ ألم تكفني أشغالي الخصوصية حتى أهتم بأشغال بنت منحوسة خيبها الله وسائر النساء معها؟
فانشرح خاطر خليل بامتناع غانم عن إقامة الدعوى باسمه وقال: لا تؤاخذني، فقد برح من بالي أنك مهتم بقضيتك الخصوصية، وفي الواقع أن أشغالك جسيمة تمنعك النظر في قضية ذات شأن عظيم كقضية اغتصاب فؤاد عفيفة.
قال غانم: أنت تعلم أن قضيتي جسيمة يزيد مقدارها على مائتي ألف فرنك، فلو أهملتها أقل إهمال عرضتها للضياع، فلذلك لا يمكنني الاهتمام بغيرها، فوالله لن يوازي شرف نساء الكون عندي نصف هذا المبلغ.
فتبسم خليل احتقارا وقال في نفسه: تبا لهذا الرجل، ما أشد بخله ودناءة نفسه. ثم كلمه قائلا: نعم، فالصواب أن تهتم في قضيتك فلها المقام الأول، وإن رأيت أن نقيم الدعوى باسم ابنك سعيد فهو لا شاغل يشغله، وله الصفة التي لك والفتاة ابنة عمته.
فعارض سعيد قائلا: لا والله إني لن أقيم دعوى على فؤاد، فهو صديقي وصاحبي والرأي عندي ما ابتديته أولا، وهو ترويج زواجه بعفيفة وقد خالفتماني، فرفعت يدي من المسألة، فاصنعا ما تبغيان.
فأشرق وجه خليل عند سماع قول سعيد، إذ جاء الأمر على ما يروم ويبغي، وهو أن يرفع الدعوى باسمه، فقال: وهل من الصواب تحمل الأذى وانتهاك العرض وترك الجاني يمرح في غيه وفجوره، لا خوف عليه ولا هو يحزن؟
قال غانم: وما المانع من إقامة الدعوى باسمك، وأنت تهتم فيها بنفسك؟
قال خليل: والله إني أود ذلك ابتغاء التخفيف عنك، وأن أقوم بخدمة تذكر، ولكني - كما قدمت القول - قد عدمت الصفة بوفاة امرأتي، وانقطعت كل علاقة بيني وبين ابنتها، فليس لي وجه قانوني للتدخل في هذا الأمر.
قال غانم: أما من طريقة لإزالة هذا المانع؟
قال خليل: من جد وجد، والطريقة التي أراها أن ينصب وصي شرعي للفتاة.
قال غانم: ما الفائدة من نصب الوصي وهي لا تملك شيئا؟
قال خليل: إن الوصاية لا تنحصر في تدبير أموال القاصرين، بل تتناول الملاحظة الأدبية، فلو انتدبت الوصاية قامت لي صفة، فاستغنيت عن تكليفكم بأقل شيء كان.
قال غانم: وما يمنعك أن تكون وصيا عليها بذلك؟
قال خليل: يمنعني كونك أحق مني فيها، وبعد: فإني أخاف التبعة والأكدار التي تلازمها.
قال غانم: وأي تبعة في ذلك وعفيفة لا تملك شيئا؟ فالمقصود من وصايتك عليها تحصيل الصفة القانونية لك لتقيم الدعوى على فؤاد.
وقد كان هذا كله بغية خليل، فإنه كان - كما تقدم القول - كلفا بعفيفة مضنى بهواها، وكانت امرأته قد لحظت ذلك فلامته وعنفته، فلم يرتدع ولم يسمع التعنيف، ولخوفها من شره وأذاه وأنه يصول يوما بعد وفاتها على ابنتها جعلتها في حرز فؤاد لتنقذها من الفضيحة والعار، فلو أقيم خليل وصيا شرعيا عليها أصبحت في يمينه يتصرف فيها كيف شاء، ويبلغ فيها مراده الخبيث، فكان لتمام خبثه يكتم حبوره، فلا يرتاب السامع في إخلاصه.
ثم إنه قال لغانم: ما يحملني على قبول الوصاية إلا كرهي فؤادا إن رفعت يدك عن الوصاية على البنت.
قال غانم: حبذا الاهتمام بذلك لولا كثرة أشغالي، فعذري واضح للجميع، وعلى كل حال فلو قبلت أنت الوصاية، فكأنما قبلتها بذاتي إذ كلانا واحد.
قال خليل: لا بأس فإني أتولى النظر في هذه المسألة وأحمل مشاقها، ولكنما يجب تقرير الوصاية على يد مجلس العائلة.
قال غانم: نحن في مقام ثلاثة لتحرير محضر يؤذن بنصبك وصيا على عفيفة وذلك كاف.
قال خليل: لا يكون هذا القرار نافذ المفعول إلا بترئيس أحد قضاة المحكمة، واستدعاء شاهدين من العدول يشتركون جميعا في العمل. وكان خليل قد اعتمد على أحد القضاة وشاهدين من معارفه لإتمام غرضه ونوال إربه، فقال لغانم: قد أزف الوقت، فمن المناسب الاجتماع غدا فأكون قد أحضرت القاضي والشهود.
قال غانم: حسن، وبعد تقرير الوصاية لك على عفيفة تباشر الدعوى على فؤاد جنائيا.
قال خليل: وهو كذلك، ومتى صدر الحكم عليه بما يقضيه القانون على مرتكبي مثل هذه الجنايات، أنقذ الكون من شره، وأزيل ما لحقنا من العار والفضيحة.
وبعد أن قال هذا، نهض للخروج فرافقه سعيد إلى خارج الفندق، وقال له: إنني أعرف منزل عفيفة.
فقال له سعيد: نذهب معا إليها، فاستدعيا عربة، ونهضا قاصدين مصر العتيقة، وبقي غانم في حجرته يكتب المكاتيب المتعلقة بأشغاله.
الفصل السابع عشر
قد علم الناظر في هذه القصة كيف استعمل خليل الدهاء والخداع ليوهم غانما أنه مخلص النية سليم القصد، فيقوم وصيا على فتاة سليمة القلب نقية، قد فتنه حسنها الفائق، فشرهت نفسه الخبيثة إلى اجتناء لذة منها محرمة، وتكون البنت بين يديه أسيرة لا يسأل عنها أحد، وليس لها معين ولا ناصر. ولكن التقادير تجري بمشيئة الرحمن، فإنه بينما كانت عوامل الشر والمكر جارية في الفندق الشرقي للكيد على فؤاد، وتحويل حبه الطاهر السليم وغرامه العذري إلى دعارة وفسق وأشنع جناية، جرى في المنزل الخلوي في مصر العتيقة مظهر آخر مخالف شكلا ووصفا بعوامل الصداقة وخالص الوداد بين فؤاد ومحبوبته، فعلى القارئ أن يتبعنا في النظر إلى نهاية القصة؛ ليعلم لأي فريق يكون الغلب وكيف يكون المنقلب.
كان من عادة فؤاد الحضور إلى منزل عفيفة كل يوم ليزورها، فتجلس بقرب نافذة المنزل كل يوم نحو الساعة الثالثة بعد الظهر منتظرة قدومه، غير أنها لشدة اضطراب الأفكار عندها في ذلك اليوم جاءت قبل أوانها، فوجهت أنظارها إلى الطريق التي يمر فيها حبيبها، وكانت تكشف الساعة من حين إلى حين وتعد الدقائق، وكلما رأت إنسانا على بعد حسبته فؤادا حتى يقترب منها فيخيب أملها ويتكدر بالها.
ثم إن الساعة قرعت ثلاثا فرأت خيالا مطلقا عنان جواده فتبينته فإذا فؤاد قد جاء مسرعا، فتهللت لرؤيته، وهرعت إلى الباب لاستقباله، فنزل عن جواده، وبعد أن سلمه إلى الخادم تقدم نحوها، وجعل يده على يدها مصافحا وقال لها: أسعدت يا حبيبتي مساء وصباحا، الله يعلم مبلغ اشتياقي إليك، أنت بهجة نفسي ومسرة قلبي، وكل يوم لا أراك فيه يضيق صدري، وكل ساعة في البعد عنك مقدارها ألف عام، وألف عام بقربك كلحظ البصر قصير، لا أحرمني الله من هذا الوجه النضير.
فاحمر وجه عفيفة من هذا الكلام بعد أن كان اصفر، فقالت له تجاربه: ما بالك تخاطبني بهذه العبارات التي لم أسمعها قبل منك؟ وما قصتك؟ فأنت تنظر إلي نظر الملهوف، ولم يكن ذلك عندك مألوفا؟
قال فؤاد: إن قلبي مسرور، ويكاد أن يطير حبورا.
قالت: يا عجبا من اختلاف الرأي وتقلب الأحوال! رأيتك أمس مهموما مضطرب البال، ورأيتني مسرورة محبورة، وفي هذا اليوم أراك مبتهجا متهللا، وأراني حزينة شديدة الجزع والاضطراب، فهيا بنا إلى الكشك لتقص علي الخبر على هينة؛ إذ لا يوافق الوقوف مديدا هنا، وأخاف عليك من العيون الناظرة.
قال: ما يهمني أن أختفي أو يظهر الناس على شأني، وسواء عندي أن يراني جميع الخلائق، فقد انقضت أيام الكتمان والخفاء، وأقبلت أيام البشر والظهور.
فزادت حيرة عفيفة، وأخذت بيد فؤاد، فمشت به إلى داخل الجنينة، وكان الفرح قد حبس لسانهما، فلم يتكلما حتى وصلا إلى الكشك، فقال فؤاد لها: تتعجبين يا عفيفة من رؤيتي فرحا مسرورا في هذا اليوم، وتنظريني كذلك فلا تشاركيني في فرحي، بل تقيمين بعكس ذلك مكتئبة مكدرة جزعا وبأسا.
قالت: الحق لك أن تلومني عن تقصيري في الشكر وتأدية الواجب لمحبتك وإحسانك، فتصرفي حقيقة كتصرف الأحداث لا يتروون ولا يعقلون، فقد عادت مساورة الأفكار وخيالات الخوف والحزن وتصورات اليأس والقنوط.
قال: أحمد الله، لم يبق إلا قليل لتزول ويصفو البال بانقشاع هموم الغموم، وتنقلين من حال إلى حال.
قالت: أخذني الله إن فهمت شيئا مما تقول.
فجعل فؤاد يخبرها تفصيلا عما جرى بينه وبين والدته من الحديث في شأنها وقبول حضورها عندها وانشراحها عنها صدرا وما تكن لها من النوايا الحسنة.
فقالت له عفيفة: أتظن أن والدتك محسنة بي الظن فلا تحتقرني وتعيب علي انقطاعي إليك؟
قال: أتحتقرك وأنت مثال الطهارة وعنوان الفضيلة والعفاف؟
قالت: أنت تعلم يا فؤاد ما عندي من الشهامة وعزة النفس ونفوري عن موقف الذل والإهانة المعدة للسفلة الأدنياء، المعتادة خدودهم على اللطم، الذين يحملون الذلة صابرين ... فوالله إني لأرجف كالطير المذبوح وأخاف أن أرشق بسهام اللوم، فيتقطع فؤادي تقطيعا، وأسكن رمسي قبل الأوان، وخير عندي أن أعيش معذبة فقيرة طليقة الجناحين من أن أقيم في جنة الفردوس في ذل وإهانة.
قال: أؤكد لك يا عفيفة أن لك مقاما محفوظا عند أمي، وأنها تعزك وتعتبرك حق الاعتبار، وقد أخبرتها عنك فاشتاقت إلى رؤيتك، وشعرت بميل وانعطاف نحوك، وسوف تحققين الأمر بنفسك فتعلمين أني أقول الصدق.
قالت: لا بد أن تكون قد وصفتني بالأوصاف الجميلة فأجبتني والدتك، فإذا رأتني مجردة مما وصفت كرهتني لا محالة، وانقلب رضاها سخطا وغضبا.
قال: وصفتك بلا مبالغة، فلم أطنب، ولم أقل إلا الحقيقة، ولم أذكر إلا ما رأيته فيك.
قالت: ماذا رأيت في يستحق المديح والوصف؟
فقال لها فؤاد وقد خفق جنانه ورجف صوته بفعل الغرام: كل أوصافك جميلة، وأنت مظهر اللطف والظرف، ومعدن الطهارة والعفاف، وعلى وجهك علامة البهاء والجلال، جعلك الرحمن فتنة للعالمين وبهجة للناظرين، فيك يحسن غزل الشعراء، وبفضلك يتباهي الفضلاء، يا ذات الجمال الفريدة في المحاسن، يا ملكة القلوب.
فتبسمت عفيفة من سماع هذا الإطراء وقالت: لا فض فوك، ما أبدعك في الغلو، وأقدرك على الوصف! فكان الواجب عليك أن تلتزم الصمت، فلا تخبر والدتك بما ليس موجودا، ولا هو من الحقيقة في شيء.
قال: أنصتي إلي يا حبيبتي، فنار حبك تستعر في قلبي من خمسة أشهر، فلا يدري بها أحد، وهي في كل يوم تزيد سعيرا كلما زدتك نظرا وأقمت معك، حتى كاد جسمي يذوب ومهجتي تتقطع ابتغاء حفظ العهد الذي أخذته على نفسي أمام والدتك، وقد زجرت النفس وغالبتها فلم تبد مني حركة تترجم عن شديد غرامي بك، ولكنني خفت أن يقضي علي الأسى بالكتمان شهيدا في حبك، وفي قلبي الحسرات والآلام، فأخبرت والدتي بوجدي وغرامي فرقت لحالي وطيبت نفسي بالوعد الجميل، فلم يعد بعد مانع لإظهار المكتوم، فاعلمي أن قلبي نقي لم يدخله حب غير حبك، فأنت مليكته وحبيبته وغاية مناه وقصده.
فاحمر وجه عفيفة خجلا، وكانت وجنتاها تلتهب كجذوة نار تضيء ما حولها وتحرق قلوب الناظرين، وكانت متشحة بثياب سوداء تزيدها بهاء وإشراقا، فعقد الحياء لسانها فأمالت رأسها على صدر فؤاد وانهملت من عينيها الدموع كالدر المتساقط على الوجنتين، فحن إليها فؤاد، وانحنى يقبلها في جبهتها، فأعرضت عنه نافرة، فأنشد بلسان حال قول القائل:
قبلتها فبكت وصدت نفرة
تذرف المدامع من كحيل أدعج
فكأن سقط الدمع من أجفانها
لما بدا من خدها المتضرج
برد تساقط فوق ورد أحمر
من نرجس فسقى رياض بنفسج
وكانت هذه أول قبلة قطفها فؤاد من رياض جبين محبوبته بعد طول الزمان والاجتماع المديد، وحينئذ طرق أذنيهما صوت هائل كزئير الأسد فارتعدا ونهضا مذعورين، وتقدما نحو باب الكشك لينظرا، فأبصرا رجلا متسلقا على حائط الحديقة، فتفرسا فيه، فإذا هو خليل أقام رأسه فوق السور، وفي وجهه الصفرة، وعيناه جاحظتان، وحركاته تنذر بالتهديد والتهويل، فلما رأته عفيفة عرا وجهها الشحوب من الخوف، ورجفت أركانها، فوقعت بين يدي فؤاد، فسندها ثم جعلها على مقعد، وخرج لينظر خليلا فلم يجده، فعاد إليها وأخذها من يدها قياما إلى المنزل، وكان يخاطبها فلم تجبه بكلمة؛ لأن الخوف ربط لسانها، ثم إنه أدخلها إلى حجرتها في المنزل، ووقف على بابه ليكشف خليلا فلم يره، فزاد باله اضطرابا، وقال في نفسه: لم يختف الرجل إلا ليعود، فسور الحديقة يستطيع أن يصعد عليه بسهولة، فربما جاء وتكون عفيفة وحدها، فيحصل من الأمور ما يعلم الله، ولا شك أنها تموت خوفا، ولا يستطيع البستاني المدافعة عنها إذا دخل الرجل مدججا بالسلاح الكامل، فمن اللازم أن أبقى هنا، وعندما يصبح الصباح أذهب بها إلى والدتي. وبينما كان يناجي نفسه بهذه الخواطر إذا بعفيفة قد حضرت حاملة بيدها علبة سوداء صغيرة وقالت له: أرأيت، فإني لم أحتج إلى وقت طويل لأتهيأ أو أتأهب للخروج، فقد لبست برنيطتي، وحملت ثروتي بيدي وهي هذه العلبة، وفيها رسم والدتي ووالدي وبعض كتابات بخط يديهما، فذلك جملة ما أملك من متاع الدنيا، وقد اتخذتك لي حاميا، فكفيتك عناء التجهيز.
قال فؤاد: تأهبت للذهاب، وأنا لا أرى لزوما لذلك الآن.
قالت: أتمكث هنا بعد أن رأيته بعينك؟
قال: رأيته ورأيت على وجهك الاضطراب، ولكنه لا يستطيع شيئا، ولا يمكنه الدخول إلينا.
قالت: أنت في خطأ، فدخوله علينا من أسهل الأمور.
قال: إن حدثته نفسه بذلك فيعلم كيف أستقبله، ولعله لا يخفى عليه ما أصنع.
قالت: نحن في غنى عن العناء بالذهاب من هذا المكان، فإن مجرد التفكير باحتمال حضوره يفقدني رشدي.
قال: ما ظننت أنه يبلغ بك الخوف هذا المبلغ، ولا أعلم كيف وقعت رهبة هذا الرجل في قلبك حتى تجزعي منه كل هذا الجزع، أمن سلطة له عليك؟ بل كان هو الأجدر أن يرتعش أمامك، فإن نظرة واحدة منك كافية لإلقائه صريعا بين الأقدام، إن كنت تتذكرين يوم القرافة إذ زجرته ولحظته شزرا فكاد يهوي إلى الأرض وهنا، فأين منك القوة التي يتغلب بها الصالحون على جماعة الأشرار؟!
قالت: كنت في القرافة بقرب لحد والدتي، فشعرت أنها تمدني بالمساعدة والقوة، فاشتد بها أزري وقويت عزيمتي، أما الآن فإني لبعدها عني لا أجد قوة، وأراني كالطفلة الصغيرة لا حول لي، وفي قلبي الخوف والجزع.
قال: تخافينه وأنا معك؟
قالت: إن وجودك معي يزيدني خوفا، فلو كنت وحدي لكان جزعي مقصورا على نفسي، ولكني الآن أخشى علي وعليك.
ثم إن فؤادا اجتهد في تسكين خاطرها وتهدئة روعها بلا فائدة، فكانت تقول له: إن الأطفال أكثر مني شجاعة وقوة، وأراني ضعيفة العقل فاقدة العزم أحتاج إلى مساعدة من ينصرني، فلا أستطيع صرف الليل في هذا المكان، ولم يبق لي أمن للإقامة فيه بعد اهتداء هذا الشرير إلينا، فلو سمعت صرير باب ينفتح أو هزيز شجرة أو أقل حركة من داخل أو من خارج لظننت أن الوافد علينا خليل، فانظر مقدار روعتي والوقت نهار والشمس لم تغب، فكيف تكون حالتي عند هجوم الليل علينا بجيشه المدلهم؟ فوالله إني لأحس من نفسي بفقد الشعور وفقد الحياة، وتراني من مجرد الوهم والتصور أرتعش، فلو رأيت خليلا صاعدا متسلقا سور البستان مرة أخرى؛ لألقيت نفسي من هذه النافذة على علوها الشاهق فمت لحيني، فعلى سائر الأحوال ما أرى أمامي هنا غير الخيال وفقد الشعور والهلاك أشنع موتة، فإن أهمك أمري ورغبت في حياتي فأنقذني من هذا المكان، ولك المنة الجزيلة.
قال: ما يحسن منك هذا التصور، فقد أزعجتني، وبعد: ولو أن ما تقولين غير معقول فإني أجيب طلبك وأصحبك معي إلى منزل والدتي، فاصرفي عنك الكدر وسكني البال.
فأشرق وجه عفيفة عند سماع هذا الكلام وقالت: ذهب الهم عن قلبي لا عدمتك، وزال الجزع وشعرت بالراحة، أذهب الله عن قلبك كل الخوف، فهيا بنا للخروج حالا.
فنادى فؤاد الخادم لينطلق ويحضر عربة، ثم قال لعفيفة: نمكث هنا إلى الساعة الحادية عشرة حتى يكون قد انصرف الناس من السهرة عند والدتي.
قالت: لا بأس.
وجلسا يتحدثان حديث الشوق والمحبة مع رعاية الأدب والصيانة، ولما اقتربت الساعة من الحادية عشرة نادى فؤاد البستاني وقال: ربما يحضر هذه الليلة رجل.
فقاطع البستاني عليه الحديث وقال: إن دخل لم يخرج إلا محملا على الأوتاد، فهذه بندقيتي معي، فكن في اطمئنان.
قال فؤاد: إياك أن تفعل شيئا من ذلك، فليس الرجل من اللصوص، ويغمني أن يقال عني: إني خفت فأغريت غلامي بقتله، بل دعه يفعل ما يشاء، واحضر في الصباح إلي مخبرا عما يكون قد حصل.
قال الخادم: سمعا وطاعة.
وأخذ فؤاد بيد عفيفة منطلقا نحو باب الجنينة، فوجد العربة تنتظرهما، فركباها قياما إلى القاهرة إلى منزل والدته سيدة.
الفصل الثامن عشر
كان من عادة سيدة والدة فؤاد أن تعقد مجلسا للسهرة ليلة واحدة في الأسبوع، فيجتمع عندها الأدباء والكبراء وأهل الذوق والمحاضرة، وصادف أن اليوم الذي عزم فيه فؤاد على إحضار عفيفة إلى منزل والدته كان يوم الاجتماع يتوارد القوم فيه من الساعة الثامنة، فلا ينصرفون إلا في الساعة الحادية عشرة. فيتردون بالثياب الفاخرة المعدة للمقابلات والزيارات، فتقابلهم سيدة بغاية اللطف والإيناس وتبالغ في إكرامهم، فيخرجون منشرحين واعدين الأنفس بالعود في السهرة التالية، غير أن سيدة كانت في هذه الليلة على خلاف عادتها مضطربة البال نظرها مرسل دائما إلى جهة الباب، وكان الباعث على اضطرابها تخلف أخيها همام وصاحبه غانم عن الحضور حسب الوعد، فاشتدت في رأسها الهواجس والأفكار، ووقع في نفسها أن قد حدث حادث فوق العادة أوجب تأخير حضورهما، واستمرت هكذا حتى الساعة العاشرة، إذ رأت هماما مقبلا، فنهضت لاستقباله ظانة أنه يصحب معه غانما، فخاب الأمل إذ رأت أخاها وحده فسألته عن رفيقه فقال: إن له نبأ غريبا، أقصه عليك بعد انصراف الناس، فانظري في مؤانستهم حتى يكونوا قد ذهبوا.
وعند الساعة الحادية عشرة انفرط عقد السهرة، فانصرف الحاضرون أولا فأولا، وبعد مضي نصف ساعة من الزمان خلا المحل لهمام وشقيقته فسألته عن الخبر، وروحها من الانتظار تكاد أن تزهق، وقد خالت السهرة خالدة بطولها والليل سرمديا.
فقال همام: تعلمين يا أختي أني وعدت غانما على أكل الطعام معه في هذه الليلة، فذهبت إلى الفندق الشرقي لأصحبه، فأبلغني الخدم أنه قد خرج، فقصدت لوكاندة حديقة الأزبكية، وهو المكان الذي اتفقنا على أكل طعامنا فيه، فانتظرته زيادة على نصف ساعة فلما لم يحضر، توجهت ثانية إلى الفندق الشرقي سائلا عنه فلم أجده، فرجعت إلى لوكاندة الحديقة، وتعشيت وحدي وقد كدرني غيابه، وأنت تعلمين أنفتي ممن يخلف في وعده، فلو لم تكن مقابلة غانم في هذه الليلة تهمك لما سألت عنه، وقد جعلت أتناول الطعام على هينة معللا نفسي بحضوره حتى يئست من مقابلته، فقمت إلى منزلي للبس ثيابي والحضور إليك، فسلمني الخادم كتابا بإمضاء غانم، قرأته فعلمت السبب في غيابه، وهذا هو الكتاب فاطلعي عليه.
قال هذا وأخرج الكتاب من جيبه وناوله لأخته فقرأت فيه ما يأتي:
حضرة المكرم السيد همام، إن من الأفعال الفظيعة التي تنفر الطباع منها، ويستقبحها عامة الناس وخاصتهم اختطاف البنات الأبكار القاصرات الكريمات الأصل المتهذبات الناشئات على التقوى، ولا سيما إذ كان الخاطف من سراة القوم المدعين الشرف، وما من وقاحة هي أبلغ من التماس معسر زواجا بابنة غنية طمعا في اغتنام المال الكثير، فلو اجتمع الأمران فذلك أعجب العجب، وقد عنيت فؤادا ابن شقيقتك سيدة، فإنه أراد أن يوقع في شركه ابنتين إحداهما فقيرة نجت من مكايده والأخرى غنية فتحت الحوادث عين أهلها، فأمنت الوقوع في فخه، وبما أن فؤادا يرغب بطبيعته الاشتهار، فإني ومن يلوذ بي رهن لمساعدته، فنذيع اسمه، ونشهر فعله في الجرائد، ينقلها البعيد عن القريب، وننشر الأحكام التي تصدر من محاكم الجنايات، ولا أرى بعد هذا وجوبا لأعلمك بانقطاع العلاقات بيننا، وإني في حل من وعدي بمقابلتك في هذه الليلة، فلا تنتظرني، والسلام.
الإمضاء غانم
فلما قرأت سيدة هذا الكلام صاحت صيحة الحزن مولولة قائلة: ويلي يا مصيبتي، لم يعد في الأمر شك، وهذا الخط خط غانم أعرفه، والتوقيع باسمه، يا ربي ما هذه النكبة؟ ما هذه النائبة؟ تبا لدهر خئون يجرع أهله الغصص، ويجلب عليهم نوازل لم تكن في حسبان! كيف العمل يا أخي؟ أتظن أن الرجل يجعل الوعيد يقينا مفعولا، ويرفع القضية إلى المحاكم؟
قال همام: إنه جدير بأعظم من ذلك لشدة لؤمه وحسده وفظاظة طباعه، وليس من البعيد إقامة الدعوى على فؤاد بأنه اختطف عفيفة ابنة شقيقته، وأنها فتاة قاصرة، فيلتمس معاقبة الجاني بحسب القانون.
قالت سيدة وهي ترتعش، وما تفعل المحكمة؟
قال: تنظر في الشكوى، فإن وجدت وجه ثبوت أمرت بالقبض على فؤاد، وباشرت التحقيق.
فصرخت سيدة قائلة: ويلاه، ما هذه المصيبة التي لم تكن على بال! يقبضون على فؤاد ويجعلونه في السجن يحاكمونه محاكمة الأشرار العاتين السارقين بسبب ابنة من العواهر؟! لا كانت ولا رحم الله عائلة غانم، ولعن كل منسوب إليها.
قال همام: إنك لفي غلط جسيم، فلو كانت الفتاة من المومسات العواهر لجاء الأمر هينا سهلا، ووجدنا له تدبيرا، ولكنها من عائلة معتبرة، كان والدها من أماثل الرجال، قضى حياته في خدمة الحكومة بالاستقامة والشرف، وخالها غانم من الأغنياء الموسرين، معدود الخاطر، مسموع الكلمة، فلو ثبت أقل وجه من وجوه الجناية على ابنك حقت عليه العقوبة كأحقر سفلة القوم.
قالت: لا صحة للجناية المنسوبة إليه، وليست هي على شيء من الحقيقة، ولم يحصل الخطف البتة.
قال همام: هذا اعتقادي، فقد كنت في الأمس بالقرافة، فرأيت عفيفة تسلم نفسها إليه برضائها وقبولها وبغير إكراه، على أن الصعوبة أن تقنع قضاة المحكمة بذلك، فإنه قد اتخذوا عادة لهم معاملة كبار القوم بالقسوة والصرامة رياء؛ للإيهام بأنهم مستقيمو الرأي، أفكارهم حرة، لا يحابون ولا يخافون بالقضاء في الحق لومة لائم، فسيان عندهم الحكم حقا أو ضلالا، فكل قصدهم تحصيل الشهرة ولو موهومة، وأضاف: إن المسألة أضاعت رشدي، وأقلقت بالي، فلا أعلم ماذا أصنع.
ثم إنها قرعت الجرس الصغير، وكان على مائدة أمامها، فجاء الخادم فقالت له: يجب عليك أن تخبرني بحضور فؤاد بدون تأخير.
فقال الخادم: سمعا وطاعة.
ثم قالت لأخيها: إن أمر فؤاد غريب، فقد خرج بعد الظهر قبل حضورك عندي مع غانم، وها قد انتصف الليل ولم يحضر، فأفكاري من جهته، اللهم نجنا من كل مصيبة، اللهم افرج همي ولا تعاملني بخطيئتي، وأرح سري بفضلك وإحسانك، وأزح ظلمات هذه الكروب.
قال همام: إن في تصاريف الزمان لعبرة للوالدين الذين يشددون المضايقة على أولادهم ويقترون عليهم، حتى إذا بلغوا أشدهم خلعوا الطاعة، واندفعوا وراء أهوائهم، واسترسلوا في الغوايات، وأتوا كل منكر، فيجلبون لأنفسهم ويلا وثبورا ولوالديهم مزيد الشقاء والعناء، فلو أن الآباء عاملوهم بتؤدة وحلم، ومنحوهم شيئا من الحرية بقدر ما يلزم لسنهم؛ لوقوهم العثار وحفظوهم من الوقوع في مهاوي الفساد والضلالات، وكفوا أنفسهم العناء في الكبر، ثم من خصوص فؤاد أني لا أرتاب بإمكان إصلاح أمره وهدايته إلى الصراط المستقيم.
قالت: لست يا أخي خبيرة بطباعه وتقلب أهوائه، فهو يصبو إلى المحاسن الفكرية، ويولع بالتصورات والغزل الشعري حبا بالأدب لا بطبيعة الفساد وشهوة المعاصي، فقد نشأ على مبادئ شريفة جميلة، وعنده حياء تام وذمة نقية، ولم يكن كالشبان الأغرار المجردين من حسن السجايا والكمالات، ولقد أخبرني بقصته مع الفتاة من الأول إلى الآخر، فما وجدته مخطئا في تصوره أو ملوما في سيرته، والدليل على مقدار شهامته أنه أقام معها كل هذه المدة، فلم يحد عن سنة الشرف والعفاف محافظا غيورا عليها كالشقيق على شقيقته، شفوقا كالوالدة على ولدها، فهل تجد مثل هذه الأخلاق في شبان هذا الأوان؟
فقال همام ضاحكا: أصدقت قصته؟
قالت: صدقتها، إذ لا شك عندي في قوله، فهو ما ينطق إلا بالصدق، ولي الثقة في روايته.
قال: أما عني فإني يصعب علي جدا أن أصدق قولا على شاب في سنه يرافق فتاة جميلة، ويخلو بها الشهور الطويلة خلوا من رقيب وعاذل، فلا يخرج عن العفاف والصيانة، فهذا واحد المستحيلات، ثم لو فرضنا الأمر صحيحا لاعتبره الناس عنوان التغفل والبله.
قالت: إن فاسد الأخلاق يعتبر من ليس على شاكلته أبله أحمق، وبخلاف ذلك العقلاء المثقفون أصحاب المبادئ الصحيحة، فإنهم يحبون مقام كل همام أبي النفس، فيحمدون صنيع فؤاد، وأنت تذكر يا أخي أني صرفت العمر في تربيته وتثقيفه وتأصيل النبالة والشهامة فيه، فهو بعيد عن أخلاق أهل هذا الزمان الفاسدين الغاوين الطامحين إلى الشهوة، يرون المرأة فيفتنونها ويبذلونها مزيد الجهد تقربا من أهل البيوت المصونة للإغواء والإفساد، وأبى الله أن يكون فؤاد على هذا المذام، فوالله إني لأعلم من نفسي أنه أقام خمسة أشهر مع عفيفة فاتخذها شقيقة لا رفيقة، والتزم الأدب والصيانة.
قال: إذن مثله مثل إسحاق عليه السلام في حب رفقته.
قالت: شبهه بمن شئت، فالمؤكد عندي أن من شب على حب الفضيلة كان بعيدا عن الزلل، فلا يأتي الأمور المنكرة، وحسبي ما أنا عالمة من أخلاق ابني، فقد تكلمت عن هدى وخبرة، والله شهيد على قولي.
وبينما سيدة تخاطب هماما بهذا الخطاب دخل الخادم مخبرا بقدوم فؤاد مع سيدة متردية بملابس سوداء، فابتهجت سيدة بحضوره، ثم هتفت فورا بغير تدبر: أجاءت تلك اللعينة معه؟ قطع الله خبرها بين البنات، إنها كانت سبب التعب والعذاب ووقوع المشاكل والأخطار، فوالله لأنتقمن منها وأذيقنها أليم العذاب.
وما زالت سيدة تحتدم حتى وصل فؤاد، فالتزمت السكوت وكظمت الغيظ، وتقدم نحوها فؤاد ويده بيد عفيفة فقدمها مبتسما، والفتاة خافضة رأسها حياء، وقدها يخطر كالغصن، فقبلتهما وقبلاها، ثم إنها قالت لعفيفة: مرحبا بك يا عفيفة، كانت أمك من أعز صواحبي، وكنت كل مرة أنزل فيها إلى الإسكندرية أزورها فتحسن وفادتي، وأقضي الوقت رغدا برفقتها، وقد تجدد الشوق بي إليها برؤياك، فأهلا وسهلا بك، ولك عندي من الرعاية والإكرام ما يجب.
فانشرح صدر فؤاد من سماع جميل كلام أمه، وأجابت عفيفة بقولها: لك الفضل يا سيدتي والجميل الفائق بما أوليتني من النعمة، وأنا العاجزة عن القيام بواجب الشكر.
قالت سيدة: دعي الشكر والتجمل، فإني لم أفعل بعض الواجب علي، وتمام السرور عندي أني أكون لك بمنزلة الوالدة، وأنت لي بمنزلة الولد تحبيني وأحبك، وعندما نطقت سيدة بهذا الكلام أقبلت على عفيفة تقبلها في جبينها رياء كما حدثتها نفاقا، وكان همام ناظرا إلى الفتاة مبهوتا من حسنها الرائق وجمالها البديع.
فلما رأى أخته تقبلها قال في نفسه: قبلة يوداس اللعين من ألف - من قبل - من السنين، ثم إنه تقدم نحو عفيفة وقال لها: أيتها الفتاة المليحة إني مسرور بمشاهدتك، وأتمنى لك من صميم قلبي الهناء والسعادة، وأن تقيمي عندنا في الرحب والسعة، وإن سمحت لي بتقبيل يدك كما قبلت يد شقيقتي فلا يهولنك تقدم سني وبياض شعري. قال هذا ودنا منها ليفعل، فأبعدت يدها وأمالت رأسها فقبلها في جبينها قائلا: قبلت هذه المعاوضة، وإن كنت أود ألا تمني علي إلا بقبلة يدك.
قال فؤاد: أليست قبلة الجبهة أفضل من قبلة اليد؟
قال همام: لو أنها لم تسمح إلا بقبلة يدها كما طلبت منها لكانت تركتني حائرا واهما، فالشابات قلما يأذن لشاب بتقبيل يديهن، ولكنهن لا ينفرون من الكهول والطاعنين في السن، وهكذا سمحت لي بقبلة جبهتها بطيبة نفس، فكأنما شهدت لي بزوال زمن الصبا وقدوم نذر الكبر.
وطال بينهم الحديث في مواضع شتى دائرة على قطب المحبة والوداد، فابتهج قلب فؤاد، وطاب المقام لعفيفة، وانجبر خاطرها بمواساة آل ذلك البيت، فصارت تعتبر نفسها واحدة منهم.
الفصل التاسع عشر
في الساعة الواحدة بعد نصف الليل نهض همام لينصرف، فاصطحب معه فؤادا إجابة لطلب أخته سيدة، فإنها لم تسمح لفؤاد بالمبيت في المنزل في تلك الليلة فخرجا، على أن فؤادا يعود في الصباح، وبينما كانا سائرين قال همام لابن أخته: أتأسف على هذه الفتاة، فإنها لا تملك شيئا غير الجمال وهو لا يكفي في الوقت الحاضر، فالمال في عصرنا مقدم على الجمال فليتها كانت ولو على ثروة قليلة فتناسبك للزواج.
قال فؤاد: فتحت الحديث يا خالي فأجاوبك أن المال وجد لخدمة الإنسان لا ليكنز ويحرز، ويكفي المرء من دنياه تحصيل الضروري للقيام بمعيشته، وما زاد على القدر الكافي فالناس في غنى عنه، وليس أضل رأيا ممن زعم أن المال أصل السعادة والراحة، فإننا نرى الأمر بالعكس في بلادنا، فالمال موجب للهموم جالب للتعب، والسعيد من يقنع في دنياه، فهو الغني حقيقة، وتمام سعادته أن يتزوج بابنة مهذبة، فيصفو له الزمن ويعيش الرغد، وأنت تعلم أن عفيفة متحلية بهذه الصفات، فالزواج بها يجلب الراحة والاطمئنان، وقد أجرى الله في قلبي حبها، وهواها كل يوم في ازدياد عندي.
قال: لم أنكر جمال غادتك وكمالها، فهي بدر ساطع وغصن يانع بهية الأوصاف كثيرة الأدب، على أنني أسألك مستخبرا عن الغاية في حبها وعن مرادك.
قال فؤاد: سؤالك في غاية الغرابة، تسمعني أقول إني أحبها وإني كلف بها، ثم تسألني عن غاية مرادي، فغايتي ومرادي - صح - أتزوج بها.
قال همام: أتتزوج بها على غير رضاء والدتك؟
قال فؤاد: لا أظن أن والدتي تمتنع، وهي قد أحسنت وفادتها، وقد شهدت الأمر بعينيك الآن.
قال همام: لي العلم بأخلاق والدتك فوق ما تعلم، فهي من النساء الحاذقات، يكتمن الأسرار، ويمكرن في الناس دهاء، فلا يظهرن النوايا فينخذع لهن الغر القليل الخبرة، والظاهر أنك تجهل طباع والدتك ومرادها، فهي لا تسمح لك بالزواج إلا بامرأة غنية.
قال فؤاد: لن أتزوج إلا بعفيفة، ولن أقبل سواها، وأنا الذي أتزوج لا والدتي، فأرجوك يا خالي إن جرى الحديث بينك وبينها في هذا الموضوع أن تساعدني لإقناعها واسترضائها.
قال همام: أعلم يقينا أن والدتك قد اختارت لك زوجة سعدى بنت غانم صاحبة الغني المشهور، فلا تزوجك بغيرها، فلو ساعدتك في الأمر الذي تبغيه اعتبرتني عدوا لها، فعافني بالله عليك من التدخل في هذه المسألة، وإني أقول لك الحق، فما أكتمك شيئا، فقد كنت مائلا إلى زواجك بسعدى؛ رغبة في تحصيل الغنى والثروة، ولكنني ترددت بعد أن أبصرت محبوبتك عفيفة قريبة من القلب بهية الطلعة، ما ينقصها سوى أن تكون موسرة ولو يسارا قليلا، فإنك لست بذي غنى وافر ومال واسع لتنظر إلى الجمال من دون المال فيمن تختارها لك زوجة.
قال فؤاد: بحق إنك استلطفتها يا خالي؟
قال همام: نعم، ولولا قلة ثروتك لمنعتك عن الزواج بغيرها، ولو حملت لك من تتزوجها مال قارون، إنما قبل البحث في اختيار الزوجات يجب النظر في أمر يهمك جدا، خذ هذا الكتاب فاقرأه.
فتناول فؤاد الكتاب الذي أرسله غانم لهمام، وجعل يقرؤه، وكان في أثناء قراءته يضطرب، وتلوح على وجهه علامات الكدر والغضب، فلما فرغ من تصفحه صرخ قائلا: لعن الله كل لئيم فاسد الطوية خبيث، وكل ماكر زنيم، قاتل الله غانما، كيف رماني بسوء الظن والريبة القادحة؟!
في صباح اليوم التالي أرسلت سيدة كتابا لأخيها همام جاء فيه:
أرجو منك أن تجعل فؤادا في البيت عندك، فلا يفارقه حتى يؤذن المؤذن وقت الظهر وإلا بطل التدبير بحضوره قبل هذا الأوان، ولخصوصك يا أخي فإن أمكنك أن تقابلني في الفندق الشرقي عند الساعة الحادية عشرة؛ أي قبل الظهر بساعة بشرط أن تكون وحدك، فلا تصحب معك فؤادا تكن أتممت جودك وفضلك، ولا شك عندي بخالص محبتك وصادق رغبتك في مساعدة أختك الملهوفة.
سيدة
قرأ همام الكتاب ثم وضعه على مائدة في الحجرة التي هو فيها، وجعل يقول محادثا نفسه: إنها لمأمورية - والله - صعبة، تجعلني أختي حافظا على فؤاد، بئس هذا التكليف، فليتها جعلتني حارسا لغادة هيفاء، فإني ولو طال الأمد لست منها أنوفا، وأما أن أحرس فؤادا فذلك - والله - شديد علي وثقيل على طبعي وبعيد عن ذوقي ومباين لمشربي، فليتها على الأقل أبانت عن مرغوبها وأعلمتني بالغاية التي تقصدها من الحجر على ابنها عندي، فأكون على هدى من أمري، ولكنها كتمت، وما أدراني أن يكون وراء تدبيرها ضرر لفؤاد وخليلته لا خير كما زعمت، وإن صدق ظني فمرادها أن تبعده عنها فلا يجتمعان، فلله من دهائها ومكرها.
ثم إن هماما قرع جرسا صغيرا كان أمامه، فجاء الخادم فقال له: تخبر فؤادا عندما يقوم من النوم أني أريده، ولا تدعه يخرج قبل أن يقابلني، واحذر أن يأتي أحد بحركة أمام حجرته؛ لئلا يهب من منامه وهو منهوك تعبان يحتاج إلى الراحة، ثم بعد انصراف الخادم عاد همام يناجي نفسه بقوله: لو ظل فؤاد نائما لكانت المأمورية هينة سهلة، ولكنني أخشى أن يفيق فيلبس ثيابه، وينهض سريعا إلى محبوبته، فلا يقبل منى رأيا، ولا شك أنه لم ينم الليل، ولم يبرح ذكر محبوبته من باله، فكيف أطمع بمنعه عن الزواج، والنهار قد طلع، والشوق قد أكل عظمه وبراه، فلو أن أختي أطلعتني على سرها لكفتني الحيرة، فربما كنت أتدبر طريقة أخرى أنسب من طريقتها، وتكون حيلتي ألطف من حيلتها وأخف وطأة وأسهل مراسا.
وبينما كان همام يجيل هذه الخواطر في نفسه دخل الخادم مخبرا بحضور سعيد بن غانم، فنهض همام لاستقباله، ولما تقابلا اعتذر سعيد بقوله: أرجوك عدم المؤاخذة يا سيدي على الحضور في هذه الساعة، فهي غير مناسبة للزيارة، ولكنما حملني عليها سبب جوهري، فالعذر مقبول، وكان على وجه سعيد علامات الاضطراب والكدر بالرغم من طبيعته، فإنه كان على الدوام فرحا مسرورا.
قال همام: ليس بين الأصدقاء تكليف، إنهم يحصل الرحب لهم أية ساعة حضروا.
قال سعيد: لعله لا يخفى عليك أننا في أحوال صعبة جدا، ولا بد أنك تكون قد اطلعت على كتاب والدي.
قال همام: نعم، اطلعت عليه، وها هو على المائدة أمامك.
قال سعيد: أزيدك علما أن الكتاب لا يشتمل إلا على الجزء القليل من الغضب الكامن في صدره، فهو لم يذق طعاما ولا نوما من أمسه، وكان من شدة استشاطته يقول: لأنفقن - والله - آلاف الجنيهات في حكم جنائي على فؤاد.
قال همام: هذا قول البخلاء حين يغضبون، فلا عبرة به، وهو أشبه شيء بعربدة السكارى ويمينهم ألا يتعاطوا بعد يومهم كأسا، والعاشق إذ يحلف بسلوان معشوقته، وعهدي بوالدك حكيما عاقلا، فهو لا يصرف آلاف الجنيهات فيما لا يزيد ماله سعة، وإلا فقد أضاع عقله فاحجروا عليه.
قال سعيد: وأنا نظيرك لا أصدق كل قول أسمعه منه حال الغضب، ولكنني أراه الآن متكدرا جدا فوق العادة، وقد عزم على استقراء الأمر إلى آخر درجة.
قال همام: ليفعل ما يشاء، إنه لن يستفيد إلا العناء والخسارة، ففؤاد بريء من التهمة ومنزه عن الريب الذي ينسبه إليه والدك.
قال: إن شاء الله، وحبذا أن يكون الأمر كما قلت، فوالله لن تجد رفيقا يسر مثلي بتبرئة ساحته، ولي فيه حسن الظن ومن قديم الزمان، فلا يقع في اعتقادي أنه يرتكب الفظيعة المنسوبة إليه.
قال همام: يظهر أن والدك اتفق مع خليل في الشكوى عليه.
قال سعيد: نعم، فقد كانت هذه المسألة سببا للتوفيق بينهما، فإنه مقرر معلوم أن العداوة بين الأنسباء تزول عند وقوع أمور تشين العائلة، فيقوم الائتلاف بديلا من الاختلاف وينسون ما كان بينهم من الشحناء، وهكذا فخليل بعد عداوته أصبح الآن أقرب صديق لوالدي ابتغاء الانتقام من ابن أختك.
قال همام: الفتنة فتنة خليل، وهو أصل الفساد، والمغري والدك بفؤاد، فقطع الله هذا الرجل الشرير الخبيث النية، ولعن الله كل لئيم خبيث وكل ساع بالإثم زنيم.
قال سعيد وقد أنكر هذا الطعن: جاوزت الحد في ثلبك، فلعلك نسيت أن خليلا كان لنا نسيبا.
قال همام: لئن كان لك نسيبا، فإنك لم تعرفه حق المعرفة، وإلا لكفيت نفسك عناء المدافعة عنه، فهو غير أهل لذلك، ولو عرفت حقيقته وما انطوى عليه من الخبث والخبائث لما استطعت أن تنطق بأحرف اسمه قبل الاستعاذة بالله منه، كما يستعاذ بالرحمن من الشيطان الرجيم، وظننت أني جاوزت الحد في ثلبه، فوالله إنك لو علمت غدره ومكره وخبثه وأوصافه الذميمة لثلبته مثلي، وانظر كيف كان يتلبس بالتقوى، ويلتزم السكوت، ويلبس السواد موهما أن حزنه على امرأته وهو في الحقيقة واجد ولهان حزين على فقد عفيفة، ألا تذكر يوم كنا في حديقة الأزبكية نتناول طعامنا فحضر الرجل، وجرى الحديث في زينة ضريح كريمة عمتك، كيف أنه اضطرب وصاح من فرحته متهللا: عفيفة لم تمت، ثم نهض من حينه عاجلا إلى القرافة طامعا برؤيتها بعد طول الغيبة؟ فليت والدك يعلم الخبر فيعدل عن عداوتنا، ويقوم بيننا وبينكم الصلح والوفاق، ثم لا يخفى عليك ما تلبسون من العار في شيوع هذه المسألة بين الناس، فعفيفة قريبة لك فاحرص عليها أن تهلك أسى وغدرا بكف خليل كما هلكت أمها من قبلها، ثم تذكر يوم القرافة إذ هجم على فؤاد وكاد يجرعه كأس الحمام بخنجره المسلول لولا حضوري وعناية الرحمن، أيفعل هذا الفعل به حزن على امرأته، ألا ترى من ذلك هياج الحب والغيرة؟
فضرب سعيد على رأسه بيده وقال: لا بد أن يكون الأمر كما ذكرت، فإني فضلا عن هذا كنت أسمع خليلا ينطق كثيرا باسم عفيفة فيضطرب ويكتئب، وتحمر عيناه، فيبتدئ بالتخريف قولا بغير هدى، وقد كنت في الأمس معه أتنزه من جهة قصر العالي، وإذ بفؤاد قد مر راكبا مع عفيفة عربة مقفلة فتغير وجهه، وحاول تركي ليهجم عليه فيقتله، ولكنني منعته بمنتهى قوتي وعزمي، وهذه الأفعال لا تصدر إلا عن شهوة الحب لا عن الحزن على فقد زوجة يكرهها.
قال همام: الأمر جلي، لا يحتاج إلى برهان، فالرجل مولع بعفيفة كلف بهواها، ولا شك أنه من أكبر المجرمين إذ افتكر بانتهاك حرمة شابة محرمة عليه، ربيت في حضنه طفلة فاعتبرته لها والدا، فلما ترعرعت شرهت نفسه الخبيثة بافتضاحها على فقد الولي والنصير، فلما توسمت منه الخيانة والغدر ولت مدبرة تفضل احتمال العذاب الأليم على الوقوع في شركه، فكان الأولى بك وبوالدك أن تأنفا من قبول هذا الرجل في المنزل عندكم، وأن تستمعا أقواله الكاذبة وإشاراته الخبيثة، وحسبه أنه قتل امرأته قهرا، ويحاول انتهاك حرمة ابنتها غدرا، وهو عار عظيم عليكم.
قال سعيد: أتأسف على معاشرتي هذا الرجل وإصغائي إلى كلامه، فوالله إني لم أحسب أنه يبلغ هذه الدرجة من اللؤم والخيانة، فمعاذ الله أن أصحبه بعد هذا اليوم، فقد سقطت بيننا المناسبة والقرابة بوفاة عمتي من غير أن تترك ولدا منه، فهو دائما لدينا كسائر الغرباء البعداء، أما عفيفة فهي قريبتي نسبها نسبي، يمسنا كل ضرر يمسها، ويلحقنا كل عار يصيبها، وكانت تحضر إلى المنزل عندنا كثيرا في حياة والدتها، وهي على جانب عظيم من الأنس والبداهة والأدب ولطف الكلام ودعة القلب، فمن الواجب علينا إغاثتها وإنقاذها من أيدي الماكرين الخبثاء، فوالله إني لأرتعد بجملتي حين أفتكر كيف عزمنا على تسليمها إلى ذلك الشرير الغادر يفعل بها ما يعلم الله.
قال همام: لو فعلتم لكان نصيب البنت منه نصيب النعجة من الذئب، وتكونون أنتم الجالبون على أنفسكم الفضيحة بأيديكم، على أني أعلمك بأن فؤادا قد استلم البنت من يدي أمها فأحسن معاملتها، وأتى عليه خمسة أشهر فلم يخرج عن الأدب والعفاف، فكأنه والد شفيق أو أخ رفيق، ولو أنصفتم لرأيتم أنه أدى إليكم معروفا كبيرا وجميلا يستوجب الشكر، إذ حفظ شرف عائلتكم من الضياع، فمن الواجب عليكم مقابلة الإحسان بالإحسان، بدلا من اتهامه بالسوء والسعي في إضراره وتنكيله، ولا ريب أن خليلا هو الذي حمل والدك على سوء الظن بفؤاد ابتغاء الزلفى وتوسلا لنوال الإرب، فيقضي من عفيفة وطرا، ولكن على الباغي تدور الدوائر، ومن نصب لغيره شركا وقع في الشرك الذي نصب، والله يرد كيد الباغي في نحره. إن عفيفة موجودة الآن عند شقيقتي سيدة، فلو رأت عليها أقل شبهة أو ريبة لما قبلتها في منزلها، وبالغت في إكرامها وتسلية خاطرها، وشقيقتي مشهورة بالحذق ودقة النظر، وتقدير الأمور قدرها، فلو لم تجد فيها الكمال والأدب والطهارة لقابلتها بالصدود والطرد، فحسبك ذلك برهانا قاطعا لعرق الشك ومزيلا لكل ريبة، ودافعا لكل ظن خبيث.
قال سعيد: شرحت - والله - صدري، فقد عرفت فؤادا كامل الأوصاف جميل السجايا، فلم يخلف ظني، ومن النادر وجود مثله بين الشبان ناشئا على المبادئ الصحيحة والمقاصد الجميلة المنيفة، وما أتاه من الصنيع الجميل لا يكاد يصدق، فليت شبان زمانه يقتدون به ويقتفون أثره، فحقا لقد زاد اعتباري له وإخلاصي لعفيفة، وأصبحت في مزيد شوق لرؤياها ومصافحتها.
قال همام: تحقق لدينا أن فؤادا وعفيفة بريئان مما نسب إليهما، فوجب علينا أن نبذل المجهود في إصلاح ذات البين والتوفيق بين أهلنا وأهلك، وتحقق أن خليلا هو المضلل المفسد ومصدر الفتنة والنميمة، فيجب إبعاده وإقصاؤه، وعلى والدك أن يجبر ما كسر، ويصلح ما فرط منه في حق فؤاد وعفيفة، وعندي لا وجه لذلك إلا بأحد أمرين: إما بزواج بسعدى أختك، وإما بعفيفة بنت عمتك، ولكل من الأمرين ملاحظات خصوصية، أما زواجه بعفيفة فيعرضه لرشق الظنون الخبيثة، ويتخذ الناس ذلك دليلا على أن في سابقة الأمر غشا وخديعة، وبعكس ذلك لو تزوج أختك سعدى فإن ألسنة الناس تلجم عن القدح به، وتثبت لدى العامة والخاصة براءة عفيفة، وعلى سائر الأحوال فتزوجه بسعدى أفيد له - بسبب غناها الكثير - من زواجه بعفيفة على قلة مالها وفقر حالها.
قال سعيد: بل الأجدر به أن يتزوج بعفيفة على فقرها، فإنه يحبها وعينه تقر بها، وسأبذل جهدي في سبيل إقناع أبي لعله يقبل مني الرأي، فيخصص قسما من ماله لجهازها جزاء حسنا عن صونها العرض وحفظها على الطهارة والأدب، وفي بعض الحال غنى عن الكل، والله هو الغني الكريم.
وما أتم سعيد كلامه حتى أقبل فؤاد، فسلم على خاله وحيا سعيدا بأجمل تحية، ثم جلس يحادثهما بأشياء كثيرة، ويبالغ في تجمله وإكرام سعيد، وهذا يقابله بالبشاشة والانشراح.
ونظر همام إلى ساعته فرأى الوقت قريبا من الحادية عشرة، فقال في نفسه: هذه الساعة التي عينتها شقيقتي للمقابلة في الفندق الشرقي، فالتفت إلى فؤاد وقال له: إني متوجه إلى الفندق الشرقي لمقابلة السيد غانم كما أخبرتك في الأمس، وسأصحب معي سعيدا فأستعين به على إصلاح ذات البين وجمع القلوب وتأليفها بعد النفور، وأرى من المناسب أنك تنتظرنا في قهوة البورس، ثم نرجع إليك فنتناول طعامنا معا في فندق حديقة الأزبكية، وننهض بعض ذلك إلى منزل والدتك.
فأذعن فؤاد لهذا القول، وانطلقوا جميعا إلى الجهة المقصودة.
الفصل العشرون
سبق القول عن الكتاب الذي بعثته سيدة إلى أخيها، وفيه توصيه بالحجر على فؤاد حتى يكون قد انقضى وقت الظهر، وقد فاتنا أن نقول: إنها كتبت في الوقت نفسه كتابا آخر لغانم، تخبره فيه بعزيمتها على زيارته في الفندق الشرقي قبل الظهر بساعة واحدة لتذاكره الحديث في أمر ذي بال، وتلتمس منه أن ينتظرها في ذلك الموعد. فلما دخل غلام الفندق بالكتاب على غانم في حجرته تناول غانم الكتاب، وقرأ ما فيه ثم اهتز هزة الظافر المنصور، وجعل يقول في سره متعاظما: أما والله، فليس إلا المال يكسب الرفعة والوجاهة والنفوذ، فهو مالك رقاب العباد، وخافض جناح كل عظيم، ورافع شأن كل سافل، ومبلغ الأوطار، وميسر المعاسير، وعليه قوام الكون وعمرانه، أصحابه معززون مكرمون سعداء مغبوطون، يقصدهم القاصي والداني وأصحاب الحاجات، ويعنو لهم كل كبير وصغير وكل رفيع وحقير، هذه سيدة الحسيبة الرفيعة قد هبطت من أعلى مقام تلتمس مني أن أتفضل عليها بمقابلة لبعض دقائق معدودة، وكانت قبل ذلك تأنف مني، وتحسبني جاهلا غبيا فاقد الاعتبار والأدب، وأما الآن فتتذلل وتستعطف لأقضي لها حاجة جليلة مهمة بالضرورة، وإلا لما كلفت نفسها الحضور إلى الفندق مع علمها بأن ذلك يقدح في مقامها، وأنه لا يجوز، ولا جرت العادة للنساء اللواتي من طبقتها شرفا وحسبا أن يزرن الرجال في الفنادق، وإن صدق حزري فهي تأتي لتسترضيني استمناحا للعفو عن ابنها والصفح عما أتي من المنكر، فإن كان هذا هو الباعث على حضورها فقد حدثت نفسها بالمحال، وتجشمت العناء سدى، وسيذهب سعيها وما أملت أدراج الرياح، فوالله - حلف لا أحنث به - إني لأنكلن غلامها ، وأبذلن منتهى القوة والجهد، وأنفقن القناطير المقنطرة من الذهب في كسر أنف هذا البيت، وأكيدنهم كيدا مبينا، وأجعلن فؤادا بين يدي صغيرا مهانا، ولقد ورثت عن والدي أني لا أقبل شفاعة متشفع، ولا رجاء ضارع، وأني أرد كل سؤال سائل، وأن أشمخ حين يتصاغر لي قاصدي، كما أتصاغر لمن شمخ علي، فهي عادات اكتسبتها فلن أحيد عنها، إذ أصبحت لي طبيعة ثانية. ثم إنه جعل ينظر من حين إلى حين من نافذة الحجرة التي هو فيها ليرى سيدة قادمة، وكان يكشف ساعته من دقيقة إلى دقيقة ويقول: إن أبطأت سيدة عن الحضور في موعدها لو لدقيقة واحدة خرجت، فلا تراني، لتعلم مقداري وشأني.
وبينما هو مطل من النافذة إذ بعربة وقفت أمام باب الفندق، فنزل غلام كان جالسا إلى شمال سائقها وفتح بابها، فانحدر منها سيدتان عليهما علامات الوقار والجلال لابستان ثيابا سوداء إحداهما كهلة والأخرى صبية في غاية اللطف والجمال، تقدمتا للدخول إلى الفندق فعرف غانم سيدة أم فؤاد، ولم يعلم من الفتاة، وقد أحس بشر من هذه الزيارة، فنهض من مكانه، وتقدم نحو مرآة في حجرته ينظر وجهه ويرتب شعره، فلم يكن كلمح البصر حتى قرع الباب فأسرع فتحه لسيدة، فدخلت بغاية الجلال والعزة، وسلمت بقلب جريء، فعند رؤيتها شعر غانم بانحلال عزيمته وتداعي همته وعظمته إلى السقوط شأن كل دنيء سافل عند مقابلته الكبراء والعظماء، فرد عليها السلام بغاية التكريم خافضا رأسه، وقال لها مترحبا: أوليتني شرفا عظيما بهذه الزيارة يا سيدتي، ثم أجلسها على مقعد من القطيفة كان في الحجرة، وأجلس عفيفة إلى شمالها، وكانت عفيفة قد أبصرت أن المزور خالها فعرفته، وانقبض وجهها، وأوجست من هذه الزيارة شرا، وهي لا تعلم المقصود منها، وكان غانم ينظر إلى الفتاة اختلاسا بطرف عينه، وقد أدهشه حسنها الرائق، وأعجبه لياقة ملبوسها، ثم جعل يتأمل هيئة سيدة، فلم يجدها مخطوفة اللون مضطربة كما سبق فتوهم، بل رآها بعكس ذلك مطمئنة طلقة الوجه، فحار في أمره واندهش سره.
وكانت سيدة تعلم جيدا طباع غانم وأخلاقه ودناءة نفسه، فأدركت أن لؤمه يستطيل عليها، ويشمخ بأنفه إلى العلا إن رأى منها تصاغرا وضعفا، فتلبست بالعزة والقوة، ورأت من اللازم أن تحادثه بقوة الحجة والبرهان فتغلب عليه إذ لم يكن من سبيل لإقناعه بلين الكلام وتحريك العواطف الإنسانية فيه. وقد قدمنا أن هذه السيدة كانت على ذكاء مفرط وبراعة في الحديث كلية، فقالت لغانم وهي تنظر إليه مبتسمة: أطلعني أخي همام على كتاب سطرته جنابك، فبعثته إليه في الأمس، ولدى تصفحه قد غضب وهاج هياجا بينا، وكان قد عزم على أن يجاوبك بعبارة عنيفة من مثل كتابك وقول شديد، فمنعته عن ذلك بمجاهدة النفس، وأنت تعلم طباعه ومقدار حدثه، وأنه خدم في الجهادية أربعين سنة، ولم يرهب كبيرا ولا عدوا شديدا، وأنه على همته الأولى ونشاط الشباب لم تسقط له عزيمة، فلو جرت المكاتبة بينك وبينه على نسق كتابك في الأمس وقعت أمور مكدرة ومحزنة لا ترد ولا تعوض، فمن أجل ذلك كلفت نفسي الحضور إليك؛ لأدفع البلاء، وأنت ذكي فطن، لا تخفى عليك الإشارة.
فاضطرب غانم عند سماع هذا الكلام، ولم يرد في خاطره أن ذلك الكتاب الذي كتبه يورث خصاما شخصيا بينه وبين همام، وكان يعلم حق العلم أن هماما بطل صنديد قوي الجنان وشجاع عنيد، فخاف على نفسه - والبخيل جبان - أن يهلك بسبب هذه العداوة، ولكنه أخفى الكمد وأظهر الجلد، وقال لسيدة: معاذ الله أني أكون قد قصدت عداوة لأخيك همام، ولكن لا أرى من الممكن أن أسحب من كتابي كلمة كتبتها فيه.
قالت: إذن تقف موقف عناد، ومرادك حمل أخي على مبارزتك، والله يعلم أني لولا التوسط بينكما وحضوري لمداركة الأمر ودفع النازلة؛ لتحدث الناس بخبركما مجروحين أو مقتولين.
قال: كل شيء بقضاء الله، ولا ينفع الحذر إن وقع القدر.
قالت: أنت أدرى بمصلحتك، على أني أود لو تستعمل اللين في خطابك، فلا ترهب قلب هذه الصبية (وأشارت إلى عفيفة)، فهي شديدة التأثر رقيقة الشعور، لطيفة الطباع، وتنزعج لسماع أقل كلمة غضب أو نفور، ولا أظنك جافي الطباع حتى لا تبالي بحياة فتاة جميلة كهذه، وأنت لم تسألني بعد عنها.
فتفرس غانم عفيفة، وقد أدهشه جمالها البديع ثم قال لسيدة: قبل أن أسألك عن اسمها أسألك إن أذنت لي عن السبب الذي بعثك على تشريفي بهذه الزيارة.
قالت: السبب هو أنك في كتابك لم تقتصر على إهانة أخي همام حتى أسأت الظن بابني فؤاد وثلبته ورشقته بالتهم الفظيعة، قلت عليه الأكاذيب الفاضحة، وزعمت أنه يعجز في الدفاع عن نفسه تبرئة له وصونا لاسمه عن العار والابتذال، ثم لو أن طعنك جاء مقصورا على همام وفؤاد لما اهتممت، ولا كلفت نفسي مشقة الحضور إلى مكان لا يليق حضور السيدات المخدرات مثلي فيه، ولكنك تعرضت في كتابك لثلب سيدة شريفة كريمة عذراء فاضلة، فمسست من كرامتها، ووضعت من قدرها تهاونا في عرضها، ورجمتها بالظنون الخبيثة، وهي مما رميتها به بريئة، والبريء قوي على رد افتراء المفترين، وقد كبر علي سماع الثلب، فدعتني المروءة والشهامة لأنتصر لها وأدفع عنها القول الباطل، وأنشر فضيلتها وآدابها ومحاسنها وكمالاتها، فهذه الفتاة التي تراها أمامك هي عفيفة بنت أختك المرحومة، هي هي بعينها، وقد كانت شقيقتك - رحمها الله - من أعز رفيقاتي، صحبتها زمنا طويلا، واتخذتها لي صديقة حميمة، فذكرت عهد الصداقة القديمة والمحبة الوثيقة، ورأيت من الواجب علي أن أتولى أمر بنتها، ولو كنت أنا منها وتوفيت عن فتاة لفعلت أختك بها مثل فعلي بابنتها، فها أنا أسلمها إليك كما استلمتها عذراء طاهرة نقية بريئة من العيب، وما أطلب أجرة ولا ثوابا، ففعلي لوجه الله الكريم، وكفى بذلك حجة تدفع قول المبطلين المفترين، وتزيل كل ظن فاسد خبيث، وتمنع أسباب الخصام واللجاج بيننا.
فانذهل غانم عند ذلك وحار في أمره شديدا، وعلم أن خليلا قد خدعه وأضله ليورثه الهموم والتعب، فجعل ينظر تارة إلى سيدة وتارة إلى عفيفة، ويقول في نفسه: ليس لي - والله - خلاص من هذه الفتاة، وقد كنت ظننت أني نجوت منها، فإذا هي قد بعثت حية، وهبطت علي كالصاعقة تصعقني، فما الرأي والعمل، ما الوسيلة لدفع هذه النازلة؟ قاتل الله خليلا وقومه المفترين، وتعسا لمن يسمع له قولا أو يصدقه في أيمانه، كيف قبلت الرأي منه بغير تدبر؟ وكنت عجولا، والعجلة تورث الندامة، وكان الجدير بي أن أتبصر وأتأمل.
قالت سيدة: ما لي أراك مبهوتا مضطربا بدلا من مشاهدتك فرحا مسرورا بلقاء ابنة أختك بعد طول البعاد؟! فلعل السرور ملأ قلبك، فعقد لسانك عن الكلام، أو ترى يكون قد كدرتك رؤيتها ... بالله انظر إليها فهي غاية اللطف والرقة والكمال، فلو جعلتها في وصايتك، ووسعت لها في منزلك طابت نفسك حبورا، وأقامت عندك كإحدى بناتك.
قال: علمت أنها أقامت مع فؤاد بعد وفاة والدتها، ولم يبلغني أنها كانت في منزلك.
قالت: لم يكن فؤاد إلا واسطة بيني وبين والدتها، وأنت ترميه بالتهمة وترجم فيه الظنون، فاعلم أن كريمة شقيقتك عند احتضارها وانقطاع أملها من قبولك عفيفة في منزلك تذكرت صداقتي القديمة، فجعلت ابنتها وديعة عندي، ووكلت إلي أمرها حتى يهون الله عليها بنصيب حسن، وقد أحسنت - رحمها الله - بي الظن فوفيت الأمانة حقها، وأنقذت الصبية من خطر مبين، فأبعدتها عن خليل اللئيم الفاسق الشرير، وجعلتها في حفظ قوم كرام يهتمون في أمرها ويعتنون بها، فلما رأيت جميلي منكرا عندك والمعروف ضائعا رددتها إليك لتحسن مثواها، وتجبر خاطرها الكسير، وتكفيها العوز والشدة، وتعزيها على فقد والدتها.
وكانت عفيفة تسمع هذا القول فلا تعي منه شيئا، وتتعجب ودمعت عيناها عند ذكر والدتها، فناولتها سيدة منديلا لتمسح به الدمع، وقالت: والله إن قلبي لينفطر من ذكر كريمة، كيف قاست من العذاب في آخر عمرها، رحم الله ثراها، وأسبغ عليها بركاته ورحماته، وعزى أهلها وذويها، وألهمهم صبرا جميلا على فقدها.
ثم قالت لعفيفة: كفكفي كفكفي يا ابنتي الدمع، وسكني الروع أيتها الفتاة المحبوبة، وقري عينا، واشكري الله على عنايته الفائقة، إذ رزقك خالا رحيما شفوقا يتولى أمرك، رزق غنى واسعا عميما، فلا يبخل عليك بجوده، ولا يضن بمعروفه ، يواسيك ويسلي قلبك المحزون، أبشري فقد أقبل عليك الزمان، ووافتك السعادة وزال الشقاء والتعس.
وكان غانم يسمع هذا القول وقلبه مفعم غما وكدرا، وكان يقول في نفسه: لئن أقبل الزمان على هذه المنحوسة فلقد أدبر عني، ولئن وافتها السعادة فقد وافتني النحوس، واستقبلني الخراب والدمار، فما يكفيني همي بأولادي حتى أهتم بأولاد الغير، وجعل يسخط على خليل، ويلعنه إذ كان هو السبب في هذه البلية.
ونهضت سيدة تريد الخروج، فتصورت عفيفة أنها ستبقى عند خالها غانم، وتذكرت لؤم طباعه ودناءة نفسه الكلبية وقبح أفعاله، وكيف أنه أبى قبولها عنده، وكيف قسا قلبه الصخري فأمات شقيقته كمدا وقهرا، فسقطت على قدمي سيدة راجية باكية تحلفها بالله تعالى وبابنها المحبوب أن لا تتركها في هذا المكان تموت قهرا، ثم قالت لها: ارحميني ارحميني واجبري كسري، انظري فقد أوشكت قوتي تنحل، وضاع رشدي، أنقذيني الله يسترك.
وبينما هي تتكلم هكذا إذا بباب الحجرة قد انفتح لهمام وسعيد، وكانا قد حضرا - كما تقدم القول - لاستعطاف خاطر غانم، والإصلاح بينه وبين فؤاد، وكان من عادة سعيد أن يدخل على أبيه بغير استئذان ولا تنبيه، فلم يخلف عادته وصادف دخوله وسيدة واقفة وعفيفة منطرحة على قدميها تستغيث وتسترحم، فأثر هذا المشهد عليه وعلى همام، فأقبلا إلى عفيفة وأنهضاها من ركعتها، وأجلساها على المقعد، وجعلا يسليان خاطرها ويطيبان قلبها.
وكانت سيدة قد جلست حين أبصرت هماما أخاها، وقالت: أحضرت معي الصبية كي أسلمها إلى خالها فهو أحق مني بالوصاية عليها والاهتمام بأمرها، وبذلك تنقطع أسباب الخصام والنزاع، ولكن تأنفت من الإقامة عنده، وليس لي أن أجبرها وأمنعها وهي تستغيث بي، ولكنني أخاف أن أرجعها عندي فتستمر أسباب القيل والقال، ويشتد علينا التعب والقلق، فوالله لقد ضاع رشدي، فلست أعلم ماذا أصنع. ثم إنها جعلت تقص على همام وسعيد طرفا من الحديث الذي دار بينها وبين غانم، وتطنب القول في أمانة فؤاد واستقامته، وعفة عفيفة وبراءتها، ونزاهتها من كل عيب وريب.
فقال سعيد: بدا لي من أول وهلة رأي في حل هذه المشكلة، ولعله مصيب وبه التوفيق بين الجميع.
قال همام: أفدنا عن رأيك فلعل به خيرا لنا أو يكون منه سبيل للخروج من هذا المأزق، فقد - والله - عدمت الرأي على شدة فراستي وذكاء قريحتي في حل المشاكل وتذليل المصاعب، فما أعلم هل عراني الخمول وفترت همتي منذ يوم دخلت في زمرة المتقاعدين حملا على المعاش.
قال سعيد: الرأي عندي أن نزوج فؤادا بعفيفة، فبهذه الوسيلة تنصرف الأضغان وتتمكن علاقات المحبة بين الفريقين، ويفوز فؤاد بمرغوبه، وتنال عفيفة جزاء الأمانة والعفاف.
قال همام: والله هذا عين الصواب، وهو الرأي الجدير بالاتباع في هذه الأحوال، لولا ما يحول من الموانع في هذا السبيل.
قالت سيدة: كان فؤاد هدفا للظنون الفاسدة والتهم الباطلة بسبب عفيفة، فلو تزوجها لثبتت تلك الظنون، فالرأي عندي لإزالة الشبهات أن نزوجه بسعدى - كما جرى القول أولا - ليعلم الناس أنه بريء مما نسب إليه، فلا يفترون عليه الكذب، والحجة في ذلك أنه لو لم يكن فؤاد بريئا لما زوجه غانم بابنته.
قال سعيد: قد فهمت المانع الحقيقي لتفضيل زواج فؤاد بسعدى، وهذا مانع هين لا عبرة به، ومن الممكن إزالته والفضل لا يخفى، وفضيلة عفيفة تكفيها لكبت أعدائها المفترين وإبطال أقوال الشانئين، والله حكيم، يقدر الأمور قدرها، فيجازي أحسن جزاء كل فعل جميل.
قال همام: لله درك يا سعيد، ما كنت أظن أنك على هذه الدرجة من الذكاء والفهم، فأنت ترى المانع من زواج فؤاد بعفيفة خلو يدي الاثنين من الثروة، وفي اعتقادك أن الزواج لا يجمل إلا بالموسرين، وأما قليلو المال فمتعوسون والزواج مجلبة التعب والشقاء لهم، والرجل العاقل لا يقدم عليه إلا بعد أن يكون قد أحرز شيئا من حطام هذه الدنيا لكفالة راحته وضمان استقباله، وإلا كان من الخاسرين مثله مثل رجل يقع في بحر عجاج متلاطم الأمواج، يطمع في النجاة على خشبة، والبر عنه بعيد والأمان فقيد، ولقد أصبت - والله - أنه لا يجمل بنا أن نجعل فؤادا وعفيفة في مثل هذا المركز الصعب، بل يجب علينا مساعدتهما بما يمكن، وأن نضمن لهما الاستقبال ليكونا في أمن من غوائل الأيام.
وكان غانم في أثناء ذلك يسمع الحديث، فلا يفوه بكلمة، ويقول في نفسه: الرأي أني أوافق، فإني لو رفضت هذا الزواج فأبقيت عفيفة عندي صرت مسئولا بالنفقة عليها، وبت أبدا دائما قلق الخاطر متعب السر، فزواجها ولو بقليل من الخسارة أفيد وأليق، فتقرر هذا الرأي عنده، وقال: استحسنت رأي سعيد، ولو أن به كلفة علي، فالإنسان بين شرين يختار الأيسر، والألم المؤقت شديدا أخير من المرض الدائم خفيفا؛ ولذا قبلت بهذا الزواج.
قال همام: من الضروري إذن أن نستدعي فؤادا، فهو في قهوة البورس قريبا من هنا لعله يقبل هذا الرأي، فالاعتماد عليه، والرغبة رغبته، فخرج الخادم يدعو فؤادا.
وقالت سيدة: أنتم تعلمون أن الناس رجموا الظنون في ابني، وقالوا عليه الأقوال الفرية، ووضعوا من قدره ومكانته فلحق به أذى أليم وإهانة جسيمة، والتعويض بمقدار الخسارة، ومن الأوفق أن نزوجه بسعدى لتثبت براءته وتظهر صداقته، وليعلم القوم أنه مظلوم وبريء مما نسب إليه.
قال سعيد: إن فؤادا يحب عفيفة جدا والمحبة ضرورية في الزواج وبها البهجة والسعادة، وهي جالبة الراحة وكافلة السعادة، والذين يتزوجون على هذه السنة أسعد الناس حاضرا واستقبالا، وجميع أوقاتهم سعود وأفراح، وبانعدام المحبة ينعدم كل سرور، وقد رأينا فؤادا محبا عفيفة محبة فائقة يحتمل من أجلها كل مشقة وكريهة، ويستسهل كل صعب، فليس من العدل حرمانه من مطلوبه وإكراهه على الزواج بسعدى، وهو لا يحبها، وعلى سائر الأحوال فعفيفة وسعدى عند والدي في المعزة سواء، فكلتاهما ابنتاه ومنزلتهما واحدة، وهو أدرى بالتوفيق بينهما وجبر خاطر كل من الاثنتين.
وما أتم سعيد كلامه حتى دخل فؤاد، فحيا وسلم ثم جلس، فأخبره بما اجتمع عليه رأيهم فتهلل وجهه، وجعل يشكر، ويردد عبارات الثناء على الجميع، وعند ذلك زال الكدر من قلب عفيفة، وأشرق وجهها، وتلألأت أسرة جبينها بنور الحبور.
وقال همام لابن أخته يخاطبه: لك الهنا يا فؤاد، فعروستك ثمينة في آدابها وفضائلها، ومحاسن خلقها وهي كنوز تفوق كنوز الذهب قدرا وقيمة، وأنت أهل لكل مديح إذ برهنت بفعلك عن كرم أصلك وكرم سجيتك، وكنت أمينا صادقا حافظا عهد الصداقة، فلذلك عقدنا الرأي على تبليغك مأمولك، فيكون زواجك بمن تهوى جامعا لأسباب السعادة كافلا للتوفيق، فأنا أدعو لك بالهناء، ولمكافأة فعلك المبرور أوهبتكما هبة شرعية منزلي الذي أملكه في شارع الإسماعيلية فتقيمان فيه الزفاف وتسكنانه، وتجعلانه تذكار عهد مقدس جزاء الأمانة والصلاح والصداقة.
فهم فؤاد ليشكر فضل خاله فقاطع عليه غانم بقوله: مهلا أيها الشاب، فلك من وقتك السعة لتبدي عبارات الشكر على مهل، وكان تبرع همام على فؤاد بمنزله هيج في غانم السخاء، فأراد الفخار لنفسه، وأن يتبرع على ابنة أخته بشيء من ماله فقال: إن شريعة الحق تقضي على من تسبب بضرر أن يرده، وقد أسأت يا فؤاد فيك الظن بسماع الفتنة، فتجنيت عليك واعتديت، أما الآن فقد ظهر لي الحق، وتبينت ضلال القول وأقوال الوشاة، وخبث طوية الأعداء، فمن الواجب علي إصلاح ما أفسدت، فقد قبلت قبولا تاما واختياريا أنك تتزوج بابنة أختي، التي أخصص لها أبعدية في الريف تبلغ مائدة فدان من أحسن الأرض تربة وموقعا، فتستفيدان ريعها وتمرحان في رزقها الواسع وخيراتها الكثيرة.
فسمعت سيدة هذا القول بغاية التعجب، وكانت تظن غانما أبعد من أن يتخلق بأخلاق الكرام، وكانت تود وتفضل أنه لا يجود على عفيفة بشيء، فكل قصدها أن تزوج فؤادا بسعدى، ولكنها لم تجد مساغا للقول والتردد بعد أن رأت قبول الجميع، فاستخارت الله في الغنيمة الباردة من كف همام وغانم ترويجا لهذا الزواج، فإن فيما تبرعا به كفاية للإقامة في عيش رغيد، فمن أجل ذلك التزمت السكوت، فلم تفه بكلمة.
وقال سعيد بعد أن فرغ والده من الكلام: لا بد لي أن أهنئ نفسي بزوال الخصام وظهور براءة فؤاد وصداقة بنت عمتي له وعفتها، ولذلك فإني أهديها عربة فاخرة بخيلها وأدواتها فتجعلها للنزهة، وتستعيض عما فاتها من اللهو والحظ في سابقة الأيام، فنهض حينئذ فؤاد، وجعل يده بيد عفيفة، وابتدأ بتقبيل يدي والدته، ثم حيا الحضور بأبهى تحية، وشكر فضل المتفضلين وأثنى عليهم ثناء جميلا.
ثم ما انتهى من شكره حتى وقف خاله همام خطيبا فقال: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، قد قام فؤاد وعفيفة بعمل جليل، وبلغا النهاية في الأمانة والصداقة، فبلغهما الله المأمول وفوق ما كانا يرغبان، وللعمل الصالح أجر لا يضيع على صاحبه، فهو يعود عليه بالسعادة والإقبال آجلا كان أو عاجلا، فليت الشبان يقتدون بالقدوة الحسنة في زمان كثر فيه الفساد وقل الرشاد، فيعلمون فضل المحبة الصادقة الصحيحة على المحبة الكاذبة الفاسدة، أما كلامي فإليك الخطاب يا فؤاد وإلى عفيفة، فاعلما أن الزواج الذي قلتما عليه لهو أعظم أمر يقوم به الإنسان في حياته، فعليه النجاح والسعادة إن كان موفقا رشيدا، وعليه التعاسة والشقاء إن كان الغرض فاسدا، وقد عبر المتكلمون عنه بأنه اشتراك أدبي جسمي بين الرجل والزوجة؛ ليتقاسما مدى العمر أفراح وأتراح هذه الدنيا، وهو القول الصادق والحجة البالغة، وليس أضل سبيلا ممن يزعم أن الزواج عقد تجاري يرغب فيه للكسب والغنى، تالله إن من يتوهم ذلك لعلى ضلال مبين، وسوف يعلم من اختبر الأمر بنفسه حقيقة قولي؛ فيندم حين لا ينفعه الندم شيئا، فينبغي على الإنسان الراغب في الزواج أن يوسع في قلبه محلا للمحبة والميل، وأن يبعد عنه شهوة الطمع والشبق، فيتخذ له زوجة مهذبة مجملة بالفضائل والأدب، توافقه في الطباع والمشرب ليعيش سعيدا في قربها، ويرزق بالأولاد السعداء، فإن الأبناء أسرار الآباء بهم يقتدون ويتشبهون، ولا بد من العلم بأن الزواج يحمل صاحبه واجبات مهمة يقوم بها وأخصها أمانة الزوجين، فلو خرج أحدهما عن الأمانة فسد نظام العائلة وزالت النعمة عنها والسعادة، وقام الخصام بديلا عن السلام، ولعبت بالبيت أيدي الخراب والدمار. فأحمد الله أنك يا فؤاد وأنت يا عفيفة قد برهنتما على أمانة صادقة ومحبة خالصة، فتلك ضمانة تكفل سعادة الاستقبال ونجاح الأعمال، فأسأل المولى - جل وعلا - أن يحقق هذه الآمال، ويشمل ببركته ونعمته هذا الزواج، ويفيض عليه الخيرات، وأن يجعلكما قدوة لشبان هذا الزمان تفتخر بهم الأوطان.
سبحانه مجيب السؤال، وهو على كل شيء قدير.
Bog aan la aqoon