وما أتم سعيد كلامه حتى أقبل فؤاد، فسلم على خاله وحيا سعيدا بأجمل تحية، ثم جلس يحادثهما بأشياء كثيرة، ويبالغ في تجمله وإكرام سعيد، وهذا يقابله بالبشاشة والانشراح.
ونظر همام إلى ساعته فرأى الوقت قريبا من الحادية عشرة، فقال في نفسه: هذه الساعة التي عينتها شقيقتي للمقابلة في الفندق الشرقي، فالتفت إلى فؤاد وقال له: إني متوجه إلى الفندق الشرقي لمقابلة السيد غانم كما أخبرتك في الأمس، وسأصحب معي سعيدا فأستعين به على إصلاح ذات البين وجمع القلوب وتأليفها بعد النفور، وأرى من المناسب أنك تنتظرنا في قهوة البورس، ثم نرجع إليك فنتناول طعامنا معا في فندق حديقة الأزبكية، وننهض بعض ذلك إلى منزل والدتك.
فأذعن فؤاد لهذا القول، وانطلقوا جميعا إلى الجهة المقصودة.
الفصل العشرون
سبق القول عن الكتاب الذي بعثته سيدة إلى أخيها، وفيه توصيه بالحجر على فؤاد حتى يكون قد انقضى وقت الظهر، وقد فاتنا أن نقول: إنها كتبت في الوقت نفسه كتابا آخر لغانم، تخبره فيه بعزيمتها على زيارته في الفندق الشرقي قبل الظهر بساعة واحدة لتذاكره الحديث في أمر ذي بال، وتلتمس منه أن ينتظرها في ذلك الموعد. فلما دخل غلام الفندق بالكتاب على غانم في حجرته تناول غانم الكتاب، وقرأ ما فيه ثم اهتز هزة الظافر المنصور، وجعل يقول في سره متعاظما: أما والله، فليس إلا المال يكسب الرفعة والوجاهة والنفوذ، فهو مالك رقاب العباد، وخافض جناح كل عظيم، ورافع شأن كل سافل، ومبلغ الأوطار، وميسر المعاسير، وعليه قوام الكون وعمرانه، أصحابه معززون مكرمون سعداء مغبوطون، يقصدهم القاصي والداني وأصحاب الحاجات، ويعنو لهم كل كبير وصغير وكل رفيع وحقير، هذه سيدة الحسيبة الرفيعة قد هبطت من أعلى مقام تلتمس مني أن أتفضل عليها بمقابلة لبعض دقائق معدودة، وكانت قبل ذلك تأنف مني، وتحسبني جاهلا غبيا فاقد الاعتبار والأدب، وأما الآن فتتذلل وتستعطف لأقضي لها حاجة جليلة مهمة بالضرورة، وإلا لما كلفت نفسها الحضور إلى الفندق مع علمها بأن ذلك يقدح في مقامها، وأنه لا يجوز، ولا جرت العادة للنساء اللواتي من طبقتها شرفا وحسبا أن يزرن الرجال في الفنادق، وإن صدق حزري فهي تأتي لتسترضيني استمناحا للعفو عن ابنها والصفح عما أتي من المنكر، فإن كان هذا هو الباعث على حضورها فقد حدثت نفسها بالمحال، وتجشمت العناء سدى، وسيذهب سعيها وما أملت أدراج الرياح، فوالله - حلف لا أحنث به - إني لأنكلن غلامها ، وأبذلن منتهى القوة والجهد، وأنفقن القناطير المقنطرة من الذهب في كسر أنف هذا البيت، وأكيدنهم كيدا مبينا، وأجعلن فؤادا بين يدي صغيرا مهانا، ولقد ورثت عن والدي أني لا أقبل شفاعة متشفع، ولا رجاء ضارع، وأني أرد كل سؤال سائل، وأن أشمخ حين يتصاغر لي قاصدي، كما أتصاغر لمن شمخ علي، فهي عادات اكتسبتها فلن أحيد عنها، إذ أصبحت لي طبيعة ثانية. ثم إنه جعل ينظر من حين إلى حين من نافذة الحجرة التي هو فيها ليرى سيدة قادمة، وكان يكشف ساعته من دقيقة إلى دقيقة ويقول: إن أبطأت سيدة عن الحضور في موعدها لو لدقيقة واحدة خرجت، فلا تراني، لتعلم مقداري وشأني.
وبينما هو مطل من النافذة إذ بعربة وقفت أمام باب الفندق، فنزل غلام كان جالسا إلى شمال سائقها وفتح بابها، فانحدر منها سيدتان عليهما علامات الوقار والجلال لابستان ثيابا سوداء إحداهما كهلة والأخرى صبية في غاية اللطف والجمال، تقدمتا للدخول إلى الفندق فعرف غانم سيدة أم فؤاد، ولم يعلم من الفتاة، وقد أحس بشر من هذه الزيارة، فنهض من مكانه، وتقدم نحو مرآة في حجرته ينظر وجهه ويرتب شعره، فلم يكن كلمح البصر حتى قرع الباب فأسرع فتحه لسيدة، فدخلت بغاية الجلال والعزة، وسلمت بقلب جريء، فعند رؤيتها شعر غانم بانحلال عزيمته وتداعي همته وعظمته إلى السقوط شأن كل دنيء سافل عند مقابلته الكبراء والعظماء، فرد عليها السلام بغاية التكريم خافضا رأسه، وقال لها مترحبا: أوليتني شرفا عظيما بهذه الزيارة يا سيدتي، ثم أجلسها على مقعد من القطيفة كان في الحجرة، وأجلس عفيفة إلى شمالها، وكانت عفيفة قد أبصرت أن المزور خالها فعرفته، وانقبض وجهها، وأوجست من هذه الزيارة شرا، وهي لا تعلم المقصود منها، وكان غانم ينظر إلى الفتاة اختلاسا بطرف عينه، وقد أدهشه حسنها الرائق، وأعجبه لياقة ملبوسها، ثم جعل يتأمل هيئة سيدة، فلم يجدها مخطوفة اللون مضطربة كما سبق فتوهم، بل رآها بعكس ذلك مطمئنة طلقة الوجه، فحار في أمره واندهش سره.
وكانت سيدة تعلم جيدا طباع غانم وأخلاقه ودناءة نفسه، فأدركت أن لؤمه يستطيل عليها، ويشمخ بأنفه إلى العلا إن رأى منها تصاغرا وضعفا، فتلبست بالعزة والقوة، ورأت من اللازم أن تحادثه بقوة الحجة والبرهان فتغلب عليه إذ لم يكن من سبيل لإقناعه بلين الكلام وتحريك العواطف الإنسانية فيه. وقد قدمنا أن هذه السيدة كانت على ذكاء مفرط وبراعة في الحديث كلية، فقالت لغانم وهي تنظر إليه مبتسمة: أطلعني أخي همام على كتاب سطرته جنابك، فبعثته إليه في الأمس، ولدى تصفحه قد غضب وهاج هياجا بينا، وكان قد عزم على أن يجاوبك بعبارة عنيفة من مثل كتابك وقول شديد، فمنعته عن ذلك بمجاهدة النفس، وأنت تعلم طباعه ومقدار حدثه، وأنه خدم في الجهادية أربعين سنة، ولم يرهب كبيرا ولا عدوا شديدا، وأنه على همته الأولى ونشاط الشباب لم تسقط له عزيمة، فلو جرت المكاتبة بينك وبينه على نسق كتابك في الأمس وقعت أمور مكدرة ومحزنة لا ترد ولا تعوض، فمن أجل ذلك كلفت نفسي الحضور إليك؛ لأدفع البلاء، وأنت ذكي فطن، لا تخفى عليك الإشارة.
فاضطرب غانم عند سماع هذا الكلام، ولم يرد في خاطره أن ذلك الكتاب الذي كتبه يورث خصاما شخصيا بينه وبين همام، وكان يعلم حق العلم أن هماما بطل صنديد قوي الجنان وشجاع عنيد، فخاف على نفسه - والبخيل جبان - أن يهلك بسبب هذه العداوة، ولكنه أخفى الكمد وأظهر الجلد، وقال لسيدة: معاذ الله أني أكون قد قصدت عداوة لأخيك همام، ولكن لا أرى من الممكن أن أسحب من كتابي كلمة كتبتها فيه.
قالت: إذن تقف موقف عناد، ومرادك حمل أخي على مبارزتك، والله يعلم أني لولا التوسط بينكما وحضوري لمداركة الأمر ودفع النازلة؛ لتحدث الناس بخبركما مجروحين أو مقتولين.
قال: كل شيء بقضاء الله، ولا ينفع الحذر إن وقع القدر.
Bog aan la aqoon