أن يكون حاضر الذهن، فلا يتجاوز في القول ما يهم سامعيه، وكلما سمع نبوة من النفوس عنه، أو ملة للقلوب منه ألقى إليهم نغمة جديدة، وطلع عليهم بفكرة غير منتظرة، فيمنع التثاؤب والملل، ويعيد الانتباه إلى مقره، ويملك عليهم سمعهم وشعورهم؛ لأن في الخروج من معهود إلى مستجد - كما يقول الجاحظ - استراحة للفكر، ورياضة للخاطر.
خامسا:
أن يكون حي الجنان، صادق البيان؛ ليحرك من الأعماق عواطف الحرية والإنسانية والتقوى والفضيلة الراقدة في قلب كل إنسان، ويمثل أمام تلك العيون المستعرة الناظرة إليه صور المجد والوطنية، ويبعث الكهربائية في نفوس سامعيه؛ فيثيرهم بإشارة من يديه، ويهدئهم بنظرة من عينيه.
4
من الناس من تجتمع فيه هذه الصفات أو أكثرها، ولا يوفق مع ذلك إلى الإجادة في الخطابة لعيوب خلقية تمنع عليه سهولة المخرج أو جهارة المنطق، أو تكميل الحروف وإقامة الوزن، كاللجلجة (التردد في الكلام) والتمتمة (التتعتع في التاء) والفأفأة (التتعتع في الفاء) واللثغة واللفف وهو أن يدخل الرجل بعض كلامه في بعض، والحبسة وهي ثقل الكلام دون أن يبلغ به حد الفأفأة، والتمتام، والحكلة أي نقصان آلة النطق، وعجز أداة اللفظ فلا يسمع الصوت تماما.
أكثر هذه العيوب تبدأ في الصغر، وأسبابها التعجل في الكلام، وعدم التروي والتدقيق في التفكير، والخجل الذي يستولي على المتكلم، فإذا كبر زادها ظهورا عدم التمرين والعادة، والتقصير في درس الموضوع الذي يراد الكلام فيه، أو في الاستعداد له أو في استظهاره، وليست معالجتهما بعيدة المنال ولا إصلاحها مستحيلا، فقد كان ديموستين ضعيف البنية والصوت، فلما اعتزم الخطابة أخذ يقوي رئتيه وصوته بالصياح وهو يصعد الجبال الوعرة، أو أمام شاطئ البحر مغالبا صخب الأمواج مما يدلك على أنه بالتربية والتمرين وجهد النفس وأخذ اللسان قد تجيب الطبيعة، ويصلح التعهد ما أفسد الإهمال.
وأعم هذه العيوب وأكثرها شيوعا اللثغة التي يحول بها اللسان من السين إلى الثاء، ومن الراء إلى الغين أو الياء، وقد كان ديموستين يسعى إلى سترها بوضع حصى في فيه عند الكلام، وتكلف مخرج الراء على حقيقتها، وروى الجاحظ عن واصل بن عطاء أنه كان قبيح اللثغة شنيعها، فحاول إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأنى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما أمل. قال الجاحظ: وكان واصل طويل العنق جدا، وفيه قال بشار الأعمى:
مالي أشايع غزالا له عنق
كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم
Bog aan la aqoon