(الفصل الثاني والعشرون) (المهتدي والمجتبي)
وقد كان عندنا قوم يتكلمون في هذا النوع من العلم، على التوهم والمقاييس. وبلغ من جهلهم أن قالوا: إن هذا الواصل إليه (إلى الله) على طريق الجهد، أقل خطرا في السلب من هذا الذي أعطى من غير جهد. وذلك أن الذي أعطى على جهد، صير (الله تعالى) ذلك الوصول ثوابا لجهده. وإذا أثاب الله العبد على شيء لم يرجع فيه. وهذا الذي أعطي على غير جهد، هو عبد مبتلى، وامتحن بالشكر: فهو غير مأمون أن يسلب، وخطره في السلب أعظم.
فتعجبت من جهلهم حيث جعلوا الوصول إلى الله تعالى عوضا من جهة العبد. فعرفت أنهم أصحاب مقاييس، لا يعرفون ما الوصول، ولا قدر الوصول. وهل وصل أحد إلى الله عز وجل، إلا بالله؟
فيزعمون أنهم إنما وصلوا بجهدهم. وكذبوا، والله! (فإنه) ما وصل أحد منهم إلى الله، عز وجل، إلا بالله. ولقد كذبهم غيري؛ فإن المؤمن يغار لله. فلقد ازدروا شأن الوصول، فأبلغوا في الإزدراء. لا جرم أن الله يزدري بالجاهل المتكلف! فليس من جهل وسكت، كمن جهل فتكلف. فالمتكلف ممقوت، ولا سيما في أمر الله وصنعه.
(والقول الحق) أن الصادق لما استفرغ مجهوده، بقي منقطعا عن الصدق في مفازة الحيرة. فاضطر فجأر إلى الله تعالى، صارخا مستغيثا، فرحم! فإنما وصل إليه به: من حيث رحمه. فكيف يكون وصوله ثوابا لجهده؟ وقد شرحنا هذا بديا. فهذا مرحوم بجهده، والأول ممنون عليه من جوده وكرمه. فكيف يجوز أن يظن بالله الجواد الكريم، القريب في جوده وكرمه، أن يرجع في مننه؟ ومن ههنا أخطأ هذا المتكلف: أن ظن بربه أنه أوصله إلى قربه ومكن له بين يديه ليبتليه. ويحك! هذا عبد متخذ لا مبتلى. وإنما الابتلاء في شأن النفس لا في شأن القلب.
Bogga 69