أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا))، فالمتخذ هو المأخوذ، ومنه اشتقاقه. (فمحمد صلى الله عليه وسلم ) هو المجذوب من بين سائر الأنبياء، خصه الله بهذا فاتخذه وجذبه. والأنبياء، من قبله، أوتوا الحكمة والبيان والهداية ثم تنبؤا، ثم أرسل إليهم. ورسولنا صلى الله عليه وسلم ، أخذ أخذا، فجذبه (الله إليه) على طريق الاصطفاء. ألا ترى إلى قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} فهل يكون الوجود إلا بعد الطلب؟ فإن الله تعالى طلبه، من بين سائر العباد، بالمنة التي سبقت له في المشيئة. فلما جاء الطلب وجده كما وصف: {ضالا فهدى}، أي: مال به، فجذبه، فنبأه.
فكذلك شأن هؤلاء المجذوبين: يجذبهم الله إليه على طريقه. فيتولى اصطفاءهم وتربيتهم حتى يصفي نفوسهم الترابية بأنواره، كما يصفى جوهر المعدن بالنار حتى تزول ترابيته، وتبقى النفس صافية. وتمتد تلك التصفية، حتى إذا بلغوا الغاية من الصفاء أوصلهم إلى أعلى المنازل، وكشف لهم الغطاء عن المحل، وأهدى إليهم عجائب من كلماته وعلومه. وإنما يمتد ذلك، لأن القلوب والنفوس لا تحتمل مرة واحدة كل ذلك. فلا يزال يلطف بهم، حتى يعودهم احتمال تلك الأهوال، التي تستقبلهم من ملكه. فإذا وصلوا إليه احتملوا الوصول والنجوى.
وقد نجد مثال هذا في خلقه. فإن الملك يريد أن يختص بعض رعيته
لقيادة أو ولاية فيدعو به. فمن تدبير الملك، أنه إذا ذهب (بالعبد) (إليه) التزم بابه. ثم يمهل (العبد وقتا ما) حتى يعتاد الباب وقواده، وليطمئن ويهتدي إلى أمور الخدمة. ثم إذا قدم إليه تحول من مجلس إلى مجلس، حتى يسكن روعه ويخشع قلبه. ثم إذا قدم إليه، أمهل ساعات ليطمئن، ثم يكلمه. ولهم تدبير أعمق من هذا، (ما) قصدت لكم وصفه. وإنما علم الملوك هذا التدبير من مالك الملك، إذ آتاهم من ملكه. وهو أحق بالتلطف بعباده.
(الفصل الثالث والعشرون) (المدة والجذبة)
Bogga 70