فقلبه خاشع، ووجهه منطلق. ثم يرقي (الله العبد) إلى مرتبة أخرى، وهي الهيبة والأنس. فالهيبة من جلاله والأنس من جماله. فإذا نظر إلى جلاله هاب؛ وإذا نظر إلى جماله انبسط وطاب. فلو تركه (مع الجلال)، لعجز عن أموره: كثوب ملقى أو جثة بلا روح. ولو تركه (مع الجمال) لجاشت نفسه وتعدت. فجعل (الله تعالى ) الهيبة شعاره والأنس دثاره حتى تستقيم له نفسه!
ثم يرقيه (الله) إلى مرتبة أخرى، وهي مرتبة الانفراد: مرتبة القربة العظمى. فمكن له (عز وجل) بين يديه، ونقاه بنوره، وفتح له الطريق إلى وحدانيته، وأطلعه على بدء الأمر من قوله: {الظاهر والباطن} وأحياه بنفسه واستعمله. فبه ينطق هذا العبد، وبه يعقل، وبه يعلم، وبه يعمل. وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يحكيه عن ربه: ((فإذا أحببت عبدي كنت فؤاده، فبي يعقل. وسمعه وبصره، فبي يسمع ويبصر. ويده فبي يبطش)).
فهذا سيد الأولياء، وأمان أهل الأرض، ومنظر أهل السماء. وخالصة الله، وموضع نظره. وسوطه في خلقه؛ يؤدب بكلامه، ويرد الخلق إلى طريقه، ويجعل منطقه قيدا لقلوب الموحدين، وفصلا بين الحق والباطل.
فهذا من الصنف الذين اجتباهم بمشيئته: لا من الصنف الذين ولي هدايتهم بإنابتهم. فإنهم قد ذكروا في الكتاب، فقال، عز من قائل: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} فالمجتبي هو عبد قد جذب الله تعالى قلبه إليه، فلم يعان جهد الطريق، وإنما جذبه على طريق اصطفاء الأنبياء. لأن حاله هذه، خرجت له من المشيئة. فأجراه (الله) على خزائن المنن. ثم أخذ بقلبه فجذبه إليه واصطفاه. فلم يزل يتولى تربيته، قلبا ونفسا - حتى رقي به إلى أعلى درجات الأولياء، وأدناه من محل الأنبياء بين يديه.
وأما المهتدي بالإنابة، فهو عبد أقبل إلى الله تعالى يريد صدق السعي إليه، حتى يصل إليه. فبذل أصدق الجهد، فهداه (الله) إليه لما كان منه من الإنابة. فهذا عبد، جهده نصب عينيه أبدا؛ وهو حجاب له عن ربه، عز وجل! وإن سبق لظنه أن هذا منة، ونطق بلسانه وتبرئ من جهده - فإن جهده نصب عينيه، لا يخرج علم ذلك من نفسه.
والمجذوب لم يعان شيئا من هذا: فهو على اصطفاء الأنبياء، يمر إلى الله والله يذهب به. وهو لا يهتدي لشيء من الطريق، فهو صاحب الحديث والمبشر والمستعمل. فلا شيء يتعاظم عنده من هذه الأقوال.
Bogga 68