فإن قال: إن الذي خاطب مريم، عليها السلام، بمثل هذا الخطاب، من ((الغيب)) ملك. قيل له: فإنها لم تر الملك، إنما سمعت النداء، فأي شيء حقق عندها أن ذلك النداء من الملك؟ فحديث الملك، من حيث لا يرى، أبعد أم كلام الله على قلب العبد إذا ألقى إليه حديثا؟ وهو قول داود لابنه، عليهما السلام: ((يا بني، ما أحلى شيء، وما أبرد شيء، وما ألين شيء؟ قال: أما أحلى شيء فكلام الله عز وجل، إذا قرع أفئدة الأولياء، وأما أبرد شيء، فروح الله تعالى بين المتحابين في الله. وأما ألين شيء، فحكمة الله تعالى إذا بشر بها أولياءه)). حدثني بذلك أبي رحمه الله، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري عن صباح بن وافد الأنصاري، عن سعيد بن طريف، عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما)).
ويقال له أيضا: ما قولك في محدث، بشر بالفوز والنجاة فقال: رب، اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع (الشك والاعتراض) فقال: آيتك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيتي الحرام في ثلاث خطوات. واجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه. كيف شئت. واجعل لك التراب والجو في يديك ذهبا! ففعل هذا. هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى، بعد ظهور هذه الآية أم لا؟ فإن قال: لا، فقد عاند واجترأ على الله وحلت به دائرة السوء. وإن قال: نعم، فقد ذهب قوله واحتجاجه الظلماني!
ولا ينكر هذا إلا حاسد لنعم الله وتقديره، محب للدنيا، كاتم للمحبة، مظهر للزهو معجب بنفسه. وقد سترت نفسه المخادعة له هذه الأشياء، فهو لا يراها من نفسه. ويحسب أنه يذب عن الحق بقوله، وغيظه في صدره يتلظى. ولا يعلم أن هذا غيظ الغيرة والحسد، وإنه لا يصل بجهده إلى هذا. فهو يغتاظ ويحنق على من أوصله الله تعالى، من طريق المنن والمشيئة حتى يؤديه (ذلك الغيظ والحنق) إلى تكذبيه ورميه بالزندقة. فإذا هو كما قال (الله تعالى لموسى عليه السلام): ((يا موسى، لا تحسد الناس على ماء آتيتهم من فضلي فإن الحاسد عدو لنعمتي، ساخط لأمري، مضاد لقضائي)).
فهذا المسكين، في الباطن يسخط قسمة الله تعالى، ويضاد قضاءه. ويعادي نعمه. وهو يحسب أنه يذب عن الحق وينكر الباطل. ويقال له: ما قولك في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؟ فإنه كانت رجفة عظيمة في عهده فقال: ((ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم! والله، لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم)). فبأي شيء عرف عمر، رضي الله عنه، أن هذه الرجفة معاتبة (من الله) لهم دونه؟ هل عرف هذا الأمر إلا من قبل ما وصفنا؟ وإلا فكيف استجاز أن يبرئ نفسه من الحدث والمعاتبة، فيقول: ((لأخرجن من بين أظهركم))؟
Bogga 65