قال أحدهم: يخطر بباله شيء مما قد حظر عليه. فتنازعه نفسه. فيجاهدها حتى يردها، لأنه محرم عليه. فهو مشغول في ذلك. ثم تخدعه نفسه في ميلها، مما قد أذن لها فيه. فتزين له ذلك حتى تجره إلى الذي حرم عليه. فهو لا يزال كذلك، شأنه في السمع والبصر واليد والرجل والبطن، حتى إذا صارت الجوارح ذات تهمة كتمت النفس القلب ذلك. فإذا خافت النفس أن يشعر القلب بهذا، فينكر عليها ويأخذ بيدها - وثبت إلى منطق حسن ، (مما) يوعظ الناس (به)، ووثبت إلى المحراب تأخذ في العبادة، وتموه على القلب وتزكي جوارحها لديه، فإذا كانوا (منكرو أحوال الأولياء) بهذه الصفة، فمتى يصلحون لمكان القربة، فضلا عن مطالعة شأن الملكوت وقرب الله تعالى ونجواه؟
وعامة نجوى هؤلاء وسوسة وخدعة للنفس. فإذا ذكر شأن الأولياء، قدروا أحوالهم على ما يرون من أمور نفوسهم. فكذبوا نعم الله تعالى، ودفعوا مننه، وجهلوا أمره، فهذا من أعظم الفرية على الله تعالى.
قال له قائل: فإن بعضهم احتج بقوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} وقال: إن الأمن (من مكر الله) أول ضلال هذه الطبقة، وهذا يؤدي إلى الزندقة. وقال الله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون} وأن الولاية والمحبة والسعادة والشقاوة غيب عند الله تعالى، لا يعلم إلا هو، وزعم أنك ناظرت يحيى بن معاذ في ذلك حتى بقي متحيرا. وأن هذه الطبقة تقدم نفسها على الأنبياء.
قال له: أما قوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} فهذا قول الله، لا ريب فيه ولا في قبوله. وهو أنه لا يعلم ما حاله عند الله تعالى. فإن أمن فهو خاسر جاهل. كأنه حكم على الله من غير أن يحكمه. فأما من بشره (الله) فرد بشراه فقد اجترم، كما اجترم ذلك الآخر. فهذا من هذا الوجه، وذلك من ذلك الوجه. فحق على من لا يعلم، أن لا يأمن. وحق على من أمن أن يأمن، فليس الأنبياء، عليهم السلام، كانوا
Bogga 57