(الفصل السادس عشر) (تفكير عامة المؤمنين وتفكير خاصة الأولياء)
فسائر الموحدين بعقولهم يعقلون الأمور، وهو (الولي المقرب) بالله يعقل. فلو عقل هذا، الذي الكبر في صدره، ما قال قوله: (كيف) يعقل بالله؟ ولعلم أن الذي ذهب إليه جهل كبير. ولقد قصر بأمر الأولياء. وما أظن أنه ينجو من هذا حتى يرديه مذهبه. وهو يرى في نفسه أنه يعظم أمر الله بتحقير أمر الأولياء: فإذا هو يبني من جانب ويهدم من جانب آخر ما يبني، حتى يقتل نفسه تحت الهدم!
وهذا (المنكر) شبيه بأمر ذلك المخذول (المعطل): ما زال ينزه ربه حتى نفاه. والمخذول الآخر (المشبه): ما زال يثبت الصفات له، ردا على الآخر، حتى شبهه بخلقه. فهذا كله من ظلمة نفوس أقوام لم يتطهروا من دنس القلوب، ولم يروضوا أنفسهم حتى يتخلصوا من حجبها. وانخدعوا لها، ووجدوا شيئا من روح هذا الطريق فقعدوا. وبسطوا بساط الطبيب (المنتحل للطب) الذي يعترض ممر الناس ببيع الأدوية، يصفها للناس بكلام منظوم، قد أعده لهم، لتأخذ دوانقهم، وهو خلو من علم الطب. فإذا تعرض له الحاذق بالطب وبعلم الطبائع (واختبره) تحير (أمامه وانقطع).
فهذه الطبقة التي يكبر في صدورهم بلوغ الأولياء هذا المحل من ربهم، فيدفعون هذا لجهلهم، لا يعلمون أن لله عبادا غرقوا في بحر جوده، فجاد عليهم، بكشف الغطاء عن قلوبهم، عن عجائب! وأطلعهم من ملكه ما نسوا في جنبه كل مذكور، حتى تنعموا به في حجبه الربانية.
قال له قائل: قد فهمت عنك ما شرحت، (ولكن) كيف عجز هؤلاء الذين دفعوا هذا الأمر، كما ذكرت؟
قال: لإعجابهم بصدقهم، وإكبابهم عليه وانقطاعهم عن منن الله تعالى. وكيف يعرفون مننه، وهم مشغولون بنفوسهم ودواهيها؟ ومتى يصلون إلى قرب الله تعالى، وهذه أحوالهم؟ فهم في غفلة عن الله، وفي عمى عظيم. إنما شغلتهم نفوسهم، فمرة مشغولون بقمع النفس وردها عما تريده، ومرة مشغولون بشهوة قد خدعتهم نفوسهم فيها، حتى دستهم في التراب وهم في غرة.
قال له قائل: مثل ماذا؟ وصف لنا منه شيئا.
Bogga 56