الرابع عشرة: أنها أريد بها تعليم العرب الأميين للحروف المقطعة، كما يعلم الصبيان، فإذا وردت عليهم بعد ذلك مركبة كانت أسهل عليهم، وهو قول عبدالعزيز بن يحيى، وهذا لأن العرب ندر فيهم من قرأ وكتب لأن عنايتهم كانت موجهة إلى فنون الفروسية وطرائق القتال وكان جهلهم أهل بادية لا يدعوهم داع إلى تعلم الكتابة والقراءة، وإذا وجد بينهم من تعلمها فلا يكون إلا في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ومع ذلك كانوا قلة نادرة مغمورة بالسواد الأعظم من الأميين ومن حيث أن القرآن نزل قاضيا على الأمية كانت مجموعة من سوره مفتتحة بهذه الفواتح المقتضبة للتهجي الذي هو مفتاح القراءة والكتابة.
واعترض بأن الحروف المصدرة بها في السور ليست جميع حروف المعجم وإنما هي نصفها كما بينه صاحب الكشاف وسيأتي إن شاء الله.
الخامس عشر: أنها حروف أريد بها التنبيه كأدوات النداء، نحو يا فلان التي يراد بها إيقاظ ذهن السامع وهو محكي عن ثعلب والأخفش وأبي عبيدة.
قال ابن عطية: كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل: وفي معناه قول الفخر الرازي في تفسير فاتحة العنكبوت:
إن الحكيم إذا خاطب من يكون في محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال، يقدم على الكلام المقصود شيئا غيره ليلتفت المخاطب لسببه إليه، ويقبل بفكره عليه، ثم يشرع في المقصود، وذلك المقدم قد يكون كلاما ذا معنى مفهوم كقول القائل: اسمع واجعل بالك إلي وكن لي، وقد يكون شيئا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل: أزيد ويا زيد وألا يا زيد، وقد يكون صوتا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الانسان بيديه ليقبل السامع عليه، ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والمقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر، ولهذا ينادى القريب بالهمزة فيقال: أزيد، والبعيد بيا، فيقال: يا زيد، والعاقل ينبه أولا فيقال: ألا يا زيد. ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان ولكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم في خطابه حروفا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إن كانت لا يفهم معناها كانت أتم فائدة لأن المقصود بها إقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعدها، فلو كانت كلاما منظوما وقولا مفهوما لربما ظن سامعها أنها غاية المقصود، وليس شيء وراءها فيقطع التفاته عن المتكلم، أما إن كانت صوتا بلا معنى كانت أدعى إلى إقبال السامع واستدامة إصغائه للمتكلم لعلمه أن وراءها غاية لم يصل إليها.
وهذا القول يتفق مع ما تقدم نقله عن السيد رشيد رضا مما فصله في تفسير سورة الأعراف من المنار، وقد تقدم ما فيه ثم فلا داعي إلى تكراره، غير أني أضيف إلى ما هناك أن مجيء هذه الفواتح على غير وتيرة واحدة مما يضعف هذا القول، فاختلافها بحيث تأتي تارة على حرف وتارة على حرفين إلى خمسة أحرف، يدل على أن هذا التفاوت لحكمة مقصودة، فلا تحمل على قصد إيقاظ السامع وحده.
السادس عشر: أن تصدير بعض السور بهذه الفواتح أريد به شد انتباه السامعين إلى معجزة القرآن المنزل على النبي الأمي، وذلك أن النطق بهذه الحروف مركبة في الكلمات أمر تساوى فيه العرب، فلا فرق بين الأميين وأهل الكتاب منهم بخلاف النطق بأسمائها، فإنه كان نادرا لا يتجاوز القراء والكتاب الذين خالطوا أهل الكتاب فاقتبسوا منهم معرفة الكتابة والقراءة، ويستبعد جدا النطق بها من أمي لم تسبق له قراءة ولا كتابة استبعاد القراءة والكتابة نفسها، كما قال سبحانه:
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون
[العنكبوت: 48]، فكان نطقه صلى الله عليه وسلم بها مع اشتهار عدم اقتباس شيء منها من الكتاب والقراء معجزا إعجاز ما احتواه القرآن من أخبار لم يكن هو ولا قومه يعلمونها، ففي كلا الأمرين شهادة على عدم تلقيهما إلا من وحي الله، إذ مثلهما كمثل التكلم بلغة أجنبية لمن لم يسمعها من قبل.
وتعقبه الامام ابن عاشور بأن الأمي لا تعسر عليه التهجية.
Bog aan la aqoon