[الذاريات: 52 - 53].
نعم؛ قد قيل إن (ن) هنا بمعنى الدواة، ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة ، كما قال في أول ما نزل عليه قبلها:
اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم
[العلق: 3 - 4]. وقيل إنه بمعنى الحوت، لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت - يونس عليه السلام -، ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة، بل كانت تذكر مركبة ومعربة، كقوله:
وذا النون إذ ذهب مغاضبا..
[الأنبياء: 87] وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر كما يصح في سائر تلك الحروف أن تكون فيها إشارات إلى معاني معينة تظهر لبعض الناس دون بعض، أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة، بشرط أن تتفق مع هداية القرآن، وإن لم يصح أن يقال إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها.
وأتبع ذلك ذكر أمثلة، منها ما أوردناه في القول السادس عن بعض السلف أن هذه الحروف ترمز إلى أسماء وصفات وأفعال لله عز وجل.
ثم ذكر عقب هذا أن ما أورده من هذه المناسبات اللطيفة لا يتنافى مع ما اختاره في تفسير سورتي البقرة وآل عمران أن هذه الحروف أسماء للسور المصدرة بها.
والخلاصة أنه يستفاد من كلامه أن هذه الفواتح أريد بها التنبيه على ما سيعقبها كسائر أدوات الافتتاح - وهو رأي لعله لم يسبق إليه - غير أن كون القرآن لا يخرج وضعه في حروفه وكلماته عما تعورف عليه بين العرب يمنع ذلك، إذ لم يعهد من العرب التنبيه بمثل هذه الكلمات بل للتنبيه عندهم كلمات معهودة، والأقرب - حسبما أرى - أن تكون هذه المناسبات اللطيفة التي وفق هذا العلامة العيلم لاستظهارها مؤيدة لرأي من يرى أن سرد هذه الفواتح لتنبيه الغافلين بأن القرآن لم يأت بجديد من الحروف والكلمات عما هو معهود عند العرب وإنما سرت في حروفه وكلماته نفخة من روح الله عز وجل الذي أنزله بعلمه فتجاوز بلاغات جميع بلغاء الدنيا حتى أن الثقلين لو تظاهروا على الإتيان بشيء من مثله لارتدوا خاسئين.
وما أروع التذييل الذي أتبعه شهيد الإسلام سيد قطب في ظلاله، هذا الرأي الذي اختاره وعول عليه حيث قال: والشأن في هذا الاعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس، إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة أو آنية أو أسطوانة أو هيكل أو جهاز كائن في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة، حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الالهي المعجز سر الحياة، ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن، حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل الله منها قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة.
Bog aan la aqoon