وعاشت هذه الزواحف الكبرى نحو ثلاثين أو أربعين مليون سنة، وكأن التطور قد تجمد بها، وكأن اتجاه الطبيعة نحو الإنسان بإيجاد العقل قد انحرف، فلم تعد الغاية نمو العقل، بل أصبحت نمو الجسم.
ومن قبل ذلك بملايين السنين تجمد التطور بإيجاد الحشرات التي اتجهت وجهة أبعد ما تكون عنا؛ إذ قنعت بالغريزة كأنها من الشجر حتى إن برجسون، في نزعة غيبية مسرفة قال: إن في الحياة طريقين أحدهما طريق الغريزة، وقد قطعته الحشرة إلى نهايته، والآخر طريق العقل ونحن البشر في طريقه لما نبلغ نهايته، ولو أن برجسون كان قد عاشر أيام الزواحف الكبرى لوصل إلى مثل هذا الفرض أيضا، ولكن الحياة «موسوعية» تحاول وتجرب وتبيد الأحياء الفاشلة، وتتحسس الوسائل الصغيرة لتجاربها الكبيرة.
وانقراض الزواحف الكبرى مجال للحد والتأمل، فلعلها انقرضت؛ لأنها كانت كبيرة الحجم عملاقية التركيب، ونحن نعرف أن العمالقة الشاذين الذين يولدون بيننا من البشر يعقمون؛ أي: لا يتناسلون، والفيل أكبر الأحياء على اليابسة لا يلد إلا مرة كل 35 سنة، ولكن هذا التعليل لا يكفي؛ لأنه كان بينها زواحف قدر الكلب أو الحمار أو الفرس، وهناك من يقول بأن التغيير المناخي قد أبادها؛ أي: أن الدنيا بردت فجأة ودخلت في عصر جليدي، فلم تتحمل هذه الزواحف المناخ الجديد، ولكن هذا بعيد؛ لأن التطور كان أحرى بأن يسعفها بفراء أو ريش بدلا من أن يتركها لتنقرض، وأخيرا هناك من يقول بأن اللبونات الجديدة كانت تأكل بيضها وتحول دون تناسلها، وهذا حدس لا أكثر.
ولكن بعد نحو 30 أو 40 مليون سنة من هذا الكابوس الذي جثم على العالم نجد أمارات العصر الجديد أو النهضة البيولوجية، فمن ناحية نجد الطيور ومن ناحية نجد اللبونات، وليس في أيامنا طيور قديمة تحتوى مناقيرها على الأسنان، ولكن بقاياها أو أحافيرها توجد في المتاحف، أما اللبونات القديمة فلا يزال بعضها حيا حتى في أيامنا، فإنها تبيض ولا تلد، ثم هي مع ذلك ترضع أولادها بطريقة بدائية؛ إذ يتشقق البطن ويخرج من شقوقه سائل دموي لبني تلحسه الأطفال، وهذا هو الرضاع البدائي كما نراه في حيوانين هما البلاتيبوس في أستراليا والنمال أو آكل النمل في أمريكا الجنوبية.
وظهور الطيور هو خطوة كبيرة جدا في التطور؛ لأن الإحساس عند الطائر انتقل من الأنف إلى العين، فإلى ظهور الطيور كانت جميع الأحياء، في البحر واليابسة، تسعى الطعام والأنثى بالأنف، ولكن ميدان الشم صغير محدود، أما ميدان العين فيتسع إلى الآفاق ويزيد الملاحظة والمقارنة فيزيد الذكاء.
وحوالي 30 مليون سنة قبل عصرنا نجد أحياء من اللبونات الجديدة تعيش على الشجر وتعتمد على عيونها، وهي مضطرة إلى ذلك غير مختارة؛ لأن المجال للشم على الشجرة صغير جدا، ولكن هذه اللبونات لم تكن مسلحة بالريش لكي تطير بالأجنحة وتنجو بنفسها أو تنتقل بها من شجرة إلى أخرى، ولذلك احتاجت هذه اللبونات الجديدة إلى أن تعتمد في التنقل على الأغصان أو الانتقال من شجرة إلى أخرى على أيديها.
وأبعد إيماءة إلى أصلنا هو الليمور، وهو أنواع كثيرة تختلف أحجامها من حجم الفأر إلى حجم الثعلب، وهو حيوان ليلي يسعى في الظلام ثم يختبئ وينام في النهار، ولأنه ليلي جمع عينيه في وجهه مثل البومة التي تصيد في الليل، ووجهه غير بشري، فإن أنفه يجتمع بفمه في فقم بارز، وشفته العليا مشقوقة، ومنطقة أنفه وفمه رطبة كالبقر وهو يستعمل يديه الاثنتين، لا الواحدة للتناول، وقد يتناول طعامه أحيانا بفمه، وهو من أقدم اللبونات كما يدل على ذلك أنه يعيش في شرق آسيا وشرق إفريقيا «في مدغشقر» ولا يعيش فيها بينهما؛ أي: أنه نشأ قبل الانفصال الجيولوجي بين هاتين القارتين، هذا الانفصال الذي يملأ ثغرته الآن المحيط الهندي.
وهذا الليمور هو إيماءة أولى للإنسان، ولكن ما أحقرها من إيماءة! فإنه لا يزال يحتفظ بذنبه، وذكاؤه يقل عن ذكاء الكلب، ومخه أمسح بلا تلافيف.
وليس من شك في أننا نحن البشر قد قضينا فترة طويلة من تطورنا على الشجر اكتسبنا بها جملة أشياء ما كنا لنكسبها لو أننا قمنا بالبقاء على اليابسة، ذلك أن الشجر علمنا وعودنا التسلق باليدين، فلم تعد يدانا للمشي فقط بل صارتا أيضا للتسلق، وبهذا التسلق نفسه تهيأت اليدان للإمساك والتناول، ثم كسبنا بالمعيشة على الشجر الاعتماد على العين بدلا من الاعتماد على الأنف، فزاد وجداننا؛ أي: درايتنا بالوسط الذي نعيش فيه؛ لأن الحيوان الذي يسعى بأنفه ويسترشد بالشم لا يدري إلا البقعة التي هو فوقها أو القليل مما حولها، ولكن الحيوان الذي يقعد على غصن الشجرة أو يرتفع إلى غصونها العالية يرى بعينيه جملة كيلو مترات محيطة بالشجرة، ونحن هنا كالطير، ولكننا نمتاز على الطير من حيث إن أيدي الطير صارت أجنحة، أما أيدينا فبقيت للتسلق ثم للتناول.
وإذا كان الليمور إيماءة أولى، فإن الطرسير إيماءة ثانية، فإنه حيوان يتفق مع الليمور من حيث أنه ليلي كالبوم، والبومة لأنها تصيد في الظلام أو الغبشة، تحتاج إلى أن تكون عيناها في وجهها، لا في صدغيها كالحمامة أو الدجاجة؛ لأنها تحتاج إلى التمييز الصحيح للأشباح بعينين اثنتين تريان معا، ولا بد أننا قضينا فترة طويلة من تطورنا ونحن نسعى في الليل على الشجر، كما هو الشأن في الليمور والطرسير، وهذه الفترة هي التي جمعت عينينا في وجهنا ونقلتهما من صدغينا، فصرنا ننظر إلى الأشياء بعينين نظرا كاليدسكوبيا؛ أي: أن الصورة التي تنقلها إحدى العينين تراجعها العين الأخرى وتصححها وتنقل ظلالها، فتتجسم الرؤية، وهذا المنظر الكاليدسكوبي هو ما يطمع في تحقيقه هذه الأيام المشتغلون بالأفلام السينمائية؛ أي: أنهم يرغبون في تجسيم الصور حتى لا تكون فتوغرافية فقط، وجميع الحيوانات، باستثناء القليل، كالإنسان والقردة العليا، وطيور الليل، تنظر النظر الفتوغرافي بعين واحدة في أحد الصدغين، فالرؤية عندها غير مجسمة، أو غير متقنة.
Bog aan la aqoon