أعلام الطريق في تطور الإنسان
حوافز التفكير في التطور
داروين والتفكير الجديد
البيئة تغير الأحياء
نشأة الكون وتطوره
خروج الأحياء المائية إلى اليابسة
هل تنقرض هذه الحيوانات الجميلة
إمارات الوحشية في حيواناتنا الداجنة
نحن خمسة في هذا العالم
الدماغ واليد واللسان
Bog aan la aqoon
هذا الإنسان
العائلة الأبوية
أصل العقل وتطوره
الأفكار كلمات
أعلام الطريق في تطور الإنسان
حوافز التفكير في التطور
داروين والتفكير الجديد
البيئة تغير الأحياء
نشأة الكون وتطوره
خروج الأحياء المائية إلى اليابسة
Bog aan la aqoon
هل تنقرض هذه الحيوانات الجميلة
إمارات الوحشية في حيواناتنا الداجنة
نحن خمسة في هذا العالم
الدماغ واليد واللسان
هذا الإنسان
العائلة الأبوية
أصل العقل وتطوره
الأفكار كلمات
الإنسان قمة التطور
الإنسان قمة التطور
Bog aan la aqoon
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
بقلم سلامة موسى
هذا الكتاب هو مزيج من العلم والفلسفة.
ونعني بكلمة العلم هنا أن الكتاب يحوي معارف جديدة عن تطور الأحياء، وهي معارف إن لم تكن يقينا كاملا فهي تقاربه.
ونعني بكلمة الفلسفة أننا حاولنا أن نتعمق هذه المعارف؛ كي نصل منها إلى تعيين الأسلوب وفهم الدلالة وتحديد الهدف في التطور.
ومجهودنا هنا أقرب إلى البصيرة والرؤيا منه إلى التحقيق العلمي والرؤية، ولا بد من البصيرة حتى للمفكر العلمي.
ولسنا نقصد من التأليف عن التطور أن يعرف جمهور القراء حقائق هذه النظرية فحسب؛ لأننا إنما نتوسل بهذه النظرية إلى أن نعمم مزاجا ذهنيا، واتجاها نفسيا، وخطة اجتماعية، نحو التغير؛ أي: نحو التطور في الشعب وفي الفرد أيضا.
وليست الحياة شيئا شاذا في المادة تستحق عقائد معينة، فإن الظواهر العديدة في هذه الكون، وليس في هذه الدنيا وحدها، تدل على أن المادة في تغير؛ أي: تطور دائم لا ينقطع، ويمكن أن نسمي حركة الذرة والجزيء، وحركات الكواكب والنجوم؛ أنواعا من الحياة.
Bog aan la aqoon
ومع أن التطور نظرية علمية، فإننا محتاجون إلى الفلسفة حين نكتب عن التطور في المستقبل؛ أي: عن التوجيه والتعيين ورسم الأهداف لمستقبل الإنسان، وليس لدينا هنا يقين علمي وإنما نحن نسترشد بالبصيرة المثقفة والتفكير الشامل.
والشاب الذي درس التطور في الأحياء؛ نباتا، وحيوانا، لا يتمالك أن يحس إحساسا دينيا نحو الطبيعة، ثم إذا درس بعد ذلك تطور المجتمعات والأديان والعائلة والثقافة والعلم والأدب والفن والحضارات، فإنه لا يتمالك أيضا أن يحس المسئولية نحو الوسط الذي يعيش فيه، ويجب أن يؤثر فيه، للخير والشرف والسمو؛ لأنه هو نفسه قد أصبح جزءا عاملا في هذا التطور، ويمكن أن يعد التطور بهذا الفهم دينا أو مذهبا بشريا جديدا.
ولم يكن التطور في ملايين السنين الماضية ارتقاء على الدوام، كما نفهم المعني «البشري» لهذه الكلمة، ولكنه يجب أن يكون كذلك في المستقبل؛ لأن الإنسان كان في الماضي خاضعا، في ذهول، لعوامل التطور البيئية، أما منذ الآن فإن التطور هو الذي سيخضع للإنسان عن وجدان ودراية بما يتخذ من أساليب ويبين من أهداف في مصير البشر بعد ملايين السنين.
لقد كنا، قبل الطب، نمرض ونشفى بتأثير العوامل الطبيعية، أما بعد الطب فإننا صرنا نتسلط على المرض ونمحوه بالدواء، وكذلك الشأن في التطور، فقد كنا نتغير في الماضي بتأثير العوامل الطبيعية، أما بعد اهتدائنا إلى نظرية التطور فإننا أصبحنا قادرين على التسلط على العوامل التي تغيرنا وتؤدي إلى ارتقائنا.
وفي هذا التفكير أو التوجيه الجديد رسالة تناشد في كل منا شرفه وشجاعته.
أعلام الطريق في تطور الإنسان
أعلام الطريق هي علامات تقام على جانبيه تدل السائر على مقدار ما قطع من المسافات أو تشير إلى الانعطافات، وأعلام الطريق في تاريخ الإنسان تدلنا على ارتفاعه في مراحل تطوره.
فليس شك أن الإنسان، بالمقارنة إلى الحيوان، يعد فذا، ولكن هذه الفذاذاة لا تخرجه من المملكة الحيوانية، فإن أعضاءنا الداخلية وكذلك الأعضاء الخارجية تشابه، بل أحيانا تطابق، ما عند الحيوانات من هذه الأعضاء، فإن تركيب العين البشرية لا يكاد يختلف من تركيب العين عند السمك، وأيادينا وأرجلنا زعانف متطورة، ولا يزال هناك أسماك تسير على الأرض وعلى الشجر بزعانفها، والقلب والكبد والقناة الهضمية والجهاز التناسلي والكليتان في الإنسان لها ما يقابلها، وأحيانا يطابقها، مثل هذه الأعضاء في الحيوان .
ولكن الإنسان تفوق ورأس المملكة الحيوانية، لماذا؟
الجواب هو: الدماغ الكبير.
Bog aan la aqoon
ولكن هنا عوامل سابقة أدت إلى الدماغ الكبير، فما هي؟
نحتاج لشرح هذه العوامل، إلى بعض التفصيل.
إلى قبل نحو عشرة ملايين من السنين كنا مثل سائر القردة التي تأوي إلى الأشجار تأكل من ثمارها وحشراتها ونحتمي على غصونها من وحوش الأرض، وانتفعنا من الإقامة، ملايين السنين، على الشجر؛ لأننا تعلمنا كيف نتسلق بأيدينا، فلم تعد اليد للمشي، وإنما صارت للتسلق، واستعمال اليد للتسلق يؤدي إلى استعمالها للتناول، كما نرى في القط والفأر والسنجاب، ولكننا أيضا كنا نجد الحياة في الليل أنفع لنا من الحياة في النهار، ولعل السبب لذلك ضعفنا وأننا لم نكن لنستطيع مقاومة أعدائنا، فصرنا نحيى حياة سرية ننام في النهار ونختبئ ونستيقظ ونسعى في الليل.
والرؤية في الظلام تحتاج إلى زيادة القوة في النظر، ولذلك اجتمعت العينان في الوجه بدلا من أن تكون في الصدغين، وهذا شأن حيوانات الليل مثل الوطواط والبومة، وأقل منها في الفأر والقط.
واجتماع العينين في الوجه لم يزد قوة النظر زيادة كمية فقط بل زادها زيادة نوعية؛ لأن تقدير المسافات يحتاج إلى العينين، أما العين الواحدة فتخطئ المسافة.
ولذلك نستطيع أن نقول: إننا انتفعنا بمعيشتنا على الشجر بشيئين:
الأول:
إعداد اليدين للتناول عن طريق التسلق.
الثاني:
جمع العينين في الوجه مثل البومة والوطواط. •••
Bog aan la aqoon
ثم حدثت ظروف حملتنا على أن نترك الأشجار والحياة في الغابات إلى السعي على الأرض، في السهول والوديان، ولا نعرف الأسباب على وجه الحقيقة، ولكن يمكن أن نحدس، فنقول: إنه ربما قد حدث جفاف جعل الحياة في الغاية عسيرة، أو ربما ثقلت أجسامنا فلم نعد نجد سهولة في الانتقال من غصن إلى آخر.
وعلينا أن نفهم أن كل هذا قد حدث في تدرج، فصرنا ننزل من الشجر ونستطلع ما حول الغابة من سهول ووديان ونصيد الحيوانات الصغيرة بالعدو خلفها وإمساكها باليد وافتراسها.
وكنا بالطبع في ذلك الوقت نمشي على أربع أحيانا ونمشي على القدمين فقط أحيانا أخرى ؛ أي: كنا مبتدئين في الإنسانية، ولكن رويدا رويدا تعلمنا كيف نسير على أقدامنا فقط؛ لأن هذا الأسلوب الجديد في التنقل جعل إشرافنا على السهول والوديان أوسع مدى فصرنا نرى أكثر ونصيد أكثر.
ثم إن انتصابنا على أقدامنا حرر أيدينا تحريرا تاما كي نتناول بها ونمسك؛ أي: نتناول الحجر كي نلقيه على طريدتنا التي نريد صيدها، ونتناول الطريدة فنخنقها أو نمزقها للطعام.
وهنا مرحلة في التطور يجب أن نقف عندها.
ذلك أننا وجميع الحيوانات تقريبا، مجهزون بخمس حواس، منها ثلاث يمكن أن نسميها حواس المسافات.
ذلك أن حاستي اللمس والذوق لا تحتاجان إلى مسافة، ولكننا نحس على مسافة قريبة أو بعيدة، ما نسمع أو نشم أو نرى.
وحاسة الشم على أعلاها في أحياء البحر والحشرات، وفي بعض الرواضع مثل الكلب، ولكنها على أضعفها عندنا؛ ذلك لأننا كدنا نستغني عنها بالعين والأذن.
عيوننا ارتقت بمعيشتنا السابقة في ظلام الغابة وفي السعي بالليل، فلما تركنا الغابة إلى السهول والوديان وجدنا القيمة العظمى للعين؛ لأن النظر بسط أمامنا من المسافات ما جعلنا نشرف به على أكبر مساحة ممكنة من الأرض.
والسمع حاسة مسافية أيضا ولكنها أقل قيمة من النظر.
Bog aan la aqoon
ووقوفنا على أقدامنا مع العينين جعل إشرافنا كبيرا، فصرنا نرى أكثر مما لو كنا على أربع، ورؤيتنا الكثير حولنا جعلنا نقارن ونتعقل ونجمع القليل من السمع إلى الكثير من النظر، ثم نقارن ونتعقل.
السمع والنظر أوجدا الوعي «أي الوجدان» في الإنسان.
أوجدا بداية الوعي الذي لا يكاد حيوان الشم والسمع يعرفه؛ لأن ما يعرفه هذا قليل.
الزرافة والفيل والثور والفرس أعلى منا قامة، وهي ترى أكثر منا أو على الأقل مثلنا بحاسة النظر؛ أي: الحاسة الأولى في المسافات، ولكنها لم تتطور وترتقي مثلنا، فلماذا؟ •••
هنا علم آخر في طريق التطور والارتقاء.
نحن نقف وقفة عمودية على أقدامنا، ولذلك نستطيع أن نحمل في رءوسنا دماغا كبيرا ثقيلا، ولو كنا نسير على أربع لما استطعنا أن نحمل هذا الدماغ، نحن نحمل دماغا عموديا والحيوان يحمله أفقيا.
احمل عشرة أرطال وارفع ذراعك بها عمودية فوق كتفك تجد الحمل خفيفا ولكن ابسط ذراعك أمامك أفقيا مع الحمل تجده ثقيلا.
قامتنا المنتصبة التي يسرها لنا وقوفنا على أقدامنا يسرت لنا نمو الدماغ، ووقوف هذا النمو عند أخواتنا القردة العليا الأربعة الأخرى يعود في كثير منه إلى أنها لم تنتصب تماما، وذلك أيضا لأنها لم تترك الغابة إلى الآن.
إن التطور قد أعدنا للذكاء عن طريق قدمينا قبل أن يعدنا له عن طريق رءوسنا.
وأصبحت حواس المسافات، الشم والسمع والنظر، تغذي الدماغ بالأخبار، وهذا يقارن بينها ويفرز ويميز ويتعقل؛ أي: يجد الوعي. •••
Bog aan la aqoon
ثم ظهر عامل جديد خطير في ارتقاء الإنسان، ارتقاء دماغه؛ أي: زيادة ذكائه؛ أي: زيادة وعيه.
ذلك أنه عرف اللغة؛ أي: الكلمات.
اللغة تحتاج إلى الحياة الاجتماعية؛ إذ هي للتفاهم؛ أي: أن يفهم واحد ما يقوله الآخر؛ أي: أن اللغة ليست اختراع فرد وإنما هي اختراع جماعة.
لما خرجنا من الغابة إلى السهول والوديان كان خروجنا جماعات كي نتربص بالفريسة وكي نتجمع للدفاع، فكنا في حاجة إلى الكلمات التي تهمس أو نزعق بها للتنبيه أو التحذير.
اللغة «حاسة» جديدة، حاسة مسافية مثل العين والأذن.
ولكنها حاسة للجماعة، وهنا نجد أن الحنجرة، مثل القدمين قبل ذلك بملايين السنين، قد خدمت التطور بمعاونة اللسان.
إن كل كلمة فكرة، وتسجيل الكلمات في الدماغ هو بمثابة تسجيل الأفكار، وهذه الأفكار تتصادم وتتفاعل في الدماغ الذي يكبر وينمو كي يستوعبها.
كما تكبر العضلة بتناول الشيء الثقيل وتكرار تناوله، كذلك يكبر الدماغ بتناول الأفكار وحفظ معانيها وترتيبها.
ومع الكلمات كنا نضع بعض الأدوات للصيد، وتشكيل الأداة وصنعها وتناولها، وحركات الصيد والاجتماع للتربص، ثم اقتسام الفريسة وتمزيقها، كان كل هذا يحتاج إلى كلمات تعين كل درجة من درجات هذا المجهود، والكلمات تبعث التفكير، والتفكير يؤدي إلى تكبير الدماغ كما لو كان عضلة تكبر بالمرانة ورءوسنا الكبيرة هي التي تجعل مقامنا فذا بين الحيوانات؛ لأنها ميزتنا عليها بالذكاء. •••
ممارسة الصيد، وصنع الآلات للصيد، كلاهما أدى إلى اختراع اللغة، وكلاهما احتاج إلى اجتماع الأفراد.
Bog aan la aqoon
ومضت حقبة كبيرة جدا، لعلها تقاس بملايين السنين، كان فيها الإنسان صيادا لا أكثر، ومعظم خرافاته جاءت من هذه الحقبة حين كان يستعين على الصيد بعقائد السحر والدين.
ذلك أن الصيد خطر، والصائد عرضه لأن يكون فريسة ما يصيد، ولذلك كان الخوف يعم الصائدين ويحملهم على التشبث بأية عقيدة تلهمهم بعض الاطمئنان.
وظهر حجاب المرأة في ذلك الوقت.
ذلك أن أشأم كلمة أيام الصيد كانت كلمة الدم؛ إذ هي تحمل معنى القتل، ولما كانت المرأة تحيض كل شهر كانت لذلك يحرم على الرجل الاقتراب منها أو حتى رؤيتها قبل الخروج للصيد حتى لا يتشاءم بالدم، وأصبحت المرأة «نجسة» أيضا، وتزداد نجاستها حين يغزر الدم كما في الولادة ومن الدم عرفت كلمة «دميم»؛ أي: الكريه الوجه.
وبقيت الشعوب التي تمارس الصيد تستنجس المرأة حتى حين ارتقت من الصيد إلى رعاية القطعان.
والصيد يؤدي إلى الرعاية.
فالصائد حين يصيد أنثى الوحش تبقى أطفالها معها حتى وهي ميتة. وقد يحملها الصائد إلى زوجته وأولاده، فتنمو وتكبر، ثم تكون تربية الحيوانات واستئناسها، ومضت قرون في رعاية القطعان والتنقل من مرعى إلى سهل، فظهر نظام القبائل واستبدل الإنسان الراعي الإيمان بإله واحد في كل مكان، بالسحر والشعوذة، ولكن هذا الإيمان بإله واحد، استحال بعد الزراعة، إلى الإيمان بالتعدد الوثني.
ثم عرفت الزراعة بعد ذلك، وقريبا جدا؛ إذ هي لا تزيد على 15 ألف أو 20 ألف سنة، والمرجح أنها نشأت في مصر؛ لأن انتظام الفيضان كان يحمل على التفكير، فيفهم الإنسان أن الماء هو الأصل في نمو النباتات، وجميع الآلهة المصرية القديمة هي آلهة الزراعة والماشية، فإن آمون يحمل قرنا «للماشية» وأوسير تخرج سنابل القمح أذنيه «للزراعة»، وهاتور البقرة «اللبن».
وباستقرار الإنسان على الزراعة ظهرت الحضارة؛ لأن الزراعة هي أولى درجات الحضارة؛ إذ هي اقتضت إيجاد حكومة للأمن العام، ثم ديانة للطمأنينة على الزرع، ثم صناعات زراعية ... إلخ.
ونستطيع أن نعين مراحل الارتقاء أو التطور البشري بهذه الأعلام التالية: (1)
Bog aan la aqoon
حياة الإنسان في الغابة علمه التسلق على الشجر، فهيأ يديه بالتسلق للتناول والإمساك كما هيأه بعض الشيء، للمشي على قدميه. (2)
حياته في الليل أدت إلى جمع عينيه في وجهه بدلا من أن تكون كل منهما في أحد صدغيه فصار النظر أدق. (3)
لما ترك أشجار الغابة مشى على قدميه أو شرع في ذلك. (4)
كبرت فيه، وهو في السهول والوديان، حواس المسافات؛ أي: السمع والشم والنظر، وأهمها النظر. (5)
هذه الحواس زادت وعيه؛ أي: وجدانه بما حوله، فكبر. (6)
الإقامة في الوديان أو السهول تعني الصيد جماعات؛ أي: تعني الإنتاج بالتفاهم، فظهرت اللغة؛ إذ هي خاصية اجتماعية وليس فردية؛ لأن غاية اللغة هي التفاهم، والتفاهم يحتاج إلى اثنين أو أكثر. (7)
صار التعاون على الصيد يحمل على تأليف كلمات واختراع الأدوات والتفكير في الوسائل، فزاد التصور، والتصور يعني الفكرة العامة التي تشمل الأشياء أكثر مما يعني الفكرة الخاصة، وأدى كل ذلك إلى تكبير الدماغ. (8)
أدى الصيد إلى عادات وخرافات اجتماعية، منها نجاسة المرأة. (9)
كذلك أدى الصيد إلى رعاية القطعان فكان الإيمان بإله واحد. (10)
ثم ظهرت الزراعة فبدأت الحضارة الأولى. (11)
Bog aan la aqoon
لما عمت الزراعة جزءا كبيرا من الأرض في وادي النيل، احتاجت إلى الدين والحكومة وإلى شيء من العلم «مثل تقويم السنة» وإلى الكتابة؛ لأن الغرض الأول من الكتابة كان تسجيل مقدار الدخل الحكومي من الزراعة. (12)
ظهور الكتابة أدى إلى الثقافة.
الزراعة أنتجت الحضارة.
والكتابة أنتجت الثقافة.
وبالكتابة توسع التفكير البشري ووجدت كلمات التعميم والشمول، وأصبحت «النظرية» ممكنة، وصار الذكاء مدربا على الفهم العام، ورويدا رويدا تحول البحث الديني القائم على العقائد والخرافات إلى بحث فلسفي قائم على العقل والمنطق.
حوافز التفكير في التطور
من أعظم ما أخر الشعوب العربية عن المساهمة في الموكب العلمي العصري أن فني الرسم والنحت كانا مجهولين عندها، ولا عبرة برسم هنا وهناك على قماش أو خزف؛ لأننا نعني أن يكون الرسم فنا يحيا به وله فنانون محترفون، وكذلك الشأن في النحت.
فقد ورث الأوروبيون فن النحت عن الإغريق والرومان الوثنين، وابتدعوا هم فن الرسم، ولم يجدوا مانعا من التقاليد في ذلك.
ثم حين جاء ميعاد النهضة استطاع الباحثون في علوم الإنسان والنبات والحيوان والطب والطبيعيات أن يستخدموا فن الرسم في تطوير هذه الأشياء، فتقدمت علومها بذلك، وهنا حيل بين العرب وبين متابعة هذه العلوم بهذا التحريم الذي ذكرنا لفني الرسم والنحت، ثم يضاف إلى هذا تحريم التشريح للجثث البشرية.
وهناك قصة معروفة عن اثنين من اللغويين العرب أيام العباسيين فقد تحدى أحدهما الآخر في قدرته على تسمية أعضاء الفرس، ولكن الثاني تحداه أن يعين الأسماء للأعضاء على جسم الفرس؛ إذ كان الأول قد حفظ الأسماء من الكتاب وليس من الفرس.
Bog aan la aqoon
ولو كان العرب قد مارسوا الرسم والنحت لما كان يمكن أن تقع هذه الحادثة.
ونذكر هنا كتابا فرنسيا ألفه رجل يدعى بيلون في سنة 1555؛ أي: قبل 400 سنة، وقبل كتاب داروين «أصل الأنواع» بأكثر من 300 سنة، وقد أسماه «تاريخ طبيعة الطيور» ولم يكن في ذهنه شيء عن معنى التطور، ولكن كتابه هذا، برسومه ومقارناته بين الصور، أوحى فكرة التطور وحفز على بحثها، ونحن ننقل منه رسمين أحدهما معظم «أي الهيكل العظمي» إنسان والثاني معظم طائر وقد قابل بين الرسمين عظمة لعظمة كي يوضح أن المبنى العظمي في الإنسان لا يختلف كثيرا عن المبنى العظمي في الطائر، والحق أن المتأمل يعجب من التقابل، ولولا المنقار البارز لأنكر أنه ينظر إلى معظم طائر إزاء معظم إنسان.
وربما كان أول من لمح التطور هو «بوفون» الذي بحث هذا الموضوع، وهو على وعي؛ أي: وجدان، بقيمة النظرية في منتصف القرن الثامن عشر، فإنه عرف الأحافير؛ أي: الأحياء المنقرضة التي بقيت متحجراتها في القشرة الأرضية، فذكر أحافير النبات والفحم وأحافير السمك في الإردواز، وكتب في 1778 مقالا جاء فيه:
إن الحمار ينتمي إلى الجواد ولا يختلف منه إلا في التعديلات ... وإن الإنسان والقرد يعودان إلى أرومة واحدة مثل الجواد والحمار، وإن كل عائلة، سواء من النبات أم الحيوان، قد اشتقت من أصل عام، بل إن جميع الأحياء قد نبعت من نوع واحد مفرد، وهذا النوع، بمرور العصور، قد أعقب جميع السلالات المعروفة الآن.
وهذه الكلمات تدل على أنه كان «يؤمن» بنظرية التطور، ولكنه كان «يؤمن» فقط إذ إنه لم يستطع التعليل العلمي لتطور الأحياء ولذلك لا تعزى إليه النظرية.
وربما كان أعظم ما فتح الأذهان إلى النظرية أن لينيوس السويدي عمد إلى ترتيب النباتات لغويا، بحيث نستطيع أن نعين الاسم لنبات نجهله، وكان بتحري المشابهة والتناظر بين النباتات، ومع أن غايته كانت لغوية فإنه نص على أننا حين نسمي نباتا يجب ألا نخرج عن القرابة القائمة بينه وبين نبات آخر في التكوين النباتي.
ومع أنه لم يفكر بتاتا في التطور، ومع أنه كان يعتقد أن الأحياء النباتية مخلوقة كما هي وعلى ثبات لا يتغير، فإن ترتيبه اللغوي أدى إلى ترتيب ذهني، فبسط بذلك الميدان للتفكير التطوري ليس في النبات فقط بل في الحيوان أيضا.
وقد مات لينيوس عام 1778.
قلنا: إن بوفون قد لمح التطور، وإن لينيوس بسط الميدان بترتيبه اللغوي لأسماء النباتات، وبعد ذلك جاء لامارك الذي أعده أنا أعظم من داروين من حيث إصابته في تعليل التطور بأنه يعود إلى العادات التي يتعودها الحي؛ نباتا أم حيوانا، من تغير الوسط ومن مرانته على أن يلاءم بين أعضائه وبين هذا التغير، ثم توارث الأبناء لهذه التغييرات، وكتاب لامارك «فلسفة العلوم الحيوانية» أخرجه عام 1809؛ أي: قبل كتاب داروين بخمسين سنة تماما.
ثم جاء داروين وأخرج كتابه «أصل الأنواع» في 1859 ولم ينكر فيه أن الوسط يغير الحي، ولكنه لم يعتمد كثيرا على هذا العامل؛ إذ هو اعتمد على عوامل أخرى في التطور، هي: (1)
Bog aan la aqoon
أن الأحياء؛ نباتا وحيوانا، تكثر بالتناسل بحيث لا تجد الغذاء الكافي لها جميعا، وعندئذ: (2)
يحدث «تنازع البقاء»؛ أي: أن الحي ينازع الحي الآخر على الطعام، والبقاء للغالب الذي يقتل غريمه، وهو يغلبه لأنه قد حصل على: (3)
ميزات وراثية على غريمه هيأت له النصر، ولكننا لا نعرف كيف نشأت هذه الميزات. (4)
هذه الميزات تتوارث، وعندئذ تتغير الأعقاب عن الأسلاف. (5)
التغير ينشأ بسيطا كما نرى في السلالات التي أحدثناها نحن في الكلاب مثلا؛ إذ إن عندنا منها 185 سلالة. (6)
إذا طال الزمن صارت السلالات أنواعا مستقلة حتى إنه لا يخصب بينها التلافح.
وأوجد داروين عبارة «تنازع البقاء»، وأوجد هربرت سبنسر كلمة «التطور»، وكلتاهما كانت أداة أو خميرة مخصبة للتفكير في القرن التاسع عشر وبداية هذا القرن، ونحن نعزو نظرية التطور إلى داروين؛ لأنه علل النظرية بتعليلات عديدة كثير منها مقنع.
ولكننا ما زلنا إلى الآن في مشكلة داروين ولامارك، وهي: هل التطور يحدث بتأثير البيئة التي تعلم الحيوان عادات كما يقول لامارك أم بعناصر وراثية نجهلها تحدث «تنازع البقاء» بين الأحياء التي ورثتها كما يقول داروين؟
الذي أعتقده أن التطور يحدث بتأثير البيئة، وأعنى بالبيئة هذا المناخ والغذاء وأسلوب العيش والأمراض والأعداء؛ لأن الحي يستجيب لكل هذه الأشياء بأن يتخذ عادات معينة في المقاومة والملائمة والرجوع والاستجابات، ثم تتكرر هذه العادات في أبنائه وأحفاده من الأجيال القادمة حتى تثبت وتصير وراثية لها أعضاء معينة تعين الوظائف. •••
وقد تأخرت فكرة التطور في الشرق والغرب معا بسبب الأديان التي نصت على قصة آدم وحواء كأنها الأصل الوحيد لظهور الإنسان، وأن من يقول بغير ذلك يعد كافرا.
Bog aan la aqoon
ولكن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانا عصر النقد للأديان كما كانا عصر التسامح الذي انتهى إليه الأوروبيون وعملوا به بعد حروب دامية حطمت القيم الإنسانية وعممت البغض، ولكنها انتهت بإيثار التسامح على التعصب، وأن لكل إنسان الحق في أن يؤمن بما يشاء، فلم يعد أحد يخشى التفكير في أصل الكون أو الإنسان؛ لأن الدين يقول بنص أو رواية أو أمر يجب أن نصدقها ونطيعها.
وانتهت أوروبا، بفضل لامارك ثم داروين، إلى الإيمان بفكرة التطور، فكرة أولا، ثم عقيدة بعد ذلك وانتقلت من ميدان الأحياء في النبات والحيوان، إلى ميادين أخرى في الحضارة والاجتماع.
بل أخذت عقيدة التطور هنا مكان العقيدة الدينية وأصبحنا نفهم منها أن الأخلاق أيضا تتطور، وأن معاني الارتقاء هي أيضا معاني التطور، بل إن يعقوب صروف مؤسس المقتطف كان يسمي نظرية التطور: نظرية النشوء والارتقاء.
ومع أننا لا نستطيع أن نجزم بأن كل تطور هو ارتقاء فإن موكب الأحياء في الألف مليون سنة الماضية هو على وجه عام موكب الارتقاء من حياة الغيبوبة والغريزة في الخلية الأولى إلى حياة الوعي والعقل في الإنسان.
وقد تأخرت أقطار الشرق العربي في الأخذ بنظرية التطور وتأخرت بذلك ثقافتها، حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابا عربيا مثلا في «تطور الأديان» أو «تطور المجتمع العربي» أو «تطور الأخلاق» ولا يمكن أن توجد مثل هذه المؤلفات المنيرة المبصرة إلا بعد أن تسلم الجماهير العربية المتعلمة بأن التطور عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة، وهذا ما لم يتحقق إلى الآن للأسف.
ومن العجب، بل من المحزن أيضا، أن نجد الزنوج في إفريقيا الغربية يسمون أنفسهم «متطورين» إذا كانوا قد ارتقوا وأخذوا بأسلوب العيش والتفكير العصريين وانفصلوا من حياة الغابة والقبيلة التي كان يحياها آباؤهم.
هذا ما نجد بين الزنوج في إفريقيا الغربية، ولكننا لا نجد في الأقطار العربية إلى الآن «متطورين»، ولست أقصد بذلك أننا ما زلنا بعيدين عن معنى النهضة، ولكني أقصد إلى أن مغزى التطور قد فهم في إفريقيا الغربية ولم يفهم في الأقطار العربية.
ومعنى التطور هدم وبناء.
هدم لتقاليد الماضي وبناء لتقاليد المستقبل.
إن الفرخ لا يخرج من البيضة إلا بعد أن يكسرها، والبذرة لا تنمو شجرة باسقة إلا بعد أن تتفتت وتنمحي.
Bog aan la aqoon
ودعاة التقاليد يدعون في الحقيقة إلى الجمود حتى تبقى البيضة بلا كسر والبذرة بلا تفتت، ويقابل هؤلاء دعاة التطور حيث التحرر من التقاليد والأخذ بأسلوب العيش والتفكير العصريين.
إن التقاليد تعوق التطور، والاستعمار يأكل ويشبع من الشعوب التي تجمدت بالتقاليد وسيطرت عليها الأديان التي تعلمها أن السعادة في عالم آخر وليست في هذا العالم، وأن العقيدة الدينية أهم من البترول.
والنظرة الموجزة لأقطار الشرق العربي توضح لنا كيف أن التفكير السائد يتجه نحو الماضي، وحسب القارئ، أن يذكر «الأدباء» الذين يؤلفون عن المشاكل الدينية وأشخاص التاريخ قبل ألف سنة ويعدون هذه الأبحاث أدبا أو «ثقافة» تنفع العرب.
إنها ثقافة بلا شك، ولكنها ليست الثقافة التي تحتاج إليها جماهير العرب التي تنشد القوة في المستقبل.
إن برنارد شو يتحدث عن «شهوة التطور»، وهو ينصح بتنقيح الدين مرة على الأقل كل سنة.
أي أنه يجد في الدين قواعد وسلوكا للحياة وليس قواعد وسلوكا للعالم الآخر، فيجب أن تتغير هذه القواعد وفق التطورات الاجتماعية والاقتصادية.
فعلى أبناء الشعوب العربية أن يجعلوا من التطور عقيدة بل عقيدة دينية إذا كفر بها إنسان فإنه لن يعاقب على كفره بجهنم بعد الموت، ولكنه يعاقب بالموت أو الفقر والذل وهو حي في هذا العالم.
ولو كانت لي السيطرة على الأقطار العربية لقررت ترجمة مئة كتاب عن تطور الأحياء والأخلاق والمجتمعات والأديان والصناعات والاقتصاديات ونحوها حتى يتغير العرب وحتى يأخذوا بالابتكار والاختراع والقوة والثراء بدلا من أن يلتزموا تقاليدهم ويبيعوا بترولهم بأبخس الأثمان مع أنه وقود الصناعة التي كان يمكن أن ترفعهم إلى أرقى مكانة بين الشعوب المتمدنة.
داروين والتفكير الجديد
«أنت لا تعني إلا بالصيد والكلاب، وإمساك الجرذان، وسوف تكون عارا على نفسك وعلى عائلتك».
Bog aan la aqoon
هذه هي الكلمات التي تلقاها داروين من أبيه في وقت كان يلوح لأي إنسان يتأمل داروين أنها صحيحة، وأن هذا الشاب قد خاب الخيبة التامة، فقد تسكع في دراسات مختلفة، ولكنه لم يستقر على واحدة منها، فقد التحق بكلية الدين ثم تركها، والتحق بكلية الطب ثم تركها، وفي غضون ذلك كان يلعب، أو على الأقل كان يبدو كأنه يلعب، يخرج إلى الحقول ويجمع النباتات، ويصيد الحشرات ويقارن بين النباتات، ويفكر تفكيرا سريا كأنه يتآمر على الكون كله، كي يغيره أو يغير البصيرة البشرية فيه.
والآن بعد أكثر من مئة سنة من هذه الكلمات القاسية التي قالها أبوه عنه لا يعد داروين عارا على عائلته بل هو فخر أمته يتباهى به التاريخ الإنجليزي، وبعد نحو خمسين سنة من هذا التوبيخ الأبوي تأمل داروين حياته الماضية، ومبلغ ما أتمه من الخدمة في التوجيه.
مني للعالم فقال: «أظن أن أبي قد قسا علي بعض القسوة».
ومات داروين في عام 1882 بعد كفاح ثقافي طويل، ونحن الآن بعد وفاته بأكثر من خمسين سنة، نستطيع أن نقول: إنه أكسبنا فهما جديدا للطبيعة والكون والإنسان، وزودنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل، فإن كتابه «أصل الأنواع» الذي أخرجه في عام 1859 حمل إلى القراء شيئين: أولهما معارف تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعها ترجع إلى أصل واحد أو أصول قليلة، وثانيهما منهج للدراسة هو أن الاستقرار لا يعرف في الطبيعة، أو الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.
ونحن الآن لا نبالي الحقائق أو المعارف التي شرحها داروين، ولكننا قد اتجهنا الوجهة التي عينها لنا، فنحن نفكر في التطور، ونفكر متطورين، وأصبح التطور حقيقة علمية نقيسها بالمليمتر والميلجرام في الحيوان والنبات، كما أصبح أيضا مذهبا دينيا، أو مبدأ أخلاقيا عند المثقفين، وانفسح به التاريخ البشري آفاقا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين خلف البشر وبعد البشر.
لقد قيل: إن جاليل حط الإنسان من عليائه، حين أعلن أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها كوكب صغير يدور حول الشمس، ولعل الشمس أيضا نجم صغير لا يختلف عن ملايين النجوم التي نراها كل ليلة في المساء، ولكن داروين رفع الإنسان إلى هذه العلياء من جديد، وأثبت أنه لم يكن عاليا فسقط، وإنما هو كان ساقطا يعيش على حضيض الطبيعة حيوانا كسائر الحيوانات والحشرات، ثم ارتفع، وبهذه الكرامة الجديدة انتقل من أسر القدر، وأحس أنه تاج التطور، وأن له الحق في تدبير هذا العالم، وفي تعيين السلالات القادمة، بل ماذا أقول في إيجاد الأنواع البشرية الجديدة.
ومع ذلك لا أعتقد أن داروين نفسه كان يقدر الطاقة الكامنة في نظريته، ولا ينتقص هذا من عظمته، فإن تفكيرنا الشخصي يسير بقوات اجتماعية، لا نكاد نبصر بها أو نتعمق أصولها، ذلك أننا نفكر بحوافز من العواطف التي نكتسبها من المجتمع، بما يفرضه علينا من القيم والأوزان، وما يرسمه لنا من المطامع والآمال، والمجتمع يطالبنا باستجابات مختلفة تستحيل في كياننا النفسي إلى عادات عاطفية لا نستطيع الخروج منها، فنفكر في منهج خاص هو ثمرة هذا التوجيه الاجتماعي الذي لا نحسه لأنه لا يرتفع إلى وجداننا وتعقلنا.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن نظرية داروين وجدت الحافز الأول على التفكير فيها من المجتمع الذي عاش فيه داروين، ذلك أن داروين قضى من زهرة حياته إلى نضج الشباب وإيناع الكهولة فيما بين 1830 و1860، وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسين، وكانت إنجلترا في تلك السنين ترقى وتزيد بالحركة الصناعية الجديدة، فالمصانع تحتشد بالعمال من الرجال والنساء والصبيان، والثروات تنمو، والمزاحمة على أقصاها، وإنجيل النجاح يدرس، ويعبد، والسياسة تخدم الاقتصاد وتضرب الأمم النائية وتؤسس الأسواق في المستعمرات وأصبحت إنجلترا سيدة البحار؛ لأنها احتاجت إلى أكبر أسطول يحمي مستعمراتها وأسواقها التي تباع فيها مصنوعاتها الفائضة.
وعاش داروين في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لنكشير وغيره من الأقاليم الصناعية في إنجلترا.
وفي تلك السنين أيضا قرأ كتابا أحبه وتعلق به؛ لأنه وجد في نفسه الاستجابة لنظرياته بما تكون له من عواطف أحدثها الوسط الصناعي الإنجليزي، هو كتاب القسيس مالتوس عن السكان، فإن هذا القسيس كان من المحافظين الإنجليز الذين يكرهون العامة، ولا يرون فيهم سوى غوغاء، فلما انفجرت الثورة الفرنسية واستولى بها الشعب على حقوق السادة من الملوك والعظماء ثم أعلن رجالها مبادئ الإخاء والمساواة والحرية، فكر مالتوس كثيرا بحافز من عواطفه المحافظة، فأخرج كتابه عن السكان، وكان المغزى الذي قصد إليه أن هذه الآمال في الإخاء والمساواة والحرية لن تتحقق؛ لأن الدنيا لا تكفي الناس الذين يتوالدون على نظام تضاعفي 2 و4 و8 و16 ... إلخ، ولكن المحصولات لا تنتج إلا على نظام حسابي 1 و2 و3 و4 و5 ... إلخ، فإذا عاش الناس بلا مرض أو حرب أو حرمان لم تكفهم المحصولات، وإذن فالمرض والحرب والحرمان رحمة بالناس أو ضرورة لهم، وتأمل داروين هذا الكتاب الذي ألفه مالتوس عن المجتمع البشري فتساءل: لم لا ينطبق هذا الكلام على المجتمع النباتي والحيواني في الطبيعة؟ فإن الطعام لا يكفي جميع الأحياء التي تتوالد أو تتكاثر بالألوف، فهي يجب كي تعيش أن يزاحم بعضها بعضا، فتكون الحرب بينها؛ أي: تنازع البقاء، كما في لنكشير ومصانعها تماما.
Bog aan la aqoon
وفي 1831 أنفذت الحكومة البريطانية سفينة البيجل كي تطوف حول العالم وتسبر الأعماق وتدرس الشواطئ وتقيس الأبعاد، ولكن لماذا عمدت الحكومة البريطانية وحدها دون سائر الحكومات إلى الاهتمام بهذا الموضوع؟ ما هي العاطفة الحافزة إلى هذه الدراسة التي لم تفكر فيها ألمانيا أو روسيا أو إيطاليا.
العاطفة الحافزة اجتماعية أيضا، وذلك أن الحكومة البريطانية في تلك السنين كانت تخدم الصناعة البريطانية؛ لأن السياسة على الدوام تسير خلف الاقتصاد، وكانت أسواق العالم وقفا على المصنوعات الإنجليزية؛ لأن الحركة الصناعية الإنجليزية سبقت الحركات الأخرى في جميع الأمم، فمن هنا كان الاهتمام بالبحار والملاحة والأقطار النائية، ومن هنا أيضا كانت الفرصة لداروين في أن يلتحق بالسفينة «بيجل» كي يدرس الحيوان والنبات.
ولم يكن داروين جديدا في هذا البحث «أصل الأنواع» فإن لامارك الفرنسي سبقه إليه، وهو صاحب القول بأن عنق الزرافة قد طال؛ لأنها بالمرانة التي ورثت جيلا بعد الجيل قد اشرأبت وسعت للوصول إلى الغصون العليا في الأشجار، فكأن ما يكسبه الحيوان بجهده من صفات يورث جيلا بعد جيل، بل إن جد دارون قد بحث هذا الموضوع، فكانت النظرية «في الهواء» تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها.
كان داروين شابا في الثالثة والعشرين حين شرع في رحلته على البيجل، فلما وصل إلى أمريكا الجنوبية، وجد حيواناتها ونباتها يختلفان عما هما في القارات القديمة، ثم لما وصل إلى الجزر المنعزلة غرب أمريكا الجنوبية وجد أن انعزال الجزيرة يؤدي إلى انعزال الحيوان، فتكون له أشكاله التي ينفرد بها من الأشكال العامة على القارات.
وإلى هنا يكاد يتوهم القارئ أنه ليس هناك أي فضل لداروين في تعليل النظرية، فقد سبقه إليها جده كما سبقه إليها لامارك الفرنسي، ثم هناك الظروف الأخرى، مالتوس وقلة الإنتاج الغذائي إزاء تضاعف السكان، ثم تنازع البقاء وبقاء الأصلح وفناء الضعيف في المزاحمة العنيفة في لنكشير حيث الحركة الصناعية في عنفوانها.
ولكن لا! لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها، حين تشمل المعيشة والاتجاه والعادات والعواطف، هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا تغفل الشخصية؛ إذ لو لم يكن داروين ذكيا لما فكر في هذا الموضوع الخطير، ولما جعله هدفه في الحياة.
لقد قال داروين عن نفسه: «إن الحقائق تضطرني إلى الاعتراف بأن عقلي لم يخلق للتفكير».
وقد ظلم داروين نفسه بهذه الكلمات، ولكن الحقيقة أنه لم يعرف نفسه؛ لأن الواقع أنه لا يقول هذه الكلمات إلا رجل مفكر قد أسرف في التفكير وعني العناية الكبرى بغربلة الحقائق من المعارف، وعرف الصعوبة الكبرى في هذا الجهد، ولو أنه لم يكن يجهد لما قال هذه الكلمات؛ إذ إنها ما كانت لتخطر في باله.
الحقيقة الواضحة من حياة داروين أنه احترف التفكير، وأنه كان مريضا أو متمرضا في نفسه حزازة قديمة هي جرح الكرامة، هذا الجرح الذي أحدثه أبوه وغيره فيه كما نرى مثلا من وصف أبيه له بأنه سوف يكون عارا لعائلته، فقد كان لا ينام في الليل إلا بعد أرق الساعات وكان في هذه الساعات يفكر ويؤلف، فإذا جاء النهار كتب كلماته القليلة، ثم يبقى سائر نهاره مريضا، ومرضه هو هذا المرض النفسي الذي يخترعه النيوروزي ويعيش به ويستقر عليه، كأنه يقول: طلبتم مني النجاح والتفوق، وكيف أستطيع هذا وأنا مريض؟
مرض يصون الكرامة المجروحة «أنت عار لعائلتك» وفي الوقت نفسه يهيئ الفرصة للتفكير في حضانة ليلية يسميها الأصحاء أرقا، ولو أن داروين نجح وصار قسيسا أو طبيبا كما كان يشتهي أبوه لكسب العالم قسيسا أو طبيبا يمارس حرفته ويكسب منها، ولكن العالم كان يخسر عندئذ هذه العبقرية المريضة التي زعزعت الثقافة من أساسها، بل زلزلتها وعينت أهدافا جديدة للإنسان.
Bog aan la aqoon
كان داروين يكرر كلمة مألوفة بين أصدقائه هي «معدتي الملعونة» والترجمة السيكلوجية لهذه الكلمة هي: أريد أن أقعد وأتكاسل وأفكر ولا يساعدني على هذه الحال إلا معدة ملعونة تزكيني وتسوغ لي الكسل والتفكير والتأليف.
وهذا الكسل من أعجب صفات داروين، وهو صفة المريض النيوروزي الذي يكره النشاط ويرفض المعالجة لأي عمل؛ لأنه يخشى النقص؛ أي: لأنه يخشى أن يقصر عن التمام، فقد بقي داروين نحو ثلاثين سنة وهو يفكر في التطور، ولكنه لا يخرج كتابه عنه ولا يكتب مقالا، ثم حدث حادث أزعجه فانتفض منه، هو أن وولاس كان في بعض الجزر التي تقع في الجنوب الشرقي من آسيا يجمع الأزهار والحشرات ويحنطها ويبعث بها إلى الجمعيات العلمية، وكان مشغولا بالموضوع نفسه؛ أي: التطور، وكان يعرف أن داروين مشغول به أيضا فأرسل إليه رسالة علمية يشرح فيها رأيه في هذا الموضوع، وصعق داروين إذ وجد أن وولاس قد سبقه إلى تعليل التطور بأن الطعام قليل في الطبيعة، وأن التوالد كثير بين أنواع الحيوان والنبات، فلا بد أن يكون هناك تزاحم؛ أي: مسابقة من أجل الطعام، وفي هذا التزاحم أو المسابقة لا يبقى غير الأقوى الأصلح للبقاء.
وسارع داروين إلى إبلاغ الهيئات العلمية في إنجلترا عن رسالة وولاس، وشرع هو أيضا يؤلف كتابه «أصل الأنواع»، ونستطيع أن نتخيل داروين في حزنه ونزاهته معا، ولكن وولاس بعد ذلك بسنين اعترف بأن العالم كسب ولم يخسر بتزعم داروين لهذه النظرية؛ لأنه كان أوفى منه معرفة وأنصع بيانا وأدق منطقا.
وأخرج داروين كتابه «أصل الأنواع» في 1859 فتغيرت الرؤية والرؤيا البشريتان.
وكثير من النظريات التي غيرت التفكير البشري تبدو غاية في السهولة والبساطة، حتى ليتساءل الناس: كيف جهل السالفون هذه النظرية على وضوحها؟
فإن داروين يتحدث عن الحمام والكلاب وغيرها مما يربيه الناس وكيف استطاعوا أن يخلقوا العشرات والمئات من السلالات الجديدة، وما استطاعه الإنسان في مئات السنين القليلة قد استطاعته، وأكثر منه الطبيعة في ملايين السنين الماضية، حتى أخرجت الأنواع فضلا عن السلالات، فهناك في الغابات والبحار والجبال والسهول إنتاج محدود من الطعام، ولكن هناك توالد يتضاعف بين الحيوان والنبات ولا يمكن أن يكفي الطعام هذه الملايين بل ملايين الملايين من النبات والطعام، فلا بد إذن من أن تتنازع الأفراد لأجل البقاء؛ أي: لأجل الحصول على الطعام، وقد يكون السبب للتفوق في هذا التنازع ثم البقاء خفيا، هو كما في النفس الأخير في صراع يدوم الساعات، أو في القدرة على الجوع أو العطش، أو في طرق الحماية للنسل، أو في القدرة على التطفل، أو في الجرأة والبطش.
وما دام كل فرد يولد مختلفا عن الآخر في الحيوان والنبات، فإن هذا الاختلاف ينطوي بلا شك على ميزة أو عجز، فهو يساعد في الحال الأولى على البقاء والانتصار في معركة الحياة، وهو يهيئ له الهزيمة في الحال الثانية، ولا نعرف الأسباب لهذا الاختلاف، ولكننا نشاهده ونعلم به، ولذلك لا بد أن يستمر التغيير جيلا بعد جيل، فإذا تراكمت التغيرات أحدثت السلالات الجديدة، وإذا زاد الاختلاف بين السلالات ظهرت الأنواع الجديدة.
وعلى هذا يجب أن نسلم بأن الأحياء؛ نباتا وحيوانا، ليس الآن كما كانت قبل مليون أو مئة مليون سنة؛ لأنها دائمة التغير والتطور، وليس الاستقرار والثبات طبيعة الأحياء؛ لأن التغير والتطور هما طبيعتها، ونستطيع أن نستنتج أنه ما دام لنا تاريخ ماض في التطور فسوف يكون لنا تاريخ قادم أيضا تتغير فيه الأحياء.
وهذا هو المغزى الخطير الذي انتهى إليه قراء داروين، وهو أن الحياة في بوتقة لم تتجمد قط، وأن البوتقة لا تزال تصهر وتخرج عناصرها ومركباتها، وهذا هو التوجيه الجديد الذي سدد داروين عقولنا إليه، ونحن في بداية هذا التوجيه الذي يخشى كثير منا مغزاه؛ لأنه يحمل في طياته مشروعات بشرية خطيرة.
لقد عالج داروين تطور الأحياء، وحاول تعليل التطور ونجح إلى حد ما في هذا التعليل، ولكنه لم ينجح كل النجاح، وذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق، وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع، تنازع البقاء، وحال بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
Bog aan la aqoon
ونحن نعرف الآن كثيرا؛ أي: أكثر مما كان يعرف داروين، ولكن لداروين فضل التوجيه وتعيين الخطط للبحث، وأنه زودنا برؤية بشرية جديدة، فقد نقلت نظرية التطور من الأحياء في الطبيعة إلى الناس في المجتمع، وصار من المألوف أن نجد دراسات منظمة عن الأخلاق والأديان وفق النظرية التطورية ما كنا لنراها لولا داروين.
وانبسطت للبشر آمال في المستقبل، وتغير معنى الارتقاء البشري؛ لأننا نقلنا هذا المعني من وسط الإنسان إلى الإنسان نفسه، بل أصبح التطور فنا نمارسه في إيجاد سلالات جديدة من القطن أو القمح أو الفاكهة وقد اجترأ هتلر وأعوانه على أن يفكروا في سلالات بشرية جديدة.
البيئة تغير الأحياء
لم يكن داروين أول من دعا إلى مذهب أو نظرية التطور؛ فقد سبقه إلى ذلك «لامارك» و«بوفون» وهما فرنسيان من رجال النهضة الثانية أو الاشتعال الذهني الثاني في أوروبا.
والاشتعال الذهني الأول هو ما يسمى النهضة الأوروبية فيما بين عامي 1450 و1550 ومعظم رجاله من الإيطاليين، وإليهم ينتمي من جاء في أعقابهم «بيكون» الإنكليزي، و«ديكارت» الفرنسي.
ولكن هناك اشتغالا ذهنيا ثانيا سطح نوره في جميع أرجاء أوروبا هو النهضة الفرنسية التي بدأت بفولتير وروسو وديدرو وانتهت بالثورة الكبرى.
وكان لامارك وبوفون من العلميين الذين حرروا أذهانهم ورفض هؤلاء العلميين قصة الخلق كما روتها التوراة وعمدوا إلى استقراء الكائنات، وكانت ثمرة تفكيرهم أن الأحياء تطورت من أصل أو أصول قليلة، وأن أعظم العوامل لهذا التطور - بل يكاد يكون العامل الوحيد - أن الحي الذي يعيش في بيئة تطالبه بعادات معينة تقتضيه جهدا، يورث هذه العادات أبناءه رويدا رويدا وجيلا بعد جيل إلى أن يظهر جيل ثبتت فيه العادة وصارت جزءا من كيانه الفسيولوجي - كالزرافة تعتاد مد العنق إلى الغصون العالية أو الأعشاب البعيدة على الأرض فتنشط العضلات ويطول العنق بالمجهود الفردي - ثم تتوالى هذه العادة جيلا بعد جيل فإذا بنا نصل بعد إلى جيل قد تطورت فيه الأعناق فطالت.
أو اعتبر الجمل، فقد اعتادت أسلافه أن تبرك ويتصادم جلدها بالحصى الجارحة، وكما يحدث لنا أن يؤدي ضيق الحذاء إلى تقسية الجلد كذلك أدت الحصى إلى تقسية الجلد في مواضع اللمس للحصى، ثم انتهت هذه العادة بأن صارت وراثية ينشأ بها صغار الجمال ولها ثفنات خشنة.
وكان هذا التعليل كافيا للتسليم بصحة التطور، ولكن أوروبا لم تكن قد وصلت إلى نقطة الإيمان بهذه النظرية، وقد كان جد داروين «أرازموس داروين» يعتمد على وراثة العادات، ولكن جاء حفيده تشارلز داروين فأخرج كتابه «أصل الأنواع» في عام 1859 واستعرض فيه شأن العادات أو كما كان يقال وقتئذ «الصفات المكتسبة»، وجعل جل اعتماده على تنازع البقاء والانتخاب الجنسي.
وكان منطق داروين واضحا يجذب بل يفتن العقل، فقد ضرب مثلا بالحيوانات المدجنة كالحمام والأرانب والكلاب، وقال: إننا ندجنها؛ أي: نجعلها دواجن ونختار تلك الصفات التي نريد استبقاءها ونشرها فنقصر التناسل على الأفراد التي امتازت بها، ونحن نرى مئات من السلالات التي أوجدناها في الدواجن نرى صفة ما فنستلقح أفرادها حتى تكثر هذه الصفة، وفي الوقت نفسه نستبعد غيرها مما لم تحز هذه الصفة فتنقرض.
Bog aan la aqoon