Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Noocyada
واتجه الناس إلى الفلاسفة؛ لأنهم رأوا طريقة تفكيرهم أقرب إلى هداهم في سبيل الحياة لتحقيق مآربهم منها. ومعنى هذا الاتجاه أنهم أسلموهم قياد الحكم. ورأى رجال الدين ذلك فعز عليهم أن يفلت الحكم من يدهم. لكن استبقاء الحكم لم يكن أمرا ميسورا لهم بعد الذي كان من جمودهم وعجزهم عن أن يقدموا للإنسانية غذاء جديدا. فقاموا بحركة دوران لا تخلو من مهارة. ذلك أنهم رأوا بين التجريديين مؤمنين بالدين حريصين على تأييده. ورأوا الملوك أكثر إلى هؤلاء الفلاسفة المؤمنين ميلا فانضموا إليهم وأيدوهم واثقين من أن اشتراكهم وإياهم في الإيمان يستبقي لهم شيئا من السلطة غير قليل، وما داموا لم يستطيعوا الاستئثار بها جميعا فبعض الشر أهون من بعض. وفي مقامهم هذا وجهوا كل قوتهم لمحاربة الفلاسفة الذين لا ينصرون الدين المسيحي. وكانت حربهم المؤمنين من هؤلاء الفلاسفة الذين يقفون عند تأييد الإيمان بالله والروح والبعث من غير أن يؤيدوا الدين أشد من حربهم الفلاسفة الملحدين. ذلك بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا يحاربون من القواعد التي وضعها رجال الدين وجعلوها من الدين ما لا يثبت أمام العقل، وكانوا في نفس الوقت يؤيدون الإيمان الذي لا غنى للمجموع عنه. وهذه الطريقة أشد خطرا على سلطة رجال الدين من طريقة الملحدين؛ لأن الملحدين يهدمون الإيمان الثابت ولا يقيمون بناء غيره يحل محله؛ فهم بذلك بعيدون عن أن ينالوا تأييد المجموع، بعيدون عن أن يصلوا لثقة المجموع بهم كي يحكموه، وطبيعي وهذه هي الحال أن يوجه رجال الدين قوتهم لمقاتلة أمثال ديكارت وروسو وغيرهم من المؤمنين الذين ينافسون المتدينين في الوصول إلى تأييد المجموع إياهم وحكمهم إياه. وكيف لا يجزع الدينيون من المؤمنين، وقد حاول غير واحد من هؤلاء المؤمنين أمثال روسو أن يقيم دينا جديدا يحله محل الأديان المقررة.
على أن وصول الفلاسفة المتدينين للحكم دفع طبقة الفلاسفة كلها للصف الأول من طوائف الجمعية. ولم يكن من تأييد رجال الدين الفلاسفة المتدينين إلا أن زادت المعركة بين الفلاسفة أوارا وشدة، وفي سبيل النصر فضح الفلاسفة المؤمنون والفلاسفة الملحدون جميعا مخازي الكثيرين من رجال الدين، وأظهروا المجموع على شره هؤلاء وشهواتهم وحبهم المال، وتهالكهم على الملاذ وحرمانهم المجموع من كثير من أسباب نعمته وسعادته. وفي هذه الأثناء كلها كان العلم يزداد انتشارا ورجاله قوة، ويفكرون في الوسيلة لإسعاد المجموع من طريقه. •••
لم تكن المباحث العلمية إلى ذلك الحين بعيدة عن المباحث التجريدية (الفلسفية)، ولم يكن العلم ورجاله طائفة محددة تأبى الخضوع لغيرها والفناء فيه. بل كانت العلوم الوضعية التي استقلت فيما بعد وأصبحت جزءا من مجموع الفلسفة الوضعية - ولا نقول: الديانة الوضعية أو ديانة الإنسانية كما قال أوجست كومت؛ لأن أحدا لم يؤمن بهذه الديانة - كانت العلوم الوضعية في خدمة التجريد بعد أن كانت قبل ذلك في خدمة اللاهوت (أو الكلام أو الثيولوجيا ). لكن هذه العلوم بدأت منذ القرن السادس عشر تستقل بنفسها استقلالا صحيحا. وقد عاونها على هذا الاستقلال أن غزرت مادتها، واتسع مدى بحثها فاستطاعت أن تتوقع إخضاع المعارف كلها لطريقتها: طريقة الملاحظة والمقارنة والاستنتاج لمعرفة سنن الكون الثابتة بالدليل المحسوس، والتي لا سبيل فيها إلى خلاف أو جدل. على أن فروعا من المعارف كانت إلى ذلك الحين - وما يزال بعضها إلى اليوم - أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم، وإن كانت كفنون أقرب إلى العلوم منها إلى التجريد (الميتافيزيقا)؛ لأن موضوعاتها مما يمكن تصور وقوعه تحت الملاحظة.
هذه الفروع من المعارف هي الخاصة بالإنسان وبالجماعة الإنسانية، كالمباحث النفسية وكالاقتصاد السياسي وكالاجتماعيات. (ولست بحاجة إلى أن أبين هنا الفرق بين الفنون في هذا السبيل من البحث والمعلومات الفنية والفنون الجميلة، فهو فرق يعرفه كل من درس المبادئ الأولية في البحث العلمي).
قضى حسن الطالع أن يقرر الاقتصاد السياسي نظرية تقسيم العمل والتخصص فيه. وإن كانت هذه النظرية مقصورة في أول أمرها على الأعمال المادية عموما وعلى العمل الصناعي خصوصا. فلما انفرج أمام العلم وأمام العقل أفق البحث والنظر تسربت النظرية الاقتصادية إلى ميادين العمل العلمي والعمل العقلي، وترتب عل ذلك أن تخصص كل عالم وكل مفكر لما يسر له. فترتبت على ذلك نتيجته الطبيعية وازداد إنتاج البحوث العلمية والعقلية ازديادا عظيما، وجاء الوقت الذي قضى بتقسيمها وتقديم الصالح للجماعة ونظامها وحكمها على ما هو أقل منه صلاحا، وعلى ما لا يحتاج إليه الإنسان إلا لرياضة عقله ورياضة نفسه.
وسنحت فرصة هذا التقسيم على أثر الثورة الفرنسية. فقد جاءت هذه الثورة في وقت بلغ فيه النضال بين التجريديين من متدينين ومؤمنين وملاحدة أشده، ووقف فيه رجال الدين وراء التجريديين المؤمنين ينصرونهم بالطعن على عقيدة خصومهم، ووقف هؤلاء الخصوم يظهرون الناس على ما خفي من فضائح رجال الدين ومخازيهم، ويدلونهم على أن أولئك الذين يتظاهرون بالورع والتقوى وبالزهد في الدنيا، وباطل زخرفها وغرور متاعها أكثر الناس رذائل وخطايا، وأحرصهم على اكتناز الأموال وإن أظهروا التعفف عنها، ويشيرون لهم باليد واللسان إلى انكداس الأموال المرصودة على الكنائس والتي يتخذها رجال الدين وسيلة إلى لذتهم وإلى إفساد الضمائر والذمم، ويطلعونهم من الأمور على ما يؤكدون معه أن القلنسوة والطيلسان لا يستران إلا نفاقا وكذبا وإلا ذمما خربة، ونفوسا خاوية من كل فضيلة وضمائر معروضة للبيع عرض السلع. وقضى الحظ أن يكون صاحب إنجيل الثورة الفرنسية السياسي جان جاك روسو ... وروسو كان مؤمنا أشد الإيمان، ولكنه كان مع احترامه التام لأصحاب الأديان، يعتبرهم عظماء هدوا العالم في عصورهم على النحو الذي كان يمكن هداية الناس من طريقه، كما كان خصما لرجال الدين في عصره لدودا. وكان له إلى جانب تعاليمه السياسية الحرة التي اهتدى الناس بها إبان الثورة نظرية في الدين جديدة هي نظرية الديانة الطبيعية التي تقف عند الإيمان بالله وبالروح وباليوم الآخر، وتذر لصاحب السيادة في الدولة تدبير طقوس هذه الديانة كما تذر له تدبير شئون الدولة السياسية، وفي طبائع المجاميع إذا وثقوا بزعيم أن يتبعوه في كل أفكاره؛ لذلك كانت سياسة روسو وديانته الطبيعية التي وضعها ونظرياته في التربية وآراؤه في الحرية تطبق إبان الثورة الفرنسية في أوسع دائرة ممكنة. على أن أمد ذلك لم يطل إلا ريثما استغل نابليون هذه الثورة لمجد نفسه، فوجه النفوس غير اتجاهها الأول، وإن جاهر بأنه إنما ينشر بحروبه مبادئ الثورة ويقضي على خصومها. فلما قضى نابليون وانقضى بانقضائه سحره الناس وبهرهم به، عادوا يفكرون في أمر الثورة ويريدون جني نتائجها. وفي سبيل هذه الغاية انصرف كثير من المفكرين يضعون من صور أنظمة الحكم ما يرونه كفيلا بحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى الثورة. على أن واحدا من هؤلاء المفكرين ذهب غير مذهبهم، ورأى أن تصور النظم لا يكفي ما دام طريق التفكير لا يتفق وهذه النظم. هذا المفكر العظيم هو أوجست كومت صاحب الفلسفة الوضعية أو الواقعية. وأول من نظم عقد العلوم الوضعية في النظام الذي ساد أوروبا من ذلك الحين، والذي ما يزال صاحب السيادة برغم الحملات العنيفة التي توجه إليه، والتي تكاد ترج أساسه من حين إلى حين.
ونظرية كومت الأساسية هي ما يسميها قانون الحالات الثلاث
2
ويفسرها بأن العقل الإنساني في تصويره الوجود مر بحالات ثلاث: الأولى: الحال الثيولوجية أو اللاهوتية والثانية: هي الحال التجريدية وهاتان هما ما مر بك بيانه. والحال الثالثة: هي الحال العلمية التي تبحث من طريق الملاحظة والمقارنة والاستقراء عن سنن الكون وقوانينه الثابتة. وهذه الحال لا تثبت ولا تنفي من قواعد الإيمان، ومقررات الأديان ما لا يخضع لطرائق البحث العلمي. بل للعالم أن يؤمن أشد الإيمان وأن يكون متدينا أشد التدين من غير أن يجني ذلك على علمه شيئا؛ لأن ميدان الإيمان والدين غير ميدان العلم ولا ينقض مقررات العلم الثابتة، فلا محل لأن يحارب العلم ما ليس من خصائصه وما لا تتناوله طرائق بحثه.
وقد نظم كومت العلوم الوضعية فجعل الرياضة مبدأها وعلم الاجتماع غايتها؛ فاشتملت بذلك كل ما يحتاج إليه الفرد وما تحتاج إليه الجماعة لنظامها المادي والعقلي في الحياة ولحسن صلاتها بالكون كله. ولم تدع جانبا إلا المضاربات النظرية فيما وراء المادة - أو ما وراء الطبيعة - مما لا يخضع للطرائق العلمية. وقد أراد أن يقيم على أساس هذه العلوم (الديانة الإنسانية) لهذه المجاميع؛ لكنه لم ينجح لأن طبيعة العلم دوام التطور، في حين أن طبيعة الدين تقتضي الثبات والاستقرار. ولذلك بقي اسم كومت مقرونا بالفلسفة الوضعية. ودخلت ديانة الإنسانية ودين الطبيعة الذي وضعه روسو في صف المضاربات النظرية.
Bog aan la aqoon