Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Noocyada
استقر هذا النظام الفكري الذي وضعه كومت، وانتشر في العالم المتحضر كله وأخصب في نتائجه وانضوت تحت كنفه كل البحوث الاجتماعية والنفسانية، بل انضوت البحوث الروحية هي الأخرى تحت كنفه، وعلى مقتضاه تكيفت نظم الحكم في العالم، وأصبح رجال السياسة وأرباب الدولة من أنصاره وأعوانه، وتضاءل التجريديون، واكتفى رجال الدين بميدانهم يقومون فيه بالإشراف على حياة الإيمان في النفوس وقوة العقائد في القلوب، وقيام الناس بالفروض والسنن إشراف إرشاد وهداية لا إشراف حكم وسلطان.
أترى رجال الدين راضين بهذا الحظ من الحياة العامة؟ ليس الجواب سهلا. ولكنهم قانعون به راضون بقناعتهم أو كارهون لها قائمون اليوم في خدمة السلطان وذوي السلطان، قيام رجال العلم يوم كان السلطان لرجال الدين. وستظل الحال كذلك ما دام العلم قادرا على إرضاء عقول الجماعة، قديرا في نفس الوقت على سداد حاجاتها المادية. فمن الحق علينا أن نقول: إنه منذ فتحت العلوم للصناعات المختلفة الأبواب واسعة، وأتاحت للإنسان العادي من أسباب النعيم والترف ما لم يكن يطمع فيه رئيس قبيلة أو ملك من ملوك العصور الأولى، آمن الناس بأن العلم هو وحده الذي يقوم بسداد حاجات الفكر وأغراض الحياة المادية معا، وأن نظام الحكم وتصوير غايات الحياة يجب لذلك أن تتفق معه، وأن رجاله يجب أن يمسكوا بيدهم تصريف مقاليد الدولة وأن يلوا أمورها. وإلى أن يقفل في العلم باب الاجتهاد ويجمد، ويبقى رجاله حفاظا لتراث الماضي، فستبقى الحال كما هي اليوم.
على أن الحظ الذي قسم لرجال الدين ليس من شأنه أن يجعلهم أبدا راضين. وهم إذا وجدوا يوما من الأيام للسلطة منفذا نفذوا منه. وإذا كانت الحرب بينهم وبين رجال العلم اليوم هادئة، فذلك لما قدمنا في مقالنا السابق من أن الغلب غير مأمول اليوم فيه. •••
هل الإسلام في هذا الموضوع على خلاف سائر الأديان لتناوله أمور الدين وأمور الدنيا، فرجال الدين فيه هم كذلك العلماء؟ وهل يسد العلم أبدا حاجات البشر؛ لأن أساس العلم التطور والتجديد فلا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد، ولا يمكن أن يجمد رجاله؛ هاتان المسألتان نتناولهما بالبحث فيما تبقى من هذا الفصل.
3
قبل الحديث عن الإسلام وهل هو على خلاف سائر الأديان إذ يشمل أمور الدين والدنيا، فرجال الدين هم فيه العلماء كذلك. وعن العلم الوضعي، وهل يسد أبدا حاجات البشر - أريد أن أوضح فكرتي الأساسية من أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، ولكنه بين رجال الدين ورجال العلم بعدما رأيت من بعض الكاتبين ما شعرت معه بأن أساء تقدير حدود الفكرة، فظن أنها تعني أن كل رجل من رجال الدين إنما ينصر الدين ويعززه ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم، وأن كل عالم من العلماء إنما يعمل لزيادة العلم بسطة وقوة؛ ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم. فتوجيه الفكرة هذه الوجهة والاعتراض عليها بأن الغزالي أو ابن رشد أو «كانت» أو «أوجست كومت» لم يكن ينصر الدين أو العلم ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم بعيد كل البعد عن حسن تفهمها وإدراك حدودها. فخصومة رجال الدين ورجال العلم خصومة طائفة لطائفة، أو عقلية لعقلية - على حد تعبير بعضهم. وابن حنبل وروسو وكومت إنما كان ينصر كل منهم فكرة معينة تلتف حولها طائفة الدينيين أو طائفة التجريديين أو طائفة العلماء. وتغلب طائفة من هذه الطوائف معناه خضوع الجمهرة الكبرى من الناس لتيار تفكيرها. وإذا تغلب تيار فكري وضع أصحابه نظام الحكم وأقاموه وتولى أنصاره تنفيذه.
فسواء أكان هؤلاء الأفراد في نضالهم لسؤدد فكرتهم مدركين أم غير مدركين في سبيل تنظيم الحكم وولايته، فتلك نتيجة محتومة لنضالهم. وما أكثر ما يعمل الناس لتحقيق غايات محتومة بالطبيعة ثم هم لا يدركون - أو بالأحرى لا يكادون يدركون - أنهم يعملون في سبيل هذه الغاية. أوليس الحب في أدنى درجاته مثله في أسمى درجاته، إنما يرمي لغاية طبيعية محتومة هي تخليد النوع وتحسينه؟ •••
والآن نعود إلى موضوعنا. فهل الإسلام دين كسائر الأديان في أسسه وغاياته، أو هو يختلف عن سائر الأديان أن كان يشمل أمور الدين والدنيا، والعلم بعض أمور الدنيا؛ فرجال الدين الإسلامي هم لذلك العلماء؟
يقص القرآن الكريم نبأ من سبق محمدا
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon