Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Noocyada
والدين قديم أيضا. فمذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها وسبح النجوم في أفلاكها
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ، ومنذ رأى نظام هذا الكون العظيم نظاما عجيبا يعجز عقله الضعيف، وعلمه المحدود عن إدراك كنهه أو تفسيره، من ذلك اليوم آمن بأن هذا الكون المملوء بالمخاوف والآمال، والذي ينتهي هو فيه إلى الموت قبل أن يحيط بكثير من أمره خبرا؛ لا بد لوجوده ولتدبيره من قوة أعظم من الكون ومن كل ما فيه أضعافا مضاعفة، وبأن هذه القوة الخالقة المدبرة لا تحيط بها الأفهام ولا تدرك كنهها العقول.
العلم والدين - الوقائع التي تقع تحت الحس وتحيط بها الملاحظة، والإيمان الذي ينبعث إلى النفس حين مشاهدتها عظمة الكون ونظامه بأن لا بد لوجود الكون وتدبيره من قوة لا حدود لقوتها - العلم والدين قديمان، إذن متجاوران في النفس الإنسانية منذ الأزل الإنساني. وسيظلان متجاورين فيها ما بقي في الكون غيب لا بد للإنسان معه الالتجاء إلى الإلهام حين تفسير الوجود. والإنسانية حريصة على تفسير الوجود؛ لأنها حريصة على أن تطمئن لمكانها منه ومستقبلها فيه.
ولما كانت المشاهدات الإنسانية، سواء منها ما أحاط به الحس وحدده وما أحاط به وعجز عن تحديده؛ هي مصدر العلم ومبعث الإيمان. ولما كانت هذه المشاهدات في بداية أمرها قليلة محدودة يسهل على عقل الرجل أن يدركها جميعا - فقد نشأ من تجاور العلم والدين في النفس الإنسانية ما يكاد يكون تضامنا بل تمازجا؛ فالمعلومات التي تقع تحت الحس تقاس إليها المعلومات التي لا يحيط بها الحس إحاطة كافية، وينهض الكل دليلا ملموسا على ما هدى إليه الإلهام، والإلهام يفسر ما تعجز الحواس عن تحديده تفسيرا يكفل للإنسان الهوى في حياته. وكذلك تضامن الشعور والإدراك، القلب والعقل، والإيمان والعلم، في وضع سنن الحياة الإنسانية التي تكفل سعادة الإنسان في الحياة وبعد الموت.
وكان هذا التعاون والتضامن في أول الأمر تعاونا وتضامنا بين قوتين غير متكافئتين. فإن علم الإنسان المحدود ومعارفه القليلة كانا ضئيلي الفائدة جدا إلى جانب ما يفيده إيمانه في الحياة من قوة على الحياة، فلم يكونا ليدفعا عنه غائلة المعتدي ولا ثوران الطبيعة، ولا كانا يؤديان إليه من نعمة الحياة المادية أكثر مما تهديه إليه سجيته الفطرية. أما الإيمان فكان يحل له - فيما يظن - كل العقد ويبلغه كل الغايات ويرشده إلى الوسيلة إليها. والجماعات تخضع في نظام حكمها لطريقة التفكير التي تهديها السبيل لتحقيق غاياتها ومآربها؛ لذلك خضعت للإيمان الصادر عن الإلهام وأسلمت رجال الدين ولاية الأمر.
ولما كانت الإنسانية بحاجة مع ذلك إلى الاستفادة من علمها المحدود ومعارفها القليلة، فقد كانت معارف الحس بعض ما انصب عليه الإيمان الملهم وسلكه في نظامه. وبهذا التطابق سارت الإنسانية قرونا طويلة يحس المجموع فيها السكينة إلى العيش والطمأنينة إلى الحياة وإلى الموت وإلى ما بعدهما.
في هذه القرون الطويلة أسلمت الإنسانية قيادها إلى أولئك الدعاة الصالحين الذين هدوها سبل الخير، وكان العلماء بعض طوائف هذه الإنسانية السعيدة. وقد أسلموا هم الآخرين القياد إلى الهداة؛ لأن علمهم كان أقصر من أن يقدم للإنسانية غذاء ماديا كافيا أو غذاء قلبيا كافيا أو غذاء روحيا كافيا، لكنه كان مع ذلك نواة العلم الوضعي أو العلم الواقعي الذي أنتج اليوم من الثمرات أغزرها مادة وأقواها سلطانا. •••
وفيما كان رجال العلم - وأقصد العلم الواقعي - قانعين دائما بحظهم هذا، راضين بقناعتهم أو كارهين لها، قائمين في خدمة السلطان، دائبين على طرائقهم في البحث في هذا الكون وأسراره وسننه، يؤمن منهم من يهدي الله قلبه إلى الإيمان، ويداخل منهم من يداخله الشك في هذا الهدى إن وجد فيه ما لا يقبله عقله ولا يطمئن إليه تفكيره، ثم يعلن شكه وإن تعرض من أجل ذلك إلى ضروب القسوة وألوان العذاب - في هذه الأثناء، وكانت هذه الأثناء أجيالا وعصورا وقرونا ترجع إلى القدم هي الأخرى ، قام جماعة التجريديين (الميتافيزيقيين) وسطا، أو بالأخرى صلة، بين الطرفين. والذي يستطيع أن يتوسط أو أن يصل بين الإيمان بالوحي وتقرير الواقع هو العقل؛ لذلك كان العقل المحض هو أداة التجريديين للوصول إلى ما سموه الحقيقة المطلقة. فما أقره العقل ولو أعوزه الدليل المحسوس كان حقا، وما نفاه العقل ولو أيده الوحي كان مفتقرا للدليل كي يثبت. وواسطة العقل في التدليل المنطق؛ ولذا كان المنطق من أقدم العلوم الإنسانية، أو الفنون الإنسانية إن شاء العلماء الواقعيون.
وكثيرون من التجريديين كانوا مؤمنين إيمانا صادقا، وعليهم وعلى أدواتهم في البحث والتدليل اعتمد رجال الدين أزمانا طويلة. على أن من هؤلاء التجريديين من كانوا كذلك ملحدين إلحادا صريحا، ومنهم من كانوا يؤمنون بأن في العلم مادة حياته ووجوده، كما يؤمن المؤمنون بأن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش. وقد قوي سلطان التجريديين بعد أن تعددت الأديان واتخذ بعضهم من تعددها وسيلة للمقارنة بينها والتشكيك فيها. ومن هؤلاء التجريديين (الميتافيزيقيين) من كان يؤيد دينا بعينه، ومنهم من كان يؤيد الإيمان بالله وبالروح وخلودها وبالبعث والحساب. وأنت واجد من هؤلاء التجريديين - أو الفلاسفة كما كانوا يدعون - عددا غير قليل إلى جانب كل دين يؤيده ويعززه. فثم فلاسفة إسلاميون وفلاسفة مسيحيون وفلاسفة إسرائيليون وفلاسفة غير هؤلاء يؤيد كل منهم الدين بحجة العقل المحض. وأنت واجد كذلك من الفلاسفة عددا غير قليل يؤيد الإيمان لذاته، يثبت الله والروح والبعث، ثم يداخله الشك في الأديان على أنها منزلة من عند الله، وإن كان يعترف لأصحابها بكل عظمة وسمو وتفوق، ويراها ظاهرات اجتماعية آمن الناس بها؛ لأن قلوبهم في حاجة إلى الإيمان؛ ولأن موضع الإيمان من نفوسهم لا يمكن أن يبقى خلاء لا يملؤه شيء.
وقد ازداد التجريديون - أو الفلاسفة إن شئت - شوكة في أوروبا بعد عهد الإصلاح وتضاعفت قوتهم، وقويت شوكتهم بعد انقسام المسيحيين إلى كثالكة وبروتستانت وأرثوذكس وما جاور هذه من المذاهب الأخرى. ذلك بأن أهل هذه المذاهب بدءوا يتناحرون ويهدم بعضهم بعضا . وكان مما يطعن به بعضهم على بعض أن مذهبا من المذاهب لا يسلم به العقل. خذ مثلا المسألة الجوهرية التي قام عليها النزاع بين لوثر وخصومه والتي أدت إلى الانقسام: مسألة حق الغفران وبيع براءاته. فهل يسلم العقل أو لا يسلم بأن لرجال الدين أن يغفروا ذنوب غيرهم؟ وامتد النزاع إلى غير هذه من المسائل فتقدم التجريديون كل ينصر جانبا بحجة العقل المحض ومنطقه. وأدت هذه النهضة في الفلسفة إلى تقدم في التفكير وإلى سعي في استنباط الأدلة من الواقع المحسوس، فإلى تقدم في العلم الوضعي الذي كان إلى ذلك الحين ما يزال في خدمة الدين والفلسفة، وكان أصحابه ما يزالون طائفة ضعيفة الحول والسلطان. وشجعت هذه النهضة قوما على الإنكار والإلحاد وعلى التبرم بكل هذه المضاربات النظرية التي يصوغها منطق العقل حججا وبراهين، بل قواعد ومذاهب، والتي لا تستقيم ولا تقوى على الوقوف إلا ريثما يهدمها منطق العقل بحجج وبراهين مثلها. وقام النزاع بين التجريديين (الفلاسفة) حادا قويا. هذا يثبت وذاك ينفي، هذا يقيم مذهبا وذاك ينقضه. وبقي رجال الدين بعيدين عن المعركة لا يشتركون فيها اشتراكا يلفت إليهم النظر أو يستهوي إليهم الأفئدة، ولا يقومون فيها بعمل أكثر من إصدار القرارات والأحكام ضد الفلاسفة الذين يعتقدونهم لهم خصوما.
Bog aan la aqoon