صائد لا يخطئ سهمه، وإنه ليصيب أرفع المعاني من أول رمية، وإنه ليترفع بك إليها أو ينزل بها إليك فتسيغها في غير عسر ولا عناء ، وإن كنت حق شاعر بأنه إنما جاءك بما يجاوز تفكيرك ويعلو على مدى تخييلك.
ولقد ضرب في كل قصد، وجال في كل غرض، فبرع وبذ وأتى بالطريف لا تدرك آثاره، ولا يلحق غباره. ومن عجب الزمان أن يخرج شوقي في هذا الزمان! ولا أدري كيف فر هذا الشاعر من شاطئ دجلة إلى شاطئ النيل، ولا كيف تسلل من جيل أبي نواس إلى هذا الجيل؟!
ولقد عارض الفحول من متقدمي الشعراء في أجل قصيدهم، فما قصر عن مداهم، ولا انخذل عن اللحاق بهم، بل لقد زاد عليهم من كل ما فتق العصر في فنون المعاني يرسلها في الكلام الناصح، فلا ينبو عنها الطبع العربي ولا يجد لها عليه نشوزا.
وشوقي هو شوقي من يوم شدن، ومن يوم تحرك بالشعر لسانه، آية من آيات البيان يدوي بها السهل والجبل. ولقد يكون التقدم في السن، والتبسط في العلم، وتجارب الأيام، وطول التمرين على نظم الكلام، قد بسطت في أغراضه وبصرته بكثير من مضارب القلم، إلا أنها لم تزد، وهيهات لها أن تزيد في «شاعريته» كثيرا ولا قليلا، ذلك أن هذه العبقريات إنما تخلق مع المرء خلقا، فلا تنال بكسب ولا تعليم، فإذا كان لشيء من ذلك فضل، ففي مجرد الصقل والتهذيب.
وليس بدعا في سنة الله أن ينتضح طبع شوقي بكل هذا البيان العربي، وهو فتى لا يتصل من أبناء العرب، من أمه وأبيه بسبب، ولا كان محصوله من لغتهم وأشعارهم ومحاضراتهم ومظاهر بلاغاتهم بأوفر من محصول من نشأ فيهم من أهل البيان، فوثب دونهم ورد بيان بني العباس عليهم، وإلا فمن علم البدر كيف يتألق، ومن علم الغدير كيف يترقرق، ومن علم السحر الجفون، ومن علم الغمامة كيف تسح بالعارض الهتون، ومن علم الوردة كيف تتنفس بالأرج، ومن علم البلبل كيف يتغنى بالرمل والهزج؟ ألا ذلك تقدير العزيز العليم!
وإن طبع شوقي ليجود بالشعر يصيب به أعلى المعاني ما أحسبه يرتصد لها أو يعالجها بالمطاولة والتفكير. ولقد تراجعه في بعض شعره وما يطلب به فيروح يتفهمه معك بمجاهدة الفكر، وطول الشد على العصب، حتى إذا فر هذا الشعر واحتدت فيه الأذهان خرج للناس فيه من وجوه المعاني ما يحير العقول ويذهب بالألباب. فإذا رأيت بعد هذا شوقي ولم تستطع التوفيق بين مجلسه وحديثه في الأسباب الدائرة بين الناس، وبين شعره الذي ينيف بك كلما قرأته، على السماك، فاعلم أن هناك موهبة أو ما يدعونه «عبقرية» ليس من الحتم أن تتسق دائما لسائر غرائز الإنسان!
وإذا رأيت أثر النعمة باديا على شعر شوقي، فلا يتعاظمنك هذا ممن لاغاه إسماعيل طفلا، ورباه توفيق يافعا، وخرجه عباس رجلا، وعاش عمره متقلب الأعطاف في الترف والنعيم.
وقيل يوما لابن الرومي: كيف يسبقك هذا الغلام «عبد الله بن المعتز» إذا وصف، فلا تلحقه أنت ولا أضرابك من مشيخة الشعراء؟ فقال: لأنه إذا تكلم فإنما يصف آنية بيته!
وشوقي لا يحفل كثيرا بنسج الكلام، وتزوير اللفظ، وتزويق الديباجة، فإن طبعه قد انصرف أكثره إلى المعاني، حتى إنه ليحمل اللفظ أحيانا ما يثقله ويبهظه ويكد ذهن القارئ في التماسه وتبيينه، بل إنه في سبيل الوفاء بما قصد له من المعنى ليأتي أحيانا بالغريب الشامس من اللفظ، لا تدرك معناه إلا بعد مراجعة وطول استخبار!
على أنني في هذه المرآة بسبيل تحليل نفس شوقي لا تحليل شعره، فمن كان لم يزل في حاجة إلى التهدي لفاخر شعره، وعيون قصائده، وهي فوق أن يتناولها العدد، فليطلب بعضها في قصيدة صديقه شاعر النيل التي أعدها للحفل الكبير، فليس أقدر على الدلالة على فاخر شعر شوقي من حافظ إبراهيم.
Bog aan la aqoon