69

وقد يسف شوقي كما كان يسف بشار وأبو نواس وأبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري، ومن دخل في خللهم من جلة الشعراء، ولا بد للطائر المحلق أن يستريح هنيهة بالإسفاف، وإنك لو وازنت بينهم في نصاحة شعرهم وحبك قريضهم وارتفاع معانيهم، وفي إسفافهم ذاك وتزايل ألفاظهم وفسولة معانيهم؛ لخلتهم إنما يعتمدون هذا اعتمادا استجماما بالعبث أو تجنيا على ما أمكنهم الله من نواصي البيان!

وقلت لك إنني لست بسبيل تحليل شعر شوقي حتى أضرب على ما تقدم به القول مختلف الأمثال.

وشوقي فنان كل الفنان، يكلف بفنه ويغرم بآثاره غراما شديدا، وليس يؤذيه شيء كما يؤذيه أن تتره حقه وتتحيف من قدر صنعته.

ولقد قلت لك إنه ضرب بالشعر في كل قصد، وجال به في كل غرض، فبذ وبرع - أستغفر الله إلا الهجاء فما أحصي عليه فيه بيت واحد، اللهم إلا أن يتندر ويلاعب بالشعر لا يبلغ به الإقذاع ولا يتردى به إلى داعر الكلام، ولا أدري أكان ذلك ترفعا من نبل النفس وكرم النشأة. والنزاهة عن التدسس إلى مكاره الناس؟ أم أنه يرجع أيضا إلى تلك الطبيعة الغريرة والنفس الحلوة. فهيهات للعصفور أن يكون بازيا، وللحمل الوادع أن يستحيل ذئبا عاديا!

وللكتاب شعر تعرفه بجفافه وجريانه في مثل أقيسة المنطق، وللشعراء نثر تعرفه بتزابل لفظه، وانقطاع جمله، وعدم استرسال معانيه. إذا عرفت هذه القاعدة تهيأ لك أن تعرف كيف يكون نثر أمير الشعراء! على أنك واجد لنثر شوقي حلاوة، برغم ما يقيده من أسجاع الكهان، ولكنها حلاوة شعر لا حلاوة كلام مرسل، وكأني به إذا اعتزم الكتابة في بعض الأغراض نظمها أولا في شعر مقفى موزون، ثم كسره تكسيرا وبذره على القرطاس بذرا.

ولسان شوقي لا يفي بمطالب أدبه ولا خياله، وإن فيه فوق هذا لخجلا يمسكه عن الكلام أحيانا في مواطن الكلام، وقل أن تراه يتبسط في حديث إلا إذا خلا إلى نفر من صفوة خلانه، على أنك إذا شهدت مجلسه، ولم يسر إليك أحد بأنه شوقي، لما سهل عليك أن تدرك أن هذا شوقي الذي ملأ طباق الأرض بيانا! •••

وليس جديدا أن أنبئك بأن العبقرية كثيرا ما تضخم في المرء على حساب ما فيه من الغرائز، وكأني بها تملك عنها قدرا من غذائها حتى ما تدع لبعضها قواما. وتلك العلة، لا شك، فيما تراه وتسمعه من شذوذ جميع العبقريين في العالم، فإذا كنت منكرا على شوقي شيئا من الشذوذ فإنك منكر، من حيث لا تريد ولا تجرؤ، تلك العبقرية الفحلة. وحسبه أن أصبح بها ملء الأرض، وحسبه أن أضحى بها حديثا للتاريخ طويلا.

محمد محمود باشا

تاريخ كبير في سن صغيرة، وشأن جليل في جسم ضئيل. ولعل محمد باشا محمود لم يذرف

1

Bog aan la aqoon