ولعل كل عزاء الرجل عن هذا البلاء جميعه أن الله قيض لدكانه حراسا أربعة فلا يستطيع اقتحامها أشد سراق الليل ولا أبرع لصوص النهار؛ على أنه حين اقتحم دكانه إحدى الليالي وسرق من خزانته أربعة جنيهات، قرر أن «يخصم» من مرتب الفرسان الأربعة جلوس ثلاثة أيام لبثوها في «ضرب بلطة» على الرصيف حتى أذن الله وانقضى الأجل المحدود. •••
والواقع أن أبا نافع باشا أخذ نفسه بألا يطلع من صور الحياة إلا على نواحيها المفرحة، وإنك لا تراه، مهما جد الجد وأزم الخطب، إلا مرحا طروبا، ولا تراه يعرض للأحداث العامة وغير العامة، مهما جل شأنها، إلا من ناحية ما يستشف فيها من نكتة بارعة ورأي طريف. ولو كان يغامر كما يغامر سائر الناس لامتحن في الحياة محنتهم ولأصاب من مرها ما يصيبون، ولكنه رجل فيلسوف، وإن فلسفته - على أي حال وجهتها - لفلسفة سعيدة.
شوقي
لو بعث الله الناس كلاما ما عدا أن يكون شوقي نفسه قطعة شعرية جميلة نظمت في الحب والرحمة. دقيق الجرم، لطيف الحجم، متناسق الأعضاء، مستدير الوجه، لا تزال عليه أثارة من ملاحة الصبا وإن تكرشت بعض معارفه بقضاء ما فوق الخمسين. إذا أقبل عليك يحدثك مالت حدقتاه عنك إلى ما على يمينك أو شمالك أو ظلتا تضطربان بينهما، حتى لتحس أنه يوجه على غيرك الحديث. ولقد ينقطع عن المجلس، وهو فيه، المرتين والثلاث، فلا يسمع ولا يرى ما يدور بين يديه، فإذا كان على هذه الحال ورأيت رأسه يختلج، وقد رشق ظفر إبهامه بين ثنيتيه وراح يهمس بالتناغيم يسلخها سلخا، فإياك أن تقتحم عليه شأنه؛ فإنه إنما يتلقى وحي القريض.
وهو خفيف الروح، رفيق النفس، نبيل الخلق واللسان، ترى فيه غبطة العصفور، وترى فيه وداعة الحمام. وهو، كما قلت لك، قطعة من الحب والرحمة، وإذا كان الحب ضعفا، وإذا كانت الرحمة ضعفا، فلا شك في أن شوقي أضعف الخلق أجمعين. ولم أره يوما غاضبا ولا ممهدا سبيلا للقسوة إلى قلبه أو يده أو لسانه، ذلك أن الله طبعه على أن يتناول بما فيه من الحب كل ما يجري في هذا العالم من الخير، وأن يتناول بما فيه من الرحمة كل ما يجري في هذه الدنيا من أذى وشر . ومن هنا تدرك كيف يشيع ذكر السيد المسيح في شعر شوقي، وكيف يتغزل بأفتن الغزل في سجاياه العذاب!
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
مفرط في حب نفسه، شديد الولع بها، مفرط في حب بنيه، شديد الولع بهم، وإنه بعد ذلك لشديد الرقة للناس جميعا، أضعفه الحب وفل من عزمه، فلا يستطيع أن يشهد مشهدا مؤلما، ولا يستطيع أن يسمع قصة حزينة. ولو قد عرض لسمعه أو لبصره شيء من هذا لولى منه فرارا ولملئ منه رعبا. ولوع بنفسه هيوب من أن تعتريها الأيام بمكروه، وذلك الوجه فيما ترى من دوام رضاه وارتياحه، فلا تلقاه يوما شاكيا ولا برما بالحياة مهما تكدر العيش وتنكر وجه الزمان، فإنه إذا أصابه الخير هش له وفرح به، وإن أصاب المكروه سببا من أسبابه أطار خياله كل مطير، فراح يلتمس له في الضير خيرا وفي المكروه نعمة، ثم جاءك يحدثك بمنة الله عليه وعنايته به، فهو رجل يستخرج الرضا، ويستكره سبب الغبطة على كل حال! وإنه ليسرف في هذا إسرافا شديدا لقد يصل بك أحيانا إلى العجب من أمير الشعراء! •••
وبعد، فلكم عالجت القلم على أن يقول في «شاعرية» شوقي فعصى، ولكم بعثته بالبيان عنها فتعذر وأبى، وإن ظلما أن تريدني «السياسة الأسبوعية» على هذا وأن تقضي به علي اليوم قضاء لزاما!
وليت البيان يعار فأستعير بيان شوقي ليصف شعر شوقي، فليس يتعلق بهذا إلا ذاك. وإني لآخذ في شعر هذا الرجل فما يزال يشفني ويرفعني، حتى أراني استحلت روحا محضا يطير بي عند السماك، ويحلق محلق الأملاك، فإذا أتيت عليه وعدت إلى نفسي، فإذا أنا ما زلت جسدا رابضا على هذه الأرض. وإذا شعر شوقي ما يزال نورا يترقرق في تلك السماء!
Bog aan la aqoon