ثم عاد إلى الإسكندرية في سنة 1879، بعد أن غاب عنها طويلا, ووجد الأمور والأحداث قد بدلت حديث الناس وسمرهم, ولم يعد الشعر وروايته والأدب ودرايته هي ما يشغل المستنيرين بمصر عامة، والإسكندرية بخاصة، وإنما كان يشغل الناس حينذاك إسراف إسماعيل وتهوره، وتدخل الأجنبي في شئون البلاد وتجبره, ووجد بالإسكندرية جمعية سرية تسمى: "مصر الفتاة" تنقد إسماعيل وأعماله صراحة، وتعبر عن آلام الأمة وآمالها، ووجد الصحف قد تغيرت لهجتها، وصارت بفضل تعاليم جمال الدين ميدانا، فيه الأقلام المرهفة الحادة على الظلم والعنفوان والاستبداد والقسوة, وتطلب الشورى وإنصاف الشعب، ورأى عبد الله نديم أن هذا الأدب الجديد ينسجم مع نفسه, فألقى بها في هذا التيار، تيار السياسة القوي, حتى صار من قواد الأمة السياسيين، ورائدا من رواد الوطنية الأوائل، فأخذ يغذي الصحف بمقالاته السياسية، وحول هذه الجمعية السرية إلى جمعية علنية تعمل في ضوء النهار، وسماها الجمعية # الخيرية الإسلامية، وقد مر بك شيء عنها, وكان من أغراضها تأسيس معاهد العلم يربى فيها النشء تربية وطنية، ويلقنون العلم بطرق حديثة تحببه إليهم، وتغرس في نفوسهم المثل العليا، وتعودهم قيادة الأمة وإرشادها, ولذلك عمد إلى تشيجع تلاميذ المدرسة على الخطابة، ولم يكتف بهذا, بل كان يؤلف روايات تمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه أمام جمهور المتعلمين بالمدينة؛ كرواية "الوطن وطالع التوفيق" و"العرب", وقد حضرها الخديو توفيق تشجيعا، ولقي نجاحا ملحوظا أثار عليه حسد بعض الناس.
ولم يلبث أن ترك الجمعية الخيرية ومدرستها حين ظهر بها خلل نسب إليه، فتفرغ للصحافة وأنشأ جريدة "التبكيت والتنكيت"1، يدبج فيها مقالات ظاهرها هزل, وباطنها جد, يصور فيها عيوب المجتمع المصري تصويرا شائقا بأسلوب تهكمي لاذع، ويطلب من القراء أن يعاونوا في تحريرها بقوله: "كونوا معي في المشرب الذي التزمته, والمذهب الذي انتحلته، أفكار تخيلية، وفوائد تاريخية, وأمثال أدبية, وتبكيت ينادي بقبح الجهالة وذم الخرافات؛ لنتعاون بهذه الخدمة على نحو ما صرنا به مثلة في الوجود من ركوب متن الغواية, واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل". وسنتعرض لنهجه أو طريقة كتابته بها فيما بعد، وحسبنا أن نقول الآن: إن أسلوب هذه الجريدة والموضوعات التي عالجتها، والحرارة التي كتبت بها هذه الموضوعات، والجرأة الأدبية التي تمثلت في صراحتها, وهجماتها على كثير من قلاع الفساد بمصر, حببها إلى جمهرة القراء، وبغضها إلى المنافقين وأدعياء الوطنية.
Bogga 312