96

في كتابه «فن الحرب» معقبا على حرب الفرس واليونان: «كانت قوة الفرس، جنودا، قائمة على الخيالة والرماة، وكانت طريقتهم في القتال أن يمطروا العدو سهاما، ثم يجترفوه بجملة من الفرسان في الوقت اللازم، وأفلحت هذه الطريقة مع أصحاب الأقواس من الميديين ، وأصحاب الرماح الراكبة من الليديين، وأصحاب المشاة الثقيلة من البابليين والمصريين، لكنها خابت مع اليونان، وكانت التبعة في خيبتها على ضعف فرق المشاة الفارسية، فإذا ما استطاع الجند الإغريق أن يقتربوا - وكل شيء يتوقف على هذا - تناولوا المشاة الفرس على عجل بسيوفهم القصيرة ودروعهم الصغيرة ...»

ولو عمم هذا الخبير القول لوجب أن يقول: إن الذي خيب طريقة الفرس مع اليونان هو الذي خيبها مع العرب من أيام ذي قار إلى أيام خالد بن الوليد، فالهجوم من قريب بالسيوف القصيرة والدروع الصغيرة هو الجنة

5

التي احتمى بها العرب من الرماة ومن الفرسان، بل ومن الفيلة في بعض الأحيان، وقد قيل في الأمثال الشعبية التي هي أصدق من قواعد الخبراء «الذي تغلب به العب به» وقد كان خالد يعلم أن الالتحام هو أنفع ضروب القتال للجندي الذي ينافح عن عقيدة ويضرب بالسلاح الخفيف، فلم يلق الفرس ولا الروم إلا في التحام.

وقد صح هنا رأي ونترنجهام مؤلف كتاب «الأسلحة وفنون التعبئة» الذي سبقت الإشارة إليه حين قال: «إن بعض الجماعات الإنسانية بطيئة التغير، ومن هذه الجماعات الممالك الآسيوية التي يحكمها ملك أو عاهل مرفوع النسب إلى السماء، فإنها تنتظم على سنن فحواها أن التغيير لا ينبغي وأن العادات المأثورة كلها حسنة قويمة، إن كل ما يعمل الآن خليق أن يعمل كما قد عمل منذ أزمان، وربما لاذت بعض الأمم التي هي أقرب إلى التقدم بفترة من فترات الراحة تستبقي فيها التقاليد والمأثورات على سنة المحافظة على القديم، فإذا برزت جماعات من هذا القبيل للقتال برزت وفي رءوس قوادها وجنودها فكرة عتيقة عن الحرب وحقيقتها، ولم يغيروا خططهم وآراءهم للانتفاع بسلاح جديد أو معرفة جديدة، ورسخت عندهم أصول رجعية للحرب أو لم تكن لهم فيها أصول على الإطلاق، ولكنهم يمضون بحكم العادة وفاقا للترتيب الذي وضع منذ عهد بعيد وإن هذه الجماعات لتخرج جيوشا ليس أسهل من تحطيمها بجيوش الأمم التي يسهل عليها اتخاذ الأساليب الجديدة ومواجهة الغير والطوارئ ...»

ولو شاء صاحب هذا الرأي لشمل الدولة الرومانية فيما حكم به على الدول الآسيوية؛ لأنها كانت تقاتل بخطط وضعها الأقدمون لها منذ قرون، وهي على هذا عاجزة عن تنفيذ القديم عجزها عن ابتكار الجديد.

وجملة القول أن خالدا كان يحارب بالقريحة الملهمة أناسا رثت عقائدهم كما رثت ملكاتهم العسكرية، فكانوا يرتبون كتائبهم وأسلحتهم في الميدان على نحو مرسوم كأنهم قائمون في مراتبهم بديوان التشريفات، وكان خالد يلبي الضرورة عفو الساعة في ترتيب كل كتيبة وكل سلاح، فإذا بدا له أن الخيالة لا تجدي في الحركة جدوى المشاة ترتبت حركات الجيش معه كما تترتب الحركات في أعضاء الجسم الشاعر بتلبية الأعصاب والجوارح لمراكز التنبيه في الدماغ، فيترجل وقد ترجل معه كل من تنفعه الحركة على قدميه في كره وفره وهجومه ودفاعه.

وإذا بدا له أن الحرب بالجماعات أنفع من الحرب بالصفوف المختلطة، فما هي إلا كلمة قالها حتى تتلاقى تلك الجماعات كل منها إلى قائدها المختار: «تمايزوا أيها الناس» فإذا هم بعد لحظات متمايزون ...

وكانت مادة القتال التي يعمل بها من جند أو سلاح تغنيه وتلبيه، فكان جنده يصبرون على الشدة ولا يروعهم فقد مفقود؛ لأنهم مؤمنون عالمون أن الموجود هو رب القائد والمقود، وكانوا يصبرون على الهزيمة؛ لأنهم عرب معودون في غزواتهم أن يكروا بعد فر، وأن يجتمعوا بعد تفرق، فهم يحسبون النكوص ضربا من التحفز للوثوب، أما خصومه فكانوا يتساقطون تباعا كما تتساقط حجارة اللعب المرصوصة إذا سقط منها الحجر الأول ... فلا تماسك بعد ابتداء السقوط ...

ومن ثم كان نمطا فريدا بين قواد التاريخ؛ لأنه يمزج الفن بالبديهة، كما يمزج فن البداوة بفن الحضارة ... وكان يقتبس ويجدد بالرأي والفطنة كما يقتبس ويجدد بغريزة موروثة من قبيلة «القبة والأعنة» يصح أن تسمى غريزة الميدان. وقد تصعب المقارنة بينه وبين قواد العصور الحديثة لاختلاف الأسلحة والمسافات، وإن كنا نعتقد أن القائد العبقري تسعفه عبقريته على اختلاف العصر والسلاح.

Bog aan la aqoon