فقطب غاضبا وراء قناع الظلمة وقال: ماذا جنيت يا عبدة؟ لا شيء، كنت أتساءل أين جبل، وعهد جبل؟ أين القوة العادلة؟ ماذا أرجع آل جبل إلى الفاقة والذل؟ فحطم المجرم الملعون دكاني وضربني وكاد يفتك بي لولا الجيران، ولو بقينا ببيتنا حتى تلدي لانقض على الوليد كما فعل بوليد سيدهم.
فهزت رأسها في حزن وقالت: آه لو صبرت يا معلم شافعي! ألم تسمعهم يقولون إن الجبلاوي لا بد أن يخرج يوما من عزلته لينقذ أحفاده من الظلم والهوان؟
فنفخ المعلم شافعي طويلا وقال بسخرية: هكذا يقولون! طالما سمعتهم مذ كنت غلاما، لكن الحقيقة أن جدنا في البيت اعتزل، وأن ناظر وقفه بريع الوقف استأثر، إلا ما يهبه للفتوات نظير حمايته. وزنفل فتوة آل جبل يتسلم نصيبهم ليدفنه في بطنه، كأن جبل لم يظهر في هذه الحارة، وكأنه لم يأخذ عين صديقه دعبس بعين المسكين كعبلها.
وسكتت المرأة لتسبح في أمواج الظلام، سيطلع عليها الصباح بين قوم غرباء؛ سيكون الغرباء جيرانها الجدد، وتستقبل أيديهم وليدها، وينمو الوليد في أرض غريبة كغصن مقطوع من شجرة. وما كانت إلا قانعة في آل جبل تحمل الطعام إلى زوجها في الدكان. وتجلس في الليل وراء النافذة لتسمع رباب عم جواد الشاعر الضرير. ما أحلى الرباب وما أحلى قصة جبل! ليلة التقى الجبلاوي في الظلام فقال له ألا تخف، حياه بالعطف والتأييد حتى انتصر، وعاد إلى حارته مجبور الخاطر، وما أحلى العودة بعد الاغتراب!
وكان شافعي يقلب وجهه في السماء، في النجوم الساهرة، ويرنو إلى طلائع الضياء فوق الجبل كسحابة بيضاء في أفق سماء مكفهرة. وقال محذرا: ينبغي أن نسير كي نبلغ السوق قبيل الشروق. - ما زلت في حاجة إلى الراحة. - الله يتعب المتعب!
ما أجمل الحياة لولا وجود زنفل! الحياة عامرة بالخيرات والهواء النقي والسماء المرصعة بالنجوم والمشاعر الطيبة، ولكن فيها أيضا ناظر الوقف؛ إيهاب، والفتوات؛ بيومي وجابر وحندوسة وخالد وبطيخة وزنفل. وفي الإمكان أن يصير كل ربع كالبيت الكبير وأن ينقلب الأنين ألحانا، ولكن المساكين ما زالوا يتمنون المحال كما تمناه أدهم من قبل. ومن هم المساكين؟ إنهم أقفية متورمة من الصفع، وأدبار ملتهبة من الركل، وأعين يرعاها الذباب، ورءوس يعشش فيها القمل. - لماذا نسينا الجبلاوي؟
غمغمت المرأة: الله يعلم بحاله.
فصاح الرجل في حسرة وغضب: يا جبلاوي!
فردد الصدى صوته. وقام وهو يقول: توكلي على الله.
قامت عبدة، تناول كفها في يده، وسارا نحو الجنوب، نحو سوق المقطم.
Bog aan la aqoon