45
قالت عبدة بفرح تألق في عينيها وثغرها: ها هي ذي حارتنا، وها نحن أولاء نعود إليها بعد غربة، فالحمد الله رب العالمين.
فابتسم عم شافعي وهو يجفف جبينه بكم عباءته وقال برزانة: حقا ما أبهج العودة!
وكان رفاعة يصغي إلى والديه، ووجهه الصافي الجميل يعكس دهشة ممزوجة بالحزن. فقال كالمحتج: وهل ينسى سوق المقطم وجيرانه؟!
ابتسمت الأم وهي تحبك طرف الملاءة حول شعرها الذي وخطه المشيب. أدركت أن الفتى يحن إلى مولده كما تحن هي إلى مولدها، وأنه بما جبل عليه من رقة ومودة لا يستطيع أن يسلو الصداقات. وأجابته: الأشياء الطيبة لا تنسى أبدا، ولكن هذه هي حارتك الأصلية، هنا أهلك، سادة الحارة، ستحبهم وسيحبونك، ما أجمل حي آل جبل بعد وفاة زنفل!
فهتف عم شافعي محذرا: لن يكون خنفس خيرا من زنفل. - لكن خنفس لا يضمر لك عداوة. - عداوات الفتوات تنشأ بسرعة نشوء الطين عقب المطر.
فقالت عبدة برجاء: لا تفكر هكذا يا معلم، عدنا لنعيش في سلام، ستفتح الدكان وسيجيء الرزق. ولا تنس أنك عشت تحت سيطرة فتوة بسوق المقطم، ففي كل مكان فتوة يخضع له الناس.
واصلت الأسرة مسيرها نحو الحارة، يتقدمها عم شافعي حاملا جوالا، وتبعته عبدة ورفاعة حاملا بقجة ضخمة. وبدا رفاعة بقامته الطويلة وعوده النحيل ووجهه الوضاء فتى جذاب المنظر ينضح بالوداعة والرقة، غريبا في الأرض التي يسير فوقها. وتأملت عيناه ما حوله في شغف حتى انجذبتا إلى البيت الكبير الذي يقف عند رأس الحارة منفردا، ورءوس الأشجار تهتز من فوق سوره. رنا إليه طويلا ثم تساءل: بيت جدنا ؟
فقالت عبدة بابتهاج: نعم، أرأيت ما حدثتك عنه؟ فيه جدك، صاحب هذه الأرض كلها وما عليها، الخير خيره والفضل فضله، ولولا عزلته لملأ الحارة نورا.
وأكمل عم شافعي ساخرا: وباسمه ينهب ناظر الوقف إيهاب حارتنا، ويعتدي الفتوات علينا.
Bog aan la aqoon