تمثال لصروف
وقد تطور إعجاب مي بالدكتور صروف في خلال رسائلها إلى شيء من العاطفة المرهفة، بل صارت تعجب به إعجاب فتاة بأبيها أو صديقها الكبير، وكانت جياشة الشعور في كل ما تكتب إليه، ولكنها بما طبعت عليه من حياة الأنوثة، والتزمت به من الوقار واحترام التقاليد، قد تحولت عاطفتها إلى ألوان من الشعر المنثور، وقد كتبت إليه تهنئة بعيد ميلاده، فقالت:
يا ذا التاج والصولجان «نهضت الساعة، وبي فكرة واحدة، وهي رسم مجموعة عواطفي طاقة تهنئة وتكريم لمناسبة يوم ميلادك الجميل، أو أن أرسم تلك الطاقة غضة نضرة زاهية جزلة، كما هي في الأصل الخفي. وأود أن أنفث في القلم قدرة سريعة خلابة لأقول ولو في سطر واحد ما أشعر به، وما أريد أن أعبر عنه. ولكن كيف أفعل وأدوات الرسم مبعثرة في هذا البيت الذي حق عليه اسم «بيت الراحلين». إننا عائشون منذ أمس الأول في عجاجة غبار وتشويش تكتنفنا رعايتها وتشملنا غايتها من كل صوب وحدب.
وضياع أدوات الرسم وتشتت آلات الكتابة خير؛ لأنك سترسل إلى نفسي نظرتك التي لها من الرياضي الهدوء والتحليل، ومن المفكر الإدراك والنفوذ، ومن الشاعر العطف والرواء، فترى تلك الطاقة في تربتها النفسية أزهارا تتهدل على أغصان مهما عصفت فيها المعاكسات، وكافحتها أنواء الحياة، فإنها لا تزيد إلا متانة ونضارة، ونظرك فيما وراء المنظور أصدق وأبلغ من تعبيري المنضد في عالم المحسوس.
لو كنت اليوم في لبنان لقضيت فريضة الحج إلى حيث مشرق الشمس الفكرية منك، وسيكون من مسراتي الكبرى في هذا الصيف أن أزور البقعة الصغيرة الكبيرة، التي بلا ريب سيقيمون لك فيها تمثالا يوم يجتاز الشرق حد التحمس الوقتي إلى تأدية الواجب نحو كبار رجاله، الذين هم الكبار حقيقة، وليس أولئك الذي زعمهم في بلاهة كبارا.
كذلك اليوم يزيد وضوح فكرة عندي أنشئها، وهي أن أقيم أنا لك تمثالا من نوعه ومن صنعي الخاص، وذلك بمقالات متتابعة في المقتطف أحلل فيها شخصيتك وأستخرج عناصرها المختلفة، فترغم على نشرها عملا بحرية النشر، وأكيدك، وأبهج نفسي ولا سيما أني أؤدي نحوك واجبا كم أهملناه لأننا جهلناك. عسى توفقني الحياة إلى نحت ذلك التمثال فأقول في كتاب جامع ما ألخصه الآن بقول القديس فرنسيس: «ليس أنبل في الحياة من العمل النبيل.»
فكيف إذا كانت الحياة كلها سلسلة أعمال نبل وكرامة، كيف بها إذا كانت كلها إشارة متمرن في رفع قبس النور والعرفان وسط دياجير الجهل والخمول!
تلك كانت حياتك، وإنها لتجمع في هذه الصباح أمام عيني كشيء لامع جميل، بل كهذا الفجر الذهبي الذي يملأ الجو بتهاويل الصباح الأغر، فعش طويلا طويلا لتظل متابعا ذلك العمل النبيل الذي ليس في الحياة أنبل منه، لتظل مستمرا على إعلاء يدك بتلك الإشارة المعنوية، إشارة رفع قبس النور والعرفان.
عش دواما وقرينتك الجليلة والذي تحبان في شباب القلب والفكر والجسم والأمل، واقبل مني ما تشاء من عواطف المحبة والإعجاب والتهنئة والتمني الصادق الحاد.»
الأستاذ فرعون
Bog aan la aqoon