42

Atyaf Min Hayat May

أطياف من حياة مي

Noocyada

كنت أقرأ معجبة ضاحكة مكتئبة متعزية معهما، ومسبحة الله كما يفعل المؤمن إزاء مشهد طبيعي رائع، أسبحه لأنه أبدع هذه العقول الكبيرة والنفوس السامية والأذهان المتوقدة، وأغبط كلا منهما على صديقه العبقري مقابلة بين هذه العقول، وبين عقل إحدى جاراتنا الإسرائيليات التي كانت في ذلك الصباح قد أقامت القيامة بين برابرة الدار وطهاتها وخدمها أجمعين، لتصل إلى حل هذه المسألة الرياضية الهائلة: «ربع الخمسين كام؟»

في تلك الدقيقة جاء كتابك ترافقه المقدمة الهمايونية، فأغمضت عيني قائلة: «ما لي وللفيلسوفين أغبط الواحد منهما على الآخر، وأنا قد أسعدتني الحياة بصديق مثلهما أحدثه وأراسله، وأتلقى تأثيره الفكري العالي!»

ثم فضضت الرسالة التي أستأذنك بتسميتها روسية «ثورية» مرتين؛ روسية من حيث إنها كالسلطة الروسية مخلوطة تواريخ وخطوطا وألوان حبر، وروسية من حيث إن نار الثورة الحمراء تشتعل فيها اشتعالا من أول الكلمة إلى آخر سطر.

تجاهر بأنك ناقم ساخط راغب في معاقبتي وتعنيفي، وما هي ذنوبي؟ ليس من الضروري أن يكون لي ذنوب في عالم الوجود، ما دمت راغبا في إيقافي موقف المتهم، فإنك تخلقها من العدم، حتى المقدمة العظيمة لا تخلو من وخزة هنا ونغزة هناك ولطمة هنالك.

لقد قلت مثلا إني أفكر بلغة أوروبية قبلما أعبر عن رأيي بالعربية، قلت ذلك، ولم تسمح ليه بالاحتجاج. وهل دفاعي يجدي نفعا إذا استشهدت الإخلاص أني ساعة أكتب العربية أفكر بها، ولا أفكر بلغة أجنبية إلا عرضا كما يفعل جميع الناس الذين إذا ما استحضروا شخصا أو شيئا استحضروا معه اللغة التي كانت مستعملة ساعة رأوه أو سمعوه لأول مرة.

أعترف بأن معرفتي اللغات الأخرى قبل العربية جعلتني أشبه جماعتنا بتلك المرأة التي لم تخرج في حياتها من قرية لا تزيد منازلها على السبعة عدا، وكانت تقول فيها إنها أجمل مدينة في العالم، وإنها أم الدنيا. وتلك المعرفة جعلتني أسائل نفسي كلما قرأت مقالا لبعض من يدعون أعاظم الكتاب وفطاحل الشعراء قائلة: «وماذا وضع هؤلاء الأقطاب من ذاتيتهم فيما كتبوا، بل أين تلك الذاتية التي لا أجد لها أثرا؟»

ثم ما لي أنا أشرح ميولي وأبرر سروري اللغوي! إذا كان هناك من يستحق الملام، فأنت هو، أنت الذي تنصلت من الأسجاع والحواشي والزوائد يوم كانت هذه روح العصر، لو أردت أن أقلد أحدا لقلدتك، لكني أكره التقليد الذي يشوه المقلد ويمسخ المقلد، وأنا أحب أن أكون أنا في كتابتي. «يا لطيف، ما هذه الكبرياء والدعوى!» هكذا ستقول أنت. «يا لطيف، ما هذا الاستبداد!» وهكذا أجيبك أنا.

وهاك تهمة أخرى، تقول في رسالتك إني أنتظر أول إشارة لأعفيك من المقدمة. كم أنت شرير ساعة تقول ما لا تعتقد، ولكني لا أريد أن أخاصمك، وأغفر لك كل ما جاء في الرسالة إكراما للمقدمة.

أكتب إليك والشمس تنزل درجات الأفق، وقد سبحت غيوم المساء كما في بحيرات من العسجد والعنبر والزبرجد والياقوت، في جميع أطراف الأفق تتوهج حرارة الربيع وتبدو يقظة الطبيعة. وعلى البسيطة مثل هذه اليقظة وتلك الحرارة، ما أجمل الشجيرات التي أنبتتها لنا كرما مصلحة التنظيم، تبسم بأزهارها الكليلة على جانبي شارعنا ... هل ذهبت اليوم لشم النسيم؟ أم اكتفيت بالسير في شارع عماد الدين؟ ربما كنت الآن سائرا في الخلاء تنظر إلى هذا الغروب الساحر وتفكر في ... أما أنا فلم أخرج من البيت في هذه الأيام التي كثرت فيها علي المعاكسات.

فأمي تشكو ذراعها، وأبي يشكو ألما في ضرسه، والتليفون «ملخبط زي عقل العفريت» كما يقول البربري، وهذه من الدواهي الصماء حقيقة، وأنا شكتني إبرة غليظة تحت ظفر إبهامي. ثم رأت حضرة مدموازيل توتو أن تتحفني بصداقتها، وتعالجني بطبها الخاص، فعضت على الأصبع المريضة ومزقتها بمخالبها، فقلت ضاحكة: «ما أشبه القطط بالفلاسفة أحيانا!»»

Bog aan la aqoon