ولمست حافة الكوب شفتيها، ولمست يداها يده وهي تطبق على الكوب، ورشفت آخر قطرة من الماء، ومرت لحظة قبل أن ترفع يده بالكوب لتعيده إلى المنضدة، لحظة ظلت يداها خلالها تطبقان على يده، وتضغطان في حرارة، وأخيرا رفعت عينيها نحو وجهه، كانت عيناه تحدقان في بريق غريب، والتقى ذهوله بذهولها فأفاقا، فرفعت يداها ورفع الكوب.
وغادر الحجرة مرة أخرى في خطى متباطئة، وأغمضت عينيها واستسلمت لحلم طويل.
وجلس الدكتور منير بعد لحظات إلى مكتبه في المستشفى، يحاول أن يقرأ، وفتح كتابا، ولكنه أغلقه بعد قليل، وفتح غيره ثم أغلقه بعد لحظات.
وعبثا حاول أن يفعل شيئا غير التفكير في تلك الراقدة على قيد خطوات من حجرته، واستسلم آخر الأمر لأفكاره، فراح يستعرض ما حدث منذ أربعة شهور، حين دخلت كوثر المستشفى؛ لتعالج من مرضها الخطير، وحين نشط الطب ليعرف المرض، وحين تضاربت الآراء في تعليله وتشخيصه، ثم انتهى الطب إلى رأي، ثم نقضه، ثم تبين أخيرا أنه الداء - داء السرطان - يتسلل إلى القلب في خفة وثقة، مكتسحا ثدييها فصدرها هاصرا في طريقه، وفي غير رحمة عود شبابها، ناشرا الموت البطيء على صفحة وجهها في صورة شحوب يتزايد ويتراكم، ويتخطف ما بقي في وجنتيها من دماء، ويمتص ما على شفتيها من رواء، ويقف متربصا عند حافة عينيها لا يجرؤ على الدنو.
كل شيء تغير في كوثر إلا هاتين العينين، نال المرض من جهودها، فتداعى جسمها، وتخاذلت أعضاؤها، لكن عينيها ظلتا كما كانتا منذ اليوم الأول، يوم دخلت إلى المستشفى تخطر على قدميها في رشاقة ومرح، والتقت عيناهما، وأحس بجسده يرتعد، وأحس بعينيها تجفلان في سرعة، وتنظران إلى فضاء الحجرة.
وقدر عليه منذ ذلك اليوم أن يزورها مرة في الصباح ومرة في المساء، وأن تلتقي عيناهما في كل مرة، وأن تتكرر قصة اليوم الأول، فتجفل عيناها وتهرب عيناه.
ويتهاوى جسدها كالبناء، ويمضي كل يوم بجزء من نضارتها، وتمر الشهور ويتبين الداء، وتوشك الدموع أن تطفر من عينيه، حين يرى ميكروبه تحت المجهر، ويسمع اسمه بأذنيه من زميله الذي يعاونه في علاجها.
ويقضي ليلة لا تقل عن لياليها هولا وفظاعة، ليلة تحترق فيها مع عشرات السجائر قطرات من دمه، ويطالعه الصباح فيهرع إلى غرفتها، وفي هذه المرة يطيل إليها النظر، وفي هذه المرة لا تخشى عيناه أن تكتما داءه، فتكشفان عن دائه ودائها معا، وعبثا تحاول الألفاظ أن تتدخل، لقد تلقت عيناها نبأ غرامه ومصيرها جنبا إلى جنب، وقرأت سطور الحب كما قرأت سطور الفزع.
ويقترب ذات يوم من فراشها وهي نائمة، فيطيل التحديق في وجهها، ولا يرى وجه المريضة الفانية، وإنما ذلك الوجه الذي رآه أول مرة منذ شهور نضرا، تقطر الحياة والدماء من شفتيه.
ويقترب رأسه حتى يستشعر أنفاسها الدفيئة تهب على وجهه، ويوشك أن يلمس جبينها بشفتيه، ولكنه يرتد في اللحظة الأخيرة، ويسير في حذر نحو الباب، وتتمتم شفتاه وهو يخطو نحو غرفته: إنها زوجة.
Bog aan la aqoon