تمهيد
شارع الذكريات
ظل ابتسامة
أقوى من الحب
ضباب على القرية
حيث انتهى الأبطال
المغفل الثالث
الأجير
حواء لا تقهر
رجل نبيل
بقية من دموع
عيون على الكرمل
لحن قصير
الأستاذ بغبغان
سقطت على الصخور
تمهيد
شارع الذكريات
ظل ابتسامة
أقوى من الحب
ضباب على القرية
حيث انتهى الأبطال
المغفل الثالث
الأجير
حواء لا تقهر
رجل نبيل
بقية من دموع
عيون على الكرمل
لحن قصير
الأستاذ بغبغان
سقطت على الصخور
أقوى من الحب
أقوى من الحب
تأليف
صلاح الدين ذهني
تمهيد
قارئي العزيز ...
أسائل نفسي وأنا أكتب هذه السطور: هل من الخير أن يقول الإنسان كل الحق؟! ولمن يجب أن يقول هذا الحق، إذا كان من الخير أن يقوله؟
إنني أستطيع أن أملأ بضع الصفحات المحددة للمقدمة في حديث لا يغنيك ولا يضيرني عن تاريخ القصة، وعن مكانها في الأدب، وعن تطورها، وعن عشرات المواضيع التي لا تتصل من قريب ولا بعيد بما سوف تقرؤه بعد لحظات حين تنتهي من هذه السطور. فعلمك بتطور القصة ومكانها في الأدب لن ينفع شيئا في تهيئتك لقراءة قصة. إن كتابا في تاريخ الموسيقى قد يفيدك في الحديث عن لحن أو موسيقار، ولكنه لن يسيغ في أذنك نغما باردا ولو كان مؤلفه موضوع فصل كامل بين تاريخ المؤلفين.
إن الذي ينفعك في سماع اللحن السخيف والنغم البارد - إن كان هناك نفع أو أمل في النفع - هو التهيئة الصالحة لسماع هذا اللحن؛ كأن تدرك مثلا أنه يصور سخفا في الحياة، أو اضطرابا فيها، أو معنى باردا من معانيها ...
وهذه هي مهمة المقدمة التي أريد أن أكتبها لك.
فهذه القصص التي بين يديك، والتي ستقرأها بعد حين إن كنت من الصابرين، تحتاج مني إلى تهيئة وإعداد، كما تحتاج منك إلى جلد وسماحة طبع.
إن فيها قصصا رضيت أنا عنها، وأخرى رضي عنها قراء، وثالثة رضي عنها أصحاب صحف ومجلات ... ولكن ليس فيها قصة واحدة رضي عنها الجميع.
قصة «أقوى من الحب» مثلا عانقني عليها أحد الأصدقاء وأطنب في إطرائها، ثم تبينت بعد حين أن كل ما أعجبه فيها، هو أن الزوج بطل القصة عاد إلى زوجته بعد فترة من شرود العاطفة، ولحضرة المعجب الفاضل شقيقة كان زوجها قد هجرها حينا عاشت فيه عبئا على أخيها ثم عاد منذ أيام؛ أي إن المسألة كلها ظروف شخصية تتصل بجيبه، لا بتفكيره الأدبي وذوقه الفني!
وقصة «المغفل الثالث»، وهي قصة شاب وقع في حبائل غانية أمهر من غيرها. هذه القصة أعجبت عددا من القراء لا بأس به، ولست بحاجة لأن أحدثك عن الأسباب؛ فستعرفها بعد قراءتها، وأغلب الظن أنها ستروقك أنت أيضا.
وقصة «شارع الذكريات» لم يشاركني في الرضا عنها إلا شاب مهذب مجروح! جرح قلبه ذات يوم والتأم الجرح، ثم بقي الأخدود تسير فيه ذكرياته، كما سارت ذكرياتي في الشارع القديم.
وهكذا لو شئت أن أحدثك لوجدت أن دافع الإعجاب دائما عامل شخصي، لا تدخل فيه عوامل الفن، ومطابقة القوانين، ومراعاة المناهج. هذه العوامل إنما تقرر رأي الناقد لا القارئ، وإن رأي القارئ أيضا - كما ترى - رأي ذاتي في أغلب الأحيان، فهل ينقص ذلك من قيمته؟
أغلب الظن أن لا؛ فالإنسانية مجموعة الناس ذوي الظروف الخاصة والأحاسيس. والإحساس الواحد يحس به كل فرد في فترات مختلفة؛ فيحس أحدنا الحزن، ويحس الآخر الفرح. ومشاعر الحياة واحدة لكل فرد، مختلفة في ترتيب مروره بها؛ فكلنا نحس فقد الأصدقاء، ولوعة الحب، ونعيم الوصال، وشقاء الغدر، ولهيب الغيرة، ووقر الندم. من هذه الأحاسيس ومن غيرها تتكون مقومات مشاعرنا، وإنما يسمو الكاتب إلى النطاق الإنساني في تعبيره حين يمس هذه المشاعر، وقد تجرد قلمه من نزعة الذاتية. إن حزن القروية على جرة اللبن التي تكسرت حزن، وحزن السياسي الداهية على فشل برنامج ضخم حزن، وإذا وصل الكاتب إلى أعماق النفس البشرية فأخرجت ريشته الحزن عاطفة إنسانية، فقد وصل - بقلمه - إلى نفس السياسي وبائعة اللبن على حد سواء، وإلى كل نفس بشرية أحست الحزن من أقصى جنوب الأرض إلى أقصى شمالها، وإنما يعيب الكاتب أن يكون مقررا لا مصورا.
وعيب القصة المصرية إلى الآن هو أنها قصة تقريرية؛ الحزن فيها حزن مصري محدود بالإقليم والظروف والمناخ، والفرح فيها فرح محلي، والعواطف فيها مدموغة بأسماء المدن والأقاليم. وهذا لون من الأدب يفيد الباحثين عن الجديد الطريف، فيسر القارئ الأمريكي مثلا أن يقرأ القصة المحلية المصرية، بالضبط كما يسره أن يرى الجمل، ويتفرج على أبي الهول، ويرى قوافل البدو.
وهذا اللون من الأدب تمر به كل حياة أدبية لكل قطر، لكنها لا تقف عنده؛ فهناك الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي ... ولكن هناك أدب آخر هو الأدب العالمي؛ أدب يساهم فيه كل شعب متمدين، من فروعه القصة والشعر والمسرحية والمقالة ... إنه الأدب الإنساني الذي أشير إليه، والذي أطمع أن نصل إلى مستواه.
ما شأن هذا كله ومقدمة الكتاب؟
إن له شأنا أي شأن؛ فأنت القارئ في حاجة إلى بعض الإقناع لكي ترضى عن هذا الكتاب.
أولا: أريد أن أقرر لك أن هذه القصص ليست بداية فألتمس لها العذر وأطلب منك الترفق في الحكم عليها، وليست نهاية ما أصل إليه فأقول لك إنها آية في الفن، ولا أستطيع أن أقول ذلك لأنني كاتب قصة ولست بشاعر ... ولا أدري شيئا عن هذا التقليد الجائر الذي يبيح للشاعر أن يشيد بشعره ويمجد نفسه، ويفخر بسلطانه على المعاني وملكيته للدرر والجواهر ... ولو كان شعره حصى مرصوفا في طريق مهجور. لا أدري شيئا عن هذا التقليد، ولكنني أحترمه وأنزل إلى مرتبة القصاصين فأتقدم إلى القارئ في استحياء لا يوصف به الشعراء، أتقدم إليه لأقول هذه قصص في منتصف الطريق، ليست في ليونة الغصن الناشئ، ولا في صلابة الجذع المتمكن، لا أبرأ منها، ولا أفخر بها ... كل ما في الأمر أني أحتمل تبعتها، أحتملها في صبر لا يقل عن صبرك عند قراءتها، وحين ترضيك منها واحدة لن أزهو؛ فأنا أعرف السبب، إنه ليس سموي إلى النطاق العالمي، ولكنه انحصار ذهنك أنت في النطاق المحلي الضيق، وإذا أعجبتك قصتان فسأبتسم؛ لأني عرفت من أمر حياتك ناحيتين، وإذا زدت عن ذلك، فلن أشك لحظة واحدة أنك فارغ البال تبحث عما يشغلك ويملأ فراغك.
لقد سبقتك - أيها القارئ - فأبديت رأيي فيك قبل أن تبدي رأيك في، وتلك مزية سوف تجرح رأيك مهما كان. إياك أن ترمي قصة بالسخف، وإياك أن تخلع على قصة ثوب الإعجاب، وإياك أن تترك الكتاب كله قبل أن تتمه؛ إنك إذن تكون ظالما لنفسك قبل أن تظلمني، فما أدراك أنك سترى نفسك قبيل الصفحات الأخيرة إن لم تجدها على الغلاف أو ما بعد الغلاف!
هذه قصص لا بأس بها في مجموعها وتفصيلها، هذا رأيي أنا في قصصي، مع تحفظ واحد أسوقه إليك: لا بأس بها على أن تقرأها وأنت ذاكر ما سقته لك أول الأمر عن القصة المصرية. هذه قصص محلية، فيها إنسانية محلية، وأؤكد لك أني ما قصرت في أن أسمو إلى النطاق العالمي، بل سعيت إليه في بعض القصص، وأحسست أحيانا بمشاعر بعض من رسمتهم فيها، أحسسته ولم تكن مهمتي تعدو التصوير، حتى قد خيل إلي أني قد وصلت إلى أن أبث فيهم مشاعر إنسانية صادقة، أحسست بحزن بعضهم كما لو أنهم بشر لا غير، بشر من أي مكان، وفي أي مكان.
ومع ذلك فأنا - كما قلت لك - في منتصف الطريق، ولست أنت خيرا مني.
مايو 1948
صلاح ذهني
شارع الذكريات
إنه لا يزال يذكر ...
عشرون عاما مرت منذ وطأت قدماه أرض هذا الشارع لآخر مرة، حين ألقى عليه نظرة هائلة مودعا كل ما فيه، وقد صمم على أن لا يراه إلى الأبد، بل وقد صمم على أن ينسى أنه سكن فيه ذات يوم، بل عاش فيه صباه السعيد.
عشرون عاما كاملة، مشت فيها الحياة مسافات طويلة، فأجهدت في جسده كل شيء، حتى شعرات رأسه البيضاء بدت وكأنها قطرات العرق قد تبلورت عند مفرقيه وفوق جبينه، وحتى أقدامه بدت وكأنما تعبت من السير، فغدت تخطو مثقلة بعبء السنين.
يا لله من غدرات الأعوام!
هذه الأقدام نفسها كم قطعت هذا الشارع في لمح البصر خلف الكرة! وكم كرت وفرت فيه فما أحست جهدا ولا ضنى!
أجل، هذه الأقدام نفسها كم كانت تحب أرض هذا الشارع، فلا تطيق لحظة واحدة تقضيها في المنزل حتى تهبط إلى الشارع الحبيب! تهبط غير عابئة ولا مصغية لقول أمه، وهي تشيعه بغضبها الباسم قائلة: انت رجلك بتاكلك على الشارع؟ مش تستريح شوية يا ابني؟
لم يكن إذ ذاك يفقه كلمة الحب؛ فلم يقل لها مرة إنه يحب هذا الشارع، وإن راحته الكبرى في أن يطلق ساقيه للريح على أرضه مع رفاقه.
هذه الأقدام نفسها هي التي تدب في سكون الليل بعد عشرين عاما في تثاقل وإعياء، كأنما تخطو على أشواك.
ومشى يخوض عباب الذكريات، وقد عادت إليه دفعة واحدة. عادت وقد امتشقت عصا سحرية جعلت تهوم بها يمينا وشمالا، فتمحو الدور والعمائر التي اكتساها الشارع خلال غيبته الطويلة؛ ليحل محلها الشارع القديم الذي عاش فيه، بدوره المتلاصقة ذات المشربيات المتقابلة كأنها طيور تتعانق على استحياء.
لقد تغير كل شيء، وها هو ذا يخطو في الشارع، لأول مرة في حياته، إن ذكرى يوم وعيه الأول تبدو غامضة، إنه لا يكاد يتخيل نفسه طفلا، لكنه يذكر ما كان حواليه جيدا، يذكر الخادمة النوبية التي كانت تحرسه حين يهبط إلى ميدان لعبه الفسيح إذ ذاك - وهو عتبة الدار - ويذكر رفاق ذلك اللهو من الأطفال، ويكاد يتبين من بينهم ذلك الوجه الصغير، وجه «سناء»؛ الوجه الذي ارتبط به بعد ذلك عشرة أعوام كاملة، من الطفولة اللاهية إلى عتبة الدار إلى المعهد المشترك الذي ضمهما طفلين ... إلى ذلك اليوم الذي صار فيه صبيا وأصبحت هي فتاة، وفرقت بينهما جدران ذلك المعهد نفسه، هي في قسم البنات، وهو في قسم البنين.
إنه ليذكر الخواطر الغريبة التي خالطت تفكيره الساذج إذ ذاك؛ كان يخطر له أحيانا أن يتسلق ذلك الحائط الذي يفصل بين القسمين في أوقات الفسح؛ ليجري «خلف سناء» أو تجري خلفه.
كم كان يمضه ويؤلمه أن يسمع تصايح الفتيات الصغيرات خلف الجدران! لقد كان ظلما بينا في نظره أن تلهو «سناء» مع غيره.
وتكبر الأيام ويكبر معها.
وتكبر «سناء»، ويظل هو يذهب إلى المدرسة، وتمكث «سناء» في البيت تتهيأ لكي تكون ربة دار. كان أبوها لا يرى أن تتعلم البنت أكثر من القراءة والكتابة، فاحتجزها حين تمت دراستها الابتدائية. لكنه كان يراها كل يوم عند مآبه من مدرسته، كان يلقاها بعينيه عند الشرفة، كأنما تترقب عودته، وكان يلقاها بعد ذلك بحديثه كلما اجتمعت الأسرتان في المساء تتحدثان، كان يقص عليها كل ما حدث، وكانت وحدها التي تستمع بين خمس نفوس تجلس في الحجرة، وكان لها وحدها يقص، وكانت عيناها فقط هما اللتان ينظر إليهما، وكان في حياته هو و«سناء» كل شيء يعنيه.
ويأخذ عقله ذات يوم في التفكير إثر إحساس غريب؛ فقد اصطدمت يده عفوا بصدر «سناء»، فأحس شيئا لا يدري كنهه، وقد لمست يده يدها مرة ثانية، فأحس الإحساس الغامض نفسه، ثم مرة ثالثة ... جلسا يتصفحان مجلة، وقد أوشك رأساهما أن يتلاصقا، فأحس بأنفاسها تميل نحو وجهه دافئة، فتبعث ذلك الإحساس. وأخذ عقله يفكر، وأخذت حواسه تنمو، وكانت الطبيعة قد عاونته على أن يفهم، وكان الناس قد ساهموا أيضا في ذلك، وترامت إلى أذنيه أقاصيص رجال أحبوا نساء، وقرأ أقاصيص حب، وسمع أغاني تدور حول الرجل والمرأة ...
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم أيضا، حين عاد إلى المنزل وقد أدرك أنه لم يعد طفلا، ولم تعد «سناء» طفلة، عبثا حاول في ذلك اليوم أن يملك صوته المرتعش، وعبثا حاول أن يستعيد نظراته الساذجة الغريرة، بل عبثا حاول أن يرد عينيه عن نظراتهما الملتهبة التي بدأت ترى في «سناء» غير عينيها.
ولمس يدها في ذلك اليوم عن قصد، وأحس بها كما لم يحس من قبل، ومال حديثه عن شئون الدنيا، وحمل تحت ألفاظه كلمات مبهمة أحس أنه يدريها وتدريها، وقال لها دون ألفاظ إنه لم يعد طفلا ولم تعد طفلة ...
وتطور أمرهما سريعا؛ فقد اختطفت منه مجلة وحاول أن يستعيدها . طالما حدث ذلك من قبل، لكنه كان يحدث أمام الأسرة دون أن يثير شيئا. في هذه المرة جرت إلى حجرة أخرى، ولوى ذراعها فالتقى وجهاهما وتلامست شفاههما، وأدركا أنهما يفعلان شيئا لا يجوز أن تراه الأسرة، وأدركا أنهما بحاجة دائمة إلى هذا الشيء، وفي حاجة إلى أن يحدث بعيدا عن الأنظار.
والتقى وجهاهما بعد ذلك كثيرا، والتقى قلباهما أيضا، بل اجتمع هذان القلبان في قلبه هو حينا طويلا، بل وقفا على حافة تفكيره، يصبغان هذا التفكير ويوجهانه. أصبح ذهابه إلى المدرسة لا يعني ما كان يعنيه قبلا من تلقي العلم، وإنما فراق «سناء»، وأصبحت أوبته منها لا تعني انتهاء الدراسة، وإنما نهاية ساعات الفراق.
هل كانت تدري الأسرة شيئا؟
هل تعلم أمها ما بينهما؟ ذلك ما لم يكن يدريه.
أما أمه هو فإنه لا يزال يذكر ذلك اليوم الرهيب، حين وقف يحكم رباط رقبته أمام المرآة، ووقفت هي خلفه وقد بدا وجهها الحبيب أمامه، وارتفع صوتها الحنون هادئا رقيقا كأنما يسير في أخدود خطر: انت بينك وبين «سناء» حاجة يا ابني؟
وأراد عقله أن يكذب، لكن قلبه وقف في الطريق.
وقال وهو يدير رأسه: ليه يا ماما؟ - أنا شايفة انكم بتقعدوا كتير مع بعض، وهي بنت! وانت شاب!
ولم يملك زمام قلبه هذه المرة، واختفى عقله بعيدا وأفسح الطريق، وانسابت الكلمات على شفتيه.
ماذا قال لأمه ذلك اليوم؟ قال لها إنه يحب «سناء»، وإنه يريد أن يمضي حبهما إلى نهايته، إلى الزواج.
وأنت تعرف ذلك كما يعرفه هو و...
ولا يذكر بعد ذلك إلا صوت أمه ينهى إليه في أسى متخاذل. إنه يدرك الآن فقط فجيعة أمه في أحلام ابنها وآماله، وقلبه، يدرك سر هذا الحزن الذي غمر صوتها وغلفه حتى كاد يبدو مخنوقا. - «سناء» أكبر منك بسنتين! سنها الآن تسعة عشر عاما، وأنت سبعة عشر عاما، وعندما تتم دراستك بعد ثلاثة أعوام تكون هي زوجة ولها أولاد!
ولا تطاوعه بعد ذلك الذكريات. إن عقله يقفز إلى عام تال، إلى يوم مشئوم في نهاية شهر مارس، يوم تدوي الزغاريد في الشارع، وتجري فيه الخادمة النوبية التي رعت طفولته لتعصف بشباب آماله وهي تصيح فرحة من غير قصد: ستي «سناء» قرءوا فاتحتها! على واحد دكتور!
وتتابعت الأحداث كأنها أشباح في عالم الذكريات. وقف ساكنا يتلقى صدمات القدر، كأن العامين اللذين يفصلان بينها وبينه يكبلان إرادته وهواه، وكانت الأعوام الثلاثة التي تفصل بينه وبين حياة الرجل الذي يملك شئون نفسه تلجم لسانه وتشل تفكيره، وكان خلف ذلك كله عشرون عاما، بدأت تقطعها الحياة لكي تملك فتاة حق تقرير مصيرها، وتلامست شفاههما تلك الليلة لآخر مرة، تلامست في قبلة طويلة عميقة بعد منتصف الليل، لم يكن ذلك في اليقظة، وإنما في حلم ساخر، قبلها وهي توشك أن تركب قطارا في رحلة طويلة، نحو عالم آخر! وصحا من النوم مفزوعا، وتحسس شفتيه فوجدهما دافئتين لم تغادرهما بعد حرارة القبلة، وتحسس رأسه فوجده ساخنا كأنه ما زالت تغطيه خصلات شعرها الناعم.
إنه لا يزال يذكر أيضا ذلك اليوم بعد عام، حين تبينت له الحقيقة المروعة، حين أدرك أنه ما زال يحب «سناء»، حين نام صدره بعام كامل يبيت فيه ساهرا، وقد تعلقت عيناه بالسقف، فوقه تماما كانت «سناء» تنعم بليالي شهر العسل مع الرجل الآخر الذي يملكها دون أن يدفع ما دفع هو من سهر، ودموع، وأعصاب!
وصاح بأبيه ذات يوم وقد اغرورقت عيناه بالدموع: ما الذي يبقينا في هذه الدار؟
وقال أبوه وهو يبسم في أسى: سنبحث عن دار أخرى، وسنغادر هذا الحي بأكمله. وغادرت الأسرة الحي بعد أيام.
ودارت السنون تطوي طريق حياته الطويل، فتخرج من كليته وسافر إلى الخارج وعاد إلى الريف، وتزوج وأنجب أولادا، وفقد أباه وأمه.
خطت الحياة أخدودين عميقين في صفحة فؤاده، طالما تعثرت فيهما لحظات الهناء.
وبالأمس فقط مر من الشارع القديم، فأحس أنه يخوض عباب الذكريات. لقد تغير في الشارع كل شيء؛ لقد غدا شيئا آخر لا يعرفه! لكن خياله مع ذلك قد استطاع أن يعيد الماضي ، يعيد الشارع القديم بكل ما فيه، استطاع أن يرى الدور القديمة بمشربياتها المتقابلة المتعانقة، واستطاع أن يرى شبح «سناء»، يكبر رويدا رويدا، ويملأ الشارع، ويطوي خلفه نعيما تقضى منذ عشرين عاما!
ظل ابتسامة
لكأنما تعب القطار من طول الرحلة، فراح يتهادى في بطء، وكأنما عجلاته أقدام عجوز يئودها السير.
وصاح الجالس بجواره وهو يستجمع أطراف ردائه: حصلنا على مزيد الشرف يا أستاذ! احنا نازلين هنا في «بنها».
وهب واقفا يحيي الجيش النازل - جيش الموظفين الذاهبين إلى مقر عملهم. من الصالون الذي جلس فيه نزل سبعة ولم يبق إلا هو، سبعة في خلال الأربعين دقيقة التي جمعهم فيها القطار صاروا أصدقاء، وكأنه يعرفهم من سنين طويلة.
وأطل ببصره من فناء المحطة فوجدهم فعلا كالجيش، لكأنما نزل كل ركاب القطار، خطر له أنه ربما كان الراكب الوحيد الذي لم ينزل في «بنها»؛ البلد الذي ولد به.
وتحرك القطار ثانيا، وتحركت يده تحيي أصدقاءه السبعة الذين توقفوا عن الخروج لحظة، ولوحوا له بأيديهم، وما كادوا يسيرون حتى بدأ يتأمل ما حوله، وجالت عيناه في واجهات المباني والطرقات، وجالت خواطره، ترى أين ولد في هذه المدينة، وفي أي مكان منها؟
محال أن يكون قد ولد في ذلك الحي الراقي؛ فهو يعرف جيدا أن أباه كان موظفا بسيطا، طالما احتال على العيش بمرتبه المتواضع، واستدرك فكره تلاحق الخواطر ... فاستبعد هذه الاستحالة، وتذكر أن عمره الآن ثلاثون عاما، مدة لا يعيشها حي من أحياء مصر على حال واحد من العزة أو الهوان، ولعل هذا الحي الراقي هو الحي الذي كان يعيش فيه أبوه مع عشرات أنصاف الأحياء من صغار الموظفين والعمال، وأحس أنه في شوق لأن يفعل كما كانت تفعل أمه كلما حاولت - لفرط طيبتها - أن تشكر القدر على ما سمح لهم به من فتات النعمة.
كانت ترفع يدها إلى فمها وتقبلها ظهرا لبطن، ولعله فعل ذلك؛ رفع يده ولثم راحتها وأدارها ليلثم ظهرها، فوقفت يده على حافة فمه، وارتفعت إلى عينه لتمسح ذرة من غبار تعلقت بأجفانه، وطافت الخواطر، وترك القطار أحياء المدينة، ومضى ينساب في الوادي الأخضر، وجعلت خواطره بدورها تنساب في وادي عمره الماضي، وتذكر حين أمسك بخواطره، وقد اصطدمت عند يوم أليم من عمره، يوم فقد أمه الطيبة الرءوم، وحين ارتطم القطار بدوره بجاموسة فتعطل في سيره لحظات. تذكر ما قرأه منذ زمن لكاتب كان يعجب به في فورة الصبا، ومن أن الحياة رحلة قطار تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، رحلة بين مدينتي العدم. وبدأ القطار يعاود سيره، وبدأت خواطره تقفز من الذكرى الأليمة إلى ذكريات مشرقة، ولذت له المقارنة بين الرحلتين؛ رحلة القطار السائر من مصر إلى الإسكندرية، ورحلة حياته هو منذ أن ولد إلى اليوم. لعله اليوم يقطع من عمره ما سوف يقطعه القطار بين طنطا ودمنهور، ترى كم يمر بالقطار من عقبات كتلك الجاموسة؟! وترى كم يمر به هو من صدمات؟! وتمتمت شفتاه بعد حين، وهو يودع الخواطر متعجبا، ويعود ببصره إلى ما حوله في الصالون: غريبة!
وتوقفت عيناه!
وتوقف لسانه!
وتوقفت الخواطر!
ومرت فترة قبل أن يعود كل شيء إلى الحياة والجريان، حتى إذا استطاع أن يحرك لسانه، وجد نفسه يتمتم في سريرته فقط بنفس اللفظ: غريبة!
لم يكن الصالون خاليا كما توهم، لم يكن هو الراكب الوحيد فيه! كان في المقعد المقابل في أقصى اليمين إنسان آخر، هو امرأة، لا يدري متى دخلت إلى الصالون، وكيف لم يحس بها، وكيف مرت تلك الفترة الطويلة دون أن يراها!
وعراه الارتباك، وأخذ يذكر ما فعل منذ لحظات، هل رأته وهو يرفع يده إلى فمه؟ هل سمعته وهو يتمتم لاهيا بأغنية يصاحب بها خواطره؟ هل فعل شيئا غير ذلك؟ ولكنه لم يهتد إلى جواب.
وراعته النظرة الثانية التي ألقاها في حذر على الوجه الماثل أمامه؛ إنها امرأة جميلة! جميلة إلى أقصى حد! تفصح ثيابها عن ذوق دقيق، وتنطق عيناها بروح صافية، وشفتاها، يا للعجب! إنهما تفتران عن ضحكة خفيفة، بل مجرد ابتسامة هادئة.
وأطال التحديق معتمدا على انشغالها بتصفح مجلة، وحاول أن يستشف شيئا وراء هذا الوجه فلم يفز بطائل. وأحس أنه أطال التحديق، فأمسك بالصحيفة التي معه وراح يقلب صفحاتها دون أن يقرأ شيئا، وأدرك أنه يخادع نفسه حين يصرف دقيقة واحدة في غير النظر إلى هذا الوجه؛ فطوى المجلة في عنف، ورفع رأسه و... ووجد نفسه وجها لوجه أمامها، يطيل التحديق في عينيها المصوبتين إليه، فلا يرى شيئا إلا هاتين العينين وتلك الابتسامة، واستطاع في هذه المرة أن يطمئن إلى أنه لم يفعل ما تأخذه عليه الفتاة، واستطاع أكثر من ذلك أن يطمئن إلى أنها لا تشعر بالضيق من نظراته، بل لعلها ترحب بهذه النظرات، ولعلها لن تصدف عن الحديث.
وحرك لسانه في فمه بشجاعة، لكنه لم يقل شيئا، فعجب لنفسه كيف لا يستطيع الكلام، وقد كان منذ دقائق يتحدث بطلاقة، ويجد ألف موضوع للحديث!
هل كان ذلك لأنه كان يتحدث إلى رجال؟
وفكر في الحديث كيف يبدأ مع امرأة، لا يعرف أي حديث تحب ... إنه يعرف أن الرجال جميعا يميلون لحديث السياسة، لكن المرأة؟! إن حديثها المحبب قد يكون الأزياء، وقد يكون السينما ... وقد لا تكون راغبة في الحديث بالمرة. لكنه استجمع أطراف شجاعته، وأوحى له عقله بهذا السؤال: من «بنها»؟ حضرتك من «بنها»؟
وكتم أنفاسه في انتظار اللحظة الرهيبة، وأوشك أن يغمض عينيه كي لا تفجعه نظراتها الغاضبة التي قد تحمل الازدراء.
لكن شيئا من ذلك لم يكن، وسرعان ما ترامى إلى أذنيه صوتها العذب كأنه موسيقى خفيفة يحمل الجواب: لأ، من «الإسكندرية».
وتهافت على الفرصة حتى لا تضيع: في «بنها»؟ في زيارة على ما أظن؟ - عند أبي.
ثم ماذا؟
إنه لا يستطيع أن يسأل السؤال التالي، إنه لا يستطيع أن يقول لها كيف يكون أبوك في بنها وأنت في الإسكندرية؛ إن أي سؤال بعد جوابها هذا يعتبر تدخلا لا ترضى عنه خلال معرفة لم تتم بعد. أيترك الفرصة تضيع هكذا؟ إن عليه أن يتكلم بأي ثمن، أي كلام، وقال دون وعي: لقد ولدت في «بنها»!
ولم يكد فمه يفرغ من النطق حتى أحس بسخف ما قال؛ فما الذي يعنيها من أمر ميلاده؟ وما الذي يعني أي إنسان غيرها؟ وتملكه الندم، وتمنى لو لم يقل ما قال من سخف، لقد كان يخشى أن تفلت من يده الفرصة، وها هو قد أضاعها بتسرعه!
وسرعان ما قطع عليه تفكيره النادم صوتها يرن في أذنيه قائلة: أنا أيضا ولدت في «بنها»!
وتملكه الفرح ولم يدر أنه يقول: حاجة عظيمة خالص! هذا شرف عظيم! - لكنك لا تقيم في «بنها»؟ - أنا؟ إني لم أرها منذ ولدت، أعني لا أعرف شيئا عنها. إنني أقيم في الصعيد، في «قنا»، حيث أعمل مهندسا.
ومضى يقص كل شيء دون أن يدعو داع للحديث. مضى يسرد تاريخ حياته بإسهاب وتفصيل، ولم يدر شيئا عما حوله إلا أنه كلما أجهده الحديث تزود بنظرة من الوجه الباسم وعاد إلى قصته.
وسكت فجأة حين صدم أذنيه صفير القطار. بدا له هذا الصفير كأنه نعيب غراب يؤذن بزوال نعمة. سوف يقف القطار وينزل في هذه المحطة بالذات؛ إنها «طنطا» بلا شك.
لكم تمنى ألا تكون، أو أن تكون «طنطا»، ويكون عمله الثقيل الذي انتدب لأدائه بالإسكندرية.
وأسرع الزمن، وأسرع هو يبحث عن حل؛ إنه لم يقل لها الآن إنه سينزل في «طنطا»، إنه لا يعنى بذلك قدر ما يعنى بأنه يريد أن يقول شيئا آخر؛ يريد أن يسألها: هل سيراها ثانيا أم لا، ومتى سيراها؟ ما اسمها؟ كيف فات عليه كل ذلك فمضى في الحديث عن نفسه دون أن يعرف عنها شيئا؟!
وهدأ القطار من سيره، فتمالك نفسه وقال يبرر سكوته المفاجئ: يظهر اننا وصلنا! - «طنطا»؟ - أجل، فأنا نازل هنا، لكن ...
وسكت برهة يبحث عن الكلمات.
ثم قال بعد تردد: لقد كانت فرصة سعيدة، كنت أتمنى أن تطول، لكن لعل الزمن يسعدني برؤيتك مرة ثانية، ألا تغادرين الإسكندرية أبدا؟
وقالت باسمة: إلى «بنها» لزيارة أبي، ثم أعود، وأحيانا نذهب إلى «القاهرة» في العطلة.
وكرر دون أن يدري: كنت أتمنى أن يطول لقاؤنا، لكن ما حيلتي! لكني واثق أننا سوف نلتقي.
كان القطار قد هدأ من سيره، وكان عقله يفكر في شيء آخر، كيف يكون وداعهما؟ هل سيومئ لها برأسه كما يفعل كل رجل مع كل امرأة لا يعرفها؟ أم سيجرؤ فيصافحها؟ إنه يتمنى ذلك، يحس شوقا شديدا لأن يلمس هذه اليد، ترى ماذا سيكون إحساسه؟ وداعبه خاطر خبيث، هذه الشفاه الباسمة، إنها أنسب مكان لوداع حار، لكنه لا يملك، لا يملك حتى مصافحة اليد.
وتجرأ حين وقف القطار فمد يده مسلما، ومدت يدها في هدوء تصافحه، وشيعته بنفس الابتسامة التي رآها أول ما رأى في وجهها المشرق.
ومضى القطار بها وحدها. •••
جلس عند ظهر ذلك اليوم يتحدث إلى زميله المهندس الآخر الذي ندب ليشاركه العمل، كان حديثهما يدور حول موضوع كل رجلين.
قال زميله: حرام أن لا تتزوج إلى الآن ... أتذكر إذ كنا في الكلية وكنت أشدنا تحمسا للزواج؟ - أجل، وما زلت متحمسا. - فلم لم تتزوج إلى الآن؟ - أتذكر الشروط التي كنت أردد أنها ضرورية في الزوجة؟ - أذكر. - فهذا الذي أنتظره، أنتظر الزوجة التي أحس حين أرى وجهها أنني أرتاح لهذا الوجه. قد لا يكون جميلا، ولكنه مريح ... الوجه الذي يبعث الراحة في النفس ويسكب التشجيع في أعصابي. إن الرجل ليحتاج قبل الطعام والفراش إلى خمر لا تضر، بل تبعث في نفسه الحياة ... هذه الخمر لا يسكبها غير عيني امرأة وشفتيها.
وضحك زميله وقال: إنك على حق، لقد عرفت ذلك أنا، وأحسسته حين تزوجت، لعلك لا تعرف أنني حصلت على ضالتي، وأنني الآن زوج منذ عامين. إني لأرجو أن توفق مثلي، لكن قل لي: لماذا لا تبحث جادا؟ - ومن قال لك إنني لا أبحث؟ - ألم توفق إلى اليوم؟
وقال كالحالم: اليوم! أظنني اليوم قد وجدت شيئا، وجدت وجهها، أحسب أنني لن أجد سواه، لكن ... - لكن ماذا؟ - لا أعرف عنها شيئا! - كيف؟! ألا تعرف من هي ولا أين أهلها؟ - أبدا. - أين؟ - في القطار.
وقهقه زميله، وأغرق في الضحك، وسادهما الصمت أخيرا، ثم قال وهو يحدق في الحجرة: إنني لا أعرفها حقا، ولم أرها إلا اليوم، لكنني مع ذلك أحس إحساسا عميقا بأنها هي؛ هي تلك التي أبحث عنها، بل أحس أكثر من ذلك، أحس أننا سنلتقي ذات يوم.
وعاودهما الصمت مرة أخرى، وأحس زميله أنه يعاني ألما؛ فاندفع يتحدث في غير موضوع واحد. كان هو خلال ذلك غارقا في عالم آخر؛ كان جالسا على مقعده بالقطار يتأمل الوجه الماثل أمامه، ولا يرى إلا العينين الحالمتين، والشفاه الباسمة على الدوام، وأفاق على صديقه يهز كتفه قائلا: ما رأيك في هذه الصورة؟
وأمسك بالصورة على مضض، وراح ينظر في غير عناية، طالعه وجه زميله يميل في حنان على رأس، امرأة، امرأة جعل يتأملها، أخفى جهده ما عراه من هزة وهو يرى وجهها، وعينيها، وفمها الباسم.
ومرت لحظات قبل أن يفيق.
وعندما وعت عيناه ما حوله وأحست أذنه دبيب كلمات زميله يقول: إننا نسكن الآن عند أمها مؤقتا، أنت تعرف طبعا أزمة المساكن، لكنني أبحث عن عش جميل، عش في ضاحية بعيدة عند نهاية الرمل؛ فهي مثلي تحب الهدوء والراحة. •••
إنه لا يزال يذكر ذلك اليوم، ويوما آخر بعد عام، حين قابل زميله في القاهرة ومعه زوجته، حين تصافحا وزميله يقدمها باسمها مجردا، ثم يردف قائلا: زوجتي، وتلك النظرة التي اختلسها إلى وجهها فرأى ما رآه أول مرة؛ نفس العينين ونفس الابتسامة! إنه لا يزال يعيش إلى اليوم في ظل هذه الابتسامة!
أقوى من الحب
- ألا تصدق ما أقول؟ - ولا أصدق أيضا أنك - وأنت صديق مصطفى - تقول ما قلت الآن! إنه بلا شك وهمك الكاذب قد تربع في خيالك. - وهم كاذب؟! إذن إليك ما حدث. أحب فقط أن أنبهك إلى أن هذا هو الحقيقة؛ الحقيقة التي لم أصدقها حين سمعتها، ولكنني صدقتها حين رأيتها.
ومضى يفصل نبأ غرام مصطفى؛ ذلك الغرام الجارف الذي شب فجأة بعد خمود، وعاد إلى الحياة بعد موات، بعد عشرة أعوام! وحين أصبح مصطفى زوجا لحسناء، وأبا لأربعة أطفال، حين استقر عيشه وبدا كأنما مسحت يد الأيام من حياته سطور ذلك الغرام القديم.
ومضى يسرد الحقائق التي رآها بعينيه. لقد رآهما معا يتنزهان أكثر من مرة، فغالط نفسه وزعم أنها الصدفة قد جمعت بينهما، ثم قابل مصطفى بعد ذلك، وأراد أن يتأكد مما تخيله، ولكن مصطفى راوغ في إجابته، وبدا عليه أنه غير مستعد للإنكار أو الاعتراف، ثم سمع بعد ذلك القصة كاملة من أفواه من يعرفون مصطفى، ومن أقاربه الذين كانوا يرون في عودة هذا الحب نذيرا لكارثة قد تودي بعش الزوجية الجميل ...
ثم سمعها أخيرا من مصطفى نفسه، وكان قد بلغ حدا من الإعياء لم يقو بعده على الكتمان؛ فراح يروي له قصة هواه.
كيف رآها بعد عشرة أعوام، وكيف جمعتهما الظروف ذات يوم وحيدين، فتطرق حديثهما من نجوى العيون إلى نجوى الشفاه، وإذا بحبهما القديم يقفز فجأة فيعفي على الحاضر، ويتطلع إلى المستقبل، يريد أن يبني من جديد حياة عاشقين ...
عاشقين لكل منهما ماض طويل وحاضر مثقل.
هو بزوجته وأولاده الأربعة.
وهي بزوجها وخمسة أطفال.
وبدأ حديثهما عن المستقبل، وقد نحى كل منهما الحاضر من تفكيره، وراحا يلتقيان كما يلتقي العشاق ويبنيان الآمال ... وحين تحدث أصدقاء مصطفى إليه في أمر هذا التطور في حياته، بدأ يفكر جديا في المأساة، دون أن يخطر بباله أن ينقذ نفسه من شباكها. كان جوابه لكل من صارحه بخطئه أنه يحبها حبا قويا جارفا، لا يملك معه البعد عنها.
وقال سعيد، وهو أقدمنا عهدا بصداقة مصطفى: وأين كان هذا الحب من عشرة أعوام؟
وأجاب حامد: كان موجودا، ألا تعرف أنهما كانا حبيبين منذ الطفولة؟ - أعرف، ولهذا أسأل. - لا أفهم ما تعنيه؟ - هل قص عليك مصطفى كيف بدأ غرامه القديم، وكيف انتهى؟ - لقد انتهى بزواجها طبعا، إنني لا أعرف ما حدث بالضبط؛ فصلتي بمصطفى لا تعدو خمسة أعوام. - أما أنا فأعرف مصطفى منذ عرف الحب، منذ عشرين عاما! حين كان الطفلان يعبثان بالنظرات وهمسات الشفاه، وحين بدأت العيون تجد والشفاه تدفأ، فالطفل فتى والطفلة فتاة، والشفاه الدافئة تنطق كلمات الهوى في ألفاظ ساذجة، ثم تتشجع وتقوى فتصوغ الهوى آمالا، في الزواج، وفي المستقبل.
وراح سعيد يقص ما يعرف عن هذا الحب: إن هذا الحب الجارف طالما عبث بمصطفى، ففجر قلبه بالسعادة أحيانا، حين كانت تبسم له وتشاركه الآمال، وأغرق فراشه أحيانا أخرى بالدموع، حين كانت تثير في قلبه الشكوك والمخاوف، وما أكثر ما أثارت هذه الشكوك، وأوشكت أن تجسمها في خياله حقائق.
وذات يوم أقبل مصطفى على صديقه متجهم الوجه، توشك أن تطفر من عينيه الدموع، وأخذ يقص عليه كيف رأى حبيبته تساير شابا رقيعا، يعرفه تمام المعرفة، على شاطئ النيل قريبا من منزلها.
وقص سعيد علينا كيف هدأ من خاطره، وكيف علل له ما حدث بأنه لا يعدو مغازلة الشاب، وعجزها عن صد هذا الغزل، وكيف استطاع الحب الجارف - لا دفاع سعيد - أن يقلب الحقيقة وهما يضيفها إلى قائمة الشكوك الظالمة، واستراح مصطفى ومضى في حبه هادئ البال، يستعد لامتحان الليسانس.
ومرت الأيام وحل الامتحان.
لم يكن امتحان مصطفى، وإنما امتحان الحب القوي الجارف! حل في صورة رجل ثري، تسير أمامه رثبة أنيقة، وتمشي خلفه عدة فدادين، وبضعة ألوف من الجنيهات.
وخر الحب صريعا على يد مأذون القرية في يوم أغبر!
وخر مصطفى صريع الحمى بضعة أيام، ثم عاودته العافية.
وأخذت ذكراه تنسحب رويدا رويدا، حتى ضاعت في أفراح ليلتين هائلتين، شملت مصطفى فيهما السعادة، واحتوته بين أحضانها، الليلة الأولى حين تزوج ثريا، والليلة الثانية حين أنجب أول أبنائه محمود.
وقال حامد متمما الحديث: ثم مرت الأعوام، وها هو الحب يعود أقوى مما كان ...
وثار سعيد قائلا: ألا زلت تسميه حبا؟! إن الحب الذي تصرعه محنة في عنفوان الشباب لا يعود! إنك واهم إن تصورت في قلبه متسعا للحب بعد أن ملأته زوجته وأولاده.
قال حامد: إنك لا تعرف ماذا يريد أن يفعل! إنه يريد أن يترك زوجته وأولاده ويتزوجها! - وهي؟! - المصيبة أنها تشاركه الرأي، وتريد أن تقدم على نفس التصرف! •••
ومضى الحديث بيننا، ولم يكن لدينا أهم من هذا الموضوع. لقد كان مصطفى حبيبا إلى قلوبنا جميعا، وكان يسوؤنا أن تتعرض حياته العائلية لمثل هذه الصدمة العنيفة. وما زلت أذكر إلى الآن كيف كان إصرار سعيد على أن ذلك التطور في حياة مصطفى لم يكن حبا، بل شيئا آخر، شيئا أقوى من الحب، حتى كان أمس، حين لقيت سعيد؛ كنت أعبر الشارع حين استوقفني صوته يسألني: أين أنت يا رجل؟ كنا في سيرتك أنا ومصطفى امبارح. - وكيف حاله؟ وحال زوجته الجديدة؟
وقال سعيد مدهوشا: لم تعرف ما حدث إذن؟! لقد طلقها منذ أيام، بعد شهرين من الزواج!
وقلت متأثرا: أكنت تتوقع هذا المصير؟
فأجاب مسرعا: بل لم أكن أتوقع غيره! أتذكر ماذا كان رأيي حين سمعنا بما حدث؟ إذا كنت تذكره فلعلك تدرك صدق فراستي؛ إن كل ما حدث أنه كان يريدها؛ يريدها لأنه الشيء الذي لم ينله يوم تمناه، لقد كانت رغبة جامحة، تسللت تحت ستار الحب، رغبة أقوى من الحب!
مسكين مصطفى! ترى ماذا سيفعل الآن؟ - لا شيء، لا بد أنه ينظف ثوبه ليعود من جديد إلى العش الذي أوشك أن يتداعى!
ضباب على القرية
عد معي إلى الماضي القريب، إلى عشرين عاما، كانت القرية نائمة، والعيون الساهرة هي عيون الخفراء، قد انتشروا حولها يحفظونها من الأشرار، وامرأة واحدة تسهر إلى جانب فراش مريض قد أطبق المرض أجفانه.
وقالت المرأة وهي تسوي الغطاء، وتحكم إحاطته حول جسد المريض المتداعي: هل نمت يا عبد العال؟
وأجابها صوته الضعيف: لا!
وأشارت عيناه إلى الغرفة المجاورة، فقالت على الفور: لقد نام منذ ساعة، بعد خروج حسان.
وأغفى المريض وغلب عليه النعاس، وقهرها التعب، فاستلقت تحت قدميه. وأسدلت الأقدار سترها على الفصل الأول في الصباح، بعد أن قدمت من أبطال القصة أربعة شخوص: عبد العال المريض، الذي أسلم أنفاسه إلى نسائم الفجر، والطفل النائم في الغرفة المجاورة يصحو على صراخ أمه وعويلها، وحسان سيد القرية الثاني بعد عبد العال!
ونفض الأحياء أيديهم من الميت ، وعادوا إلى الدار، وولج حسان باب القاعة مستأذنا، وآخذا في أحضانه الطفل الصغير، وقال وهو يغالب دمع قلبه المرتعش: البقية في حياتك يا أم سيد! - حياتك الباقية! - عايز أقول لك حاجة. - اتفضل.
وانفرد لحظة، خرج حسان بعدها إلى داره، وعادت خضرة إلى القاعة لتبكي من جديد، لا على جثمان الراحل، لكن على حظ الحي؛ حظ هذا الطفل الراقد أمامها، ابن سيد القرية، عبد العال، الذي حمل معه إلى القبر السيادة والمال والهناء ...
لقد مات عبد العال عن دين لا يمكن سداده، وقد صارحها حسان بكل شيء، بأن أيام الحداد لن تنتهي حتى تنتهي معها إجراءات البيع، ولن تخرج سمعة عبد العال نقية إلا إذا ضاع كل شيء، حتى الدار!
وقال لها حسان أيضا شيئا آخر، جعل دموعها الحزينة تخف حرارتها رويدا، فتصبح همهمة، ثم استسلاما.
وتلقت خضرة العزاء في دارها، وختمت هي وطفلها أيام الحداد في دار حسان.
وأصبح حسان أبا جديدا لسيد، وأخا لأمه ... شهدت داره الفسيحة عطفه وحنانه، وعندما ماتت خضرة بعد أعوام من زواجها لم تكن جازعة على مصير الطفل، وقد رأت بعينها حدب حسان وعنايته به ...
ويجلس حسان ذات يوم إلى نفسه وحيدا، وتزدحم على رأسه الخواطر والصور ... هذا عبد العال صديقه، ورب نعمته السابق يجرجر أكفانه، ويقبل عليه يسأله عن مصير ابنه الشاب، ماذا هو فاعل به؟ وهذه زوجته هو! زوجته الغالية التي أحبها ولم يحب سواها، ولم يتزوج إكراما لذكراها، ها هي بدورها تخطر له ساحبة أكفانها الحريرية تبحث عن زهرة - ابنتها - في أركان خياله، وتصرخ بأمنية طالما تمنتها، في حياتها، على الله؛ أن ترى زهرة عروسا تزف إلى سيد شريف!
وينهض حسان آخر الأمر، وقد انتهى إلى رأي، ولا تلبث الدار الحزينة، منذ ماتت الغالية، أن تكتسي حلة من النور والبهجة، وتدوي في أرجائها الزغاريد!
وهكذا يتزوج سيد زهرة، ويحمل عن أكتاف الشيخ عبء الإشراف على أرضه، بعزم ونشاط؛ فهو يخرج في الصباح الباكر نحو الحقل، ويعود ساعة الغروب، ويأخذ عليه العمل أحيانا أخرى كل وقته، فيقضي الأيام بعيدا عن الدار ...
وتكاد القصة أن تنتهي عند هذا الحد، وقد نعم القدر بمشاهدة منظر ساذج من حياة الريف ووفائه، لولا طرقة خفيفة على باب حجرة زهرة! إنه مصطفى صفي أبيها، ذلك الشاب الذي تعلم في مصر، وعاد يحمل في رأسه ضبابا، وعلى وجهه وسامة، وفي ملابسه أناقة، جاء ليلقاها جسدا بجسد، بعد أن لقيها بعينيه أكثر من مرة، ثم واعدها، ثم كان اللقاء.
حدث ذلك، وعميت عيون حسان عن أن ترى شيئا، وحسب سيد أن جدران الدار مكان أمين يصون جوهرته الغالية؛ فلا تراها العيون. ولكن الشيطان الذي لم يكن قد تسلل إلى نفس سيد، قد غافله وتسلل إلى جسد زوجته.
وطالت المأساة كثيرا، وتعمد الشيطان ذات يوم أن لا يغلق الأبواب! وترك السراج مشتعلا في خدر الفاسقة، وقاد قدمي سيد إلى الدار على غير عادته، وأخذ يتلهف على منظر الدماء تسيل على جوانب الشرف المهيض، وأخذ يدب كفيه ليصفق للواقعة الدامية، مقتل آثمين على فراش الخطيئة!
ولكن خاب فأل الشيطان؛ فلم يقتل سيد أحدا. لقد أسدل على الفضيحة ثوب الليل، وأطفأ السراج، ولم ينم إلى الصباح.
وهب مع الفجر من فراش يقظته مهرولا، وأخذ يجمع ملابس زهرة بنفسه ويطويها في عناية، وحين انتصف النهار كان قد أوصلها إلى بيت أبيها مطلقة.
وكان عليه أن يفسر ما فعل لأبيها الشيخ ويرد على أسئلته، ولكنه لم يجب بغير جواب واحد: والله مش عارفين نعيش مع بعض يا عمي، ولا هي بتقبلني ولا أنا بأقبلها، الفراق أحسن. وعبثا حاول حسان أن يصدق هذا التعليل.
شاب طريد لا يملك شيئا، يلفظ هذه النعمة، ويسيء إلى من أحسن إليه؟
وقال مصطفى وقد جلسا في المساء: يا عم حسان! المسألة فيها سر، أصل سيد ماشي مع ... وذكر اسم امرأة؛ واحدة من قطط الريف الضالة التي تنسج حولها الأقاصيص!
وصدق حسان على مضض، وامتلأ قلبه بالكراهية لذلك الغادر الذي أحال جوهرته الغالية إلى قطعة من الزجاج لن يتحلى بها غير الفقراء.
وغدا الحقد ينمو مع الأيام على ربيب النعمة العاق، بدأت نقمة السيد الثري القادر على الشاب اليتيم المشرد، أخذت هذه النقمة شتى الصور، لم يجرؤ فلاح واحد على أن يفتح أبواب حقله للطريد، فلجأ إلى القرية المجاورة، هناك وجد حقلا يعمل فيه، ولاحقته نقمة حسان إلى هذا الحقل، فما لبث أن طرد منه!
وظل سيد ينتقل من حقل إلى حقل، حتى استقر بأرض مزارع كبير، وما لبث بها قليلا حتى وثق به صاحب الأرض؛ فجعله حارسا يرعاها ويسهر عليها!
ونشب ذات يوم خلاف بين سيد وناظر الزراعة، وتطور الخلاف إلى مشاحنة شديدة توعده فيها الناظر بالطرد في اليوم التالي.
وفي الصباح التالي وجد ناظر الزراعة مقتولا على حدود القرية، وفي الضحى كان سيد مكبلا بين يدي المحققين ينكر في حرارة أنه القاتل، ويرد على أسئلة النائب الحائر في حيرة وارتباك: ألم تتشاجر أمس مع الناظر؟ - بلى، تشاجرت! - ألم يتوعدك بالطرد في الصباح؟ - توعدني فعلا. - فطردته من الحياة قبل أن يطردك من الحقل؟ - أبدا، وأقسم بالله!
وتتملك الشاب حرارة الإنكار فتغلبه العبرات؛ عبرات البريء المظلوم، ويرق قلب المحقق، ويحس نسمة من العطف على الشاب تمر بقلبه، فيوشك أن يؤمن ببراءته، ولكن ...
لقد تشاجرا بالأمس!
وتعود من جديد قصة الشبهة والقرائن، وتقفز الحيرة إلى رأسه. إنه لا يملك دليلا إلا هذه الشبهة، وهي لا تكفي لإدانة متهم، وهو يخشى أن يتركها فيفقد البصيص الضئيل الذي يقود إلى الحقيقة، ويجد الشرطة في البحث، ويقلب الحقل رأسا على عقب، ويعود الرسل متهللين فرحين؛ فقد وجدوا الدليل!
هذا الخنجر الحاد المرهف!
إن القاتل يختفي عند قبضته بلا شك.
ويشهد خفراء القرية بأنه خنجر سيد، ويشهد بذلك أصدقاؤه، ويسأل حسان فيؤيد ما يقول الشهود، ويقول سيد - بعد أن تفجعه الحجج - في تخاذل: خنجري نعم، ولكنني لم أقتل، وأقسم بالله!
ويجلس سيد في ظلمات السجن وحيدا، لقد ألف الوحدة، ألفها في الحقل، حين كان يجلس وحده في الكون كله يتأمل السماء. إنه هنا أيضا وحيدا! نفس القمر الذي يراه من كوة السجن، كان يراه وحده في الحقل وكان يحدثه ... طالما حدثه عن زهرة وهو صغير يهفو إلى حبها، وطالما حدثه عنها وهو شاب يطمح إلى زواجها، وطالما حدثه عنها وهو زوج يصبو إلى سعادتها، وطالما حدثه وهو أعزب مجروح العرض مثلوم الشرف، طالما حدثه بأحزانه؛ لأنه كان لا يجرؤ أن يحدث غيره!
ويسأل القمر: من وضع هذا الخنجر في الحقل؟ إني لم أعاد أحدا، فمن أين لي الأعداء؟!
ويصمت القمر ولا يجيب، ويتردد السؤال في مكان آخر، في ساحة القضاء: من الذي وضع الخنجر إذن يا سيد؟
ويهم سيد أن يقول: لقد سألت القمر نفس هذا السؤال!
ولكنه يذكر أن القمر لا يجيب، وأن القاضي لا يسأل السماء.
ولو أجاب القمر وقص رؤياه لنقل هذا الحوار: - خلاص يا عم حسان، أنا انتقمت لك. - من مين؟! - من سيد. - كيف؟! - دفنت خنجره في الغيط اللي انقتل فيه ناظر الزراعة، والخفراء لقوه وثبتت التهمة عليه ... الناظر مقتول بخنجر زي خنجره بالضبط! - إيه اللي عرفك؟
ويصمت مصطفى في اضطراب، ويتمنى أنه لم يقل ما قال، ولكنه يتمالك نفسه حين يسمع صوت حسان معاتبا: لكن، مش حرام يا مصطفى؟! - مش حرام أبدا، الخاين مالوش عهد، ودمه ماهوش دين.
ويضعف عتاب حسان، وتهدأ ثورة ضميره، ويذكر ما فعل سيد بأعز ما يملك، تلك الجمرة التي أحالها إلى رماد لا يدفئ بدن شاب.
ويصمت حسان مرة أخرى في ساحة القضاء!
وتنتقل عينا سيد خلال القضبان الحديدية في وجوه الحاضرين، وتلتقي عيناه بعيني حسان، فيغمض حسان عينيه، وتلتقيان بعيني مصطفى، ويطيل كلاهما التحديق، ويرى سيد شيئا، وتلفظ شفتاه: مصطفى!
ولكنه يمسك مذعورا على صوت القاضي: مصطفى؟ من مصطفى؟ هل بينك وبينه عداء؟
ويهمس خفير إلى جاره في آخر القاعة: أتذكر يا عبد العال ليلة وجدنا الخنجر؟! إن مصطفى كان فعلا آتيا من الحقل، ماذا كان يفعل هناك؟!
ويتحرك الخفير الساذج على مقعده متململا متحفزا للكلام.
ويعيد القاضي سؤاله: من مصطفى هذا؟! ولماذا يضع لك الخنجر؟! هل بينك وبينه عداء؟!
ويصمت سيد متخاذلا، وقد استقرت عيناه عند جبين ولي نعمته المتغضن في حنان وعطف.
ويهدأ الخفير، وقد تضاءلت في ناظريه حياة سيد، ويهمس له جاره: يا عم احنا مالنا؟
ويقطع صوت القاضي صمت الأصوات، وضوضاء الأفكار السابحة في رنين رهيب: يا سيد! أديك سكت، مش قادر تقول حاجة؟ ليه مصطفى ده خبى الخنجر في الغيط، ومنين جابه؟
منين؟ منين؟
أيقول؟ ولماذا؟ لكي يعيش؟
يعيش بذكرى خيانة زهرة رفيقة صباه، يعيش في عالم حالك، لن يرى في نهاره وليله إلا صورة لحظة واحدة، تحجب بظلامها كل ما في الحياة من ضياء! يعيش ويقتل حسان؟ يقتل من منحه الحياة، حين كانت الحياة ضياء وجمالا؟!
لا!
قالها في خياله، وقالها للقاضي: لا! لا أعرف! احكم علي يا حضرة القاضي، أنا حكمت قبلك بالموت على نفسي!
لكن الله لم يحكم عليه، ولن يحكم على بريء؛ فما تكاد الجلسة تنتهي في المساء، وما يكاد حسان يأوي إلى غرفته في فندق المدينة، حتى تعود إلى خاطره صور يومه الحافل، وتتركز من بينها صورة واحدة؛ صورة عيني سيد تستنجدان به؛ صورة لا تفارقه فلا ينام، ولا يقف الأمر به عند حد الأرق، بل يبدو له شبح سيد معلقا في حبل المشنقة ميتا، وهو يشير إليه، وتضيق الأشباح على الشيخ الخناق، وتطارده الصور، ويهب من أحلامه المروعة فزعا صارخا، وقد تملكته الحمى، وفقد أعصابه، ويهرول إليه نزلاء الفندق، فيأخذ في الحديث المضطرب، ويظنه الناس قد جن، ولكنه يصيح بهم: أقسم لكم أني لست بمجنون، إنني أقول الحقيقة؛ سيد لم يقتل، الذي قتل هو مصطفى، قتل ناظر الزراعة، وأخذ خنجر سيد وأخفاه في الحقل!
ويقبل سيد في صباح اليوم التالي إلى قاعة المحكمة مكبلا، فلا يتبين وجه حسان بين الحاضرين، ولا يرى مصطفى، ولا تكاد الجلسة تبدأ حتى تؤجل؛ لأن أمرا قد جد يستدعي التأجيل!
تقول القصة بعد ذلك: إن سيد قد أفرج عنه، وقبض على مصطفى، وقدم متهما بالقتل، وحكم عليه بالإعدام، وإن حسان قد مات ليلة أملى اعترافه. ويوشك الستار أن ينزل على المأساة، لولا أن يهمس أهل القرية، وقد نفذ حكم القضاء في مصطفى: إنه بريء، مظلوم من دم ناظر الزراعة! إنه لم يقتله. ويهز فقيه القرية رأسه كلما ردد الأهالي همسهم قائلا: ولم إذن أراد إلصاقها بسيد؟!
علم الله ما هو بمظلوم، لقد أراد قتل بريء!
ويجلس سيد في الحقل، وينظر إلى القمر، ويقص عليه القصة كلها، ثم يرفع يديه متمتما للسماء: أحمد الله ... أن حسانا لم يعرف ما جنته ابنته؛ لقد مات قبل أن يعرف! •••
وينقشع الضباب!
حيث انتهى الأبطال
إنك تعرف - بلا شك - غادة الكاميليا وقصتها الرائعة الدامية، هذه الغانية الفاتنة كانت مريضة بالسل حين أحبها أرمان دوفال أصدق من عشقها بين عشرات الذين عرفتهم، وتعرف كيف نما الحب بينهما نمو المرض في جسدها اللدن، وكيف تعثر هذا الحب تعثر الأنفاس في صدرها الملتهب، وكيف بلغت في غرامها ومرضها أوفى غاية، فضحت بقلبها على مذبح الحب، وبحياتها على مذبح المرض ... فكانت نهاية البطلين التي رسمها ديماس، كما رسمت علامة الصليب على قبر ذات الكاميليا في باريس!
عند النهاية المروعة، وحيث نما الحب والمرض معا في بدن غادة باريس، عند هذه النهاية بدأت قصته معها في الإسكندرية ... لقد لقيها ذات مساء على الشاطئ تسير في صحبة ثلاثة، عرف في إحداهن ابنة عمه، وكان شابان يلحان عليهن في مغازلة عنيفة تثير الأعصاب، فتقدم نحوهما معاتبا في خشونة، وكاد يشتبك معهما في عراك لولا أن اقتربت الفتيات الثلاث منه، ونادته ابنة عمه باسمه، ففر الشابان خشية الفضيحة ... وهكذا بدأ التعارف بينهما. كان اسمها الاسم الثاني الذي تفوهت به ابنة عمه، وهي تقدمه إلى صديقتيها؛ منيرة صفوت.
وساروا جميعا على الشاطئ، وقالت ابنة عمه: الحمد لله الذي بعث بك الآن، لقد تبعنا هذان الوغدان من الشاطئ إلى هنا، ونحن نسرع عسى أن ييأسا من ملاحقتنا، ولا فائدة. وقالت صديقتها الأولى: نحن لا نعرف كيف نشكرك!
والتفتت إلى منيرة قائلة: مسكينة منيرة، ضروري تعبت من المشوار؛ لقد غادرت الفراش بالأمس فقط.
ووجد نفسه يسأل: هل كانت مريضة؟
وأومأت منيرة برأسها، وردت ابنة عمه: كانت تشكو البرد، لكن الحمد لله، إنها اليوم أحسن بكثير، ودار الحديث عن منيرة، وساهمت هي فيه بهمس خفيف كان يسمعه متلهفا، وارتسمت في رأسه صورة لحياة فتاة ضعيفة البنية، يسرف المرض في زيارتها ... وبدت أمام عينيه، وهي تخطر قريبا منه بجسمها الضامر ووجهها الرقيق، وعينيها الجميلتين البراقتين ...
وجمع خياله بين الصورتين في إطار أنيق وديع من صوتها الهامس ... وحانت له الفرصة ليطوي يده على اليد الصغيرة المرفوعة، وغالب نفسه طويلا لكيلا يلثم هذه اليد!
وكان لقاء على رمال الشاطئ في اليومين التاليين، أخذ الهوى خلالهما سبيله إلى القلبين الشابين، وانطلقت أولى كلمات هذا الهوى في لقائهما الثاني، إثر سعلة عنيفة تعثرت في فمها، فتعثر لها فؤاده، وقال في حنان: سلامتك!
وأجابت بنظرة كلها يأس، ورد بنظرة كلها حب وأمل ...
ومرت أيام، ذرع إليها الشاطئ أكثر من مرة فلم يجدها، وطال ترقبه وتكرر يأسه؛ ففزع إلى ابنة عمه مضطربا يسألها عن صديقتها، وهناك عرف الحقيقة المروعة!
لقد نما الحب في قلبيهما مع مرض خبيث انساب إلى صدرها، وقرر الطبيب أن لا بد من نقلها إلى حلوان.
أطاق يوما واحدا بعد ذلك النبأ كآبة الشاطئ الخالي من منيرة ... يوما واحدا حزم بعده حقائبه إلى القاهرة.
وعرفت رمال حلوان منذ ذلك اليوم وقع خطواته، وهو يدب بأقدام مثقلة بأحزانه صوب «المصحة»، حيث يأوي المصدورون. وأصبح يومه يتلخص في ساعات العمل البغيضة في الصباح، ثم الانطلاق بعد ذلك إلى حيث تأوي آماله بين جدران غرفة بيضاء.
وذاقت منيرة مع مرارة المرض ساعات حلوة، غمرها فيها بحبه وحنانه ... ووقف الطبيب ذات يوم على حافة فراشها، وقال وهو يتحسسها: لن يطول مكثك بيننا يا منيرة؛ فربما استطعت مغادرة المستشفى بعد أسبوعين أو ثلاثة.
وزفت إليه البشرى عصر ذلك اليوم، ومرت دقائق الأسابيع الثلاثة كأنها جبال تتحرك منزاحة عن صدره، ومرت الساعات أجيالا، ومرت الأيام دهورا ، وبدت له نهايتها كحلم جميل.
وغادرت منيرة «المصحة»، وعادت إلى منزلها، فأضاء قلبه عشرة أضعاف الثريات التي أضاءت دارها ليلة وصولها، وغمر قلبه فرح تتضاءل معه أفراح كل أسرتها، وعاد إلى الحياة في صباح اليوم التالي نشيطا مبتهجا، وقال زميل له يداعبه: مش رايح النهاردة حلوان؟
وأجاب في سرور: حلوان؟ لقد محيت من الخريطة منذ الأمس! أنا الآن في الفردوس! فردوس يحده من ناحية شاطئ النيل، ومن الناحية الأخرى شارع قصر العيني، إنه الشارع المقفر الكئيب أمس الأول، قد أصبح منذ الأمس جنة الكون!
وقاطعه صديقه قائلا: يا سلام! أهكذا يفعل الحب؟ - وأكثر من ذلك! ألم يبرئ المريضة ويحيي قلبين؟
وكان صادقا!
كان فردوسه الشارع الهادئ في جاردن سيتي؛ حيث تفطن، وحيث كان يخلو وإياها في رياضة قصيرة عصر كل يوم، فلا يحسان غير وقع أقدامهما. وكان فردوسه شرفة المنزل؛ حيث يجلس وإياها بعد رياضتهما الساذجة ساعات يطلان على شجرة واحدة، شجرة واحدة لعل بذرتها سقطت ذات يوم عفوا من زارع الأشجار!
شجرة واحدة كانت كل ما في الشارع من حياة وخضرة، وكانت في نظره أجمل فردوس في الوجود، فردوس كامل تعطره الأزهار ويذخر بالأطيار!
لم يمل يوما هذا المنظر الرتيب، وكان يقول لها: لو يمضي العمر كله على هذا المنوال يا منيرة! أنا وأنت وهذا المنظر الجميل!
وكانت تجيبه ضاحكة: ألا تمل هذا التكرار؟ - أنا؟! أنا أمل؟! أمل النعيم؟! فيم أطمع وأنت معي؟!
إن الحياة لا تحتاج لبهاء غير ما ينعكس من وجهك على صفحاتها؛ هكذا هي في عيني.
وتدوي ضحكتها وهي تنظر في حنان قائلة: شاعر!
إنه ليسأل نفسه الآن: هل كانت نظرتها حنانا أم سخرية؟ ويسأل نفسه مرة أخرى: أكانت تعني كلمة شاعر في نظرها إنسانا مرهف الحس رقيق الشعور؟ أم معتوها ساذجا، جديرا بالرثاء؟
الآن بعد عشرة أشهر يدرك لم سألته عن الملل، لقد كانت تحس الملل بلا شك من جلستها الهادئة في الشرفة، ومن رياضتهما الساذجة في الشارع الهادئ ...
هي التي كانت تحس الملل إذ ذاك ... كانت ترهقها حياة الهدوء التي فرضها عليها الأطباء بعد شفائها شهرين كاملين. لم يكن هو شاعرا في نظرها ... كان معتوها ساذجا، يعيش في الأحلام ولا يود أن يخترق نطاقها ... كانت هي أبعد ما تكون عن هذه الأحلام، كانت تعيش فيها مكرهة ملولا، لم يكد اليوم الأخير من شهري النقاهة يدبر، حتى انطلقت من إسار الأحلام، وعادت الحياة ... وظل وحده يعيش في الأحلام!
وأقبل في عصر ذلك اليوم على الدار، فلم يجد منيرة!
وقالت أمها: لقد خرجت لتزور صديقاتها، هل نسيت أن اليوم أول يوم يصرح لها فيه بالخروج؟
لم يكن قد نسي، بل لم يكن في العالم إنسان قد حسب الساعات وتهيأ لهذا اليوم مثله ... وكان في أحد جيوبه تذكرتان للسينما، وفي الجيب الآخر خاتم جميل، وفي يده باقة ورد مشرقة؛ إنه لم ينس إذن. هي التي نسيت أن ذلك اليوم من أعياد حياته!
وجلس كثيرا ينتظر، ودقت الساعة الثامنة، فامتدت يده إلى جيبه، وفركت - في يأس - تذكرتي السينما، ومرت ساعة أخرى، فأخرج من جيبه الخاتم الجميل في حزن، ودفع به إلى أمها، وقال وهو يغالب أساه: هذا لمنيرة يا تيزة، لسوف أحضر غدا.
وألقى نظرة أسيفة على باقة الزهر، كم كان يود أن يشمها وإياها! ثم عاد إلى داره.
لقد كان في نظرها ساذجا ... إن كلمة شاعر كانت تعني ذلك. ظل ساذجا والأيام تمضي، مضى اليوم الثاني أسوأ من الأول، لم يفجعه غيابها وإنما فجعه لقاؤها؛ إن منيرة التي عرفها على شاطئ البحر، ثم رآها على سرير المرض، وأغرق فراشها بحنانه، ليست هي التي قابلته عصر ذلك اليوم. هذه الفتاة المرحة في عنف، ووجهها الغارق في زينة مسرفة، حتى ضحكتها، الضحكة الرقيقة أضحت ضحكة عنيفة ...ثم كان حديثها، إنه ليشك أن الفتاة التي كانت تحدثه إذ ذاك هي الفتاة التي كانت تجلس منذ أيام وإياه على الشرفة.
كل شيء فيها تغير، حتى صوتها، وحتى لقائها له. لقد استقبلته كما لو كان معها منذ لحظات، وتكلفت الابتسام وهي ترد تمنياته وتحياته، ثم قالت وهي تداعب كلبها الصغير: أنا آسفة؛ فقد خرجت أمس لأنني لم أكن أطيق المنزل؛ هذا السجن الذي قضيت فيه شهرين، كان من المحال أن أنتظر دقيقة واحدة ... ثم إنك تأخرت!
تأخر؟!
وأجاب دون انتباه: لقد حضرت في الخامسة والنصف، كنت أنوي أخذك للسينما، ولكن ...
وقاطعته مسرعة: لقد ذهبت فعلا للسينما، مع مديحة وحسنية ...
ودار حديث طويل، ومرت كلماته على صدره كأنها أحجار، ولامست معانيه قلبه كأنها أشواك ... وعندما خرج كان وداعها فاترا، وأحس كأنما تتعجل خروجه.
إنه ليذكر الآن كل يوم بعد ذلك اليوم ... يذكر كل لقاء لهما، وكل نزهة خرجا إليها، يذكر ذلك الفارق العظيم بين تفكيره وتفكيرها، تلك الهوة السحيقة التي كانت تلقي فيها بآماله واحدا إثر واحد ... يذكر المرات التي جاء ليزورها فلم يجد غير كلبتها الصغيرة ترحب به وتجري من حوله ... لقد ظلت وحدها المخلوق الباقي على الوفاء، وإنه لا يذكر يوما واحدا عني فيه بالعطف عليها أو مداعبتها.
والتقى بابنة عمه ذات يوم صاعدة درج السلم إلى بيته، فحياها وأسرع مهرولا إلى كعبة آماله، ولكنها أمسكت به قائلة: سعيد، هل أنت مستعجل؟ إني أريد أن أحدثك.
وصعد معها ثانيا إلى الدار، وقالت وهي تجلس: ألا تزال متصلا بمنيرة؟
وفجأه السؤال، فأجاب على الفور: نعم، لكن ... - لكن ماذا؟ لكنك تحس أنها تغيرت، أليس كذلك؟
وتهاوت عزيمته، ولم يجد ما يقوله، فاستطردت قائلة: إنها تغيرت فعلا يا سعيد، أنا أعرف ذلك؛ ولذلك جئت لأحدثك ... إن منيرة لا تحبك ولا تحب أحدا، إنها تصادق، تصادق أكبر عدد من الشبان؛ تلهو بهذا، وتعبث بذاك، والسعيد منهم من عبث بها ومضى إلى حال سبيله ...
الذي يؤسفني أنك أحببتها، وقمت بدور المحب الوفي ... إنك لم تترك لي فرصة لأحدثك عنها، لم أكن أعلم حين سألتني عنها أنك أحببتها، لو علمت لأخبرتك ... أمس فقط آلمني أن أسمعها تتحدث بسخرية، وعلمت أي خدعة وقعت فيها!
إنه لا يدري، هل سمع كل ما قالته ابنة عمه أم لا، إن كل ما وعاه أنها أضاءت بحديثها النور في سبيله، فأدرك ما غاب عليه وما حار فيه من تعليل تصرفات منيرة، ووعى أيضا جوابها على سؤاله المضطرب: أكانت تخدعني طوال مرضها؟ - بل كانت صادقة ... لقد كنت أنت كل ما بقي لها خلال هذه الفترة، من أين يكون لها الشاب الذي يسري وحدتها، يغمرها بالحب، وهي جسد أصفر باهت يتآكله المرض، لم يكن هناك غيرك، حتى شفيت وعادت إلى الحياة.
إنه لم يخرج في هذا اليوم إلى بيت منيرة، ولا في اليوم الذي تلاه ... لم يذهب إلى هذا البيت قط بعد ذلك اليوم. ظلت صورة منيرة تتضاءل في ناظريه ويعلوها الغبار ... حتى استقرت في زوايا الذكريات الأليمة. •••
إنك تعرف - بلا شك - نهاية قصة ديماس الخالدة؛ حيث مات البطلان وعاش الحب، عاش إلى اليوم. •••
حيث انتهى الأبطال، بدأ سعيد هواه؛ هواه العظيم. كل الفرق أن هواه قد مات وعاش البطلان - هو ومنيرة - في زوايا الذكريات.
المغفل الثالث
كل شيء عنها كان يعرفه ...
يعرف أنها قادت واحدا من الأثرياء إلى هاوية الإفلاس في عام واحد، ثم ودعته على عتبة الفاقة. وآبت بواحد من أصدقائه كان في مثل ثرائه، فأسلمته بعد شهر إلى المأذون ليعقد له عليها في ورقة، ويطلق زوجته وأم أولاده الثلاثة في ورقة أخرى.
وكان يسمع بأذنيه ما يقوله الناس حين يرونها مع صيد جديد، ومع ذلك فقد تعرف إليها وواعدها على اللقاء، وذهب إلى أصدقائه يزف إليهم النبأ في زهو وفخار قائلا: أتعرفون مع من سأتعشى اليوم؟ سأتعشى أنا و... وضاعت حروف اسمها في صيحات الدهشة التي بدرت من الجميع.
وقال واحد من أصدقائه: انت اتجننت؟!
وأجاب في ثقة: لم أكن في حياتي أعقل مني اليوم.
ولم تثر غيظه الضحكات العالية التي انطلقت من أفواههم، وظل صامتا يسمع تعليقاتهم الساخرة: رحمة الله على رصيدك في البنك! - بالتأكيد ربنا عاوز يخرب بيتك ...
وانبرى أحدهم فهز كتفيه في عنف قائلا: هل أنت أصم؟! ألا تسمع؟! - سامع. - أتعرف ماذا جرى لفلان، ولفلان؟ - أعرف، لا وجه للمقارنة. - لقد كانا مغفلين، خدعتهما. - ضحكت عليهما ... أنا شيء آخر، لقد أعددت خلف رأسي سلة ألقي فيها أحاديث هواها، كل المسألة في نظري أنها دمية جميلة ألهو بها، لن تأخذ مني أكثر مما تأخذ الريح من سطح مرآة؛ ذرات الغبار التي خلفتها ريح سبقتها. - إنك لفيلسوف جبار! - بل منتقم جبار، سينتقم للسابقين واللاحقين!
وضاق بسخريتهم، فغادرهم وهو يرثي لحماقتهم، وتعمد أن يذهب متأخرا عن موعدها.
وجلسا يتناولان العشاء ويتحادثان، وقال وهو يرقبها في حذر: ثوب جميل هذا الثوب! - من باريس، إنه هدية زوجي، أتعرف أني كنت متزوجة؟!
وأجاب في خبث: أعرف طبعا، من فلان؛ صديق زوجك الأول.
وقالت ضاحكة: زوجي الأول؟ إني لم أتزوج غير مرة واحدة. الأول كان صديقا ... مجرد صداقة فقط. لقد تزوجت مكرهة؛ كان لا بد لي من رجل أحمل اسمه؛ إن اسم أبي ليس مشرفا. أتعرف أبي؟ - طبعا لا ... هل كان من ذوي الأملاك؟ - كنت أستطيع أن أقول لك ذلك ... أو أقول لك إنه كان مستشارا أو ضابطا كبيرا. إني أقول ذلك أحيانا ... لكن لا أدري لماذا أحب أن أكون صريحة معك؟!
وأخفى خلف شفتيه ابتسامة، وقال بتأثر: أنا أيضا أشعر نفس الشعور، أحب أن أكون صريحا معك! - كم أتحرق إلى رجل يخلع ثوب الرياء عن كتفي وكتفيه، إني أضيق بالعواطف المدهونة التي ألقاها في كل الوجوه ...
وقال وهو يضحك: لن تجدي شيئا من هذا لدي، سترين عواطفي بغير دهان، قد لا تكون جميلة، ولكنها حقيقة، ثم لا تنسي شيئا، إن الدهان مرتفع الثمن، وأنا - واغفري لي صراحتي - لست غنيا.
وقالت، وهي تومئ إلى مائدة بعيدة: أترى هذا السيد هناك؟
لقد كنت أستطيع أن أكون معه، فيمتلئ ساعداي بالجواهر، وتفرش الأرض تحت قدمي بالبنكنوت، إنه يبذل جهد الجبابرة ليتعرف إلي ... مع ذلك ها أنت تراني معك، أنت الذي فضلتك لصراحتك، لقد شبعت دهانا ... ولدي ما يكفيني.
وتجاهل تحيتها الأخيرة، وقال في سخرية: مغفلون هؤلاء الذين يضيعون ما تعبوا في تحصيله تحت قدمي امرأة! - أنا أيضا أراهم كذلك ... إنهم يخطئون السبيل إلى قلب المرأة. إن المرأة لا ترفع إلى قلبها ما تجده تحت قدميها.
وملأه الزهو وهما يغادران المطعم وقد استندت على ذراعه في دلال ... بدت له بثوبها الرائع، وفرائها الثمين، وقامتها البديعة، كصيد فاخر ... صيد لم يبذل في سبيله قذيفة واحدة، وذكر حماقة أصدقائه فضحك في سره، وقالت وهو يودعها: غدا؟ - لا أظن، إني مرتبط بمواعيد غدا وبعد غد، ليكن يوم الأربعاء إذا شئت.
لم يكن مرتبطا بأي موعد، ولكنها السياسة التي رسمها لنفسه، ليذل قاهرة الرجال. كان يريد أن يريها لونا جديدا منهم غير الذي ألفته، لونا يلقاها عندما يريد لا عندما تريد ...
والتقيا يوم الأربعاء، وسارا في الطريق على غير هدى، ووقفت عند متجر للمجوهرات، وأخذت تتأمل الحلى الأنيقة، وأخذ قلبه يعصف بشدة، وأحس أنه مقبل على امتحان عسير. - تعال، أريد أن أرى هذا الخاتم. - أليس الأوفق أن تريه غدا صباحا؟ وفي وضح النهار؟
وانفجرت ضاحكة وقالت: أظننتها مؤامرة؟ اطمئن.
وتملكه الذهول، وهي تخرج من حقيبتها عشرين جنيها، تدفعها للبائع ثمنا لخاتم، وأفاق على صوتها يهيب به: بطاقتك! - من؟ أنا؟ - أجل، ليس لدي ورقة أكتب له فيها عنواني ليرسل إلي الخاتم بعد إعداده، اكتب له عنواني أرجوك!
وأخرج بطاقته وكتب، وعندما غادرا المتجر قال لها: إنك تلقين النقود في الأرض! خاتم من الزجاج بعشرين جنيها؟ هذا جنون! - وماذا أفعل بنقود الحمقى غير إضاعتها في التوافه؟
وكانا قد وصلا قريبا من المطعم؛ نفس المطعم الذي تعشيا فيه من قبل. قادتهما أقدامهما إليه، ولم ينتبها إلا على الأضواء المنبعثة من واجهته، فقال: عجيبة! ألن نغير المكان؟
وقالت في غير اكتراث: كما تريد، أنا شخصيا لا يضايقني أن نتعشى هنا.
وجلست بجانبه، ولم تكد تتأمل ما حولها، حتى تصنعت الدهشة والغضب، وقالت وهي تومئ بعينها: هذا المعتوه وراءنا في كل مكان، دعنا ننهض!
وقال في كبرياء: ولماذا؟ هل تخافين منه؟ - أبدا، إنه لا يعنيني، إنه أحد الذين أثروا من الحرب، اسمه - على ما أذكر - سيد، تعرفت إليه مرة في بيت إحدى صديقاتي، ومن يومها وهو لم يكف عن مطاردتي، ولعله يئس بعد أن رآني معك.
وأخذا يتناولان العشاء، ويقرعان الكئوس، وشربا كثيرا، وبدا عليها أنها قد ثملت؛ فألقت برأسها على كتفه، وقالت وهي تحدق في عينيه: أتحبني نصف حبي لك؟ لكنك لن تصدق!
وقال وهو يمسك بين جنبيه بقية من حذر: ماذا تريدين؟ أتريدين برهانا لحبي؟
وأجابت: أريد الحنان، عواطفك غير المدهونة.
وقال متضاحكا: لحسن الحظ أنا لا أملك غير ما تطلبين.
وبدأ يسوق البراهين ... جعل يضم يدها بين يديه في حنان، وأغرق وجهها بنظرات الحب الوالهة ... واختفت من أمامه الغانية العابثة، وبقيت الحسناء الجميلة، ذات الوجه الفاتن، والعيون الناعسة، والشفاه الدافئة ... تمنت نفسه أن يرى وحده هذا الجمال، فقال متثائبا: هل ننهض؟ - هيا، إني لا أقل عنك رغبة في الراحة، وأمسك بيدها وهما في السيارة، وحاول أن يقبلها، ولكنها نأت بفمها بعيدا، وقالت وهي تتخلص من ساعديه: دعني أحتفظ بالأمل فيها؟ - ما هي؟ - القبلة التي تريد أن تمنحني إياها، أريد أن تحس معي أنها شيء عزيز المنال؛ فلنؤجلها، ولنعش أياما في لذة الشوق إليها ...
وعندما آب إلى داره - بعد أن أوصلها - بدأ يستعيد ما حدث بينهما.
إن هذه الفتاة جديرة بشيء آخر غير الخداع، جديرة بعواطف صادقة، إنها تستحق منه أن يفكر تفكيرا آخر أسمى من هذا التفكير. لقد تأكد أنها لا تريد به شرا، ولا تفكر في خداعه. لو أنها كانت تخدعه لخدعته أول لقاء، أو في الثاني، لكنها لم تفعل، كانت تستطيع أن تتركه إلى هذا السيد الثري بعد أن صارحها بأنه لا يملك شيئا. إنه لن يشك لحظة في أن هذا العملاق غني الحرب - الذي كان يجلس قبالتهما - يشتعل غراما بها، ومع ذلك فهي لا تعيره أي اهتمام، وانتهت به تأملاته إلى قرار؛ إنه لن يقسو عليها بعد اليوم، وسوف يكشف لها قلبه.
ومضى يحدثها في الصباح بالتليفون، في رقة لم تألفها، وكم أثلج صدره أن تختم حديثها الشهي قائلة: بالعكس، إن حديثك يدخل على قلبي السرور!
ومرت أيام ... كان يلقاها في الصباح وفي المساء ... كانت تصحبه كلما قصدت متجرا، فتشتري ما تشاء، ولا تسمح له أن يدفع ثمن شيء!
وحاول مرة أن يدفع عنها ثمن ثوب من الحرير فرفضت، ولما أحست غضبه قالت بحنو: ما دمت تريد أن تشتري لي شيئا، فاشتر لي هذه الزجاجة، إنه عطر جميل، يذكرني دائما بجمال اللحظات التي أقضيها معك!
وانثنت في دلال، وهي تشم العطر القوي، فأحس ذلك التناسق البديع في جسدها، وقال مذهولا: قاتل الله الناس! لقد شوهوا الحب!
وتساءلت: كيف؟! - خلطوا بينه وبين أخس العواطف، أليست مصيبة أن تكون القبلة سبيل المحب الصادق والمشتهي السافل سواء بسواء؟!
أنا الآن مثلا أريد أن أقبلك، أقبلك فقط، ولكنني لا أجرؤ، حتى لا أثير في نفسك الشك بأن جسدك البديع أغراني!
وأغرقت في الضحك ثم قالت: من الخير أن لا تفعل؛ لأنني سأظن ذلك فعلا!
واستطردت بعد برهة: قل لي، هل سأراك قريبا؟
وأجاب مدهوشا: قريبا جدا، غدا إذا شئت.
وفكرت لحظة، ثم قالت: لا أظن غدا، ولا بعد غد! إني ذاهبة لزيارة خالتي المريضة، وقد أبقى بجانبها يومين، وسوف أكلمك بعد عودتي.
وافترقا في هذا المساء، بعد أن ضغط على يدها بحرارة.
وحاول أن يقبلها، فقالت وهي تميل برأسها لتتجنب قبلته: تذكر ما قلته لك ... كم ستكون القبلة شهية بعد أيام!
ووجد نفسه في اليوم التالي وحيدا، لا يدري ماذا يفعل، فسار في الطريق لا يعرف أين تقوده قدماه.
أكانت مصادفة أن يجد نفسه أمام المطعم الذي شهد ميلاد الحب بين جنبيه؟ إنه لا يدري ... كل الذي يعلمه أنه أطاع قدميه، وولج باب المطعم، وقصد إلى نفس المائدة، وجلس إلى نفس المقعد ... ودار بعينيه يتأمل ما حوله، ويتفقد بهجة عش الغرام الجميل، وأحسه ساكنا مكتئبا، ومد بصره إلى الأمام إلى أقصى القاعة، حيث يجلس الثري العاشق وحيدا مهزوما!
غالط عينيه، وعاد ببصره ثانيا يحملق ... فآب بنفس النتيجة؛ إن الثري العاشق لم يكن وحيدا، إن معه امرأة لا يكاد يرى وجهها!
وهب مذعورا كمن لسعته أفعى! لقد كانت هي! هي بعينها! بفرائها الثمين، وقد تراخى على حافة المقعد، وساعدها البض، وقد ارتمى في دلال على كتف سيد بك!
وأحس بموقفه، فعاد إلى مقعده متخاذلا، وحانت منها التفاتة فالتقت أعينهما! وراعه ذلك البرود الذي تلقت به نظراته!
إنها لم ترتعد، ولم ترتبك، وإنما تلقت نظراته بابتسامة، ابتسامة ساخرة، لا تعرف الحياء!
كيف قضى الليلة، وكيف طلع عليه النهار؟!
لقد مرت عليه كل دقيقة بألف خاطر وألف تأويل، وعبثا حاول أن يخطئ عينيه، لقد كان يئوب من كل محاولة بالحقيقة المرة! إن العين لا تخطئ ساعة كاملة ... إنها هي!
وأمسك بالتليفون أكثر من مرة، ولكنه لم يجرؤ أن يتكلم!
وغادر مكتبه، وقد أعماه الغيظ، وسار في خطوات محمومة، وأحس بنفسه وهو يقرع في عنف الجرس الصغير على باب شقتها؟!
وقالت وهي تتأمل وجهه في خمول وعدم اكتراث: ماذا؟ هل جننت؟ إن الجرس لا يدق بهذا العنف.
قل لي، ماذا تريد الآن؟!
انسابت لهجتها الباردة الجافة في أعصابه كالمخدر، ووجد نفسه يقتطع الكلمات من جسده اقتطاعا: أريد ... أريد تفسيرا ... تفسيرا لما رأيته أمس؟!
وانفجرت ضاحكة، وأطار ضحكها ثمالة الصبر من رأسه، فتحركت يداه في عنف، وأدركت ما يرمي إليه، فقالت وهي تربت على كتفه: لا تكن عصبيا فتفسد الجميل - الجميل الذي صنعته - أتعرف أنه لولاك لما تحول إعجابه إلى غرام عنيف؟! لقد أديت لي خدمة لن أنساها، إن شبحك في خياله كفيل بتنفيذ ما أريد! والآن، لا تكن أحمق! إنه قد يصحو في أية دقيقة.
لا يدري، هل هي التي أغلقت الباب في عنف، أم هو الذي جذبه بشدة لكي يحجب عن عينيه وجهها. لقد وجد نفسه يهبط الدرج في وهن وإعياء، حائر اللب، كمن دفن حبيبا؟! •••
جلس في مساء ذلك اليوم إلى أصدقائه، ودار الحديث عنها، كان وحده الذي ظل صامتا، لا يسأل ولا يجيب؟!
وقال أحدهم يداعبه: ألن تتعشى معها اليوم أيضا ... أم فشلت المفاوضات من أول جلسة ؟
وقال آخر: بل فشلت بالتأكيد ... إنها تتمسك دائما بطلباتها.
وقال ثالث: بل إنني أراهن أن المفاوضات قد قطعت معه، إنها الآن تملك كنزا. - من؟! - سيد بك زهران؛ ثري الحرب المعروف. إنه وقع في حبائلها، وأغلب الظن أنه سيقوم بدور المغفل الثالث الذي تعبث به. •••
ووجد نفسه ينطق أخيرا؛ ينطق في هدوء كمن يصدر حكما صائبا بعد طول التفكير: لا أظن ذلك؛ إنه المغفل ... الرابع!
الأجير
غادر الأستاذ رضوان داره فرحا مبتهجا، وسار في الطريق يقفز كعادته؛ تلك العادة التي خلفتها له عاهته اللعينة ... لقد كانت إحدى قدميه أطول من الأخرى، وكان ذلك يستدعي تلك المشية التي انفرد بها، والتي كان يجاهد في إخفائها بما كان يصطنعه من كبرياء وتعارج، وكان أصدقاؤه يدركون العاهة، فيعرفون سر قفزه ... وغيرهم يعللها بنزعة زهو تتملك عليه حواسه ...
ومع ذلك فقد كان الأستاذ رضوان يقفز اليوم بغير علة عاهته ... كان يقفز فرحا. إن هذا أول يوم في حياته العملية، إنه ذاهب إلى المحكمة ليتولى الدفاع، ليجلجل صوته في فنائها رهيبا قويا، ليفتن القضاة والجمهور؛ إنها أمنية احتبسها في صدره على مضض خلال عشرة أعوام؛ أمنية كانت تتحول في عينيه إلى دموع كلما سار في طريقه إلى الدار، وقرأ اللافتات اللامعة الزاهية لكبار المحامين، وكلما فتح صحيفة سيارة فقرأ اسم واحد منهم، مسبوقا بأوصاف القدرة والنبوغ، ومتبوعا بألقاب المجد والعظمة ...!
أجل، لطالما طفرت من عينيه الدموع تحرقا إلى ذلك اليوم الذي سيصبح فيه واحدا من هؤلاء، يملأ على الناس أسماعهم، ويأخذ اسمه بأبصارهم ... ولطالما ألف في نفسه هذه المرارة التي يبعثها طول الشقة بينه وبين ما يتمناه ... ألفها حتى تحولت إلى عادة ثانية، منشؤها في هذه المرة عاهة نفسه.
لم تكن نفسه من القوة بحيث يرضى بالمنى؛ لقد فرضت عليه نزعة إنكار وإصرار على الإنكار، دفعه آخر الأمر إلى تصور أمنيته حقيقة وما يثيرها وهما وخيالا، وتحجرت الدموع آخر الأمر تحت وهج نفسه الظامئة الملتهبة، واستحال بكاؤه كلمات يلفظ بها تعليقا على الحقائق الواهمة التي تزخر بها الحياة ... وهوت الأسماء اللامعة إثر طعنات الحقد والحسد إلى الحضيض ...!
المحامي العظيم الذي يقرأ اسمه على اللافتة أضحى أمام عينيه وليد حظ واتته الأقدار فرفعت اسمه، وأوصاف العظمة والنبوغ التي تسبغها الصحف على عظيم رياء مصطنع، تمليه موجة فساد، لا بد من إصلاحه ...!
وفتح الإنكار أمام عينيه بابا جديدا، انسابت منه آماله ... إنه يعرف هذه الحقائق، ويستطيع أن يظهرها حين تواتيه الفرصة. الفرصة هي اليوم الذي يملك فيه حق الكلام، وسلاح الكلام ...
وهكذا بدأت المعركة؛ إنه اليوم يشرع أول أسلحته، ويسدد أول طعنة! سيقف أمام القضاء مترافعا عن محتال، سيدافع عنه بحرارة، ترى هل يحس ما سيأتي به الغيب؟ إنه لا يدري، ولكنه واثق أنه سيلقي بأقوى المؤثرات، وفكر طويلا فيما سيقوله. لقد قرأ أمس قضية هذا المحتال، إنه آثم بلا ريب.
لقد خدع امرأة ساذجة، وسلبها ما تملك، لكنه مع ذلك موكله وعليه أن يدافع عنه. إن عليه أن يحمل لواء العدالة. إن العدالة في نظره الآن ليست عقاب المجرم، وليست حكم القاضي ... إنها انتصاره هو. تلك أول خطوة في سبيل العدالة الحقة، العدالة الشاملة، أن يتبوأ مكان هؤلاء الذين تلمع أسماؤهم بغير جدارة، وأن يذلهم إذا استطاع!
ولج باب المحكمة، وقصد إلى غرفة المحامين، ونظر فيمن حوله، فوجد وجوه هؤلاء الذين أثارت أسماؤهم ذات مرة في عينيه البكاء ... وجد نفسه جنبا لجنب مع ذلك المحامي الخطير، الذي لفظ ذات يوم منصب الوزير، ليقف في منصة الدفاع، ووجد ذلك المحامي الآخر، إنه ضالته؛ لقد كان محاميا بالأرياف مغمورا، فأضحى اليوم علما يلمع اسمه ويلمع الذهب حواليه ... إنه ضالته بلا شك، إنه مثله من الدهماء، إنه ليس أكفأ منه، ولا أذكى، ولا يحمل إلا نفس الشهادة التي يحملها ... لقد سلط عليه منذ بعيد سوط لسانه في كل مناسبة ... ها هو الآن معه في غرفة واحدة، وفي قضية واحدة. إنه محامي السيدة الساذجة، إنه سيطلب حقها! يا لها من مباراة! لقد وجد نفسه أمام النيابة والمحامي الخطير!
كان في الحجرة خمسة من زملائه الشبان. تخرجوا معه في نفس اليوم، وقال له أحدهم وهو يداعبه: امتحان قاس يا أستاذ رضوان، إنه أقسى من الليسانس، لسوف تترافع ضد «م. بك» هذه مغامرة!
فهز كتفيه في سخرية، وكتم ألم لذعة قاسية في فؤاده، وقال دون اكتراث: «م. بك» أو غيره! إنها أسماء مشى في ركابها الحظ!
وقال الأستاذ سعيد، وهو أشد زملائه عناء منذ الدراسة: أسماء إيه يا أستاذ رضوان؟ إنها كفاءة، وذكاء، وماض جبار ...
ولم يشأ أن يخرج نفسه من الجو الذي تهيأ له ويدخل في مناقشات لا حد لها، إنه يعرف سعيدا، ويعرف لحاحه في المناقشة؛ لذلك صمت، ولم يقل شيئا، وتأبط حافظته، ويمم شطر قاعة الجلسة.
وخرج الأستاذ رضوان بعد ساعة واحدة، ساعة واحدة أسلم فيها حرية موكله إلى السجان. خرج ثائرا غاضبا، ولكنه تمالك نفسه حين رأى صديقه سعيدا أمامه وجها لوجه، قال سعيد وهو يرسل ابتسامته الصافية: خيرا يا أستاذ رضوان؟ ماذا فعل الله بخصمك المسكين؟
وكتم غيظه من سخرية زميله، وقال متصنعا عدم الاكتراث: المتهم معترف، والأدلة بعدد شعر رأسه، ماذا كنت أفعل؟
لقد كنت أعرف أنها قضية خاسرة، لكن ما ذنبي؟ إن الأستاذ وحيد - الذي أتمرن عنده - جشع لا يهمه إلا الأتعاب!
ولم يشأ أن يقول لصديقه إنه هو - وليس أستاذه - الذي ألح في قبول القضية، ولم يشأ أن يذكر أنه بذل لموكله المسكين من الوعود والأماني ما جعله يلج قفص الاتهام، وكأنه يخطر في حديقة!
لكنه مع ذلك عاد فرحا إلى داره؛ لقد أرضى نفسه وكبرياءه؛ ألم يسدد الطعنة الأولى؟ ألم يهاجم خصمه الكبير وجها لوجه؟ إنها الجولة الأولى، وبعدها جولات ... ولسوف ينتصر ذات يوم!
وهكذا مضى الأستاذ رضوان في حياته العملية ... كانت نفسه تفيض بالطموح والأطماع، وكان عقله مكبلا بالأوهام، وكان قلبه غارقا في لهب مستعر، يئز في صدره باستمرار ... إنه ليس أقل من أي عظيم شأنا ولا مواهب ...
وشاء حظه العاثر أن يصرفه عن نفسه، فلم يعن بأن يتحسسها مرة واحدة ليدرك صدق ما تنطوي عليه. مضى يخبط في الحياة وفي الناس ... وظن مجده في انهيار غيره، فمضى يهدم بلا حساب ... وطاشت ضربة من معوله ذات يوم، فحطمت - بين ما حطمت - كل مثل أعلى وكل مبدأ، وتلفت حوله فلم يجد غير نثار وأشلاء ... هذه سمعة عظيم، وتلك فضيحة صديق، والأخرى مواهب نابغة، والرابعة كفاءة سياسي!
وملأ نثار المبادئ سبيله، فلم يعد يرى شيئا ... إنه هو كل شيء، وما يفعله هو الصواب ...
وجلس الأستاذ رضوان ذات يوم بين أصدقائه في غرفة المحامين، وتفقد واحدا منهم فلم يجده، وقال سعيد وهو يحاول أن يثيره: «عقبال» عندك يا عم؛ لقد أصبح قاضيا. لقد قبل رغم أنفه، وتحت ضغط أبيه!
وانفجر رضوان قائلا في غضب: وهل كنت تنتظر غير ذلك؟ فيم كان زواجه إذن؟! - لا أفهم ما تعنيه، ما دخل زواجه في تعيينه؟! - ألم يتزوج من ابنة «ع. باشا»؛ لكي يتقاضى هذا الثمن؟ هل هذا تصرف شاب شريف؟!
وانبرى سعيد معترضا: اتق الله يا رجل؛ إن صهره رجل نزيه، وهو أغنى من صهره. لقد كان يربح من المحاماة أضعاف مرتب القاضي ... أنسيت أنه كان ثالث الليسانس، وكان يرفض دائما أن يعين؟!
وأجاب رضوان وهو يهز كتفيه: يا عم صلي على النبي!
وكانت هذه جملته دائما. كانت لا تعني الإيمان، وإنما تعني الإنكار، كانت إيذانا بأن عقله المكبل لا يقبل تعليلا غير الذي يؤمن به ... بل إنه لم يكن يؤمن بهذا التعليل، وإنما كان يفرضه فرضا. لقد كان يعرف عن زميله ما يعرفه سعيد؛ يعرف أنه غني ونبيل، ومحام ناجح لم يتزوج ابنة «ع. باشا» إلا لأنه يحبها منذ أمد طويل ...
ومع ذلك، فقد استنكر فعلته في الصباح، وألقى محاضرة على سعيد في الاعتماد على النفس، وقيمة الحرية التي ينعم بها المحامي، ومجد المحاماة، وحرصه عليها ... ألقى هذا الدرس في الصباح، وذهب عصر ذلك اليوم مع شقيقته يخطب ابنة سيد كبير، عرف عنه أنه يرصد لابنته هدية عرس ثمينة، هي منصب ممتاز لزوجها. ذهب يخطبها، ومضى في إجراءات الزواج، إلى أن قرب موعد القران، فإذا بدولاب الحظ يتوقف فجأة! لقد فقد صهره جاهه، ودالت دولته، وأصبح لا يملك أمر نفسه ... ويكتشف الأستاذ رضوان في الوقت نفسه أنه لا يميل لخطيبته؛ ويفشل الزواج ...
إنها لم تكن مغامرته الوحيدة؛ لقد سار رضوان في هذا السبيل شوطا طويلا ... وسمع أصدقاؤه ذات يوم أنه يسعى للزواج من ابنة عظيم آخر؛ فداعبه سعيد، وهو داخل إلى قاعة المحامين قائلا: مبروك يا مولانا، شد حيلك قبل الوزارة ما تسقط!
وابتلع سخرية صديقه في مرارة، وجهد أن يدير الحديث في طريق آخر، ونهض بعض لحظات، وسار إلى حيث يبتعد عن أصدقائه، وأخذ يقطع الوقت حتى يحين موعد القضية - التي جاء من أجلها - في التجوال في ردهات المحكمة.
أكانت صدفة أم نبوءة صادقة؟! لقد سقطت الوزارة فعلا قبل أن يدخل بالزوجة الجميلة والوظيفة الساحرة، ولم يرفض هو في هذه المرة ولم يتنصل، كانت خطيبته هي التي رفضت؛ لقد كشفت نفسه، فعاف قلبها عواطفه المدهونة، وألقت له بخاتم الخطبة غير آسفة ولا نادمة.
وقال الأستاذ رضوان لأصدقائه وهو يبرر فسخ خطبته: لقد أنقذني الله قبيل الكارثة! إنها بلدي، بلدي جدا، لست أعلم كيف يربي هؤلاء الناس بناتهم؟!
وأشفق عليه أصدقاؤه، فلم يسخروا من قوله رغم أنهم كانوا يعلمون ما حدث، ويدركون أنها هي التي لفظته، وأن يد الله جرت بغير ما يريد.
وأقبل العام العاشر منذ ذلك اليوم الذي غادر فيه داره فرحا، وخرج الأستاذ رضوان يخبط في الأرض قافزا كعادته. كانت نفسه في ذلك اليوم تنوء بالأحزان؛ لقد أفلتت منه فرص الحياة مرة بعد أخرى، ولم يحس إلا اليوم أنه وحده في الحياة، أصدقاؤه الخمسة في غرفة المحامين صار لهم شأن آخر؛ إن أحدهم تسعى إليه الوزارة في خطى ثابتة، فقد أضحى علما في حزب سياسي خطير، وإن الثاني لا تكاد صحيفة تخلو من اسمه، ومن جولاته الموفقة في البرلمان وفي ساحة القضاء، أما الثالث فقد شق سبيله في الاقتصاد، وهو على حداثة سنه يدير شركة ناجحة، والرابع - سعيد - يلمع اسمه ويكبر رغم احتفاظه بطابعه الوديع الهادئ ... وهو؟!
أما هو ...
إنه ما زال كما بدأ. إنه كذلك في نظر نفسه على الأقل. إن ما يحز في قلبه ليس حاله وحده، إنه يربح مالا كما يربحون، لكن ذلك المجد الذي يضفي ثيابه على أصدقائه، ويبخل عليه هو بقطعة من ثوب، إن ذلك المجد أعمى البصر والبصيرة، إنه لا يعرف ماذا يفعل، إنه يخبط خبط عشواء ... تماما كما يفعل هو الآن، وكما يفعل منذ عشر سنوات، منذ أجمع أمره على أن يقفز في الحياة كما يقفز على الأرض. لقد قفز طويلا خلال هذه الأعوام، قفز حتى تعبت أقدامه وحتى لهث، ومع ذلك فما ارتفع. ارتفع أصدقاؤه، وظل هو حيث كان!
وأخذ يفكر طويلا، هل هو في مكانه حقا لم يتقدم؟! إن ذلك محض افتراء، إنه أحسن حالا، إنه الآن يملك رصيدا في البنك؛ رصيدا متواضعا، ويملك أمر نفسه، ويربح ما يزيد على حاجته ... لقد ارتفع فعلا، لكن أصدقاءه هؤلاء الذين خلفوه، فخيل إليه أنه لا يتحرك ... إن ما يحز في نفسه أنهم سبقوه، سبقوه بغير موجب، إنه ليس أقل منهم كفاءة ولا مواهب، ثم هو يمتاز عنهم، أليس قد تخلى عن مثله العليا منذ أمد بعيد؟ ألم ينطلق من إسار المبادئ؟ ومع ذلك فما نفعته هذه الحرية!
ووقفت به أفكاره وقدماه عند باب مكتبه، وتقدم إليه كاتب المكتب يقول: صاحب هذه البطاقة يريد لقاءك، وتهلل جبينه ونسي أحزانه، إنه زميل قديم، لم يكن صديقه يوما ما، لكنه زميل دراسة ... إنه يكره زملاء الدراسة الذين سبقوه في الحياة، لكنه مع ذلك تهلل وانبسطت أساريره، وأقبل على صديقه يحييه في حرارة، وقال الصديق وهو يرد التحية: أليست غريبة هذه الصدفة؟! لقد كنت في نفس الشارع عند الأستاذ شوكت بك، زميلي في مجلس النواب، فقرأت اسمك على اليافطة فلم أضيع الفرصة؛ لأني لم أرك منذ غادرنا الكلية، وجلسا يتحدثان، ومال الحديث إلى كل شيء، إلى الحزب الذي ينتمي إليه الزميل ... إنه حزب يحفل بالشبان، وهذا الزميل نفسه أحد أقطابه، ولم يضيع الأستاذ رضوان الفرصة، لقد انهال على الحزب مدحا، وأغرق الزميل بألفاظ المدح والإعجاب.
وقال الزميل مستطلعا: ما دمت تعجب هكذا بحزبنا، فلماذا لا تساهم في نشاطه؟ إننا نرحب بأمثالك!
وأخفى تهالكه في لهجة تحفظ قائلا: إنني لا أحب المظاهر، لكنني مع ذلك أرحب بانضمامي إلى حزب أومن به وبمبادئه!
ولم يكن هناك في الحياة شيء يؤمن به رضوان، ولم يكن يعتقد في شيء اسمه مبادئ، لكنه مع ذلك مضى إلى هذا الحزب، وساهم في نشاطه واحدا من مئات ... وأحس بنفس الشعور الذي أحس به منذ سنوات، حين ولج قاعة المحكمة؛ شعور الهدم والبناء؛ هدم الناس وبناء نفسه ... لم يكن يتخيل أنه يستطيع أن يبني نفسه بغير الأنقاض المتخلفة من هدم عشرات!
وضرب بمعوله! «واحد» ... وأطاحت الضربة الأولى بسمعة الزميل الذي قاده إلى هذا الحزب! «اثنين» ... وانهالت الضربة الثانية على سمعة الحزب نفسه!
ولم ترتفع يده بالضربة الثالثة؛ كان المعول قد تحطم، كان المعول من معدن نفسه الرخيصة، فلم يطق غير ضربتين.
وجلس الأصدقاء الأربعة بعد أعوام، منذ ذلك اليوم الذي أصبح فيه الأستاذ رضوان نصيرا من أنصار هذا الحزب.
جلسوا في نفس القاعة - قاعة المحامين - كانوا كلهم قد عادوا إلى «روب» المحاماة، بعد رحلة في مدارج المجد، وقال أطولهم لسانا - سعيد: ترى، أين الأستاذ رضوان الآن؟ إنني لم أسمع اسمه منذ أن غادرت القاهرة إلى أن عدت!
وقال آخر: لقد ترافع أمامي مرة منذ عامين، كان حاضرا عن الأستاذ «م. بك».
واعترض الثالث في دهشة: عن «م. بك»؟! كيف؟! لقد فتح مكتبا مستقلا؟ ثم من «م. بك» هذا؟! لقد كان لا يطيق أن يسمع اسمه ... كيف يعمل عنده إذن؟!
وكان الرابع صامتا إلى هذه اللحظة.
كأنما كان ينتظر أن يوجه إليه السؤال.
إن «م. بك» قريب له. لعله أقربهم إلى الجواب. ونظروا إليه جميعا، وأحس بأنه يجب أن يتكلم، فقال وهو يجر الألفاظ جرا: لقد أغلق الأستاذ رضوان مكتبه منذ عامين، وهو يقوم الآن بكل أعمال مكتب «م. بك»، إنه مسن كما تعلمون، وقد حل رضوان محل وكيله العجوز، وسكرتيره الشاب معا!
وانطلق سعيد في سخرية قائلا: مسكين الأستاذ رضوان، إنه ما زال كما هو يتعلق بالأوهام، إنني أؤكد لكم أنه يطمع في مكانة «م. بك»! إن الساذج يتصور أن ثوب المجد كروب المحاماة، ينتقل من كتف إلى كتف، ويظن أنه سيحل محل «م. بك»، عندما يعتزل هذا المحاماة، ولا يعرف أنه سيظل دائما أجيرا.
أجيرا؟! أجيرا؟!
هل سمعها الأستاذ رضوان؟ إنه لم يسمعها بكل تأكيد، لقد دخل الحجرة بعد دقائق من نطق سعيد بها.
لكن كل شيء في وجهه، مع ذلك، كان ينطق بأنه قد عرف أنه أجير!
حواء لا تقهر
التقيت بها في القطار، ذاهبة لزيارة أختها في دمنهور ...
إنني أعرفها مذ كنا في الجامعة.
أعرف غطرستها وكبرياءها، وأعرف أنها كانت أجمل وجه بين الطالبات، وأن أحد الطلبة أحبها ثلاث سنوات، وكان الحب من طرف واحد، فلما ضاق بما يحمل كتب لها خطابا، كان حارا إلى حد بعيد، فأحست بسخونته (مس فاني) مراقبة الطالبات، ففضت غلافه، وبدلا من تسليمه إليها سلمته إلى إدارة الكلية، وكانت النتيجة أن منح الطالب إجازة لمدة عام كامل، يلطف فيها أوار قلبه، ويرطب أعصابه الدافئة!
وسار بنا القطار فترة قبل أن نتكلم، وكانت لاهية، تتصفح مجلة سرعان ما سئمتها، فألقتها بجوارها، وعندئذ التقت عيوننا فابتسمت!
وقلت لها: إن لم تخني الذاكرة فأنت هي فينوس؟!
وأجابت دهشة: من فينوس؟! - أنت بلا شك، إنه ليس اسمك فعلا، لكنه الاسم الذي أطلقناه عليك. ألا تذكرين «فلانا» ورسالته التي أسماك فيها «فينوس التي تسير على الأرض»؟!
وبدت كأنما تستعيد الماضي، وعلت شفتيها ابتسامة يخالطها الأسى، وقالت: مسكين! لقد ذكرت الآن، تعرف؟ لقد كان سيء الحظ صاحبك هذا، لو كانت رسالته وقعت في يدي لما حدث شيء من ذلك، لكن ما ذنبي أنا؟! تصور موقفي لو قلت لهم إنني أعرفه؟!
قلت: وماذا كنت فاعلة لو أنك تسلمت رسالته ؟ - لا شيء طبعا، إن لدي سلة مهملات واسعة لمثل هذه الرسائل ... إن الخطأ الذي تقع فيه فتاة هو أن تستعمل قلبها لحفظ رسائل الحب بدلا من إلقائها في سلة المهملات.
قسوة مني؟! ما ذنبي؟! إنه حب من طرف واحد، كيف أتقيد به أنا؟!
وقلت وأنا أتنهد: صحيح، لا تتقيدي به ولا بغيره، لقد كانوا كثيرين، هؤلاء المغرمين!
وفهمت ما أعنيه، فقالت على الفور: أنت مثلا، كنت واحدا منهم، لكنك تصرفت بعقل؛ فلم تزد على النظرات الذليلة المستعطفة والكرفتات الزاهية، التي كانت تتدلى على صدرك وكأنها تصيح لفرط احمرارها قائلة: «أنا هنا»، فلما أهملتك اختصرت الطريق، وحولت نظراتك صوب «...»
وقاطعتها مستدركا: صوب سنية؟ أتعرفين أين هي الآن؟! - سمعت أنها تزوجت. - إنها في منزلي ... أم، ولها ولدان! - ولهذا خلعت كرفتاتك الزاهية ... لا داعي طبعا للفت الأنظار.
هل تعرف أنني أيضا تزوجت ... و... وطلقت زوجي بعد شهرين؟ - طلقته؟! - أي نعم، بعد شهرين كدت أختنق فيهما ... - كان رديئا إلى هذا الحد؟! - أنا التي كنت رديئة؛ لم أعرف كيف أعامله ... - قاسية كعادتك؟! - بالعكس، ضعيفة للمرة الأولى، والأخيرة.
ومضت تقص علي قصتها ... إنها تزوجته لأنها اعتقدت أنها تحبه وأنه يحبها. كان رقيقا معها قبل الزواج، لا يفعل شيئا دون أن يستشيرها، بل لا يفكر بالمرة في عمل أي شيء. كانا يخرجان للنزهة ويسيران صامتين، لو سارا ساعات ما كان يفتح فمه بكلمة ولا اقتراح. كان يفرض عليها دائما أن تسود الموقف، وأن تتصرف ... هي التي تسأل إلى أين يذهبان، وهي التي تجيب، وهي التي تنادي السيارة، وهي تقترح اسم السينما، وعندما تزوجا اكتشفت الرجل بكل معايبه، قاس ومستبد ومتغطرس ... كل صفاته الأولى انقلبت إلى نقيضها؛ بدلا من الاستماع لها أصبح يرغمها على أن تنصت له، بدلا من أن تلقي أوامرها، أصبح هو الذي صدر الأوامر، بل أصبح لا يطيق أن تقترح شيئا ... قالت إنهما خلال الشهر الثالث لم يتفقا على شيء، إلا الطلاق، وقد تم!
وقلت لها بعد أن أتمت حديثها: لكن، ألا يجوز أنه على صواب؟ إنه أوسع منك تجربة ودراية.
وأجابت غاضبة: ولم يكون أوسع تجربة؟ هل تعلم أكثر مما تعلمت؟ - لا، ولكنه رجل. - آه، عدنا للأفكار السخيفة، أتعرف أننا لن نتقدم حتى لا يعود هناك فارق بين الرجل والمرأة؟ - أكثر مما ترين الآن ... - بل أكثر مما تتصور. لقد كان كل الخلاف بيني وبين زوجي أنه كان يريد أن يغلب إرادته دائما.
وقلت وأنا أبدي التأثر: أنا معك في هذا. إنه مخطئ بلا شك. هذا استبداد. - ولهذا طلقته!
قالتها وهي مرتاحة الضمير، كأنما وجدت من يفهمها. وانتظرت أنا حتى انتهى صفير القطار، فقلت: مساكين هؤلاء الرجال! تصوري زوجك هذا مثلا، لا شك أنه كان يحبك. - يحبني؟! إنك لا تتصور كيف كان يحبني، لو قلت إنه كان يعبدني لما أخطأت التوفيق، لكن ما العمل؟ لو لم يكن عنيدا!
وقلت متحمسا: وها هي نتيجة العناد، أن يفقد فينوس ويخرج من الجنة، ولم كل ذلك؟ لأنه أصر على أن يحبس العصفور، ويقف خارج قفصه الذهبي ليسمع تغريده ... كان يجب عليه أن يفعل العكس، أن يغلق على نفسه القفص، ويطلق العصفور ليغرد حيث شاء!
ولكني لم أتم كلامي؛ فقد انقلب اطمئنانها إلى نظرة غاضبة، وقالت مستنكرة: ماذا؟! هل تسخر مني؟! إني لم أقل إني أريد وضعه في القفص. - لكنك قلت! - أنا؟! - أجل، ألم يغضبك أنه لم يعد يستمع إليك؟ الذي أثارك هو أنك لم تعودي الآمرة، وأصبح هو الآمر ... المسألة إذن خلاف على السيادة! - بل على الحرية، المساواة التي قيل إننا نلناها. - تستمتع بها، وتفيد منها الإنسانية. - أبدا، إنها ستبحث عن مطالب جديدة. - ؟! - منذ خمسة وعشرين عاما، عندما خلع عنها الحجاب، ونزلت إلى الطريق، وقيل لها أنت حرة ... قولي شيئا، افعلي شيئا، أتعلمين ماذا فعلت؟! أخذت تطلب أشياء أخرى، من يومها إلى الآن لا تفعل شيئا إلا أن تطلب، وتطلب، وتطلب، في كل مناسبة وبلا مناسبة، لم تخرج عن دورها الدائم في مواجهة الرجل؛ دورها الخالد «هات لي» هي بنفسها أمنا حواء، حين أرهقت أبانا آدم بالمطالب، حتى على أبواب الدنيا لم تغلق فمها لحظة واحدة لتندم على ما جرته عليه حماقتها من متاعب، لا شيء إلى الآن استطاع أن يغلق فم المرأة عن المطالب.
وكدت أن أستمر لولا ضحكة عالية بهت لها ... إنها فينوس نفسها التي تضحك ... لا أذكر أني قلت شيئا يثير الضحك، ومع ذلك فقد مضت في الضحك، على حين ظللت أنا مبهوتا. - استمر يا أستاذ، استمر. - كلامي لا يروقك؟ - أبدا، إنني لم أسمع نصيرا للمرأة في مثل حماستك، أتعرف أن المرأة لا تطلب شيئا، إلا أن تنتصر آراؤك؟ - لا أفهمك؟ - قل لي أولا: أتختلفان كثيرا أنت وسنية؟ - لا كثيرا ولا قليلا. - كيف؟ ألا تطلب منك شيئا؟ - لم تطلب مني؟ ... إن لها في كل شيء مثل ما لي، أنا بالعكس الذي أرهقها بمطالبي! - اتفقنا يا أستاذ! - علام؟ - على أن ما تطلبه من المرأة، هو ما أطلبه أنا لها ... أن لا يملك الرجل شيئا لا تملكه هي، فتضيع الوقت في طلبه ... ألم تقل إن سنية لم تطلب شيئا منك لأن لها مثل ما لك؟ هذا ما كنت أطلبه أنا أيضا ... لقد ذكرت القفص الذهبي، أتدري ماذا كنت أريده بثورتي على هذا القفص؟ - أن تخرجي منه؟ - مع شرط هين! - ما هو؟ - أن يتحطم بعد خروجي منه توا. - أكاد لا أفهمك أيضا. - بل تفهمني جيدا ... كل ما يشوب أفكارك هو أنك لا تفهم الحياة بغير قفص ذهبي، وبغير عصفور حبيس، رجلا كان أو امرأة، هذا هو كل ما يشوه أفكارك.
كان القطار قد وصل إلى مشارف دمنهور، وتهيأت فينوس للنزول، فأخذت تصلح زينتها ... كانت كما رأيتها آخر مرة على درج الكلية وهي تهبط حاملة في أذيال ثوبها آمال أكثر من طالب، فقلت مداعبا: عفا الله عن صاحبنا الذي أسماك فينوس!
قالت وهي تبتسم: وماذا كنت تريد أن يسميني؟ - كنت أوثر أن يكون اسمك حواء، حواء التي لا تقهر.
رجل نبيل
عندما عرفت الأستاذ منصور، لم يخالجني شك في أنني سأنسى كل شيء عنه في اللحظة التي ينصرف فيها ، فلم يكن فيه ما يبعث على الاهتمام؛ لا في وجهه بقسماته المعتدلة، ولا في صوته الهادئ الوتير، حتى اسمه بألفاظه الثلاثة المألوفة، منصور محمد حسن، كان من الأسماء التي يمكن أن تنسى بسهولة، فإن لم تنس فلا بد أن تختلط ويصعب ارتكاز الذاكرة على لفظ واحد منها.
وقد صح ما توقعته عندما لقيته في المرة الثانية بعد شهور؛ ففي الوقت الذي لقيني فيه بحرارة وشوق، صافحته أنا ببط محاولا أن أذكر وجهه، وما كدت أذكر أن هذا الوجه أعرفه حتى نشأت مشكلة الاسم، ولو لم تسعفني الذاكرة بإحدى كلمات اسمه لظللت صامتا، أهز يده، أو أستجيب بيدي لهزات يده في بلاهة، دون أن أنطق بحرف واحد.
ولكنني قلت أخيرا: كيف حال الأستاذ حسن؟
وقال مصححا في سذاجة: منصور يا أستاذ، لقد نسيتني!
وأعدت مستنكرا: كيف نسيت؟ الأستاذ حسن منصور.
فقال وهو يضحك: منصور محمد حسن، ألم يقدمني إليك صديقنا مرسي؟! ألم أقل لك إنك نسيت؟!
وأمعنت في استنكاري قائلا: سبحان الله يا أستاذ! أنا نسيت؟ لقد كان ذلك منذ شهرين في حفلة نادي التجارة، وكنت حضرتك جالسا بجانب مرسي، فقدمني إليك وخرجنا معا.
وكان هذا كله صحيحا، كان النادي أقام حفلة منذ شهرين، وكنت جالسا إلى جانب مرسي، زميل الدراسة، فقدمني إلى أحد أصدقائه وخرجنا في نهاية الحفلة نحن الثلاثة، وافترقنا عند محطة الأتوبيس، كل ذلك كان صحيحا، لكنه لا يمنع الحقيقة الواقعة، إنني نسيت كل ما يتصل بهذا الرفيق الثالث، ومر تعارفي به على حافة ذاكرتي المكتظة، فلم يخلف أثرا.
وكانت المرة الثالثة التي نسيت فيها الأستاذ منصور يوم قابلت صديقي مرسي، فقصصت عليه نبأ لقائي مع صديقه، وحاولت أن أتذكر اسمه فما استطعت، حتى ذكره مرسي قائلا في عتاب: يا رجل؟ أتنسى منصور؟ إنه شخصية فذة؟
وقلت مدافعا: لو كان كذلك ما نسيته! - بل إنك لم تعرفه جيدا، ولو أنك عرفته لأحببته ولم تنسه قط ... ومضى يقص علي ما يعرفه عن منصور، حتى أثار اهتمامي به، وجعلني آسف لعدم اكتراثي له ... إنه كما صوره لي شخصية خرافية، هربت من تاريخ أيام مجيدة، تسودها البطولة والشرف لتعيش في الحياة الصاخبة الماجنة، شخصية غريبة إذا عددنا عالمنا المضطرب مألوفا لا غرابة فيه ...
ولقد حققت الأيام صدق هذه الصورة، وعندما لقيت منصور أفندي في المرة الرابعة لقيته على ألا أنساه، بل لعلني لم أعتز بشيء قدر اعتزازي بهذه الرسالة التي لم تكتب لي؛ لأنها رسالة من منصور، تنعكس عليها صورة من صور هذا المخلوق الخرافي النبيل ...
كنا أربعة في الحجرة المتسعة نعمل عملا واحدا، عملا بغيضا، أبغض ما فيه أنه لا يتغير، أكوام من الأوراق نقرؤها ونراجع ما فيها، كان عملنا من الدقة بحيث إن أقل خطأ يرتكبه أحدنا لا يمكن أن يئول بالسهو والنسيان، قبل أن يئول بالتواطؤ والاتفاق مع عملاء الحكومة، ولقد رأيت بعيني زميلا لي يخرج من مكتبه إلى عرض الطريق مشردا لخطأ ارتكبه، فأضاع على الحكومة بضعة ألوف من الجنيهات صرفت خطأ لمقاول لم يكن قد قام بكل ما طلب إليه من أعمال.
وإلى هذه الحجرة جاء منصور ذات صباح؛ ليعمل زميلا لنا، وكان هذا لقاءنا الرابع.
وقال وهو يهز يدي في حرارة، كما فعل أول مرة: وأخيرا، يريد الله أن نعمل معا يا أستاذ، لقد نقلت إلى هنا منذ اليوم، فقدمني لزملائك!
ولازمني التوفيق هذه المرة، فذكرت الكلمة الأولى من اسمه، وقنعت بتقديمه إلى زملائي على أنه صديقي الأستاذ منصور!
ومضت الأيام لتكشف لنا عن مزايا منصور، حتى إذا كان الشهر الثامن وجدناه - دون أن يسعى إلى ذلك - بمثابة الرئيس والوالد، كان أكبرنا سنا، وأكبرنا مرتبا، وكان - وهو الأهم - أدقنا وأحرصنا، وأدرانا بالعمل، ولم تقف صلتنا بمنصور عند آصرة الزمالة؛ فقد أصبح صديقا شخصيا لكل منا، يشاركه في أفراحه ومتاعبه، ولا يبخل بالعون له من جهده أو ماله، وسرعان ما أحالنا هذا الرجل العجيب إلى أسرة واحدة، كان هو لها بمثابة الأب، وكنا نحن الأربعة بتفاوت أعمارنا وتفاوت نزعاتنا كأبناء لأب واحد سوي كل منهم على خلق يميزه ... مصطفى بوقار الكهولة الزاحف إليه مع بواكير العقد الخامس، وحامد باتزان الشباب الزاحف إلى الرجولة مكبلا بأولاده الأربعة، وسيد بحرارة الشباب الباكر وآماله، وذلك المرح الذي تفيض به نفس شاب عاشق يوشك أن يحظى بليلاه، ثم أنا، في منتصف الطريق أتطلع إلى الرجولة، وأتمهل الشباب، وكان مقدرا لهذه الأسرة أن تظل في هنائها، لولا ما يصيب الأسر أحيانا!
وكان مصاب أسرتنا ذات يوم حين دخل الفراش يستدعي أحدنا لمقابلة الرئيس!
وتبادلنا النظر، وكاد كل واحد منا يهم عن كرسيه، لولا أن منصور كان قد سبقنا، فنهض متجها إلى الباب!
ومر نصف ساعة عاد إلينا بعدها واجما، وجلس إلى مكتبه دون أن يقول كلمة، وأخذ يقلب ما أمامه من أوراق، وكأنه لا يحس وجودنا، فأحسسنا أن شيئا قد وقع له، ولكننا لم نجرؤ على سؤاله، واكتفينا بمشاركته الوجوم!
وفي اليوم التالي قال لنا منصور إنه ارتكب خطأ تداركته المصلحة قبل أن يستحيل كارثة، وإن الرئيس دعاه ليناقشه الحساب، وإنه يتوقع بين لحظة وأخرى توقيع العقاب عليه!
وبعد أسبوع دخلنا المكتب، فقرأ علينا منصور - وهو يضحك - قرار نقله إلى أقصى الصعيد، ووقف علاوته عاما كاملا؛ لأنه أهمل إهمالا كاد يؤدي إلى ضياع بضع مئات من الجنيهات على الحكومة، ولولا طول مدة خدمته واستقامته طوال هذه المدة لكان العقاب أشد صرامة.
وقال منصور ونحن ذاهلون: أليس عجيبا أمر هذه الحكومة؟! أعمل بها ستة وثلاثين عاما في كل منها حسنات وحسنات، فتتمهل في إثابتي طول هذه الأعوام، وأخطئ مرة واحدة، فتعاقبني خلال أسبوع؟!
وما كان فينا من يجيب. كانت رءوسنا إذ ذاك تستعيد كل يوم قضاه بيننا منصور، وننتهي إلى ذلك اليوم القريب الذي سنقف فيه لتوديعه! ولن أنسى أبدا ذلك اليوم، لن أنسى وداع منصور الحار لكل منا، لن أنسى قبلته الجياشة التي طبعها على جبين سيد، أصغر أفراد أسرتنا، لا أدري لم لازمت خيالي تلك القبلة طوال اليوم، وارتبطت في نفسي بقبلة أمي الأخيرة، التي طبعتها على جبين أخي الأصغر ، وهي تودع الحياة! ومرت الأيام بعد فراقنا لمنصور وئيدة متباطئة، وانقضى الأسبوع الأول والثاني، وبدأ شبح رب الأسرة يبعد، وبدأت الأسرة تستحيل من جديد إلى زمالة عمل، وزال هذا السحر الذي كان يصور لنا حجرتنا كأنها منزل إخوة أربعة، وعدنا من جديد إلى المكاتب الخشبية، والأوراق الجافة الميتة، وأحاديث الأرقام والأعداد، رجعنا آلات في عجلة الحكومة.
وكنت منكبا على عملي، حين انتبهت على صوت سيد يصيح في استنكار: الله! مستحيل؟
ورفعت رأسي فرأيت سيد يقلب في حزمة أوراق، محملقا فيها ورقة ورقة وهو يردد: هذه الأوراق؟! إنه خطي أنا!
وقمت أنا وحامد، وسرنا نحو سيد لنرى ما حدث، فدفع إلينا بما في يده من أوراق قائلا: خذوا! اقرءوا! هذا مستحيل!
وأمسكت بالأوراق وأخذت أتأملها، كانت خاصة بمناقصة رست على أحد المقاولين، ومضى المقاول في عمله بضعة شهور، ثم توقف طالبا صرف جزء كبير من قيمة أجره، وقد طلبت إلينا المصلحة الحكومية المختصة أن نقرر ما نراه فيما أتمه المقاول من عمل، وهل يعادل ما يطلب من قيمة الأجر، لتنظر في طلبه على أساس هذا التقدير.
وقفزت عيني إلى نهاية الأوراق، فقرأت إقرارا بجواز صرف المبلغ الذي يطلبه المقاول، قد وقع عليه منصور بإمضاء واضح، فلما أمسكت بالورقة الأخيرة وجدتها خطابا من المصلحة المذكورة تنبهنا فيه إلى خطئنا، وتنبئنا أنها قد تداركته، وتطلب من الوزارة اتخاذ ما ترى نحو المتسبب في هذا الخطأ.
وبدا الأمر طبيعيا في نظري؛ هذا الخطأ هو الذي أطار من بيننا منصور، فما دخل سيد في الموضوع؟
وكأنما أدرك سيد حيرتي فقال منفعلا: لم تفهموا طبعا؟ أنا أشرح لكم، هذه الأوراق خرجت من عندي، أنا الذي راجعتها، وأنا الذي أخطأت، وهنا كل إمضائي المختصر ... مكان توقيع منصور الكامل هذا ... انظروا إذن على من وقع الجزاء ... عليه هو! كيف حدث ذلك؟!
ووقفنا ثلاثتنا حائرين، وقال حامد ذاهلا كأنه يحادث نفسه: وما العمل؟
وصاح سيد وهو يطوي الأوراق تحت إبطه: العمل؟! العمل أنه يكفي خطأ واحد، سأصحح ما حدث !
وتحرك نحو باب الحجرة، ولكنه لم يكد يخطو بقدمه حتى ارتفع صوت مصطفى - كان وحده الذي ظل جالسا على مكتبه: هون على نفسك يا سيد، إن المصلحة لم تخطئ في توقيع العقوبة.
وقال سيد مدهوشا: لم تخطئ؟ لقد جوزي منصور على خطأ وقع مني!
وأجاب مصطفى دون أن يتخلى عن هدوئه: فعلا، أنت الذي أخطأت، لكن منصور هو الذي أراد أن لا تعاقب عندما استدعاه الرئيس، وطلب منه أن يسألنا أينا المخطئ، قال إنه هو نفسه، واعتذر من عدم وضوح إمضائه، وأمضى فوق إمضائك المختصر باسمه كاملا واضحا.
وقال سيد والألفاظ تتعثر على شفتيه: لكن كيف ذلك؟ لماذا فعل ذلك؟
وأخرج مصطفى من أحد أدراج مكتبه خطابا فض ظرفه، ودفع به إلي.
إنه بخط منصور، الرسالة التي أحتفظ بها إلى اليوم، ولو أنها لم تكتب لي، إنها صورة الأستاذ منصور، المخلوق الخرافي النبيل في عصر الواقع الملوث!
وأخذت أقرأ السطور الأولى، إنها تحيات لمصطفى ولأسرته، ووصف لحياة منصور الجميلة في صيف أسوان، ثم أخيرا هذه السطور:
ولا تنس يا مصطفى واحدا دون أن تبلغ تحياتي الصادقة وأشواقي على الخصوص إلى ولدنا سيد ... أستحلفه بالله أنه إذا عرف ما حدث أن يفهم الموقف على حقيقته، صحيح أنه أخطأ خطأ جسيما، ولكن هل كانت الحكومة ستعرف عندما تفكر في عقابه أنه شاب في مقتبل الحياة، ويوشك أن يؤسس بيت الزوجية؟ لقد كان خطؤه كفيلا - في نظرها - بالقضاء على مستقبله، وهو موظف تحت الاختبار ... أي كارثة كانت ستحدث، وفي انتظاره عروس تبني عليه ويبني عليها الآمال؟ أما أنا، حصان الميري العجوز، فما يعدو الأمر بالنسبة لي أن يكون نقطة سوداء في مجلد حافل بالبياض، يعز على الحكومة أن تمزقه كله ... إن أسوان جميلة في عيني القانعة، وفي عيني زوجتي التي طوفت معي ثلاثين عاما؛ فهي لا تزيد على رحلة خلوية، كعشرات الرحلات التي قمنا بها في شتى بلاد القطر، إن أقل اعتراض أو إنكار من سيد سيضيف إلى عقوبتي عقوبة جديدة، عقوبة التزوير في أوراق رسمية، ودعه يقارن بين السجن وأسوان؛ أسوان الرخيصة الجميلة الهادئة، إنه أحسن مكان يستجم فيه أمثالي بعد طول التطواف!
ومضيت أقرأ دون أن أعي شيئا، ولكنني حين طويت الرسالة، كان سيد قد جلس متخاذلا على كتبه، وقد أغمض عينيه.
لعله كان مثلي، لقد كنت في تلك اللحظة أحاول أن أستعيد في خيالي صورة منصور بقسماته المعتدلة، وصوته الهادئ، واسمه المألوف ... ذلك الإنسان الزاهد في عالم التكالب والافتراس، وكأنه هارب من التاريخ المجيد!
وما كان أسهل علي من استعادة صورته، بعد ذلك اليوم!
بقية من دموع
عندما رآها لأول مرة، كان أمر حياته قد خرج من يده، كان قد مضى على زواجه شهران، نعم خلالهما بحياة هادئة مع زوجته الوديعة، فقد أغرقته هذه الزوجة في دفء حنانها، واستقرت حياته المضطربة القلقة، وأصبح يعرف أن هناك عالما غير الشارع والمقهى، عالما متسعا فيه آفاق أكثر رحابة من صدر المائدة الرخامية الحقيرة، حيث كان يقامر إلى ما بعد منتصف الليل، ولا تكاد الساعة ترسل دقتها الثانية حتى تلفظه هذه المائدة، تلفظه بعد أن تمتص آخر مليم في جيبه، وبعد أن تعتصر أعصابه ودماءه، فيغادرها كتلة من أعصاب متهتكة، وجسد متهالك خائر.
هذا العالم الجديد كان غير ذلك العالم الذي ألفه من قبل، كان يتلقاه لقاء آخر، حين يقبل المساء كان يجول به من غرفة المائدة حيث يغذي بطنه الجائع، إلى حجرة المكتب حيث يغذي روحه، ثم إلى غرفة النوم حيث ينعم بالرقاد اللذيذ بين ذراعين من الواقع الناعم البض، أحلى من كل بنات الأحلام.
وفي صبيحة يوم من أيام هذا الفردوس قالت له زوجته: أتعرف من سيزورنا اليوم؟
وصمت لحظة يفكر ويحزر، فقالت بعد أن يئست من جوابه: شقيقتي سهام، لقد جاءت هي وزوجها بالأمس ليقضيا الإجازة، وقد دعوتهما للغداء اليوم، لكنها ستحضر وحدها؛ لأن زوجها مدعو للغداء عند شقيقه.
وأجاب مبتهجا: أتعرفين أنها فرصة سعيدة؛ فلدي تذكرة دعوة هذا المساء للسينما لخمسة أشخاص، وقد كنت فكرت أن ندعو سامي وزوجته ، ما رأيك في أن ندعو سهام وزوجها؟ وعلى فكرة، إنني أعرف زوجها منذ الدراسة، وأذكر وجهه.
وأحس بها تلوي شفتيها قليلا، ويعلوها العبوس، فأدرك ما ترمي إليه، وذكر ما سمعه منذ أيام من والدتها أن سهام غير سعيدة في حياتها الزوجية؛ فزوجها مقامر عربيد، يصرف وقته وماله بين المقامرة والنساء، وهي تحتمل في مضض دون أن تشكو، حتى حين عرفت أمها كل شيء من إحدى جاراتها، ظلت سهام على صمتها، وعبثا حاولت الأم أن تظفر منها باعتراف، بل إنها تقنع بالإنكار، وأخذت كلما أثير أمامها سلوك زوجها، تحدثت عن سعادتها، ونفت كل ما يشاع عن زوجها، لكن لسانها وحده الذي يتحدث عن السعادة، بينما ينطق كل ما حواليها بما تعانيه من شقاء وتعاسة!
إنه لم يكن رأى سهام من قبل، لكن هذه الصورة التي رسمتها له أحاديث أمها وشقيقتها، صورة المرأة الصابرة الكتوم، كانت تبعث في نفسه الإشفاق والعطف عليها.
وعندما عاد من عمله ظهر ذلك اليوم، كانت امرأتان تنتظرانه، هبت الأولى للقائه بابتسامتها المألوفة، وتحركت الثانية على استحياء!
ومد يده ليصافح الثانية، والتقت عيناه بعينيها في نظرة عميقة، نظرة لا ينساها إلى اليوم، لم تثر هذه النظرة في ذهنه إذ ذاك شيئا، لقد كانت نظرة التعارف بين غريبين ربطتهما الأقدار برباط النسب، وجلسوا إلى المائدة، ورفع بصره أكثر من مرة إلى وجه سهام، ولشد ما أدهشه أن وجد نفسه كأنما يعرف هذا الوجه من زمن بعيد، وقبل أن يغادر المائدة داعبه خاطر سرعان ما طرده، إن وجه سهام يوشك أن يكون مألوفا لديه أكثر من وجه زوجته!
ومضى اليوم إلى نهايته، وكان كل شيء طبيعيا، جاء زوج سهام وشاركهما السهرة في السينما، وتحدث كثيرا وذكرا أيام الدراسة، إنه لا يدري لم أحس بكراهية هذا الشاب، وفاضت نفسه ضيقا بحديثه، وانتهت السهرة، وآوى إلى فراشه لينام، فخطرت له أول الأمر ذكريات اليوم، ومر وجه سهام بينها كما مر كل وجه رآه، وبدلا من أن يغلق النوم أجفانه بعد أن آب من رحلة الذكريات، وجد عينيه مفتحتين لا تريدان النوم، ووجد صورة سهام تعود وحدها لتحتل فراغ ذهنه.
وعبثا حاول أن يطرد هذه الصورة، ورمى ببصره إلى جواره، حيث ترقد زوجته، فراعه أن يتخيل مكان عينيها المغمضتين، عيني سهام تنظران إليه نظراتهما العميقة الهادئة.
وأجفل فزعا للفكرة المروعة، وشد بيده أطراف الغطاء ودفن وجهه في الظلام، وظل يكافح يقظته حتى انتصر ... وعندما أصبح الصباح بدا له ما حدث في المساء كأنه آثار حلم قديم، ولشد ما خابت ظنونه حين وجد نفسه، وقد تقدم النهار جالسا إلى مكتبه، وقد نحى أوراقه وترك عمله، واعتمد رأسه بإحدى يديه وأخذ ينفث سحائب الدخان، ويفكر في سهام.
وغالط نفسه، لكن عبثا كانت مغالطته أن النظرات العميقة ما زالت تنفذ إلى شغاف قلبه، وما يزال يراها في كل شيء. حتى في عيني زوجته، وهو يقبلها عندما آب عند الظهر إلى داره.
وعاش في هذا الجحيم أياما، رأى سهام خلالها أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت تجذبه عيناها، وكان يقاوم هذا الجذب حتى تخور قواه، فيستسلم صاغرا، وطالما تكررت مقاومته وتكرر استسلامه.
وسافرت سهام مع زوجها في نهاية العطلة، واستطاعت الأيام التالية أن تنسيه ذلك الحادث في حياته إلى حين لم يطل؛ فقد نقل زوج سهام إلى القاهرة.
وبدأ مع نفسه صراعا جديدا دام عدة شهور، لكنه سرعان ما تبين أنه مغلوب على أمره، وأن هاتين العينين قد وصلتا من قلبه إلى مكان لم تصله عين من قبل، وأنه من المستحيل عليه أن يمحو هذه العاطفة ...
ورأى سهام عشرات المرات، رآها مع زوجها ورآها وحدها حين كانت تشاركه وزوجته سهراتهما، وفي كل مرة كان يئوب بعاطفته الفائرة وعقله المضطرب، فيقضي الساعات معذبا بصراعها.
كانت عواطفه تأبى الخضوع لعقله القلق الذي كان يلح في إنكارها ولا يرضى عنها، كان يرى فيها جرحا لذلك الرباط المقدس الذي أحبه وارتاح له، وجاء عقله لعواطفه ذات يوم بحل ترضاه، وكان قد أعياه الصراع فلجأ إلى الحيلة. كان يعرف أن للزمن مفعولا ساحرا في العواطف، وكان كل ما يخشاه أن تتعجل عواطفه الأيام فتظهر ذات يوم؛ لذلك هادنها ودعاها إلى الهدوء والانزواء، وترك للزمن أن يعفي عليها، واستطاع ذات يوم أن يمضي بعاطفته وحياته الزوجية جنبا إلى جنب، وآوى حبه الجديد إلى هامش حياته قانعا بمكانه.
وألف هذا الوضع وارتاح إليه، كان لا يطيق أن تغيب عنه سهام يوما واحدا، وكان تحقيق أطماعه لا يكلفه أية مشقة، فلم يكن سؤاله عن سهام يثير أي شك عند زوجته، ولم تكن سهام نفسها ترى شيئا غير مألوف في ابتسامة الفرح التي يفتر عنها ثغره كلما أقبلت لزيارتهما، ولا من النظرة الفياضة بالحنان التي كانت ترسلها عيناه إليها كلما التقت عيناهما، وقضى عاما سعيدا كاملا لم تكن تشوبه إلا تلك اللحظات التي تجرف فيها عاطفته الحبيسة عقله أمامها، وتنحدر كالسيل عبر عينيه في نظرة عميقة، أو عبر يده في سلام حار، كانت تعذبه عندئذ الخشية أن تكون امرأته قد أدركت شيئا.
لكن امرأته لم تدرك شيئا بالمرة، ظلت ترى في عواطفه نحو سهام عطفا عليها هي، وفي مداعبته لها ترفيها عن شقيقتها التعسة يشكر عليه.
وخرج ذات يوم من مقهى كان يؤمه بين الحين والحين ليلقى أصدقاءه، وأراد أن يعبر الشارع، فدوى في أذنيه نفير سيارة يصم الآذان، فتوقف عن السير ليفسح لها الطريق، لكن جندي المرور أطلق صفارته، ولم تجد سائق السيارة سرعته ولا نفيره، فقد اضطر أن يقف، ووقف هو مترددا حتى حاذته السيارة، ومد بصره ليرى ذلك السائق المتسرع، فالتقت عيناه بوجه سهام! رأى سهام جالسة إلى جانب قائد السيارة، وقد التف ساعدها حول خصره، وقد فاجأتها الحوادث، فلم تستطع أن تسحب يدها.
إنه لا يدري ماذا فعل ولا أين ذهب، لا يدري إلا أنه عاد إلى داره تلك الليلة في منتصف الليل، وارتمى على فراشه خائر القوى، وجاهد يقظته حتى غلبه الرقاد، وحملته الأحلام في أودية من الرعب والفزع، كان يفزع منها إلى يقظة أشد هولا وفظاعة، وما يكاد يحس بيقظته حتى يهرب إلى النوم، فيغطي وجهه بيديه مبعدا شبح هذا الليل الكريه.
وأصبح الصباح، وقالت له زوجته، وهو يزدرد طعامه مستكرها: لا بد أن تذهب اليوم إلى الطبيب، إنك لم تنم أمس نوما هادئا، وها أنت لا تأكل بشهية!
وسادت فترة صمت، تحركت بعدها شفتاه في خفوت: أرأيت سهام أمس؟
وأجابت زوجته: أجل رأيتها عصر أمس، وكلمتني بالتليفون في المساء، وقالت لي إنها رأتك تعبر الشارع أمس، ولم تملك أن تحييك.
وقال وهو لا يحس ما في سؤاله من غيظ وثورة: من هذا الذي كان معها في السيارة؟ - إنه الدكتور زاهر صديقها وصديق زوجها.
وقال مستنكرا: لقد كانت معه وحدها.
وتجاهلت زوجته استنكاره قائلة: إن الدكتور زاهر صديقهما الحميم، وقد كان معهما في الصعيد، وهو الآن يقضي إجازته في مصر.
وسكت فترة لا يعلم مداها، وأخذ يفكر.
أيقول لزوجته ما رآه؟! أيقول لها إن ذراعها كانت ملتفة حول خصر صديق العائلة، أو يسكت فيترك للكارثة أن تبلغ مداها؟!
لكنه لم يطق السكوت، ولعله خر صريع عواطفه؛ فقد انفجر في حنق وتناثر الكلام على شفتيه: إن سهام تسير في طريق خطر، لقد رأيتها تخاصر صديق العائلة الذي تتحدثين عنه أمس، كيف يحدث ذلك و...
وانتهى من حديثه ليجابه فترة صمت ثقيلة، وليجابه عيني زوجته تنظران إليه في دهشة واستغراب!
وقالت زوجته أخيرا: لكن ما دخلك أنت، وما ذنبي أنا؟ إنك غاضب أكثر مما يجب، إنك لست زوجها، ولست مسئولا عنها!
وطرقت كلماتها الأخيرة أذنيه طرقا عنيفا أيقظ عقله.
إنه ليس زوجها حقا، وليس مسئولا عنها، لكنه مع ذلك يحبها!
أيجرؤ أن يقول لزوجته؟
أيجرؤ أن يقول إنه يغار عليها أكثر من زوجها؟
إنه لا يجرؤ على شيء من ذلك، وكل ما فعله أن ارتدى ملابسه مسرعا، وهبط الدرج مسرعا، وعندما سار وحده في الطريق أخذ يتأمل موقفه من جديد!
بدت له سهام بعينيها العميقتين، وصوتها الناعم الحزين، كأنما تستنجد من ألم دفين!
وبدت له صورة زوجها، ذلك العابث المستهتر، وهو يمعن في إيلامها بمجونه واستهتاره!
ومست قلبه نسمة إشفاق ورثاء لهذه الزوجة التعسة، التي صبرت حتى ضاق بها الصبر، وأحس أنه يوشك أن يغفر لسهام ما حدث، لكن سرعان ما ثارت به عواطفه، وبدت له صورة خيانتها من جديد؛ فقفزت إلى عينيه الدموع، وأحس بنفسه وهو يجفف قطراتها، فغلبه الحياء وأخذ يتجلد!
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم بعد الحادث بعشرة أيام، حين جلس يقص قصته على صديق يخلص له الود، قال لهذا الصديق وهو يختم حديثه: وها أنا يا صاحبي ما زلت حائرا ... إن أشد ما يؤلمني أنني لا أملك حتى حق الشكوى والصراخ، كلا، ولا أستطيع أن أبكي كما أشاء.
وأجابه صديقه وهو يبتسم مزدريا آلامه: الحقيقة أن سهام إن لم تفعل شيئا غير هذه الخيانة؛ لاستحقت منك التقدير!
ونظر إلى صاحبه مذهولا، وأوشك أن يفتح فمه، لولا أن استطرد هذا الصديق: ألا تكفي تعاسة أسرة واحدة؟ لقد كانت عاطفتك هذه كفيلة بإفساد حياتك الزوجية، لو لم تخن سهام هذا الحب الذي لا تدري هي عنه شيئا لدام هذا الحب، لو أنها ظلت الزوجة الوفية للزوج المستهتر؛ لنما حبك وترعرع تحت ستار العطف والحنان، لكن الآن ...
فقال مقاطعا: الآن ماذا؟ - لا شيء، ستبكي بضعة أيام، لكن دموعك لن تتساقط على خديك، إنها ستنزل في قلبك، فتعفي على هذا الحب، إنك في أشد الحاجة إلى هذه الدموع.
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم، ولا يزال يذكر أنه أحس فعلا بقطرات هذه الدموع، تنزل في قلبه فيبرد رويدا رويدا ...
عيون على الكرمل
- أي سلعة تعنين يا سيدتي؟ - السلعة التي أنفقت في سبيلها ما أنفقت، عشر ليرات ستعطيها إلي كما اتفقت مع ليون، وعشاء فخم، وأجر حجرة في هذا الفندق، ويعلم الله ماذا دفعت لليون نفسه من أجر، هل أنفقت ذلك لوجه الله؟ - لوجه الشيطان كما تعتقدين، لكن ما رأيك في أني غيرت رأيي؟ - ماذا تعني؟ أتريد نقودك؟ - بل أدفع فوقها مثلها! - لا أفهمك! - ألم يقل لك ليون؟ - بلى، قال لي ، قال إنك ستقضي معي ليلة، وتدفع لي عشر ليرات، وأجر الفندق، وأتعابه هو. - حسنا، هذه الليلة لي أن أنال فيها ما أشتهي. - دعني أضع هذا التحفظ، ما يشتهي رجل من امرأة! - إنك مسرفة في التشاؤم يا سيدتي، قد يشتهي الرجل غير ما تظنين، قد يشتهي حديثا ممتعا تشع عليه خلاله عينا امرأة، قد يشتهي مثلا أن يجلس كما نجلس نحن الآن في شرفة الفندق، يتأمل جبال الكرمل الشماء وقد تربعت في حجرها مباني المدينة هاربة من البحر، وقد سخا القمر بأشعته فغمر الكون، وألقى بقية من ضوئه على سطح الماء و... - ماذا؟! أتدفع بضعا وعشر ليرات لكي تقول شعرا؟ - بل أدفع نصف حياتي لكي أسمعه، وحياتي كله لمن تلهمني إياه. - يا مسكين! لقد أخطأت ضالتك، وسلكت غير السبيل. ... إنني أدعى «رفقة» عند العرب الذين لا يعرفون لغة إفرنجية، و«ربيكا» عند من يجيدون الرطان، وأتقاضى في الليلة عشر ليرات فلسطينية، أتقاضاها لأقضي ليلة في حجرة، لا في شرفة، دع جبال الكرمل في حالها إذن، وخل القمر كما يشاء، فسوف يعلم يوما مدى خطئه، تعال بنا إلى الداخل، فإنني أحس لسعة برد خفيف.
وهبت واقفة، فبدا قوامها الأشم في الثوب الأبيض كأنه عمود من الرخام، وسارت نحو الغرفة، فتبعتها وأغلقت الباب، وقالت وهي تنضو ثوبها بصوت لا حياء فيه: من مصر على ما أظن؟ - أجل! - اسمك؟ أوه لقد نسيته مع أن ليون ذكره لي. - لا بأس، لعله ضاع في زحمة الأسماء.
ولم تعن بملاحظتي، بل قالت وهي تسوي ثوبها فوق المشجب: إنني أعرف من مصر فلانا وفلانا وفلانا، لقد كانوا هنا في حيفا، فلان الضابط كان هنا منذ أسبوعين، إنه شاب لطيف وكريم، لقد دعاني لزيارة مصر، لكن للأسف، مصر لا ترحب بنا كثيرا - على ما يقولون - وليس لي أقارب هناك.
كانت قد أتمت مهمتها فقفزت إلى الفراش، وجلست مسندة رأسها إلى الوسادة، وكنت أنا واقفا في وسط الحجرة، جامدا، كالتمثال، أنظر إليها دون حركة، فقالت: ما لك تقف هكذا؟ ألن تبقى معي؟
وقلت وأنا أمضي نحو المرآة: لا أظن ذلك.
وهبت من الفراش فزعة، وقالت وهي تلبس حذاءها: ماذا تظن؟ إنك لن تسترد مني ملا واحدا، لقد رأيتني أكثر من مرة، ثم إنني سأقضي الليل هنا، وعليك أنت أن تذهب، إن الساعة الآن قد تعدت الواحدة، ولا أستطيع أن أعود إلى داري.
وقلت ببرود: اهدئي يا سيدتي، لك ما أخذت، ولك فوق ذلك طعام الإفطار لاثنين، لقد دفعته للفندق مقدما، وهاك علبة سجائر، تستطيعين أن تنفثي مع سحائب دخانها أنفاس الندم، إذا أحسست بخطئك معي!
وتحركت لأسير، وشارفت باب الحجرة، فصاحت مترفقة: اسمع، لدي اقتراح، إلى أين تذهب الآن؟ - إلى الناحية الأخرى من المدينة، حيث الفندق الذي أقيم فيه. - إن الوقت متأخر، ومن مصلحتي ألا أظل وحدي في الحجرة، هذا المقعد الطويل، ألا يصلح؟ - حسنا، سأبيت هنا على المقعد، إنه كرم منك يا سيدتي. - بل فن التجارة أن لا أغضب حتى من يرفض السلعة، رغم جودتها.
وضحكت، ضحكت ضحكة بدا فيها أنها تحاول طرد سحب الكدر التي ملأت نفسي، لم يكن هناك بد من أن أرد فقلت: إنني لم أرفض السلعة ولم أطلبها، طلبت صنفا آخر، لكن التاجر - سامحه الله - تاجر جشع، يختزن السلع الطيبة، يريد أن يثرى من الحرب، ألا يعاقبون هنا على إخفاء السلع؟
وقالت وهي تغالب نفسها: أما إنني أريد أن أثرى من الحرب، فهذا صحيح، لكنني أثرى من عرض السلعة التي أملكها لا من اختزانها، ماذا تظنني أختزن؟ - تختزنين كل شيء، وتعرضين شيئا سامحيني إذا قلت تافها، شيئا يزخر به شاطئ البحر كل مساء، كأنه الحشائش التي لفظها الماء، شيئا لا أطلبه وإن كنت دفعت ثمنه، أنا أطلب شيئا تختزنينه رأيته بعيني، لم أجد سبيلا إليه غير ما فعلت، لكنني للأسف مخطئ، ضللت الطريق كما قلت أنت أولا.
وقالت في حيرة: ولكنني لا أختزن شيئا، أتريد أن تجلس في الشرفة؟ أهذا كل ما تريد؟ - عندما رأيتك في مقعدك، وقد اتكأت بساعديك على المنضدة، وسجلت عيناك في الأفق، وقد لمع في إشعاعهما حزن غريب، أحسست أن هناك روحا، سألت ليون كبير الخدم عنك، فصدمني بأرقام التسعيرة التي يجب أن أدفعها لكي أحظى بك.
لكن بريق عينيك ألهاني عن تدبر الصدمة، قبلت المساومة لأعرف ذات العينين التي تجلس كل مساء سابحة في الأفق، ذات الروح التي هفت نفسي للقائها، أما «رفقة» «ربيكا» الغانية فلم أحسب لها حسابا!
كنت ألهث وأنا أتكلم، وأسمع صدى صوتي في أرجاء الحجرة يرتفع رويدا رويدا، أحسست أنني أمزق سكون الليل وحدي، وأنني قلت ما أريد، فسكت، وإن ظل لساني يزدحم بالكلمات، كنت قد نسيت أنها جالسة على حافة السرير فأدرت رأسي، كانت المرأة الجامدة قد زالت تماما، كانت ذات العينين السابحتين، تجلس على حافة السرير تبكي وتنشج في حزن وأسى، أسرعت نحوها ورفعت رأسها، أحسست بالراحة وأنا أتلقى قطرات دمعها على يدي، وأرضي أنانيتي أن تعود الروح إلى هذا الجسد ولو بسيل من الدموع.
وقلت وأنا أربت على خديها برفق: أرأيت أنك كنت تختزنين شيئا غاليا؟ - أكنت تريد دموعي؟ كنت تريدني أن أبكي؟ - بل كنت أريد أن تعود إليك الحياة، إنك يا صديقتي لست ذلك الثوب الأبيض والجسد اللدن، إنك روح وقلب، إن عينيك لا يحملهما تمثال لا روح فيه. - أنت واهم، إنني أعيش من ذلك التمثال، وله وحده. - وهذه الدموع؟ - قطرات ماء تخرج من صخرة! - لا أصدق ذلك، إن القلب ليستحيل صخرا إن خرج منه الحب، ألا تحبين؟
وتوقعت نظرة ساخرة، يعقبها تهكم مرير. توقعت إنكارا وإصرارا، لكن «ربيكا» كانت غير ذلك، كان غشاء الجمود والتحجر قد زال من عينيها وقلبها، أصبحت امرأة تحس وتذكر وتتألم، إني لا أزال أذكر عينيها، هاتان العينان اللتان طالما رأيتهما سابحتين في الأفق يشع منهما الحزن، العينان اللتان دفعتاني للتعرف عليها، غيرهما بالمرة هاتان العينان المحمومتان الملتهبتان، كأنما تحجرت الدموع أو بخرتها حرارة الأجفان، إني لأذكر أيضا هذا الحديث الدامي حين قصت علي «رفقة» قصتها، حين مضت تقص حياتها الأولى؛ البيت الهادئ الجميل في حيفا، صديقاتها فاطمة ومريم وآمنة، أصدقاءها الصغار أحمد وعامر ومنير، حين كان الجميع أسرة واحدة في بلد واحد، لقد أحبت أحمد في ذلك الحين، أحبته طفلا حين يكون الحب غذاء يمضي مع الدم، ويدخل إلى شغاف القلب، ولا يملك أداة إلا العين.
وأحبته يافعا تتعثر ألفاظ الحب على شفتيه، كما كانت تتعثر قدماها حين تراه قادما من بعيد، ثم مضت الأيام، ونما الحب، فأصبح كل الحياة. كان أهل أحمد أهلها، وكان أبوه لا يرى غضاضة في وجه رفقة، يطالعه في الصباح، يلتمس المعاذير من زيارة بناته، ويعلم في قرارة نفسه أنها تريد وجه أحمد، كان كل شيء جميلا نضيرا، حتى صخور الكرمل لم تكن قد صبغتها الكآبة بعد.
ومضت تسرد جمال الماضي، ومضى صوتها في سكون الليل كأنه همس حورية ناعم، كان جميلا حزينا كذكرياتها الجميلة الحزينة.
وفجأة سكتت كأنما انقطع حبل الذكريات.
وقلت وقد تفقدت أذني صوتها الهامس: وماذا بعد هذا الماضي الجميل؟ - حاضر تعس أعاصره منذ عشرة أعوام! - هل مات أحمد؟
ونهضت مرتاعة وصرخت: أيموت وأعيش؟ - إذن ماذا؟ - لم يمت أحمد وحده، وإنما ماتت الحياة كلها، مات العيش الجميل، في ليلة حالكة السواد أشفق منها القمر، وفي دارنا الجميلة، اجتمع ثلاثة رجال صنعوا نعشا لجمال الحياة!
وقلت مترددا: هل خطبك أحمد فرفض أبوك، أو رفض أبوه هذه الخطوبة؟ - لا شيء من هذا. - لا أكاد أفهم إلا أن عامل الدين قد حال بينكما؟
وقالت في غيظ: الدين؟! متى كان الدين حائلا بين قلبين؟!
وقلت وقد فرغ صبري: لقد تحدثت يا سيدتي عن جمال الماضي، فماذا حل حتى استحال هذا الماضي إلى ذكريات؟ ماذا فعل هؤلاء الرجال الثلاثة؟ ومن هم؟ - أحدهم كان أبي، والثاني سيد لا يعرف العربية، أوروبي أفاق ضاقت به أوروبا فوسعته فلسطين، فانتفخ حتى بدت له الأرض التي وسعته كلقمة، أما الثالث فقد عرفته بعد ذلك، لقد كان رسول الوباء. - أي وباء تعنين؟ - الوباء الذي التهم ماضينا، ألا تعرف ما حدث بعد ذلك؟! في صبيحة اليوم التالي أصبحنا غير عرب، أصبحنا صهيونيين! - أكاد لا أفهم أيضا. - أتعرف ماذا يفعل السحر؟ - يحيل التراب ذهبا. - ويحيل الملاك شيطانا، أليس كذلك؟ - في بعض الأحيان. - وهذا ما حدث؛ كنا نعيش بين أهلنا وذوينا، فانتزعنا بالروح وبقينا بالجسد، صرنا بشرا آخر، قيل لنا إننا جنس آخر! - وماذا فعل أحمد؟ - ما زال كما هو، بوجهه الجميل وقلبه النقي، أما أنا فقد كان علي أن أختار؛ هل أسكب في قلبي سحر الشيطان، أم أقتله، وأعيش للشيطان بجسدي فقط؟ وقد اخترت الثانية.
كان الفجر يرسل خيوطه لتنسج الضوء حول الكون، حين آبت رفقة من قصتها، وكأنما وجدت قطرات من الدمع في عينيها، فراحت تسكبها في قوة، ورحت أنا أتأمل ما سمعت.
قال دافيد خادم الفندق، وهو يفتح علينا الباب في الصباح بلهجة ناعمة: صباح جميل يا سيدي، مدموازيل ربيكا، يوجد شخص يطلبك بالتليفون.
وقالت ربيكا وهي تضحك في ألم: إنه ليون، قد استبطأ عمولته.
وسارت وفي عينيها دمعة مترقرقة.
لحن قصير
جذب بيده ستائر النافذة، فتوارى آخر شعاع للشمس الغاربة، ثم تحرك صوب الباب، لكنه لم يخط حتى رن في أذنيه صوت رفيع، ينساب في إعياء مناديا الممرضة: فاطمة، أشرب، أريد أن أشرب.
وأدار زر الكهرباء، فانبعث نور المصباح الهادئ في فضاء الغرفة، وبدا وجهها الذابل خلاله كأنه رأس تمثال من الشمع.
وسار نحو المنضدة، وحمل كوب الماء واقترب من فراشها، وفتحت عينها على صوته وهو يقدم الكوب، ويده وهي ترفع رأسها في رفق، فقالت في حنان: أنت دائما يا دكتور منير ... إنني أتعبك كثيرا، إني آسفة.
ولمست حافة الكوب شفتيها، ولمست يداها يده وهي تطبق على الكوب، ورشفت آخر قطرة من الماء، ومرت لحظة قبل أن ترفع يده بالكوب لتعيده إلى المنضدة، لحظة ظلت يداها خلالها تطبقان على يده، وتضغطان في حرارة، وأخيرا رفعت عينيها نحو وجهه، كانت عيناه تحدقان في بريق غريب، والتقى ذهوله بذهولها فأفاقا، فرفعت يداها ورفع الكوب.
وغادر الحجرة مرة أخرى في خطى متباطئة، وأغمضت عينيها واستسلمت لحلم طويل.
وجلس الدكتور منير بعد لحظات إلى مكتبه في المستشفى، يحاول أن يقرأ، وفتح كتابا، ولكنه أغلقه بعد قليل، وفتح غيره ثم أغلقه بعد لحظات.
وعبثا حاول أن يفعل شيئا غير التفكير في تلك الراقدة على قيد خطوات من حجرته، واستسلم آخر الأمر لأفكاره، فراح يستعرض ما حدث منذ أربعة شهور، حين دخلت كوثر المستشفى؛ لتعالج من مرضها الخطير، وحين نشط الطب ليعرف المرض، وحين تضاربت الآراء في تعليله وتشخيصه، ثم انتهى الطب إلى رأي، ثم نقضه، ثم تبين أخيرا أنه الداء - داء السرطان - يتسلل إلى القلب في خفة وثقة، مكتسحا ثدييها فصدرها هاصرا في طريقه، وفي غير رحمة عود شبابها، ناشرا الموت البطيء على صفحة وجهها في صورة شحوب يتزايد ويتراكم، ويتخطف ما بقي في وجنتيها من دماء، ويمتص ما على شفتيها من رواء، ويقف متربصا عند حافة عينيها لا يجرؤ على الدنو.
كل شيء تغير في كوثر إلا هاتين العينين، نال المرض من جهودها، فتداعى جسمها، وتخاذلت أعضاؤها، لكن عينيها ظلتا كما كانتا منذ اليوم الأول، يوم دخلت إلى المستشفى تخطر على قدميها في رشاقة ومرح، والتقت عيناهما، وأحس بجسده يرتعد، وأحس بعينيها تجفلان في سرعة، وتنظران إلى فضاء الحجرة.
وقدر عليه منذ ذلك اليوم أن يزورها مرة في الصباح ومرة في المساء، وأن تلتقي عيناهما في كل مرة، وأن تتكرر قصة اليوم الأول، فتجفل عيناها وتهرب عيناه.
ويتهاوى جسدها كالبناء، ويمضي كل يوم بجزء من نضارتها، وتمر الشهور ويتبين الداء، وتوشك الدموع أن تطفر من عينيه، حين يرى ميكروبه تحت المجهر، ويسمع اسمه بأذنيه من زميله الذي يعاونه في علاجها.
ويقضي ليلة لا تقل عن لياليها هولا وفظاعة، ليلة تحترق فيها مع عشرات السجائر قطرات من دمه، ويطالعه الصباح فيهرع إلى غرفتها، وفي هذه المرة يطيل إليها النظر، وفي هذه المرة لا تخشى عيناه أن تكتما داءه، فتكشفان عن دائه ودائها معا، وعبثا تحاول الألفاظ أن تتدخل، لقد تلقت عيناها نبأ غرامه ومصيرها جنبا إلى جنب، وقرأت سطور الحب كما قرأت سطور الفزع.
ويقترب ذات يوم من فراشها وهي نائمة، فيطيل التحديق في وجهها، ولا يرى وجه المريضة الفانية، وإنما ذلك الوجه الذي رآه أول مرة منذ شهور نضرا، تقطر الحياة والدماء من شفتيه.
ويقترب رأسه حتى يستشعر أنفاسها الدفيئة تهب على وجهه، ويوشك أن يلمس جبينها بشفتيه، ولكنه يرتد في اللحظة الأخيرة، ويسير في حذر نحو الباب، وتتمتم شفتاه وهو يخطو نحو غرفته: إنها زوجة.
إنها زوجة. ذلك ما خاطبه به عقل الطبيب كل يوم بعد ذلك اليوم، وذلك ما استكان له قلب الشاب العاشق في كل مرة، حتى كان أمس، حين اجتمع مع زميلين من زملائه حول فراشها، ودرسوا حالها في عناية، وانتهوا إلى رأي خطير!
إنها لن تعيش غير شهر واحد، على أكثر تقدير.
عندئذ تنبه قلب الشاب العاشق في حناياه على حقيقة مروعة؛ لقد خرجت من زمام زوجها إلى يد القدر، وهو لا يملك فيها شيئا بعد اليوم، إن الأيام القليلة الباقية ملكها وحدها، وليس لغيرها أن يشاركها فيها، هكذا حدثه قلب الشاب العاشق منذ الأمس!
وعبثا حاول عقل الطبيب أن يرده، وعندما دخل اليوم عند الغروب إلى حجرتها، كانت عيناها مقفلتين ومع ذلك فقد خيل إليه أنه يرى هاتين العينين، يراهما ويحس نداءهما الذي لم ينقطع طيلة أربعة شهور، وسار على أطراف قدميه حتى حاذى فراشها، ومال برأسه حتى أحس حرارة أنفاسها، ثم ... ثم راجعته نفسه، وتحرك نحو النافذة فجذب أستارها، وأراد أن يعود من حيث أتى، فسمع نداءها وسقاها.
وفشلت جهوده في أن يقرأ سطرا واحدا من كتاب، ودقت التاسعة، وسكت كل شيء في المستشفى، ونطق قلب الشاب العاشق في صدره بكلام رهيب.
وتحرك مرة أخرى تاركا حجرته وسار نحو حجرتها.
كانت الممرضة تهرول خارجة، وقد علاها الذهول، وجمد في مكانه مصعوقا، ورأته الممرضة فاتجهت نحوه، ولم ينتظر ليسمع ما تقول، بل صاح بها في فزع: ماذا حدث؟
وترددت الممرضة، وحاولت أن تتمالك نفسها، ثم قالت في اضطراب: لا شيء! إنها تهذي! منذ نصف ساعة بدأت تتكلم وهي نائمة، تكلمت عن زوجها أولا، ثم ... جعلت تشكرك على عنايتك، ثم تطرقت إلى الحديث عنك، سألتك أكثر من مرة لماذا تتركها وحيدة و...
إنه لم يع شيئا مما قالت بعد ذلك. كان يسير ببطء إلى باب غرفتها، وعندما فتح الباب، وصار أمام فراشها تلفت حوله.
كانت الممرضة قد غادرته عند الباب، وأصبح وحيدا أمامها، مد يده نحوها، وأمسك يدها بكلتا يديه، ومال ليلثم اليد الذابلة، واقتربت شفتاه فترامى إلى أذنيه همس ضعيف، فرفع رأسه إلى وجهها فتملكه الخجل!
كانت قد استيقظت ورأته يلثم يدها في حذر، فعلت شفتيها ابتسامة هادئة، وأشرق جبينها المضني.
وقالت في حنان: شكرا يا دكتور، إنني أعرف كل شيء، أعرف أنها أيام قلائل، ثم ... ثم أنتهي، لكنني سعيدة جدا.
وحاول أن يغير مجرى حديثها، فقال متكلفا الابتسام: إنك واهمة، لسوف تشفين قريبا، وتعودين إلى حياتك وبيتك، و...
ولكنها لم تدعه يتم كلامه، بل قالت في إشفاق: لقد سمعت كل شيء بالأمس، رأيت الدموع وهي تكاد تطفر من عينيك، لكن أيمكن؟ أيمكن؟!
وتداعى صوتها، وسبحت عيناها في سقف الحجرة، وسادهما الصمت لحظة، كانت يداه تطبقان على يدها وتضغطان في حرارة، وكانت يدها اليسرى قد امتدت، وأخذت تربت على يديه، وكان كل شيء يتحدث إلا لسانها ولسانه.
وأجفل مذعورا آخر الأمر، وسحب يديه مسرعا، وتمتم دون أن يعي: لكن ... لكن، ليس لي الحق، إنني آسف، لكن ... وتملكتها قوة خارقة، وغلبها سلطان لا يقاوم، كانت كأنما تهذي. - لكن ماذا؟ إن لي الحق، إنني حرة ولست لأحد، ثم ما ذنبي أنا؟ لقد قاومت ما استطعت، ثم ...
وعلا نحيبها، أحس بكل قطرة من دموعها جمرات من النار، تتساقط في فؤاده، لم يدر ماذا فعل إلا حين رأى شفاهه ترتعش، وهي تغادر جبينها الملتهب، كانت قبلته قد حملت إلى جبينها كل شيء، وعبثا حاول عقل الطبيب أن يسترد سلطانه، أحس أنه يريد أن يبكي، وتساقطت قطرات دمعه على يديها، ومرت دقائق قبل أن يستعيد جأشه، وعندما هدأت ثورة بكائه سار مثقل الخطوات دون أن ينظر وراءه، لو أنه نظر لكان رآها، رأى المريضة المتهالكة تبتسم في فرح، وقد ملأت عينيها الدموع!
ومرت الأيام سريعة متلاحقة، وعاش منير إلى جوار فراشها ساعات طويلة، كان يحدثها عن الشفاء العاجل، فتحدثه عن السعادة القصيرة، كان يقوي عزيمتها، فتسخر من الأمل ولا ترجو المستقبل.
وقال لها ذات يوم كان الموت يتحسس طريقه إلى قلبها متعجلا قلقا: ماذا؟ أتحسين شيئا الآن؟
وتحركت في ألم، وقالت وهي تبتسم في أسى: أحس أنني سعيدة، وأود لو مت هكذا!
وتضاحك في استخفاف قائلا: لكنك لن تموتي، لقد قلت لك سوف تشفين!
وضحكت في صوت مبحوح، وجرت الألفاظ جرا: أرجو ألا تصدق نبوءتك، إنني أريد الموت، أتعرف ماذا سأفقد لو شفيت؟ إنني سأفقد كل شيء، أفقد الحب الوحيد الذي ذقته في حياتي، إنني سأموت سعيدة، كل ما يحزنني أن موتي سوف يعكر عليك حياتك، لو أنك تحس إحساسي، لو أنك تفعل ما أفعله، إنني أعيش في الأغنية الحلوة القصيرة التي منحتنا إياها الأقدار، عش معي هذه الأيام، وانفض يدك بعد ذلك عن اللحن وصم أذنيك، إني لأتمنى ألا يطول ... ألا يطول، إنه جميل هكذا، كما نعيشه الآن!
وأطاع القدر هوى كوثر، فسكت اللحن ذات صباح، وآوى منير في المساء إلى غرفته، كان الظلام حالكا، وكان كل ما حواليه يشعر بالوحشة، ولكنه لم يفكر في إنارة المصباح، بل تداعى على مقعده حائرا، وأنصتت أذناه.
كان يريد أن يعيش لحظات مع أصداء لحن حبه القصير.
الأستاذ بغبغان
- تأمل يا محمود ريشه الأحمر ورقبته الزرقاء، هذا الخليط من الألوان الزاهية، يا له من منظر جميل!
وأدار رأسه نحو محمود، فوجده منصرفا عن حديثه، لا ينظر نحو الببغاء، إنما نحو رجل طويل القامة ممتلئ الجسم، يرتدي يا للعجب! نفس الألوان؛ طربوش أحمر فاتح الاحمرار، جاكتة خضراء زاهية اللون، كأنما شرب كل ما في أوراق الشجر قبيل الربيع من خضرة، وحذاء رماديا يلتمع كالفضة، ورباط رقبة قد احتشدت على بساط زرقته مجموعة من الألوان تتنافس في الظهور.
ولم يكن هذا كل شيء؛ كانت هناك عصا قصيرة صفراء، وكانت هناك أيضا عروتا السترة، قد حليت كل منهما بشارة مستديرة، قد رسم عليها بالألوان صورة لرجل، على ما أذكر كانت إحداهما لسعد زغلول، والأخرى لمصطفى كمال «عفريت اليونان» كما كتب تحت الصورة إذ ذاك، ولم يكن هذا كل شيء أيضا؛ كانت مجموعة المناديل المتدلية من جيب سترته، كأنها أعلام تزين حانوت بقال، تخطف بألوانها الأبصار.
وأحس محمود بعين شقيقه تتأمله، فرفع رأسه الصغير نحوه في سذاجة وقال: أكنت تحدثني يا أخي؟
وأجاب الأخ قبل أن يفيق من دهشته لما رأى: طبعا كنت أحدثك، لكن عن هذه الببغاء المتعلقة بأسلاك القفص.
وأجاب ببراءة: وهذا يا أخي ما هو؟
وضحك الأخ الكبير، ولكن ما لبث أن تملكته الحيرة إزاء سؤال الصغير الساذج: هو إنسان، ببغاء من نوع آخر.
وقال محمود، وهو يضحك بكل ما وسعت طفولته من صفاء: إنه كالببغاء إنه كالبب... وغلبه الضحك السعيد، وضاعت بقية الحروف في ثنايا الحنجرة المنتشية.
وسارا في حديقة الحيوان من جديد يستأنفان جولتهما، ورأى محمود في هذه الجولة كل الطيور، وكل الزواحف وكل الحيوانات، وأحس قلبه الرعدة لصوت الأسد، وطفق يستمع إلى قصص أخيه الضابط عن الأسود التي رآها في السودان، وكان يمتلئ زهوا كلما قص عليه أخوه مغامرة من مغامراته التي صاد فيها الأسود، وعاد من رحلته آخر اليوم بنفس عامرة بالأحاسيس، وصحا في الليل مرات على زئير الأسد ودمدمة رصاص أخيه، وهو يحصد أرواح الأسود كأنه يقطف ثمار شجرة مكتظة بالثمار، ومرت الأعوام وكبر محمود وصار طالبا بالجامعة.
وتعود أن يذهب مع أصدقائه كل أسبوع إلى حديقة الحيوان، يجولون فيها حتى يغلبهم التعب، فيأوون إلى جزيرة الشاي ليريحوا أجسادهم، ويقطعون الوقت حتى موعد الغداء في تسلية بريئة؛ يلقون قطع الخبز الصغيرة للطيور السابحة على سطح البحيرة، ويلقون نظرات للعيون السابحة خلف الموائد، كانت هذه العيون تتجمع حول فتات النظرات العابرة كما يتجمع البط على فتات الخبز، وتبدأ معركة الكسب لحظة ثم تنتهي حين تظفر بطة وحدها بالفتات، وحين تظفر عين وحدها بالنظرة العابرة، وعندما تحين الظهيرة الراكدة كان البط يأوي إلى الصخور قانعا بما كسب من فتات، وتأوي العيون إلى الأجفان قانعة بما نالت من نظرات، وتبدأ فترة خمول، كان محمود ورفاقه يتغلبون عليها بالتجول مرة ثانية في جنبات الحديقة، وينتهي المطاف عند الباب قريبا من أقفاص الببغاوات، هناك كانت تطول وقفتهم، يتأملون الألوان الزاهية كيف تجمعت على جسد واحد، وفي كل مرة كان محمود يذكر أول مرة رأى فيها الببغاء، ورأى الرجل الزاهي الألوان كالببغاء، يذكر جملة أخيه: إنه ببغاء من نوع آخر.
وخرج محمود إلى الحياة بعد سنوات، وعمل موظفا بإحدى الوزارات، وجلس في حجرة مع أحمد أفندي، أشهر شخصية في موظفي الوزارة.
ودهش محمود أول يوم دخل فيه إلى حجرة عمله، حين قال له زملاؤه الجدد كأنهم على ميعاد: ألم تتعرف بأحمد أفندي؟
وكان عهده بهذا الاسم منذ نصف ساعة، حين قال له مدير المستخدمين، وهو يشرح له عمله، وينبئه بالمكان الذي اختير له: إنك سعيد يا بني؛ لأنك ستشتغل في قلم المراجعة، فرئيسك أو على الأصح أكبر زملائك سنا ومرتبا هو الرجل الصالح أحمد أفندي.
لذلك أجاب زملاءه من غير دهشة: لم يحصل لي الشرف بعد، أرجو أن أتعرف إليه قريبا، إنه ليس هنا على ما أظن؟
وأجاب زملاؤه في صوت واحد: إنه في الحج، عقبال عندك.
وأخذت تتوالى على أسماعه أنباء أحمد أفندي: تقواه، صلاحه، زهده، شفقته، طاعته للرؤساء، تواضعه مع الجميع ... كان ينقص صورة أحمد أفندي التي ارتسمت في ذهنه جناحين فقط لكي يصبح ملاكا من الملائكة.
وعاد أحمد أفندي من الحج، بعد أيام، يحمل لكل زملائه الهدايا، مسابح من الكهرمان، خواتم من الفضة، قطعا من أستار الكعبة الطاهرة، مصاحف مموهة بماء الذهب ... وخرجت الوزارة كلها ذلك اليوم تحمل هدايا أحمد أفندي، الرجل الصالح، هداياه المباركة الطاهرة.
وخرج محمود وحده ذلك اليوم وفي صدره نزاع خفي بين قلبه وعقله، بين إحساس عينه وإحساس أذنه، شعر قلبه بالكراهية نحو أحمد أفندي، فاحتج عقله في حماس وقال له: أنت ذو شعور كاذب تكفر بما تراه من تقوى وورع، ألا ترى زبيبة الصلاة في جبين الرجل، والنور الذي ينبجس من عينيه، والآيات التي يستعيذ بها، ويرسلها في كل حين، تخونك هذه المسبحة التي نفحك إياها، رغم أنه لم يعرفك إلا اليوم، ومضت أذنه تردد - عن غير قصد - كل ما وعته من أقاصيص أحمد أفندي؛ أقاصيص تفوح منها المكارم كرائحة العنبر والمسك، ولكن قلبه وعينه ظلا جامحين بعيدين عن مظاهرة الإعجاب بالرجل المعبود. عينه لم ترتح لهذا الرجل من أول نظرة، وفي النظرة الثانية تأكد إحساسها، وأيقنت أنها لن ترتاح إليه أبدا، وقلبه أحس بالكره لكل شيء فيه، حديثه المملوء تقوى وورعا كان ينتقل على صفحات هذا القلب كأنه أقدام شيطان تطأ عقول البله والمعتوهين، آيات القرآن التي يرتلها من حين إلى حين، كان يترجمها قلبه إلى أحرف لا حرارة فيها ولا روح، جافة ينقصها الوعي بها، ذلك الوعي الذي يجعلنا نحس الألفاظ ونعرفها، كانت الكلمات تخرج من فيه كأنها صوت عملة زائفة، يرن في أذن واعية، تعرف الغث من السمين.
وأتاح الشك في أحمد أفندي وعدم الإيمان به لمحمود أن يرقب عن كثب حركاته وتصرفاته، كما يرقب المارد حركات قزم يبذل جهده لكي يبدو عملاقا، فحين كان ينهض أحمد أفندي فزعا عند الظهر ليؤدي واجب الصلاة وهو يحوقل ويتمتم، فيتحسر زملاؤه على قلة نصيبهم من التقوى وتكاسلهم عن أداء الفرض، كان محمود يقول لنفسه: مظاهرة سخيفة، كان يستطيع بدل هذه الضجة أن ينتظر حتى يئوب لمنزله، فيؤدي واجبه بينه وبين الله، بعيدا عن الناس.
ونما الشك والكره حتى أصبح بغضا ثقيلا، دون أن يملك محمود إزاء ذلك شيئا، وبدأ محمود يحس أن الرجل ينظر إليه بحذر، ويكف عن رواية أقاصيص تقواه كلما كان محمود في الحجرة، بل بدأ يحس أن الرجل يتخاذل كلما التقت عيونهما، حتى لتكاد عيناه تقولان له: أتوسل إليك لا تفضحني، إنك تعرف كل شيء!
وجاءت سنوات الحرب الطاحنة، وغادر محمود وأسرته الضاحية الجميلة إلى المدينة فرارا من أزمة المواصلات، واختارت الأسرة شقة في حي من الأحياء الوطنية، وتعود محمود أن يقضي سهراته في المنزل هربا من الظلام، وآوى ذات ليلة إلى فراشه في التاسعة، وجلست أمه على حافة السرير، تقص عليه من أنباء الحي الجديد ما علمته خلال الأيام القلائل التي مضت عليهم منذ سكنوه ...
وقالت وهي تشير إلى نافذة الجيران: ويقطن هنا رجل يقصون عنه قصصا غريبة؛ فهو متزوج من أربع نساء، إحداهن أصغر من ابنته الكبرى، دفع لها مهرا ضخما جمعه من بيع مصوغات زوجاته الثلاث اللائي ينلن قسوته ووحشيته، مسكينة زوجته الأولى، لقد زارتني أول يوم لتهنئني بالمسكن الجديد، لقد أوشك بصرها أن يكف من كثرة البكاء، ومن المدهش أنه ذهب إلى الحج هذا العام، وقد حلفت لي زوجته أنها حلمت ليلة سفره أن الكعبة قد انهارت فوق رأسه، وأنها ذهبت في اليوم التالي لقريب لها من العلماء، وقصت عليه حلمها فقال لها: إن زوجها لن يقبل منه الحج.
وقال محمود لها وهو يضحك: أف للنساء! كل هذا؛ لأنه تزوج غيرها!
وأجابت أمه: وأنت؟ أتظن أن الله يقبل حج مثل هذا الرجل المرابي؟ - مراب؟ - أجل، لقد قالت لي المسكينة إن زوجها يقرض صغار الفلاحين في بلده بفائدة فاحشة، ويرتهن أراضيهم، ويستولي عليها بحيل شيطانية، وأنه ما من فلاح في بلده إلا وقد وقع في حبائله، ولا هم له إلا الزواج والطلاق! ولولا أن لهذه المسكينة منه ثلاث بنات لطلقها، كما طلق لاحقتيها.
ومضت الأم تقص حديث الجيران، حتى تأخر الليل، فنهضت إلى فراشها.
ومر يومان، وكان محمود يغادر باب منزله، حين دوى في أذنيه صوت يكرهه؛ كان صوت أحمد أفندي يناديه.
وأدار رأسه فوجده يغادر عتبة الباب المقابل لمنزله.
وقال أحمد أفندي، وقد تهدج صوته من الورع: أتسكن هنا يا ابني؟
وأجاب محمود ذاهلا: أجل، منذ أيام! - أنتم إذن الذين زارتكم زوجتي؟ - أظن ذلك، حضرتكم تقطنون؟ - أمامكم في هذه الشقة.
وسارا معا في الطريق، كان محمود غارقا في أفكاره، كان ذهنه يمضي بعيدا إلى حديقة الحيوان، الطائر الزاهي الألوان، والرجل الزاهي الألوان، لقد قال أخوه عن هذا الرجل: إنه ببغاء من نوع آخر، إنه كان زاهيا تصطرع على ثيابه الألوان حقا، لكن من الداخل ماذا كان هناك يا ترى؟
وعاد إلى أحمد أفندي، عاد إلى الرجل الزاهي، الذي يعرفه الجميع ويتحدث عنه الجميع، عادت إلى ذهنه صورة زبيبة الصلاة، الفزعة الرهيبة لدعاء الصلاة ساعة الظهر، المسابح الكهرمان، الحج، ثم هذه الآيات التي تنشرها شفتاه في كل مناسبة، لقد كان عقله كاذبا وكان قلبه صادقا، لقد كان أحمد أفندي ببغاء من نوع آخر.
سقطت على الصخور
- تعالي معي، لا تخافي، إنني أعرف أماكن الصخور، وهذه المنطقة ملأى بها، إن قدمي ستحملاننا سويا، سأحملك بين يدي حتى نعبر تلك المنطقة الوعرة، وإذ ذاك ينطلق البحر أمامنا هادئا ضحلا ناعما كبساط من الحرير، تعالي، مم تخجلين؟ ألسنا صديقين، وأخوين، و...؟
ودل احمرار وجهها على أنها فهمت، فهمت بغير عقلها ما قاله بغير لسانه، لكنها مع ذلك لم تقتنع، لقد مدت يدها، يدها فقط، وآثرت أن تمضي على الصخور بقدميها، وأحست وهما يخوضان الماء بدفء يده، فرفعت رأسها لترى وجهه، فلحظت وجومه، فقالت وهي تتضاحك: أكنت تريد أن تحملني بين يديك، ماذا يقول الناس؟ - ماذا يقولون؟ عاشق يحمل هواه! - وهذا ما لا أريده الآن، ثم من أدراني؟ ربما تعب ساعداك، تخيلني وقد سقطت من بين يديك على الصخور! - وما فائدة ساعدي إذا عجزا عن حملك؟ ثم ماذا يضيرك إن قال الناس إننا عاشقان؟ - لا شيء يضيرني! لكن، هذه الكلمة، عاشقين!
إنها شريفة على الورق فقط، إن صورتها في أذهان الناس غير ذلك، إن أذهانهم لا تفهم وضعا شريفا لرجل وامرأة غير متزوجين.
ولم تلحظ وجومه هذه المرة، ولا صمته، كانا قد عبرا منطقة الصخور، وأحست تحت قدميها الرمل الناعم، فسحبت يدها في خفة، ومضت تركض في الماء.
وأصبحا بعيدين عن الشاطئ، وتلفت فلم ير غيره وغيرها، فاقترب منها وقال وهو يمسك بيديها: أحبك يا فاطمة!
وغمر وجهها الاحمرار وهي تجيبه: إني سعيدة بهذا الحب. - ألا تقولين إنك تحبينني؟ - ألا تصدق غير لساني؟ - أصدق كل شيء تقولينه، وأثق بك، وأحبك.
ومضى الوقت سريعا، مضى لقاء البحر، ومضى اليوم، ومضى أسبوع المصيف؛ ذلك الأسبوع الذي انتزعته انتزاعا من أسلوب حياتها المرير المعتم، إنها وحدها تعلم كم تكلفت في سبيل ذلك من عناء، لقد حرمت أمها المصيف منذ توفي أبوها، وأخذتها وأخاها بأسلوب صارم من الحياة الجادة، منذ توفي أبوهما أصبحا في نظرها كما كانت هي في نظره، جنديا عليه الطاعة والعمل، وله الطعام واللباس، كانت فاطمة في الثالثة عشرة، وكان أخوها في الخامسة عشرة، فلم يدركا أول الأمر سر تلك المعاملة الجادة، لكن عندما التحق أخوها بكلية الهندسة، ونالت هي شهادة البكالوريا، بدت لهما الحقيقة واضحة، إن أمهما لم تقتر حبا في التقتير، ولم تقس عن طبع قاس، لقد كانت تدرك أن معاش زوجها سوف يتناقص عندما يبلغ ابنها سن الرشد، وأن عليها أن تنشئهما قبل أن تقاسمها الدولة جنيهات هذا المعاش، إنهما أدركا الحقيقة في الوقت المناسب، فلم يتوان أخوها أو يتكاسل، ولم تهمل هي أو تقصر، حتى حين تعرفت بسيد في كلية الطب وأحبته، كانت تدرك أن عليها واجبا قبل الحب، يجب أن تتم دراستها لتملأ هي وأخوها ما خلف أبوها من فراغ في حياة أمها، ولقد أدت واجبها إلى اليوم، واحتفظت بحبها أيضا، ذلك هو العام الثالث منذ عرفت سيد، لقد تمنى عليها أن تقضي أياما بالإسكندرية، فلبت ما طلب، وحلت ضيفا على خالتها، ضيفا لمدة أسبوع، نعمت خلاله بأوقات سعيدة على شاطئ البحر وفي رفقة سيد، ثم عادت بعد ذلك إلى القاهرة لتواجه حملة عنيفة تشنها الأسرة عليها، ولكأنه اجتماع مدبر؛ عمها وزوجته وابنتاه، وعمتها وزوجها.
كل هؤلاء قد جاءوا، لا ليمدوا العون للأم المجاهدة التي تفعل ما يفعله الأب والأم معا، ولا ليبذلوا التشجيع للفتى المجد الناجح وللفتاة التي لم ترسب عاما واحدا.
إن الأسرة لم تجتمع لشيء من هذا، جاءت كلها لتصب اللوم على الأم التي تطلق لابنتها العنان، وتدعها تذهب إلى الإسكندرية لتقابل الشبان وتغازلهم، وتسهر الليالي معهم، وتزكم سمعتها الأنوف.
تلك هي ترجمة لقاء العاشقين، وسير ساعة الغروب في قاموس الحقد والحسد!
إن العم بولديه الفاشلين اللذين انقطعا عن التعليم، والعمة بولدها الذي يرسب منذ أعوام في الكفاءة، لا يرضيهما أن تسير ابنة أخيهما هذا السير المعوج، وقد جاءا يطلبان من الأم أن تلزم ابنتها جدران المنزل، وتقذف بالسنوات الأربع التي قضتها في كلية الطب من النافذة!
ويثور الأخ الساذج، ويطلب من شقيقته تفسيرا، وتثور الأم المجروحة، وتطلب من ابنتها أن تدافع عن نفسها.
وتضيق المسالك في وجه فاطمة.
هل تحدثهم بكل شيء؟!
هل تقول لهم إنها تعرف سيد منذ أربعة أعوام، وإنها تحبه وهو يحبها، وإن علاقتهما لم تتعد النزهة البريئة والتعاون في الدراسة والأمل في المستقبل؟
إنهم لن يفهموا شيئا من ذلك، لن يفهموا الحب، ولن يفهموا نجوى الغروب، ونسج عش المستقبل من الأماني والأحلام.
إنهم يفهمون شيئا واحدا، أنها وسيد خطيبان، وسيتزوجان حين تتم دراستها، وسيد ليس بالشاب العاطل، إنه وشيك التخرج، ويملك ثروة وحسبا يؤهلانه لأن يكون زوجا تطمع فيه الفتيات.
وقالت ذلك.
قالته وأسكتتهم جميعا، أسكتت الأسرة والأم والأخ الذي يعرف سيد، ويعرف أنه شاب كفء مهذب.
ولكنها لم تستطع أن تسكت عقلها، إنه يسألها: هل خطبها سيد حقا؟ وهل تعاهدا على الزواج؟
إن ذلك لم يحدث إلى اليوم، إنهما لم يطرقا مرة واحدة موضوع الزواج، بل إنها لم تنفرد به قبل ذلك الصيف مرة واحدة، حين صارحها أكثر من مرة أنه يحبها.
وتسكت عقلها أخيرا بوعد على الخطبة، وحين يعود سيد من الإسكندرية تتم الخطبة فعلا، وتسكت الأسرة سكوتا تاما. •••
كل شيء قد يمضي طبيعيا بعد ذلك، يتخرج الأخ في كلية الهندسة ويعين مهندسا، ثم تتخرج فاطمة في كلية الطب وتتنفس الأم الصعداء، وتحس بما يحس به الجندي وقد أدى خدمته، وتحرر من قيد الواجب، حدث ذلك بالفعل، وضم البيت ذات يوم الأم وفاطمة بعد أن رحل الأخ إلى الصعيد ليباشر عمله، وقالت الأم ذات يوم وهي تعني ما تقول: ماذا ينتظر سيد ليتزوجك؟
وأجابت فاطمة وهي تلمح وراء كل كلمة من كلمات أمها أشباح أفراد الأسرة - أسرة أبيها المتحفزة: لا شيء بالطبع، وسأحدثه.
وانتوت أن تحدثه فعلا، وحددت لذلك يوما قريبا سوف تلقاه فيه على موعد، وذهب إلى صديقة لها تزورها، فوجدت سيارة سيد تقف أمام باب عمارة أنيقة، فراق لها أن تفاجئه، وظلت تذرع الشارع ذهابا وإيابا، ولكن فوجئت هي! فوجئت بسيد يخرج متأبطا ذراع فتاة، ولم تع شيئا مما حولها، إلا أنها سارت إلى بيت صديقتها وألقت بنفسها بين ذراعيها وجعلت تنتحب.
وقالت صديقتها تخفف عنها: كلهم يفعلون ما يفعله سيد، ما دمنا نحبهم كما تحبين سيد. إنهم لا يخلصون لنا إلا حين يرون في أعيننا الغدر، أنت غلطانة؛ لأنك جعلته يثق أنه كل شيء في حياتك، إنك لم تفقديه بعد، ولكنك ستفقدينه إن لم تجعليه يفهم أنه ليس وحده الذي يطرق أبواب قلبك.
وكفكفت فاطمة عبراتها بعد حين، وآمنت بدرس صديقتها، وكان موعدها مع سيد يوم الخميس، فخرجت يوم الأربعاء مع زميل له، ولم ترفض دعوته لتوصيلها بسيارته، ولم ترفض بعد ذلك دعوته الخجلة إلى نزهة قصيرة، ولم ترفض بعد ذلك دعوته لها إلى نزهة أخرى مساء السبت، ولم تتعجل ثمرة الدرس، ولكن الأيام تعجلت عمر غرامها؛ فقد شاءت الظروف أن تحتجز سيد يوم الخميس لعلاج مريض، فيعتذر لها بالتليفون فتقبل اعتذاره، في غير اكتراث، استجابة لدرس الصديقة.
ويأتي يوم السبت، وتخرج مع زميلها، وتمضي بالسيارة في طريق الأهرام، وتقف في مكان هادئ، وتلتف ذراع الزميل حول خصرها، فتمد يدها في رقة تحرك ذراعه بعيدا، وتلتقي عيناها بعيني سيد يرمقها في غضب واحتقار، وقد أوشك أن يفلت من يده زمام سيارته، نظرة غضب واحتقار لن تنساها أبدا.
كان من الطبيعي أن يلقاها سيد بعد ذلك، وأن يعاتبها أو يتشاجرا، وكان من الطبيعي أن تبرئ نفسها لديه، فيؤمن ببراءتها ويصفو هواهما من جديد، أو لا يؤمن فيفترقا على خصام، ولكن سيد لم يلقها ولم يعاتبها، وإنما لقيها نبأ زواجه بعد ذلك بيومين، سمعته يتردد على الألسن، ورأت العيون ترنو إليها في رثاء وعطف.
وجرؤت صديقة لها فجاءت تسألها: كيف تزوج سيد؟ ألم تكونا مخطوبين؟ هل فسخت أنت الخطبة؟
وأجابت دون وعي: نعم!
ودارت الألسن تردد الحديث من جديد، دون أن ترنو العيون إليها في عطف ورثاء، بل لعل بعضها كان يخالسها النظر الشرز كأنها امرأة غادرة، وسمعت بأذنيها همسا يردد علاقتها مع زميلها ويصف هواهما، وهي التي لم تره بعد ذلك اليوم ولم تدعه ذلك اليوم يطوق خصرها، بأنه حب جارف عميق، جرف في طريقه عهدها وخطبتها، ألم تقل لمن سألوها إنها هي التي فسخت خطبتها؟
وكانت شجاعتها تعاونها بالنهار، وتتخلى عنها في الليل حين تأوي إلى المنزل وترى أمها، وتسمع في حديثها نبرة الأسى والحزن، وتلمح في عينيها العتاب الحنون الذي لا يبلغ مبلغ الغضب، كانت أمها قد عرفت كل شيء منها، وكانت تسألها دائما وكأنها لا تصدق: لكن كيف تزوج بهذه السرعة دون أن يسألك عن تصرفك معه؟ أينتقم منك بأن يتزوج في يوم وليلة؟
ولم تكن تجيب على هذا السؤال؛ لأنها كانت كأمها تسأله دائما، تسأله نفسها، وتسأله الظروف، وتحاول أن تفهم فلا تستطيع.
وجاء اليوم لتفهم كل شيء، جاء بعد ستة أعوام، حين وجدت نفسها وجها لوجه أمام سيد في عربة قطار، حاولت أن تخفي اضطرابها ففشلت، حاولت أن تتجاهله ففشلت، وتكلم هو فحياها، وسألها عن أخيها وعن أمها وعن ... وعن حبيبها الموهوم، سألها: هل تزوجتما؟
وأجابت: لم يكن بيننا حب، ولا عهد زواج.
وصمت لحظة ثم قال: ظننت أن الحب وعهد الزواج ليسا هما الدافع للزواج.
وأحست ما في جملته من سخرية، فقالت متجلدة: إنني لم ألقه إلا ذلك اليوم، ولم ألقه بعد ذلك اليوم. لقد فعلت أنت ما لم أفعله أنا ؛ تزوجت في ليلة واحدة غير التي عاهدتها أعواما، إنني لم أفعل ما فعلته إلا لأثير غيرتك بعد أن رأيتك.
ومضت تقص في سيل من الدموع ما حدث، وأفاقت وقد تغير الوضع، فلم تعد مذنبة تعترف، كان هو الذي يعترف مستغفرا، كان يقص عليها كيف عانى في سبيل خطبتها من تعنيف أسرته، كيف ثاروا عليه وكيف احتمل، كيف وضعوا في طريقه قريبة غنية ليتزوجها، وكيف قاوم رغبتهم، وظل يقاوم حتى رآها بعينيه مع زميل لهما، فجن جنوه وذهب من فوره إلى أمه، يطلب إليها أن تزوجه بقريبتها، إن أمه لم تدع الفرصة وقد أحست أنه غاضب، وخشيت أن يزول غضبه فسارعت إلى تزويجه، إنه لم يدر ما فعل إلا بعد أن ضمه وزوجته سقف حجرة واحدة، أدرك إذ ذاك أنه أخطأ في حق نفسه، نفسه التي لم تصب ولم تحب غير فاطمة. •••
إن فاطمة لم تتزوج بعد ذلك، ظلت ثلاثة أعوام تعيش وحيدة، من العبث أن يقال إنها كانت تحس بأنها تحيا وسط أسرة مكونة من أمها وشقيقها وزوجته وطفله، لقد كانت وحيدة، وحيدة لا يعرف أحد عنها شيئا، حتى حين لفظت أنفاسها في الذكرى التاسعة لحطام هواها، وقف الطب حائرا لا يدري عن تسممها شيئا، هل هو نتيجة جرح أصابها وهي تعمل؟ أم هو جرح قديم؟ قديم ... من عمر هواها!
Bog aan la aqoon