ومع جميع ذلك، فاجتهد ألا يقرع آذانك من الأصوات إلا أحسنها، وألذها لسماعك، وما وافق نفسك من الأقاويل والألحان! فإن فى ذلك تعديلا الأخلاق. فأما ما خرج عن الاعتدال الموافق، فاجتنبه ما أمكنك! فإن لصناعة التلحين أن تعدل الأخلاق، وللموسيقار الحاذق أيضا بصناعة التلحين أن يميل أخلاق النفس إلى حالات ليست أيضا بالطبع، فيجعل من كان جبانا شجاعا، ومن كان محزونا فرحا، وكذلك فى أضداد هذه، وفى باقى المتضادات من حالات الأخلاق.
ولذلك 〈كان〉 إجماع الأطباء فى حفظ الأخلاق المحمودة على استماع ما يسر النفوس، كاستماع أخبار الفضائل، والمتألهين، واستماع علوم العلماء — الإلهية منها، أعنى الشرعية، والعقليات — وأخبار المتدينين وأهل الورع والطهارة. لأن فى استماع جميع ذلك سرورا للنفس الفاضلة ولذة، لأنها أفعال تصدر عن جوهرها الشريف، وهى تحب أن تكون بتلك الحالات وتقتنيها. وكذلك تجدها تكره استماع المحالات، وتستشنع الكذب، والأقاويل المذمومة، والأفعال القبيحة، وتغتم من ذكر أهل هذه الأحوال، فضلا عن مشاهدتهم، واستماع كلامهم.
فاجتهد، أيها الحدث، أن تقاوم طبعك المذموم، الداعى لك إلى المذمومات، وتمنعه لذاته! فإن مع كل لذة محسوسة جسمانية، آفة خفية مكروهة، لا يقوى على كشفها إلا العقل. فخذ نفسك بما يسوقك إليه عقلك، لا طبعك، لئلا تعتاد وتألف لذات الطبع، فيحرمك لذات العقل، الدائمة السرور، المأمونة من الشرور! واحرص فى أن تعود نفسك قلة الكلام، مع كثرة الاستماع النافع! فإن حظ المرء فى أذنه، والحظ لغيره فى لسانه. وتجنب استماع الآراء المفسدة، كمذاهب المتدهرة والملحدة! وكذلك توق مشورات الجهلة والحساد! فإنها تسوق إلى هلاك النفوس والأجساد. فتأمل ما قلته لك، وقس عليه ما لم أقله، ترشد إن شاء الله تعالى! PageV01P03 3
القول فى حاسة الشم والأشياء الموافقة له
وأما حاسة الروائح، فليست تكون ما تراه ظاهرا من المنخرين، لكنها تكون بما داخل القحف من البطنين المتقدمين من بطون الدماغ، وذلك بالروح النفسانى الذى فيهما من الدماغ. ولكن لما كانت حاسة الشم لا تتم أيضا إلا بتوسط الهواء الحامل للبخارات والروائح إلى هذين البطنين، وكان الهواء قد يحمل أيضا مع ذلك أجساما لطافا، وكانت أيضا الحاجة إلى استنشاق الهواء فى بقاء الحياة على الحيوان ضرورية، وكان أيضا ما ينقيه الدماغ من فضلاته قد يحدره بالمنخرين من جهة هذين البطنين، لأنهما مطلين على المنخرين، لطف الخالق تعالى للحيوان بحاجز يحجز دون هذين البطنين اللذين هما آلة الشم، وخلقه مثقبا كثقب الإسفنج، لتصفو منه فضلات الدماغ، وتصل إليه من تلك الثقب الروائح مع الهواء، ودائما ينفذ فيها الهواء، ويخرج منها ما ينقيه الدماغ من البخار، بنفخه وحركته الدائمة، مع ما يبعثه من الروح النفسانية إلى الحواس، وإلى غيرها من الأعضاء عنه. فالهواء قد يصل إليه مفردا، بغير روائح، وقد يصل مع الروائح.
وليس هذا اللطف العجيب من آلة الشم فقط، لكنه موجود فى آلة السمع أيضا. فإن آلة اسمع لما احتيج أن تجعل أيضا داخل الرأس، لتقرب من الدماغ ، وجعلت الأذن لها حاجبا وساترا، وكان الهواء يريد أن ينفذ فى داخلها، ولم يؤمن من أن يصل معه غير الصوت من أجسام صغار وغيرها، جعل داخل الأذن معوجا ومستديرا، كاللولب، ليصل الهواء والصوت، ولا تنفذ الأجسام.
فتأمل لطف البارئ تعالى بالحيوان، وحكمته، وإتقان صنعته! وليس ذلك فى الحيوان فقط، لكن فى كل مصنوع. ومن لطفه تبارك وتعالى أن جعل للحيوان من آلات الحس زوجا زوجا، كالعينين اثنتين، والأذنين، والمنخرين، واللسان مقسوما قسمين، ليكون، إن دخلت آفة على أحدهما، تبقت الأخرى للفعل.
وإذا كنت قد وصفت جملا من خلقة المنخرين، وآلة الشم، وغيرها من الحواس، ولوحت لك من منافعها تلويحا، لتشتاق بذلك إلى معرفة بنية جسمك، ومنافع أعضائك، فلا تقتصر على ما ذكرته ها هنا فقط، بل اقصد كتب المعلم الفاضل جالينوس فى التشريح، وكتابه الذى وضعه فى منافع الأعضاء! فإنك تحظى من هنالك بعلم ذلك بأسره.
Bogga 34