[book 1]
[chapter 0]
بسم الله الرحمن الرحيم وعليه توكلى وبه نستعين.
قال جامع هذا الكتاب ومؤلفه: إن أناسا من الأطباء — أيها الحبيب، أسعدك الله ببلوغ مطلوباتك، وأعانك على درك الحق — حين جهلوا أصول صناعة الطب، وفاتهم درك فروعها، وقصروا عن تأمل الصواب فى طرقها، خرجوا إلى الحيل والتلبيس، حتى أفسدوا محاسنها، وأساؤا سمعة أهلها، وكانوا بمنزلة بنائين راموا إصلاح تشعيث دار قد بنيت أتقن بناء، وأحكمت أحسن إحكام، وأعد فيها ضروب المصالح والمنافع، فجعلوا يسعون فيها، محجوبة أبصارهم عن مواضع الفساد، لجهلهم بمعرفة ما فيه بنيت الدار، وسوء تحصيلهم نظمها، وأحكام هيئتها. فإنهم لما عميت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل لكونها، صاروا يجولون كالحيارى، لا يفهمون مواضع الفساد، ولا مواقع علله. وربما رام الواحد منهم الإصلاح لشئ يجهل سببه، فيسرع إلى إفساده وهدم أساسه، كالذى أقدمت 〈عليه〉 وجاهرت به الطائفة من الأطباء الذين رأيتك تذمهم وتوبخهم، وأشباههم من أهل القحة والإقدام على ما لا يعلمونه، فحق على من أنعم الله عليه بمعرفة، ووفقه لتأصيل هذه الصناعة، أو حلها والوقوف على ما فيها من لطيف التدبير وصواب التقدير، ألا يقصر فى إظهار مابلغه علمه من ذلك، بل يجتهد فى نشره وإذاعته، ليقوى به نفوس أهل الحقائق ويجتنب به سوء العمل فى تدابير الأصحاء والمرضى، محتسبا للثواب فى ذلك، واثقا بمعونة الله تعالى، وتأييده إياه.
Bogga 1
وقد تكلفت جمع ما قدرت عليه من الآداب التى ينبغى للطبيب أن يؤدب بها نفسه، والأخلاق المحمودة التى ينبغى أن يقوم بها طبعه. وذكرت طرفا من التدابير التى ينبغى أن يدبر بها جسمه، والأفعال التى يجب أن يفعلها بذاته أولا، والأفعال التى يفعلها بالأصحاء والمرضى، وجملا من الأفعال والوصايا والتدابير التى ينبغى له أن يتقدم بها إلى المريض وخدمه ومن يتولى مصالحه، وجعلت جميع ذلك مقالة أولى من هذا الكتاب. ثم جمعت فى المقالة الثانية ما يجب على المريض أن يكون عليه من القبول، لتنصلح أخلاقه لنفسه ولطبيبه ولخدمه، فيتم بذلك صلاح جسمه. وذكرت فيها أيضا واجبات ولوازم تدعو الحاجة إليها فى صلاح الأصحاء والمرضى، من قصص وأخبار يتأدب بها سائر الناس كافة والأطباء خاصة. وأنا أميز كل صنف من هذه المعانى فى باب، ليكون الكتاب أبوابا، فيسهل بذلك على طالب المعنى مطلبه، ويقرب مأخذه. والأبواب عشرون بابا. ويجب أن نعددها أولا، وما يتضمنه باب باب، ثم نأخذ فى شرحها بعون الله وتأييده.
الباب الأول: فى الأمانة والاعتقاد الذى ينبغى أن يكون الطبيب عليه، والآداب التى يصلح بها نفسه وأخلاقه.
الباب الثانى: فى التدابير التى يصلح بها الطبيب جسمه وأعضاءه. وهو باب يشتمل على واجبات كثيرة، فلذلك يجب أن يميز أقوالا مفصلة.
الباب الثالث: فيما ينبغى للطبيب أن يحذره ويتوقاه.
الباب الرابع: فيما يجب على الطبيب أن يوصى به خدم المريض.
الباب الخامس: فى أدب عواد المريض ومتفقديه.
الباب السادس: فيما ينبغى للطبيب أن ينظر فيه من أمر الأدوية المفردة والمركبة، وكيف ينبغى أن يحذر مما قد فسد منها بغير قصد، أو بقصد من الصيدنانى وغيره ممن يتولى حفظها وتدبيرها.
الباب السابع: فيما ينبغى للطبيب أن يسأل عنه المريض وغيره.
الباب الثامن: فيما ينبغى للأصحاء والمرضى جميعا أن يعتقدوه ويضمروه للطبيب فى وقت الصحة، ووقت المرض.
الباب التاسع: فيما يجب على المريض إبرامه من قبوله لأمر طبيبه ونهيه، وما يؤول إليه حاله عند خلافه له.
الباب العاشر: فيما ينبغى أن يعمله المريض مع أهله وخدمه.
الباب الحادى عشر: فيما ينبغى أن يعمله المريض مع عواده.
الباب الثانى عشر: فى شرف صناعة الطب.
Bogga 2
الباب الثالث عشر: فى أن الطبيب يجب له التشريف بحسب مرتبته من صناعة الطب من الناس كافة، ولكن تشريفه من الملوك والأفاضل يجب أن يكون أكثر.
الباب الرابع عشر: فى نوادر جرت لبعض الأطباء، بعضها من جنس تقدمة المعرفة. وهى تحث الطبيب على تعرف طرق الإنذار، وبعضها مستظرفة تبعث الطبيب على اختبار تحصيل من يشاوره قبل مشورته عليه، لئلا ينسب فساد — إن جرى — إلى الطبيب.
الباب الخامس عشر: فى أن صناعة الطب لا يصلح أن يعملها كل من التمسها، لكن اللائقة بهم فى خلقهم وأخلاقهم.
الباب السادس عشر: فى محنة الأطباء.
الباب السابع عشر: فى الوجه الذى به يقدر الملوك على إزالة الفساد الداخل على الأطباء ومن جهتهم، والمرشد إلى صلاح سائر الناس من جهة صناعة الطب، وكيف كان ذلك قديما.
الباب الثامن عشر: فى التحذير من خدع المحتالين من الذين يتسمون باسم الطب، والفرق بين خدعهم والحيل الطبية.
الباب التاسع عشر: فى العادات المذمومة التى قد اعتادها كثير من الناس، وهى تسوق إلى الإضرار بالأصحاء والمرضى، وإلى ذم الأطباء.
الباب العشرون: فيما ينبغى للطبيب أن يذخره ويعده من وقت صحته لوقت مرضه، ومن زمان شبابه إلى زمان شيخوخته.
Bogga 3
[chapter 1]
الباب الأول
فى الأمانة والاعتقاد الذى ينبغى ان يكون الطبيب عليه، والآداب التى يصلح بها نفسه واخلاقه
أما بعد الحمد لمن لا تبلغ الألسن غاية حمده، ولا تنال العقول نهاية مجده. فإننى لما فكرت فى مسألتك، أيها الحبيب — أسعدك الله بدرك الحق وأنار لك طرقه — وجدت الجواب عنها يقتضى أغراضا كثيرة، ويلابس معانى جليلة، عظيم نفعها لجميع من يرتسم بصناعة الطب، وأحب تعلمها، لما يرسم فى نفسه من الآداب العقلية، والوصايا الطبية التى اجتهدت فى جمعها من مقالات القدماء، وآداب الفضائل.
Bogga 4
وأيضا فإن نفعها عام شامل لسائر الناس ممن له عقل وتحصيل، لما يربه من فضيلة أدبه، إن كان ذا أدب، ولما يبعثه ويحثه على التأدب، إن كان محبا للأدب، أو لما يخجله ويعرفه دناءة نفسه بين أهل العلم والأدب، إن كان عادلا عن محبة الأدب، وخاصة إن كان ممن قد نصب نفسه قاضيا على النفوس، وحاكما على الأجسام، ويتولى طبها وتدابيرها. فإن الخصال اللائقة بالحاكم، هى أو أكثرها لائقة بالطبيب أيضا. وقد قال أرسطاطاليس: تفقد من الحاكم أربع خصال: أن يكون حسيبا وأن يكون عالما وأن يكون ورعا وأن يكون غير عجول. وقال: إن الحاكم يزين الحكم وهو يوحشه. وإذا نقلت هذه الأقاويل إلى الطبيب، وجدتها به لائقة وعليه واجبة، إذ الطبيب حاكم فى النفوس والأجسام، ولا يشك أحد فى أن النفوس والأبدان أشرف من الأموال. فلذلك ينبغى للطبيب أن يأخذ نفسه بالآداب والعلوم النافعة له فى صناعة الطب، وبغير شك أن من لم يحط بما نذكره واطرحه، سيخجل إن كان له أدنى حس، وإن يكون له مع الحس يسير من العقل، فإنه سيستحى من الله جل ذكره الذى أنعم على الناس بصناعة الطب، ومنحها أفاضل يستحقون تعلمها، يخافونه ويرهبونه قبل الإقدام على علمها، فضلا عن العمل بها. وسيرى هذا المجترئ على الله وعلى أهله أن مزاحمته لهم، ودخوله بينهم بغير نصيب منها، قبيح جدا. فإن بعثه خجله على تأديب نفسه وإصلاح أخلاقه، ثم قصد أهلها بلطف وأدب وحسن مسألة، فتعلم منهم وخدم بين أيديهم فى أعمالهم، أمكنه حينئذ اجتماع العلم والعمل أن يحفظ صحة الأصحاء وأن يعالج المرضى. ولعل بعض الجهلة أن يظن أن خدمته لطبيب ما مدة من الزمان فى دكانه، ومعرفته ببعض الأدوية المفردة والمركبة، أو الفصد وما ماثله من أعمال الصناعة، وأخذه لذلك وتعرفه له من كناش أو أقراباذين، قد كفاه وأغناه عن قراءة كتب صناعة الطب، وتعرف أصولها وقوانينها. فليس ذلك إلا سوء حظ له ولمن يدبره، لأن ما علمه مما ذكرناه، إن لم يعلم أين يضعه من الجسم، وفيمن يجب استعماله، ومتى وأين من الأماكن، وبأى الحالات والمقادير، كان إلى أن يمرض الأصحاء، ويقتل المرضى، أقرب من أن يحفظ الأصحاء ويشفى المرضى.
فعلى جميع الوجوه والأسباب يجب أن أسارع إلى إجابتك فيما سألته، والله بكرمه المعين على جميع الخيرات. وبعد ما قدمته، أقول: إن أول ما يلزم الطبيب اعتقاده صحة الأمانة، وأول الأمانة اعتقاده أن لكل مكون مخلوق خالقا مكونا واحدا قادرا حكيما فاعلا لجميع المفعولات بقصد، محى مميتا ممرضا مشفيا، أنعم على الخلائق منذ ابتداء خلقهم بتعريفهم ما ينفعهم ليستعملوه، إذ خلقهم مضطرين وكشف لهم عما يضرهم ليحذروه، إذ كانوا بذلك جاهلين. فهذه أول أمانة واعتقاد ينبغى للطبيب أن يتمسك بها، ويعتقدها اعتقادا صحيححا. والأمانة الثانية أن يعتقد لله، جل ذكره ، المحبة الصحيحة، وينصرف إليه بجميع عقله ونفسه واختياره. فإن منزلة المحب اختيارا أشرف من منزلة الطائع له خوفا واضطرارا. والأمانة الثالثة أن يعتقد أن لله رسلا إلى خلقه، هم أنبياؤه، أرسلهم إلى خلقه بما يصلحهم، إذ العقل غير كاف فى كل ما يصلحهم، دون 〈أن يرسل〉 من رسائله ما شاء وكيف شاء فى الوقت الأصلح، كما اختار من الخلق للرسالة الصفوة ممن شاء.
Bogga 5
فهذه أصول الأمانات التى يجب على الطبيب أن يستسرها بينه وبين خالقه ويعتقدها اعتقادا صحيحا. فقد دلت القدماء على صحتها، وأتت الكتب المنزلة بها، وشهدت على حقيقتها، ولا يسع ذو شرع الخروج عنها. فليس ينبغى أن تحفل بمن عدل عن هذه الأمانات، ظنا منه ببطلانها، فأزرى على الشرائع، وأظهر التدهر والزندقة، فليس ذلك منه إلا جهلا يسوقه إلى الهلاك وسوء العاقبة. فإن دعتك نفسك إلى أن تختبره، لينكشف لك جهله، فسله عما اعتقده، لم اعتقده، ولم عدل عن اعتقاد الكافة وأهل شرعه! فإنك من مبتدأ جوابه تستدل على حيرته وسوء عقله. ولعله أن يكون فى ذلك مقلدا لمن كان يصحبه ممن كان يذهب ذلك المذهب، ويعتقد ذلك الرأى، ميلا إلى الرخصة وخلع العذار، وشوقا إلى بلوغ اللذات، ولم يزل هواه يغلبه، ولذاته تغره، حتى انطمست عين عقله، وعميت عن النظر الصحيح فيما يصلحه ويرشده إلى المذهب الحق، والرأى الصحيح. ودائما ذلك دأبه، والجهل يستحكم عليه 〈إلى〉 أن يؤدى إلى هلاكه فى دنياه وآخرته. ومع ذلك، فإنه سيكون سببا لهلاك من يصحبه من الأغراء، فتكون منزلته منزلة أصل الشوك الذى كلما كثرت فروعه، عظم ضرره، وعسر قلعه، فلا يستأصله إلا نار قوية تهلك الفروع والأصل معا، إذ يسقط فى الأرض من البزر ما يكون منه خلف. كذلك يكون الضرر أعظم كثيرا ممن اعتقد هذه الآراء، و〈تكون〉 الآفات على الناس أشد، والبلاء أكثر من الأحداث والجهال التابعين لهم، لميل الأحداث إلى اللذات، وسرورهم بالرخصة وقلة الكلفة. فهم بذلك يبيحون المحرمات، ويستحلون المحظورات، فقد أحاط منهم بالتابع والمتبوع نار لا تطفأ، وعذاب لا يفنى، بسوء ذكر فى الدنيا، وأليم عذاب فى الآخرة.
والشقى المغرور من هؤلاء الأحداث، الكبير العجب بالحقير من دنياه، الكافر بنعم مولاه، لو تيقظ من نومته، وصحا من سكرته، ففكر فى خلق ذاته وبقائه، وثباته مع تضاد أسطقساته، وتعادى أخلاطه، مدة حياته، وإتقان أوصاله، وإحكام هيئته، لكفاه ذلك دليلا على وجوب علته، وكان منه أوضح برهانا على وحدانية خالق الكل وقدرته وحكمته. وإذا كان هذا المخدوع قد عمى عن هذا الطريق وجهله، فقد كان له عدة أدلة من طرق أخر غيره. منها تأمله لنوع نوع من الموجودات، كعجائب ما فى الأرض من معادنها وأحجارها ونباتها وأشجارها، وما على وجهها من أصناف ماشيها وسائحها، وسابحات الماء، وطائرات الهواء، وما به تم كل نوع من هذه، من فضوله وخواصه المقومة لأفعاله. فإنه قد كان يكتفى فى الاستدلال على ما قدمناه من صحة تلك الأمانات، وحقيقة ما ذكرناه من الاعتقادات ببعض هذه الطرق، إذا سلكها فى استدلاله سلوكا مستقيما.
فأما إن فاتته هذه الأدلة، وأخطأ هذه الطرق، فقد كان له من الأدوية النافعة لعماه قراءته فى كتب الشرائع الحاثة على الخيرات، الآمرة بالصالحات، الباعثة على النافعات، مقومة الأخلاق، ومعدلة الأفعال، معدن الآداب والفضائل التى قد خاب من جهلها، وعظمت خسارة من عدل عنها، و〈عن〉 أخذ نفسه بامتثال أوامرها، واتباع سننها.
Bogga 6
ولذلك وصى أرسطوطاليس للأسكندر بهذه الوصية، فقال: خذ نفسك بإثبات السنة، فإن فيها كمال البقاء! وأيضا فليقل لمن فاتته هذه الطرق، وعدم هذه السعادات: إن مما يرجى له الشفاء من عماه، والتخلص من حيرته، قراءته فى كتب العقلاء من المتقدمين الذين قد أجهدوا أنفسهم بالطرق العقلية، والقوانين القياسية فى إصابة الحق، ودركه. فإنه قد كان يجد فيها من فصيح الأقاويل، وواضح الأدلة على وجوب الإقرار بالبارئ تعالى، وعلى وحدانيته وقدرته وحكمته ووجوده، والإقرار برسله وشرائعه، والثواب والعقاب، ما لو جمع لكثر وطال وثقل محمله. ولكن لا بأس بإثبات اليسير من ذلك، لما أرجو به من النفع لمن التمس الحق، والتوبيخ والإخجال لمن عدل عنه إلى الآراء الرديئة، والمذاهب المفسدة.
وينبغى أن أقدم من القول فى هذا المعنى أقاويل الفلاسفة، وأبدأ منهم بأقاويل أرسطوطاليس، ثم أتبع ما قالته الفلاسفة ببعض ما قالته الأطباء. وأظهر أقاويل أرسطوطاليس وأوضحها فى ذلك ما صرح به فى كتابه الذى عنونه ﺑ «كتاب ما بعد الطبيعة»، وخاصة فى «مقالة اللام» منه، قال: إن الذى لا مكان له أصلا ولاتحويه نهايات الأجسام، كما يحوى جميع الأشياء التى فى المكان هو الله حقا.
وقال أرسطوطاليس أيضا فى موضع آخر من هذه المقالة: فإنه من الصواب والحق أن يعتقد أن ذلك الشئ المعقول مفرد عن الجواهر جميعا، حتى لا يوجد بينه وبينها مشاركة البتة، لا فى الطبع ولا فى عرض من الأعراض، وهو الله تعالى. ثم قال: وغرضنا إنما هو الكلام فى هذا الشئ الأعظم، أعنى الأول الذى لا يتحرك، وهو الله الحق. وقال أيضا: المحسوسات واقعات تحت حس البصر، منها الأجسام السماوية، والأجسام الأرضية من الحيوان والنبات، وأمرها بين. وأما الفاضل الأول، فهو الذى هو غير متحرك، الأزلى الأبدى. وقال أيضا: وذلك أنه ليس بينه وبين ما هو دونه من الجواهر مشاركة فى شئ من الأشياء أصلا، لا فى تغير من كل التغير، ولا فى مكان، ولا فى نمو، ولا نقص، ولا يجمعهما أيضا مبدأ واحد عنه حدثا، لكن البدء الأول الذى هو الله لا مبدأ له أصلا، وكل ما هو دونه، فمبدأه منه.
ومن أقاويله التى صرح فيها بضرب من ضروب النبوة قوله فى الطبيعة هذا القول، قال: وليس بعجب أن تكون الطبيعة، وهى لا تفهم، منساقة بما تفعله إلى الغرض المقصود إليه، إذ كانت لا تروى ولا تفكر فى فعل ما تفعله. قال: وهذا مما يدلك على أنها ألهمت إلهاما تلك النسب من سبب هو أكرم منها وأشرف وأعلى مرتبة. ولذلك صارت تفعل ما تفعل منساقة نحو الغرض، وهى لا تفهم الغرض، كما قد ترى القوم الذين يلهمون أن يتكلموا بكلام ينبئون به، كما يسألون عنه قبل أن يكون، فهم لا يفهمون العلة فيما يقولون
Bogga 7
وقال أيضا: فالصانع لهذا العالم، ولترتيبه، وهو الحق الأول، وله العلم المحض فى الغاية القصوى، وعن علمه يكون ترتيب الأشياء ونظامها، وإلى الاقتداء به يشتاق. وقال أيضا بعد كلام طويل: فقد تبين من هذا أن الله يعلم ذاته، ويعلم بذلك جميع الأشياء التى هو مبدأها، وأحوالها وتصرفها، ويعلم ذلك كله معا. وقال أيضا فى كتاب سمع الكيان أقاويل كثيرة من هذا الفن، غير أنى أكتفى منها بقول واحد قاله فى المقالة الثامنة منه، قال: ليست الخليقة، يا هذا، غير مهيأة مفعولة، وإنها لحسنة التهيئة والفعل. وإذا كانت فيها تهيئة، فقد اضطرت أن تكون بإرادة وقدرة عليها نعت واحد، وإن الذى لا منتهى له، ليس له نعت واحد، ولا حد.
وأما فلاطن، فإنه تكلم فى النفس فى الكتاب المنسوب إلى فادن فى النفس، وأطنب فى وصف الثواب والعقاب والحساب فى الآخرة، وطبقات الثواب والعقاب بعد الموت، مما يطول إعادته، ولكن نذكر منه طرفا. قال سقراط: أظنك، يا قابس، لم تفهم عنى بعد. قال قابس: لا والله واهب الحياة فما فهمت عنك على ما ينبغى. قال سقراط: فانهم عنى، فإنى مستأنف بك قولا مجددا. ثم قال سقراط بعد أن قال: فإن سلمت لى بهذه الأشياء، أوجدتك أن النفس شئ لا يبطل بعد مفارقة البدن؟ قال قابس: فبادر بنتيجتك، فإنى مسلم لك. قال سقراط بعد أن قال: فالنفس غير مائتة، ولا باطلة، بعد مفارقة البدن، قال سقراط: ثبت، يا قابس، أن أنفسنا بعد الموت موجودة، لا فى مدة هذا الزمان الذى تنسب فيه إلى الحياة، بل فى الأبد أبدا. وقال فى موضع آخر: وعند ذلك لا يؤذن فى السرور، فإنه لو كان الموت هو بوار الأمر كله، لكانت هذه هى فرصة الأشرار، إذا ماتوا أن يستريحوا من البدن، ومن همهم مع النفس التى هى فى أبدانهم.
Bogga 8
وقال: إن كل واحد من الناس إذا مات، فإن ملكه الموكل به خاصة وهو حى يروم أن يسوقه إلى موضع من المواضع المذكورة فيه، بحيث يحوز المجتمعون فيه على ما لهم وعلى ما عليهم. ثم يقودهم إلى الآخرة قائد من الملائكة، مأمورا بأن يمضى بمن هناك إلى هاهناك. فإذا جوزوا هناك بما يستحقون المجازاة به، ولبثوا بالمكان المدة 〈و〉الزمان الذى يجب أن يلبثوها فيه، ساقهم سائق آخر من الملائكة فردهم إلى ما هناك فى أدوار من الزمان كثيرة، بعيدة المدة، وأخلق بمسير الأنفس ألا يكون كما ذكر أسخيلوس عن طيلافس، فإن ذاك قال: أيها الملك، إنما تسير الأنفس فى طريق واحد مفرد. قال سقراط: لكن الصحيح فيها تشعب فى طرق كثيرة مختلفة. ونحن نقول ذلك على حسب ما يستدل به من الذبائح والأشياء المفترضة فى الشريعة أن نفعلها، فالنفس الذاهبة الكيسة تنقاد لسائقها ولا تجهل ما هى فيه. وأما التى هى مغراة بالشهوات الجسدانية، فإنها، كما قلنا، تبقى مدة من الزمان طويلة تجول متحيرة، تجاذب مجاذبة شديدة، وتلقى أنواعا من الجهد كثيرة. فبالعسر والكف تمضى منقادة للملك المأمور بسياقتها. فإذا انتهت إلى الموضع الذى فيه الأنفس الأخر غيرها،...أما إذا كانت دنسة، فقد فعلت أفعالا دنسة، إما من القتل جورا وظلما، وإما من غيرها إلى ما شابهه، ومما هو من أنفس هى نظائرها، فإن كل ملك قد يهرب منها ويزوغ عنها، ولا يشاء أن يقارنها فى طريق ولا يقودها، وتبقى تتية وهى على غاية الحيرة، إلى أن تنقضى أطوار من الزمان، وعند انقضائها، تأتى بها الضرورة إلى المسكن الذى هو أولى بها.
ثم ذكر فلاطن فى هذا الكتاب صفة أراض نضرة، منبتة أنواعا من الأشجار الطيبة الروائح، الحسنة المنظر، الرفيعة القدر، وبقاع كثيرة الأنهار الكدرة التى تحوى الطين ذا الروائح الكريهة، والألوان الوعرة، تهوى إلى قعر الأرض، ونيران تسمى الجحيم، وذكر أن الأشرار فيها يعذبون، والأخيار فى تلك يخلدون.
وهذا من كتب فلاطن المشهورة، وإنما اقتصصت ما اقتصصته منها، ليسمعه هذا السيئ العقل، الردئ الحظ، المستخف بشرعه، المباين أهل العقول والأديان بكفره، فيرجع عن جهله وعداوته . وأنا أزيده من أقاويل بقراط وجالينوس ما يزده بيانا.
قال بقراط فى كتاب كون الجنين مقرا بالله تعالى وتكوينه للخلائق قصدا: فإذا امتلأ من الريح، صير الله للريح طريقا فى وسط المنى. وقال أيضا فى كتاب حبل على حبل: المولودين فى سبعة أشهر: فكثير منهم يحيون، لأن الزمان يخلق الله فيه الجنين فى الرحم... وقال أيضا فى كتابه الذى سماه كتاب الوصايا، قال: وأى امرئ أعطاه الله علما يشفى به المريض، وحباه بذلك...وقال فى كتابه فى الإيمان والعهود: إنى أقسم بالله، رب الحياة والموت، وواهب الصحة، وأقسم بأسقلبيوس، وبخالق الشفاء وكل علاج...وأسقلبيوس، هو جده القديم فى الطب. وقال أيضا: وأقسم بأولياء الله من الرجال والنساء جميعا.
وأما جالينوس، فإنه قال فى تفسيره لهذا الكتاب، فى تفسير الفصل الأول منه قال: فأما نحن، فالأصوب عندنا والأولى أن نقول إن الله جل وعز خلق صناعة الطب، وألهمها الناس، وذلك أنه لا يمكن فى مثل هذا العلم الجليل أن يدركه عقل الإنسان، لكن الله هو الخالق الذى هو بالحقيقة، فقد يمكنه خلقه. وذلك أنك لا تجد الطب أخس من الفلسفة التى يرون أن استخراجها كان من عند الله تعالى بإلهام منه. وقال جالينوس فى تفسيره للفصل الثانى من هذا الكتاب، قال: بعد أن أحلف بقراط من يتعلم صناعة الطب بالله تبارك وتعالى، وبمن كان أول من استخرج صناعة الطب، عاد فأحلفه بأولياء الله، من كان منهم يونانيا، ومن كان منهم من غير اليونانيين، ليكون كل واحد ممن يحلف، إذا حلف بأولياء الله من عشيرته، حفظ ما يحلف بسببه حفظا بالغا.
Bogga 9
وأما ما قاله جالينوس فى كتبه فى هذا المعنى، فكثيرة نذكر منها يسيرا. قال فى المقالة الخامسة من كتابه فى منافع الأعضاء: وذلك أن بعد همتك وعنايتك لا يلحق بحكمة الخالق لذلك، وببعد شأنه وعنايته. ثم قال فى قول آخر بعد ذلك: فإنى أرى أن فى ذلك كفاية فى البيان عن آثار حكمة الله تعالى فى الخليقة.
وقال فى المقالة السادسة من هذا الكتاب: وخالقنا، إذ هو حكيم، لا يغيب عن حكمه شئ، فهو لم يخلق فى شئ من الحيوان شيئا باطلا ولا جزافا. وقال فى المقالة السابعة منه فى خلق القلب وتجويفه الأيسر منه: فيجب لنا الشكر له، إذ كان إنما لطف فى ذلك، واحتاط فيه، حتى جعله على ما هو عليه، لكى لا تخمد الحرارة الغريزية.
وقال أيضا: وهذا السر الذى أريد أن أخبرك به ليس بدون تلك الأسرار، ولا ينقص عنها فى الدلالة على حكمة الله وقدرته وعنايته. وقال: وقد أشرفت من لطف الخالق وقدرته فى هذا وغيره على أشياء، أنا مقر بأن طاقتى تقصر عن بلوغ ما يستحقه من الثناء والمديح على حسن تقديره لخلقه الحيوان، وغير الحيوان.
وقال فى التاسعة: لم يخلق الله شيئا مما وصفنا باطلا، ولا عن غير تعمد. وقال فى العاشرة: وجميع ما وصفنا يدل على سابق علم خالقنا، وحكمته العجيبة. وقال: فلما صحت عزيمتى على الإضراب عن شرح كذا وكذا تخفيفا عن المتعلمين، رأيت فيما يرى النائم، بإلهام من الله، طارقا طرقنى يعذلنى ويلومنى، ويقول: لقد ظلمت هذه الآلة التى هيأها الله، ونافقت الخالق تبارك شرح هذا الفعل العظيم الذى يدل على غاية رحمة الخالق بالخلق. فألحق آخر هذه المقالة! ثم قال: أمرنى واحد من الملائكة بعد ذلك بشرحها، وأنا منته إلى أمرنى به. وقال أيضا: فالله يعلم أنى ما أتزيد فيما أقول. ثم أقسم أنى ما أتكلم إلا بحق من قبل أن يأمرنى الله سبحانه بوضع هذا فى كتاب، قد كنت عزمت على أن أطرح أكثره، وذلك لكيلا يبغضنى ويشنأنى كثير من الناس.
Bogga 10
وقال فى الحادية عشرة: ولا علم لى كيف يجوز أن أنسب من زعم أن هذا التدبير العجيب والحكمة الفائقة، 〈كيف〉 وقع كل ذلك بالبحث والاتفاق. يا هذا! إن كان هذا مما يقع بالبحث والاتفاق، فأى شئ يكون بالتعمد والعناية والقصد واللطف والحكمة؟! وقال جالينوس فى هذه المقالة مقرا بصحة ما قاله موسى عليه السلام وعلى سائر النبيين: والذى هو أفضل وأصوب هو أن نقول فى ابتداء خلق الخالق لجميع ما خلق على المذهب الذى يقول به موسى...ثم قال: قف عند العلم والقول! أحب أن تكون هذه الأمور على ما وصفنا لهذه الأسباب التى ذكرتها، ولا تتجاوز ذلك بالفحص عن كيف كانت. فإن الفحص عن ذلك جرأة وتهجم وإقدام. فإياك أن تأخذ فيه، ولا ترده! فإنه قبيح بك أن تقدم على الفحص كيف كانت أمور قد كنت أقررت بأنها كانت، ولا سبيل لك إلى العلم بذلك.
وقال فى السابعة عشرة وهى آخر مقالات الكتاب: وقد بلغ من حكمة القادر البرغوث وقدرته أنا نجده يخلقه وينميه ويعدو 〈على〉 أضلاعنا ولا يكلف. وإذا كنا نجد فى هذا الحيوان الذى قد بلغ من خساسته أن يتوهم المتوهم أنه إنما كان عن غير تعمد حكمة هذا مبلغها، فكم بالحرى ينبغى أن يتوهم فضل حكمة البارى وقدرته فى أصناف الحيوان الجليلة القدر! فهذه إحدى المنافع العظام التى نستفيدها من علم الطب، أعنى من طريق أنا محتاجون إلى الدلالة على قوة الله، إذ كان قوم يرون أن هذه القوة ليست بموجودة أصلا، فضلا عن أن يكون يعنى بمصالح الحيوان.
وقال جالينوس أيضا فى كتابه فيما يعتقدونه رأيا، وقد ذكر الله تعالى، فإنه شفاه من علة مؤيسة، فقال: ولذلك أعتقد إعظامه وتبجيله، وأتبع فى ذلك الشريعة والسنة، وأقبل ما أمر به سقراطيس من قول ما أمر الله به.
فبدى ما ذكرناه من هذه الأقاويل الجليلة عن هؤلاء القدماء الأفاضل الذين يقرون فيها بالله تعالى وبرسله، وبالوحى وبالثواب والعقاب، لم يشف بعد عمى هذا الشقى المغرور، ونحن نقول إن ما أحضرناه كاف لمن آثر الحق، ومال إلى الصدق. ولو علمت أن الزيادة تنفع من لم ينتفع بما تقدم ذكره، لزدت من أقاويل هؤلاء وغيرهم ممن هم فى طبقتهم مثل فثاغورس وافيقروس ودمقرايطيس وزينون وأمثالهم، ومن أقاويل أفاضل من الحدث مثل الكندى، وحسبك به جلالة وفضلا، فإنه قد أطنب فى هذه المعانى وخاصة فى كتابه فى الفلسفة الخارجة فى الرد على الثنوية ومثل حنين واسحاق وابنه، وغيرهم من أهل العلوم العقلية. فإن حنينا، على أنه على ضد مذهب التوحيد، قد وضع مقالة فى التوحيد، ووضع أيضا مقالة فى صحة الرسل. ولكنى أكتفى بما ذكرته لما فيه من توبيخ وتنبيه لمن يرجى له الفلاح والصلاح. وأما من لم ينتبه لما نبهناه، فليعد من الموات، أو من البهائم التى لا يؤثر فيها التوبيخ والعتب. فقد قيل لبزرجمهر: ما بالكم لا تعاتبون الجهلة؟ فقال: لأنا لا نريد من العميان أن يبصروا.
Bogga 11
ولنرجع إليك، أيها المحب للأدب، فنقول: إنه إذا صحت أمانتك بما تقدم القول به من الإقرار بالله جل وعز، ومن المحبة له والاعتراف بحقه، والإقرار برسله، والتمسك برسائله، فعليك بالعبادة له بما يرضيه. ولن تقدر على ذلك، دون أن تصلح أخلاقك، وتعدل أفعالك، ولا يمكنك ذلك حتى تعلم 〈أن〉 أصول قوى النفس هى ثلاث قوى، كما بين ذلك القدماء من الطبيعيين والأطباء. فإن جالينوس قد شرح ذلك وكشفه فى كتابه فى آراء بقراط وفلاطن، وفى كتابه فى الأخلاق، وفى مقالته التى بين فيها أن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وقال: إن القوة الأولى من قوى النفس هى القوة النفسانية، وهى التى تتم أفعالها بالدماغ. والقوة الثانية هى القوة الحيوانية، وأفعالها تتم بالقلب، والقوة الثالثة هى القوة الشهوانية، وأفعالها تتم بالكبد.
ثم تعلم 〈أن〉 باعتدال هذه القوى فى الإنسان تكون أخلاقه فاضلة ممدوحة، ونفسه طاهرة زكية، ولخروج هذه القوى عن الاعتدال، تصير أخلاقه مذمومة، ونفسه رذلة. فاعتدال القوة النفسانية يكسب الإنسان اللب والعقل، وجودة التحصيل والتمييز، وصحة الفكر. واعتدال القوة الحيوانية يكسبه الهدوء والرزانة، وقلة الحرد والغيظ. واعتدال القوة الشهوانية تكسبه العفة، وضبطه لنفسه عن اتباع الشهوات واللذات.
وبعد علمك بما ذكرناه، يجب أن تروض نفسك وتعودها هذه الخصال الثلاث، أعنى العقل والرزانة والعفة، لتصير فاضلا أديبا، وتنقى نفسك، وتصلح لاقتناء العلوم. واجتهد فى الحذر من الوقوع فى أمراض هذه القوى! فإن خروج القوة النفسانية عن اعتدالها هو مرض لها ، يوجب سوء التحصيل والجهل. وخروج القوة الحيوانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب سرعة الغضب والجزع. وخروج القوة الشهوانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب ألا يضبط الإنسان نفسه، أو ألا تقوى له شهوة. واجتنب هذه الحالات الست، فإنها أمرض للنفس يوجب لها الفجور والخبث والدناءة! وتعمد العدل، فإن فضيلته تنزل النفس كل شئ منزلته!
Bogga 12
واستوص بوصية ارسطوطاليس للاسكندر! فإنه قال: لا تمل إلى الغضب، فإنه من أخلاق السباع والصبيان! لا تفرط فى الجزع على ما فاتك، فإن ذلك من خواص النساء الضعفاء! ولا تمل إلى النكاح، فإنه من خواص الخنازير، وهى أقوى عليه منك، وهو يهلك العمر! أصلح نفسك لنفسك، فيكون الناس تبعا لك! وتمسك بالحرية، فإنها فضيلة للنفس، بها تكون السماحة فى البذل لاقتناء الحسنات! وكن شريف الهمة! فإن من شرفت همته، نال الخير والكرامة، ومن دنت همته نال الشر والهوان. إنصرف إلى تسديد رأيك، وميز الخير من الشر برزانة، ليوجد منطقك سديدا، وفعلك حميدا! وتوق القلق عند الغضب، والإفراط فى العقوبة عند الأدب! واحذر اللجاج مع شراسة الخلق، فإنهما يدلان على الحمق! كن قوى النفس عند الأمور المفزعة، لا يتداخلك الرعب ولا من الموت! وكن مقدما شجاعا عند الاضطرار إلى المخاطرة، مؤثرا للموت المحمود على البقاء المذموم! إستعمل الصبر، وتجشم التعب، ولا ترغب فى الراحة واللعب! كن عفيفا دمثا شكلا ذا وقار، لئلا تكون سخيفا زريا ذا احتقار! إحرق الشهوات بنار الصبر، قبل أن توردك اللذات إلى عميق القبر! مع تمسك بالعدل، فتمسك بسنن ملتك وبلدك، ولا تخرج عن إجماعهم، واحذر مخالفة الشريعة، لئلا تكون عقوبتك قريبة سريعة!
قال ارسطوطالس: أول العدل ما قضيناه من حق الله تعالى. وبعد ذلك ما نلزم أنفسنا من طاعة الملوك. وبعده الذى يجب علينا لأهل مدينتنا وبلادنا وآبائنا. وبعده ما نفعله مع سلف منا. وفى ذلك رحمة هى جزء من العدل أو من لواحقه. وقد يلحق العدل السلامة والصحة والأمانة وبغض الشرور. كن ذا لطافة ورأفة ومروة، فإن ذلك من أخلاق الحرية!
قال اوميرس الشاعر: لا ينال المراتب السنية بخيل، ولا يرتقى على الدرجة العليا إلا كريم. ود الأقرباء، وحب الأخيار 〈و〉تحنن على الغرباء، فإن ذلك من فعال الأحرار الأدباء! ليس السعادة حب الكرامة، والتفتق، والتمتع باللذات، والسرور بالسلطنة، والغلبة عند المبارزة، فإن اعتياد هذه 〈الأمور〉 ومداومتها يرخى النفس، ولكن احتمال الشقاء، وقوة النفس عند النصب، والاغتباط بالقناعة، جميع ذلك من السعادة وكبر الهم والشجاعة.
قال سقراطيس: قارض الله دهرك، واجتهد فى ذلك مع موافقة الجماعة فإن العصمة بذلك مع العمل بالسنة! ثم كن بعد ذلك مع والديك كما تحب أن يكون معك بنوك! وكفى بهذه غاية وصفة لعظيم حقهما عليك، إن كنت ترى لنفسك على والدك حقا. إبطاؤك بالمواخاة أحسن بك من أن تواخى اليوم وتهجر غدا، فلا خير فى سرعة المواخاة وتعجيل الصريمة فإن كليهما من عمل أهل السخافة والطيش. واعلم أن مودة الأخيار دائمة زائدة، ومودة الأشرار سريعا بائدة. وأصلح من ميراث المال من الآباء، وراثة الإخوان والأحباء! عند الشدائد تمتحن صحة الصداقة، كما يمتحن صحيح الذهب بالنار. أسبق بالجميل إلى أصدقائك، قبل التماسهم ذلك منك، وخاصة إن عثر الدهر بهم! أودع الخيرات لأهل الصلاح والأبرار، ولا تشق عليهما بأهل الطلاح والأشرار! أمقت المخادع والملاق، كمقتك الكذاب والسراق! كن سهلا خلطا بالإخوان، مكرما مفضلا على الجيران! أقرب ممن قرب إليك، واعف عمن جفا عليك، واعلم أن استقامة الأدب مع الحكمة خير من المال والسلطنة!
Bogga 13
قال ارطوطاليس: الحكمة رأس التدبير، وهى سلاح النفس ومرآة العقل. إجتهد ألا تكون واعظا بجميل الأقوال، لكن تكون عظتك بجميل القول والفعال! لا تأخذن الحدث بصعب التأديب، لكن درجة الأدب بترتيب! لقح عقلك بالآداب، كما تلقح الشجرة بالشجر الكرآب! رض النفس بالحكمة لتدرك الحقيقة، كرياضة الراضة للجسم، لتصبر على المشقة! واعلم بأن الحكمة تقضى بأهلها إلى مراتب عظيم فضلها، كما أن من ولى سلطانا وجب عليه أن يبعد الأشرار عنه، لأن جميع عيوبهم منسوبة إليه.
كذلك أنت، أيها الطبيب، يجب أن تبعد عنك الأشرار من الأصحاب والتلاميذ، فإن جميع ما يأتيه صحبك وخدمك منسوب إليك من قول وفعل! واعلم أن الفقر مع الحلال، أصلح من الغنى مع الحرام! والذكر الحسن مع بقائه، خير من نفيس المال مع فنائه! وأيضا فإن المال قد يوجد عند السفهاء والجهال، والحكمة لا توجد إلا عند أهل الفضل والكمال. إجتهد فى أن سرورك وحزنك جميعا بتوسط! وكن على ما زاد منهما متنسكا وتأمل حال النفس الموسطة للأخلاق من هذا القول الذى أحكمته لك من كلام جالينوس فى أول المقالة الثانية من كتابه فى المزاج: فإنه قال بعد أن وصف حال المزاج المعتدل هذا القول، قال: فهذه حال الإنسان الذى هو من أعدل الناس مزاجا فى بدنه، وهو أيضا فى نفسه متوسط بالحقيقة فيما بين الشجاعة والجبن، وبين المبطئ المتأخر والعجول المتهور، وفيما بين الرحيم والحسود. ومن كان كذلك، فهو طيب النفس، محب متحبب، متوخ لمحبة الناس، دمث. وإذا كنت مجتهدا على أن تخفى مالك فى بيتك، فاحذر أن تخفى حالاتك فى نفسك! إجتهد أيها الطالب للحكمة والأدب، فى إصابتهما من كتب أهلها! والتقط ألفاظهما ومعانيهما كما تلتقط النحلة ما يلاءم عملها من جميع الشجر، وتعمل منه ما يصلح للبناء بيتا، وما نغتذى به، وهو العسل، تذخره محفوظا!
فتأدب بما تقدمنا ذكره من هذه الوصايا والجمل، ففيها كفاية للنفوس المسعودة! ثم انصرف إلى الاهتمام بما يصلح جسمك، ويحفظ صحته، فإنى ذاكر جمل ذلك فى باب الثانى من هذا الكتاب، وهو الذى أبتدئ الآن فتدبره حسنا! PageV01P01 4
[chapter 2]
الباب الثانى فى التدابير المصلحة للأبدان وبها يصلح الطبيب جسمه وأعضاءه
أقول، والله المعين: إن الخالق تعالى، لما شاء إظهار حكمته وقدرته، جعل كل مخلوق محكما، وجعل الأدلة فى المخلوقات على إحكام خلقتها، وقدرة خالقها تبارك، كثيرة جدا. من ذلك ما جعل لبعضها من الاتصال الطبيعى ببعض، وما فضل بعضها عن بعض، وما رتبها بذلك مراتب مختلفة، لتأخذ من نوره، وتقبل من حكمته، بحسب ما لها من شرف المنزلة. فأعطى تعالى الناميات من القوى الأربع التى بها تتغذى وتنمى، ليتم لها البقاء بنوعها، ما لم يعطه للجامدات.
ووهب تعالى للإنسان من نوره نفسا، علامة عاقلة مميزة، ما لم يعط لغيره من الحيوانات. فالإنسان لذلك هو أتم أنواع الحيوان وأكملها، لأنه من جسم حى، ومن نفس ناطقة، ولأن النفس الناطقة هى المتممة لنوع الإنسان، وأفعالها بجسمه تظهر، فلذلك بنى جسمه بناء يلاءم قواها، كالذى بنيت عليه أجسام سائر الحيوان من الملاءمة لقوى نفوسها. فما كان منها شجاعا محبا للغلبة والقتال، بنى لنفسه جسم يصلح لهذه الأفعال، كالسبع والنمر والذئب، وأشباه هذه. وما كان منها جبانا، خلقت له آلة تصلح للهرب، كالأرنب والثعلب، وأشباه هذه من الحيوانات. فلذلك بنى جسم الإنسان أيضا بناء يلاءم نفسه. فنفس الإنسان لما كانت أصفى النفوس وأعدلها، بنى لها جسم أكمل الأجسام أعضاء، وأتمها هيئة، وأعدلها مزاجا، لتكون أفعاله تامة كاملة متقنة، ككمال نفسه وتمامها وشرفها.
Bogga 15
وأيضا لما كان البدن آلة للنفس، وكانت أعضاء البدن مخلوقة لنفس الحيوان بحسب قواها، وكان لكل حيوان من الحيوانات عمل يخص ذلك النوع من الحيوانات، لا يقدر على غيره، وأعضاؤه كلها مرافد بعضها بعضا فى مصالحه، وفى إكمال ذلك العمل — كالذى نجده من عمل الزنبور والنحل والنمل لثبوتها، كل واحد بحكم ثبوته، وبشكلها بغير تشكيل الآخر، لكن بحسب ما يلاءم مصلحتها، وكنسييج العنكبوت لأخبيته، ودود القز، وما سوى ذلك من الحيوان — وكان الإنسان لشرف نفسه ولكمالها، ولقوة عقله على العلم بجميع المهن والصنائع، وإن الحكيم جل ذكره لما أراد إظهار ما فى قوة نفس الإنسان إلى الوجود بالفعل، خلق أعضاء جسمه أكمل وأتم، ليقدر على جميع ما يعمله الحيوان طبعا بعقله. فخلق تبارك له اليدين، ليقدر بهما على عمل ما دق من المهن، وما جل، وليتخذ بهما أنواع السلاح، كالسيف والرمح والنشاب والترس، ويروض الخيل، ليركبها. إذ كانت هذه الأشياء متفرقة فى الحيوانات، كالذى يوجد من الأنياب للخنزير لينجل بهما، فيقطع ما أمكنه قطعه، كقطع السيف، وكرمى القنفذ بشوكه، كرمى السهم، وكالقرون والمخاليب والجنن لسائر الحيوان. وليست توجد أمثال هذه مجموعة تامة كاملة، إلا للإنسان وحده، لأنه بعقله يلتمس الأعمال ويقومها.
أما الحيوان، فإنما له عمل واحد يعمله بطبعه. ألا ترى أن الحيوان لما كان بأسره مضطرا فى البقاء إلى المأكول والمشروب، والمكان، والستر من الحر والبرد، والتناسل، صار بطبعه يتخذ له الأعشاش والبيوت، وبطبعه يعرف أنواع أغذيته الموافقة له فى بقائه لا يبعد عنها، ومشروبه لا يتعداه، ويزاوج الذكور من كل نوع أناسه للنسل، لا يتجاوز ذلك، وبعضه فى أوقات من الزمان لا يزيده، وما لم يقدر عليه من مصالحه بطبعه، خلقه الله تعالى له لطفا به، لئلا يهلك، كالأصواف والأوبار والريش والشعر والجنن التى هى كسى له ساترة من الحر والبرد.
وأما الإنسان العاقل، فلما وهب الله تبارك وتعالى له ما هو أشرف من الطبع، وتوجه بالحكمة والعلم بالأمور الزمانية السالفة اللائقة، وصار يعلم ما يصلحه، له أن يتصرف بعقله فيما يختاره من اتخاذ الأبنية والكسى وأنواع الأغذية والأشربة، وله أن يقاوم بعقله المضار والمؤذيات الطبيعية والاختيارية جميعا. وذلك أن اللذة مقرونة بالأمور الطبيعية خلقها الخالق تعالى بحكمته فى الأمور المحسوسة والحواس، ليشتاق الحيوان إلى ما يلتذ به، فيستعمله. ولولا ذلك، لم ينسل الحيوان، ولم يبق. ولما كان الطبع يلتذ ويشتاق إلى اللذات، ولم يكن لأنواع الحيوانات عقل يقدر لها 〈من〉 الأمور اللذيذة ما يكفيها، لطف لها الخالق تبارك بتقدير ذلك لها طبعا، فلا تأخذ من كل لذيذ إلا ما يصلحها ويكفيها. ولذلك عدمت أكثر الحيوانات أكثر الأمراض التى تعرض للإنسان.
فأما الإنسان، فله عقل يقدر أن يميز به لطبعه الضار من النافع ويقدر له من الأغذية والأشربة وسائر ما هو مضطر إليه الكافى. فلذلك ترك وطبعه. فإن تبع ما يأمره به طبعه من استعمال الأشياء، واتخاذها للذاتها، ولم يتق ما يتبع اللذة من المضار والآفات، دخلت عليه الأمراض والأعراض، ولم يوقف عليه الهلاك، لأنه يكون فى ذلك دون البهائم، لما لم يجعل لها عقل تقدر به، كما قلنا قبل، صار لها التقدير طبعا، فهى بذلك أصلح حالا وآمن وخير ممن لا يتأدب بعقله.
Bogga 16
فأما من تدبر بعقله الأمور، وتبع ما يأمر به عقله وشرعه، وسلك فى طرقهما ومذاهبهما، فهو الفاضل الأديب، وهو الإنسان بالحقيقة.
ولما اختلفت طبائع الناس لاختلاف أمزجتهم، احتاج العقل أن يضع لكل ما خالف الأمر المعتدل ما يرده إلى الاعتدال. وما يضعه العقل من ذلك هو على ضربين، أحدهما تعليم ما عدل أخلاق النفس، والآخر ما عدل مزاج البدن. فأما تعليم ما عدل أخلاق النفس، وأكسبها الفضائل، وهداها سبل الحق، لتزهد بذلك فيما يأمرها به الطبع من اتباع اللذات المؤدية بها إلى سبل الشر والرذائل، فهو التعليم العقلى، والتأديب الذى به ينتقل الإنسان من الأخلاق البهيمية إلى الأخلاق الشريفة النفسانية. وهذا المكتسب من التأديب، إذا رسخ وثبت فى النفس الإنسانية بالعادات التى يوجد الإنسان بها منذ صبائه، والتأديب الذى يؤدبه أهل الآداب، يسميه القدماء عقلا مكتسبا، ومنزلته من العقل الكلى منزلة شعاع الشمس من الشمس. فكما أن بضياء الشمس يستنير الهواء، وبوقوعه على المحسوسات تدركها الحواس، كذلك بما للنفس من ضياء العقل الكلى تقبل التأديب، وتتصور ما يصور لها، فيظهر نورها ونهارها. وكلما زاد نورها، استمرت من العقل نورا تستضئ به وتفتش عن الفضائل والعلوم، فيكون بذلك الإنسان عالما أديبا، يتبع علمه ويقتدى به.
ومن علم بأن الله تعالى قد خصه بجزء من ذلك، وأقدره على أن ينفع به غيره، فقد وهب له نعمة لا تفسد ولا تبيد. وقد وجب عليه ألا يفتر طرفة عين عن شكر المنعم عليه، وأن يمنح تلك النعمة لمن طلبها، وينعم عليه بإخراجه واستنقاذه من لجج ظلمات الجهل المميت إلى علو نور العلم المحيى. فإن من أدب نفسه، فقد أكسبها حياة دائما. وإلى الله نبتهل فى إحياء نفوسنا بإحسانه، وله نشكر أبدا دائما!
وإذا كان هذا الضرب الأول من تعليم العقل وتأديبه للطبع، فقد ذكرنا منه فيما تقدم جملا مشوقة للأحداث إلى التعليم والتأديب، وسائقة لهم إلى منافعهم فى دنياهم، مدة بقائهم، وفى آخرتهم بعد موتهم، فقد آن لنا أن نذكر الضرب الثانى من التعليم العقلى، وهو المعدل مزاج البدن، والحافظ عليه صحته، ليكون بذلك هذا التعليم تاما، والغرض الذى قصدنا نحوه فى كتابنا هذا كاملا. وأنا أذكر الممكن ذكره من هذه الجمل بطريق قريبة، ومقاصد سهلة، وبألفاظ مألوفة، وعبارة معروفة، ليقرب على محب الأدب والتعليم غرضه، ويسهل عليه مطلبه، وبالله أثق واستعين، فأقول:
Bogga 17
إن التعليم الثانى الذى نصبه العقل ووضعه، لتقويم الطبع، وإصلاح الإنسان، هو ما عدل جسمه، وأكسبه صحة، أو ما حفظ على الجسم صحته. وهذا التعليم والعمل به هو المسمى صناعة الطب، وهى التى وهبها البارئ تعالى للعقل، فنصب العقل للعقلاء أصولها، وعلمهم استخراج فروعها بطريقين هداهم بهما سبلها، وهما طريق القياس، وطريق التجربة. فبهذين الطريقين جميعا مجموعين استخرج علماء صناعة الطب علمها، ووصلوا إلى أعمالها.
وإذا كان قد اتضح لك، أيها المحب لتعلم صناعة الطب، أصول طرق التعاليم التى نصبها العقل للعقلاء وانكشف لك منها جمل، فارجع بنا إلى بسط التعليم الثانى، وهو المصلح للجسم، فإنى أحدثك فى طريق سهل المرام، واضح المسلك قد سبقنا من تقدم من العلماء بتوطئته، وأبان لنا سبله.
وأول المبادئ لهذا الطريق لمن أراد تعديل جسمه أن يفتقد أفعاله، إذا رام أعماله، فإن وجدها جارية مجاريها، ولم يتعذر عليه فعل ما ولا عمل من أعمال جسمه، فليعلم أن جسمه صحيح، لا مرض به. وكذلك ينبغى أن ينظر فى أمر عضو عضو من جسمه. فإن العين خلقت لتبصر المبصرات من الألوان والأشكال وغيرها. فإن وجدها تدرك مبصراتها بلا عائق ولا تقصير، قيل لها صحيحة، وإن قصرت أو لم تبصر، قيل لها مريضة، أو عادمة الإبصار. وكذلك القول فى سائر أعضاء البدن، وفى جملة البدن. ثم بعد العلم بالصحة وبالبدن الصحيح، يجب أن تعلم بماذا تحفظ الصحة على الصحيح، لئلا تزول عنه فيقع فى المرض.
ثم يتبع هذا التعليم الثانى بتعليم ثالث، وهو أن يعلم المريد إزالة المرض عن الجسم، إذا حل به المرض، ما هو المرض ، وأى الأمراض هو، وكيف يزال، وبأى الأشياء والتدابير يزال. ويحتاج بالضرورة إلى علم جميع ذلك من رام علاج الأمراض ولأن ليس غرضنا فيما نذكره هاهنا شيئا من هذا الفن، فلذلك لا نذكر من هذا التعليم الثالث شيئا، إلا ما جرى بطريق العرض فى فروع الكلام. ولكنى أقول أن ما أذكره فى هذا الباب الثانى من هذا الكتاب من حفظ الصحة، وتعديل الجسم بالأغذية والأشربة والتدابير، وتعريفى جملا من تقدير هذه على طريق القانون، فإنه ينبه ذا اللب والفطنة إلى معرفة أصول تدابير المرضى، وجمل ينتفع بها فى علاجهم. وهو أيضا يحث المتعلمين على طلب معرفة الأمراض، وما يعالجون ويدبرون به المرض.
فلنرجع إلى غرضنا، فنقول لمن علم أن بدنه صحيح: إن أول ما ينبغى لك أن تعلمه فى حفظ صحة بدنك، أن تعلم بماذا يحفظ الصحيح، لتقدر على حفظ صحتك، ومن ذلك بالضرورة 〈أن〉 تعلم بأى شئ تجتلب الصحة، إذا فقدت. فاعلم الآن أن الصحة تحفظ بما شابهها، لأن الشبه يحفظ شبهه.
Bogga 18
ولذلك يكون اجتذابها بما يضادها، لأن الضد ينفى ضده. ولا يغلطك ما تراه من إصلاح أمزجة حارة مثلا بأشياء باردة، وأمزجة باردة تصلح بأشياء حارة. فإن ذلك علاج مرض، لا حفظ صحة.
ولأن الصحة هى الطبيعية للبدن لأنه لم يقصد بخلقه إلا ليكون صحيحا، وقد ذكرنا معرفة ما الصحة قبيل باختصار، فيجب أن نجمل القول فيها ونصفها بما حدها به قدماء الأطباء فقالوا: إن الصحة هى حالة طبيعية للجسم، يتم له أفعاله بها. ولما كانت أفعال الجسم كثيرة، لأن عددها مساو لعدد أعضاء الجسم الآلية، وجب أن يكون كل فعل من أفعال آلات الجسم إنما يتم بصحة تلك الآلة، كالذوق الذى لا يتم إلا مع صحة الفم وآلاته، وكذلك البصر وسائر الأفعال.
وأعضاء البدن الآلية، أعنى التى هى آلات لأفعاله، تتم صحتها بثلاثة أشياء، أحدها اعتدال مزاج العضو، والثانى اعتدال هيئته، والثالث اعتدال اتصاله. ويجب أن تعلم أيضا أن اسم الاعتدال يعم ثلاثة معان، أحدها اعتدال تتساوى فيه الأسطقسات فى البدن، فيكون فيه من الحار مثل ما فيه من البارد، ويكون فيه من الرطب مثل ما فيه من اليابس، وهذا مزاج لا يمكن وجوده حسا، بل فهما، لأن الجسم لا يمكن أن يبقى طرفة عين بحالة واحدة، لكن تغيره واستحالته دائمة. والصنف الثانى من الاعتدال هو ما قرب من هذا الأول، وداناه، وهو أيضا قليل الوجود. فأما الصنف الثالث، وهو الكثير الوجود، فهو الذى هو بالحقيقة مائل إلى أحد الأربعة الأمزجة المركبة، أعنى الحرارة مع اليابس، أو إلى الحرارة مع الرطوبة، أو إلى البرودة مع الرطوبة، أو إلى البرودة مع اليبس، إلا أنه مع ذلك صحيح الأفعال، لا يذم منها شئ فلذلك سمى معتدلا.
ولذلك يجب أن يكون حفظ الصحة لكل واحد من هذه الأمزجة لا يتم، إلا بعد معرفتها بمقادير ما لها من كل كيفيتين من هذه المزاوجات وبعلامات صنف صنف منها، يعلم ما بها تحفظ، وبجميع كميات ذلك، وكيفياته وأماكنه وأزمنته، وغير ذلك مما قد شرحه قدماء الأطباء فى كتبهم، فاعلم ذلك! وينبغى أن يكون حاضرا لذكرك أيضا أن عملك إن كان فى شخص من الأشخاص، وكانت الأشخاص مختلفة الأمزجة، وصحة كل واحد منها يخص مزاجه، ولكل مزاج علامات تخصه، وتدابير توافقه، فيجب لذلك أن تتدبر وترتاض فى معرفة الحدس الصناعى الذى به تصل إلى التقدير، ولن تصل إلى ذلك، إلا بأحكام علم القوانين النوعية.
فإن اقتنيت علم الأصول والقوانين، وتدربت بالحدس، فخذ بنا الآن فى الكلام فى الطرق الجزئية التى ينبغى أن يسلكها حافظ الصحة على بدنه. وأول من يجب أن يعلم هذه الطرق، ويقتنيها ويعمل بها، هو الطبيب لأن من أقبح الأشياء أن يرى العاقل من الناس أن مصلحته فى شئ، وهو يعمل ضده، لسيره إلى لذة ما أو لهو آخر غير ذلك.
Bogga 19
وبعد إحكام الطبيب لما ذكرناه من جمل الأصول وفروعها، فيلزمه أن يعلم أن الأبدان لا تثبت على حالة واحدة، لسرعة تغاير الأزمان لها، وتبدل أمزجتها، فالأبدان لذلك تنحل دائما وتنقص. فلذلك هى محتاجة إلى ما يخلف عليها عوضا لما تحلل منها. والمخلف عليها ذلك هو الغذاء. ولأن لا سبيل لنا إلى أن نورد إلى أجسامنا مثل ما تحلل منها سواء فى مشابهته ومقداره، لأن ذلك من أعمال الطبيعة، فلذلك وجب علينا ألا نورد إلى أجسامنا، ونحن نريد أن نغذوها، ما بعد عن مشابهتها بعدا كبيرا، لكن نجتهد فى أن يكون ما نورده من المأكول والمشروب أشده مشابهة لأجسامنا، وأقربه من نوعها، وأسرعه استحالة إليها.
وبغير شك أنه من لم يحكم تعرف مزاج جسمه، ويحكم معرفة أنواع المأكولات والمشروبات، ويعلم مقدار مزاج مزاج من جميع ذلك، أنه لا يقدر على معرفة ما يحفظ صحته من الأغذية والأشربة، ولا يحسن تقدير ما صلح منها لنفسه، ولا لغيره. وأيضا فإذا كانت المأكولات والمشروبات القريبة الشبه لأبداننا، الموافقة لأمزجتنا، ولو على غاية ما يمكن من المشابهة، لا تغذو أبداننا، ولا تلصق بأعضائنا، إلا من بعد طبخ أعضائنا لها، ونضجها، وبعد تمييز الطبيعة لها، لتدفع إلى كل عضو ما يشاكله ويشبهه.
فلابد من فضلات لا تصلح لتغذية الأعضاء، فيجب بروزها. فلذلك أعد البارئ تعالى فى جسم الإنسان موا ضع تجتمع فيها، وطرقا تبرز منها، لئلا يفسد بكثرتها، وطول مقامها. ولذلك صار واجبا على حافظ الصحة أن يفتقد هذه الجوائز والطرق، هل أفعالها جارية على الأمر الطبيعى، وهل هى فى خدمتها لطبيعة ذلك البدن على ما ينبغى، أم محتاجة إلى معاونة من خارج. فإن من أفعال الطبيب تفقد ذلك، وإعانة الطبيعة بجميع الوجوه على إخراج ما كثر، وإصلاح طرقها بحسب طاقته.
Bogga 20
فقد بان إذا مما قلناه أن الطبيب يلزمه العلم بما يورده إلى البدن بنوعه، وبسائر حالاته وإصلاحاته، وبالحالات التى للطريق التى يرد فيها، وبإصلاحاتها، كالذى ذكرناه فيما يبرز من البدن. وقد بين القدماء من الأطباء أن الغذاء، إذا ورد إلى المعدة، فإنه ينطبخ فيها طبخا أول، فإذا جذبت الكبد إليها صفوته بالعروق المسماة الماساريقى وتفسيرها المصافى، فإن الثفل الذى يبقى يترك فى الأمعاء ويجتمع فى المعاء الأعور، ثم يبرز بآخره. وإن الصافى النافذ إلى الكبد ينطبخ أيضا فيها طبخا ثانيا، وبعد إنفاذها إلى الأعضاء ما يصلح لكل واحد منها، تبقى منه فضلات تنفذ إلى الكلى، ثم إلى المثانة، ثم تبرز بالبول. وما يرد إلى عضو عضو ينطبخ أيضا طبخا ثالثا فى ذلك العضو، قبل أن يتشبه به، ثم يلصق بالعضو ما شابهه، وما لم يشابهه، برز عنه بالعروق والتحليل الخفى عن الحس.
وإذا كان ذلك كما قلنا، فالواجب على الطبيب أن يفتقد ما يخرج ويبرز بنوعه وكميته وكيفيته ووقته، وأن يعين الطبع على بروز ما يبرز بالرياضة والدلك والدهن. ولكل واحد مما ذكرناه أنواع مختلفة تفعل أفعالا مختلفة، يصلح كل صنف منها لبدن من الأبدان، وفى زمان ومكان، وبحسب حال ليس هو للأبدان الأخر. فاجتهد، أيها الطبيب، فى معرفة ذلك واقتن علم أصول ذلك من الكتاب الذى ألفه معلمنا جالينوس فى تدبير الأصحاء وهو ست مقالات!
وأيضا مما ينبغى أن نذكره قبل ذكر التدابير المصلحة للأعضاء، وواجب على الطبيب علمه، هو أن الأعضاء على ضربين، منها ظاهرة للحس كالعينين واليدين والرجلين، ومنها باطنة كالمعدة والرئة والكبد. وأيضا من الأعضاء أعضاء رئيسية، هى أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان. ويجب أن لا يهمل تفقد صنف صنف منها، ولكن تكون العناية بتفقد الباطنة منها أوكد، لاستتارها على الحس.
فلنأخذ الآن فى ذكرها، ونذكر تدابيرها ومصالحها التى لا يسع الطبيب الجهل بها، لا فى نفسه، ولا فى غيره. ولنبدأ منها بالأشرف، ثم نتبع ذلك بالقول فى عضو عضو على ترتيب، بعون الله وتوفيقه.
Bogga 21