فمسح على مفرق شعرها بحنان، متعوذا بالصمت ريثما يرتب أفكاره، ثم قال: لعلك تتساءلين كيف يريدني على أن أبقى في بيته؟! .. فأذني لي أن أسألك بدوري: لماذا تعودين إلى المدق؟ .. ألتنتظري هناك شأن الفتيات البائسات حتى يتعطف رجل من مخلوقات الزقاق فيتزوجك ويلتهم حسنك النضير وشبابك الغض، ثم يتركك لقى في الزبالة؟! لست أحادث فتاة بلهاء تذهب بها كلمة فارغة وتجيء بها أخرى، ولكني أعلم علم اليقين أنك شابة قليلة الأشباه، جمالك فتان، ومع ذلك فهو مزية واحدة بين مزايا عديدة تكاد تغطي عليه. أنت الجسارة نفسها، ومثلك إذا أراد شيئا يقول له: كن فيكون.
وانكفأ لونها، وجمدت قسماتها، فقالت بحدة: هذه دعابة لا تجوز علي! .. بدأت مازحا، وانتهيت وكأنك جاد. - دعابة؟! .. لا والله، لا وحق قدرك عندي، أنا لا أداعب حين الجد خاصة شخصا مثلك ملأني تقديرا واحتراما وحبا. وإذا صدق حدسي فأنت قلب كبير يستهين بكل شيء في سبيل سعادته، ولا يمكن أن تقف في سبيله عقبة. إني أريد شريكا في حياتي، وإنك لشريكي دون الناس جميعا.
فهتفت به في انفعال شديد: أي شريك؟! .. إذا كنت تجد حقا فماذا تريد؟ .. الطريق بين. فإذا أردت ...
وكادت تقول: «أن تتزوجني»، ولكنها أمسكت، وسددت نحوه نظرات حادة مريبة، فلم يفته مرادها، واستشعر سخرية باطنة، ولكنه واصل سيره حيث لم تعد ثمة فائدة ترجى من التراجع، فقال بحماس تمثيلي: أريد شريكا محبوبا نقتحم معا حياة النور والثروة والجاه والسعادة، لا حياة البيت التعسة والحبل والولادة والقذارة، حياة النجوم اللاتي حدثتك عنهن.
وفتحت فاها منزعجة، ثم انبعث من عينيها نور مخيف، واصفرت غضبا وحنقا، وغلبها الهياج فصاحت به وقد استقام ظهرها: تدعوني للفساد! .. يا لك من مفسد أثيم.
هكذا هدرت في غضبها؛ وإن كان غضبها للمفاجأة التي دهمتها والخيبة التي أدركتها أكثر منه للفساد الذي لم تعتد أن تثور له!
وتبسم الرجل كالهازئ وقال: إني رجل ...
ولكنها قاطعته صارخة مدفوعة بطبعها الحامي: لست رجلا؛ بل أنت قواد.
فضحك ضحكة عالية وقال وما يزال يضحك: أليس القواد رجلا أيضا؟! .. بلى .. وهو رجل - وحق جمالك الفتان - ولا كل الرجال. وهل تجدين عند الرجل العادي غير وجع الدماغ؟! أما القواد فهو سمسار السعادة في هذه الدنيا! ولكن لا تنسي أني محبك كذلك. لا تدعي الغضب يحطم حبنا. إني أدعوك للسعادة والحب والجاه. ولو كنت فتاة بلهاء لخادعتك، ولكني قدرتك فآثرت معك الصراحة والحق. إن كلينا من معدن واحد ، خلقنا الله للحب والتعاون، فإذا اجتمعنا اجتمع لنا الحب والمال والجاه، وإذا افترقنا للشقاء والفقر والذل، أو افترق أحدنا - على الأقل - لذلك.
ولم تتحول عنه عيناها، وراحت تتساءل في ذهول: كيف تمخض عن هذا؟! ولبث صدرها يجيش بالهياج والانفعال، ومن عجب أنها ثارت به ووجدت عليه وتغيظت منه، ولكنها لم تحتقره، ولم تنفك عن حبه لحظة واحدة! لا، بل لم تنس - حتى في عنفوان هياجها - أنها تصارع الرجل الذي لقنها الحب وثبته في أعماقها. وأرهقها الانفعال فنهضت قائمة في حركة عنيفة وقالت في سخط وغيظ: لست كما تظن.
Неизвестная страница