قال ذلك صادقا رغم رائحة الغاز التي ذابت في أنفه، فلذها إطراؤه؛ بيد أنها سألته: إلام نبقى هنا؟ - حتى يتم التعارف بيننا، فلدينا بلا ريب أشياء وأشياء ينبغي أن نقولها، أخائفة أنت؟ .. محال! .. أراك لا تخافين شيئا!
فغلبها السرور حتى اشتهت أن تقبله، ورنق الصفاء في صدرها. وكان يتفرس في وجهها فقال لنفسه: «الآن فهمتك يا ابنة اللبؤة!» ثم قال لها بصوت تنتفض نبراته حرارة: لقد اختارك قلبي، وقلبي لا يكذبني، ومن يجمعهما الحب لا يفرقهما شيء، فأنت لي وأنا لك.
وأدنى وجهه منها كالمستأذن، فمالت بعنقها نحوه، فالتقيا في قبلة عنيفة، واستشعر ضغط شفتيها الساحر على شفتيه يكاد يعصرهما، فهمس في أذنها: محبوبتي .. محبوبتي.
وزفرت من الأعماق، ثم اعتدلت في جلستها لتسترد أنفاسها، وراح يقول برقة بالغة في صوت كالهمس: هنا مكانك، وهذا بيتك، بل هنا (وأومأ إلى صدره) مأواك .. فضحكت ضحكة قصيرة وقالت: أراك تذكرني بأنه ينبغي أن أعود الآن إلى البيت.
وكان في الواقع يستلهم خطة مرسومة من قبل، فقال بإنكار: أي بيت تعنين؟ .. بيت الزقاق! .. آه، ليتك تمسكين عن ذكر ذاك الحي جميعا. ماذا يعجبك في هذا الزقاق؟! لماذا تعودين إليه؟!
فضحكت الفتاة قائلة: كيف تسألني عن هذا؟! أليس هو بيتي وأهلي؟!
فقال بازدراء: لا البيت بيتك، ولا الأهل أهلك، إنك من طينة أخرى يا محبوبتي، ومن الكفر أن يعيش جسم حي نضير في مقبرة مليئة بالعظام النخرة! ألم تري إلى الحسان يرفلن في الثياب الفاخرة؟ وإنك لتفوقينهن جمالا وفتنة، فكيف لا تخطرين مثلهن في المطارف والحلي؟ .. إن الله أرسلني إليك لأرد إلى جوهرك النفيس حقه المسلوب؛ وعلى ذلك أقول: إن هذا بيتك وكفى.
ولعبت كلماته بقلبها كما تلعب أنامل العازف بأوتار الكمان، فخدر شعورها، وتقارب جفناها، ولاحت في عينيها نظرة حالمة؛ ولكنها تساءلت: ماذا يعني يا ترى؟ .. هذا حقا ما يهفو إليه فؤادها، فما السبيل إلى تحقيق الأحلام وتقريب المنى؟ .. لماذا لا يفصح عما يريد ويصرح بما ينوي؟ .. إنه يعبر أروع تعبير عن آمالها وأحلامها ورغباتها، إنه ينطق بلسانها الخفي ويشي بأعماقها جميعا، إنه يجلو الغامض الخفي ويجسم المعروف حتى لكأنها تراه رؤية العين، إلا شيئا واحدا لم يمسسه صراحة، ولم يقتحم السبيل إليه، فما حكمة التردد يا ترى؟! ونظرت إليه بعينيها الجميلتين الجسورتين وسألته: ماذا تعني؟
فشعر الرجل بأنه ينتقل إلى مرحلة خطيرة من مراحل خطته المرسومة، ورماها بنظرة منوم بارع، ثم قال بصوت خافت: أعني أن تبقي في البيت اللائق بك، وأن تتمتعي بأسعد ما تجود به الحياة.
وضحكت ضحكة قصيرة في ارتباك وحيرة وتمتمت: لا أفهم شيئا!
Неизвестная страница