فقد يبست أمعاؤهم وجفت دماؤهم وتصلبت مفاصلهم، وأصبحوا كالأصنام المنحوتة بعد الذي ذاقوه من مر عذاب المسير وقطع الوهاد ومناوأة القبائل، فضلا عن الجوع والبرد وغير ذلك من أنواع البلاء الذي أنزلته بهم الطبيعة، ثم إن سلاحهم متحطم وخيولهم عرج وكل أدوات قتالهم معطلة بحيث لا تصلح بعد لشيء، وغاية ما أخشاه الآن هو أن العالم ينكر علينا مجد الانتصار عليهم، ويقول لنا إن جبال الألب هي التي قهرت هنيبال لا الجيش الروماني.
ومهما يكن الظفر بهم سهلا يجب علينا أن نتذكر فوق كل شيء أن أمورا جسيمة تتوقف على هذا العراك، فنحن في ملاقاتهم لا نسعى وراء الأمجاد فقط؛ لأنه إذا انتصر هنيبال يزحف على رومية دون ريب، وتصبح نساؤنا وأولادنا وكل ما نملكه تحت مطلق رحمته، فتذكروا هذا وانزلوا إلى ميادين الوغى شاعرين أن رومية نفسها متوقفة على النتيجة.»
وقد نسب إلى هنيبال أيضا خطاب بليغ ألقاه على جنوده بمناسبة هذه المعركة، فأبدى فيه براعته ودهاءه وما له من موهبة الاختراع والإبداع، وأجاد إلى الغاية في لفت الأنظار كلها؛ لتنحصر فيما كان مزمعا أن يقوله بالطريقة التي هيأ بها الجيش لسماع خطابه، فأوقف جيشه في شكل دائرة كان أرادها أن تشهد منظرا غريبا خارقا، وأتى بعدد من الأسرى الذين وقعوا في قبضته عندما اجتاز جبال الألب وجعلهم في وسط تلك الدائرة، ولعلهم كانوا الرهائن الذين سلموا إليه كما تقدم القول عن ذلك في الفصل السابق.
وسواء كانوا أسرى أم رهائن فإن هنيبال استقدمهم مع جيشه إلى إيطاليا، وأتى بهم إلى وسط تلك الدائرة وألقى أمامهم مثل الأسلحة التي اعتادوا استعمالها في أوطانهم الجبلية، ثم سألهم عما إذا كانوا يريدون استخدام هذه الأسلحة في محاربة واحدهم الآخر، على شرط أن الذي يقتل خصمه منهم يطلق سراحه ويعطى جوادا وسلاحا؛ ليرجع بهما إلى وطنه بالفخر والشرف.
فقال أولئك البرابرة إنهم يفعلون، وامتشقوا تلك الأسلحة من فورهم ليقتلوا بها، فأجاز هنيبال لزوجين أو لثلاثة أزواج فقط منهم العراك لوحدهم، فقتل واحد من كل زوج وأطلق سراح الآخر ومنحه حريته التامة كما وعدهم هنيبال، فكان هذا العراك عاملا على إثارة شجاعة جنود هنيبال ومهيجا لنشاطهم ومجددا الميل إلى الحرب فيهم، وعندما تم لهنيبال من تلك الرواية ما أراده من التأثير على الجيش أطلق سراح الباقين من الأسرى، وعندها خاطب هنيبال جيشه المحيط به من كل جانب بما يأتي: «أيها الجنود، لم أقصد بما شهدتموه الآن مجرد إيجاد لهو وتسلية لكم، بل أردت به إبداء صورة لحالتكم الخصوصية، فأنتم محصورون من اليمين واليسار بين بحرين، وليس لكم في مياه أحدهما مركب واحد، وهناك نهر «بو» وجبال الألب من الوراء، ونهر «بو» أعمق وأسرع جريا وأوفر اضطرابا من نهر الرون. أما جبال الألب فيكفي أن أقول لكم إنكم لم تجتازوها إلا بشق النفس والعناء الكبير أيام كنتم على جمام وفي منتهى القوة والنشاط، فهي لكم الآن سور يستحيل تسلقه، وعلى هذا تكونون محصورين كالسجناء من كل جانب، ولا رجاء لكم بالحياة ولا أمل بالحرية إلا إذا حاربتم وانتصرتم.
على أن الانتصار والحالة هذه لن يكون صعب المنال، وأنا حيثما وجهت نظري بينكم أرى على وجوهكم سيمياء التصميم والشجاعة التي أؤكد أنها ستجعلكم الفائزين، فالجنود التي ستواجهكم هي على الغالب حديثة العهد بالحروب، أي إنها تجندت مؤخرا بحيث لا تعرف شيئا عن النظام وعيشة المعسكر، ولا تستطيع الثبات أمام أبطال حروب عديدة مثلكم حنكتهم المعارك، وجعلهم التمرن على خوض المعامع من أصلب المحاربين عودا وأشدهم ثباتا في حومة الوغى، إنكم تعرفون بعضكم بعضا وتعرفونني حق المعرفة، وأنا في الواقع كنت تلميذا معكم أعواما عديدة قبل استلامي زمام القيادة.
وأما جنود سيبيو فغرباء واحدهم عن الآخر وغرباء عن قائدهم أيضا؛ ولهذا فليس بينهم رابطة شعور مشتركة، أما سيبيو نفسه فهو لم يتول القيادة إلا من مضي ستة شهور فقط، وإني ألفت أنظاركم إلى الحياة الهنيئة المفعمة باللذات التي يهيئها لكم النصر، إنه يقودكم إلى رومية ويجعلكم سادة مدينة من أعظم مدن العالم صولة وثروة، ولقد كنتم لحد هذا الوقت تحاربون لإحراز المجد أو للسيطرة على الأعداء فقط، أما الآن فإن جهادكم سيمنحكم ما هو أعظم فائدة وأجمل عائدة إذا ظفرتم.
فإن هنالك كنوزا عظيمة تقتسمونها بينكم إذا انتصرنا، وأما إذا انكسرنا فإننا نهلك عن آخرنا، وبما أننا محصورون من كل جانب فلا يوجد لنا ملاذ يمكننا الوصول إليه بالفرار، ولكن كونوا على يقين من أن الفرار متعذر علينا ولهذا يجب أن ننتصر.»
ومن الصعب جدا أن نعتقد أن هنيبال كان يشعر حقيقة، وعن إخلاص، بالثقة التي أوضحها لجنوده في خطابه، فقد كان بدون شك شعر بشيء من المخاوف يومئذ، وفي الواقع أن كل المشاريع التي يقوم بها الإنسان وأدلة النجاح التي تبدو له فيها والآمال المبنية عليها تتبدل مترددة بين اليأس والرجاء من حين إلى آخر، بحيث يكون ما يشعر به من الحصول على الفوز ممزوجا بشيء من الاحتساب والوجل وانقطاع الرجاء.
وهذه الحالة يشعر بها كل الناس شجاعهم وجبانهم نشيطهم وضعيفهم، على أن الشجاع منهم لا يسمح لتذبذب الرجاء واليأس بالتأثير على عمله، ولا يجيز للمخاوف التسلط على تدابيره وإزالة ما في صدره من الثقة، فهو يعتبر أول كل شيء الأمور الجوهرية التي تمنيه بالنجاح، وذلك قبل الابتداء بعمله، ومن ثم يتقدم إلى الأمام شيئا فشيئا تحت كل الظروف، وبالرغم من كل حالة جوية سواء كانت مطرا أو صحوا إلى أن يبلغ الغاية وينال ما هو ساع إليه.
Неизвестная страница