أما غير القدير وغير الخبير والمتردد فلا يجاهد إلا عندما تبدو له تباشير الرجاء، فالغاية التي يسعى إليها يجب أن تبقى ظاهرة أمام عينيه في كل وقت، فإذا اختفت في ساعة غير منتظرة تذهب ريحه ويرتبك في تدابيره، ولا يعود قادرا على الإتيان بحركة إلا إذا أعادتها التقادير مرة أخرى فمثلتها أمامه. وغني عن البيان أن هنيبال كان من أهل النشاط والتصميم فإن الوقت الذي فكر فيما إذا كان يحرك سواكن غضب الإمبراطورية الرومانية، ويقدم على محاربتها قد بلغ أعظم الدرجات في نظره عندما انتظمت صفوف جيشه على ضفاف نهر إيباروس وقبل أن يعبره، فنهر إيباروس كان في نظره حد الفصلين، فإذا اجتازه لا يعود أمامه إلا الإقدام؛ لأن وقت التردد يكون قد مضى. فالصعوبات التي عاناها من وقت إلى آخر كانت تلقي سحابا قاتما على أنوار آماله، لم تكن إلا لتستزيده تصميما وتجدد فيه روح النشاط والإقدام، ومثل ذلك شعر عند جبال البيرنيه وعند نهر الرون، وبمثله أحس في جبال الألب حيث الأخطار الهائلة والضيقات التي تضعضع القوى البشرية كانت كافية لحمل أي قائد آخر على الرجوع، وقد أصابه الآن مثل ذلك، حيث وجد نفسه مع جيشه محصورا من كل جانب بجبال إيطاليا التي لا يتوقع اجتيازها مرة أخرى، وبما هو عتيد أن يواجهه من جيوش الإمبراطورية الرومانية الراصدة على مقربة منه بقيادة أحد قنصلي رومية.
على أن الخطر المحدق به لم يحمله على الجزع ولا زين له التردد ولا صور له هول الموقف، ولم يكن الجيشان على مرأى الواحد من الآخر، على أنهما كانا في الحقيقة متقابلين على جانبي نهر «بو» وقد خطر للقائد الروماني أن يعبر النهر بجنوده، ويتقدم لملاقاة هنيبال الذي كان بعيدا عن ضفاف النهر أميالا معلومة، ولدى التفكير في كيفية عبور النهر والتدقيق في الوسائل المختلفة قر رأيه أخيرا على ابتناء جسر.
وقد اعتاد القواد إلقاء جسر من أي شكل كان فوق النهر المراد اجتيازه إذا كان عميقا، بحيث يصعب السير فيه إلا إذا كان عريضا وسريع المجرى مما يتعذر معه ابتناء الجسر، فإذا صادف جيش من الجيوش الصعوبة الأخيرة، فإنه يعبر النهر الذي يعترضه ركوبا في القوارب والأرماث والسباحة، وكان نهر بو في تلك النقطة متقارب الضفتين إلا أنه كان عميقا؛ ولهذا ابتنى سيبيو جسرا.
فقطع الجنود الأشجار القريبة من النهر ونجروها وألقوها في النهر على شكل متعارض أو متصالب، وأنيط بعضها ببعض فأصبحت أرماثا بإزاء بعضها بعضا بين الضفتين، وربطت بالبر من الجانبين فكانت على تلك الصورة أساسا لجسر، ثم وضعوا فوقها الأخشاب وغيرها بحيث صارت طريقا يصلح للمسير، وهكذا سار الجيش على ذلك الجسر بعد أن أوقفت فصيلة من الجند عند طرفيه لتحرسه.
ومثل هذا الجسر يصلح لوقت الحاجة وفي الأنهر ذات المياه الهادئة، كما لو أقيم على بحيرات ضيقة أو مجار بطيئة الجري حيث لا يوجد تيار، وكثيرا ما يبنى مثل هذه الجسر الموقت على مثل هذه المجاري بصورة دائمة، إلا أن أمثال هذا الجسر لا تصلح ولا تثبت فوق الأنهار التي تطغى؛ ذلك لأن شدة ضغط الماء عند طغيانه تحل روابط الجسر، وفضلا عن ذلك فإن النهر يحمل في طغيانه الشيء الكثير من الخشب أو الجليد فيصدم به الجسر لتعذر مرور هذه تحته، ويتكاثر ذلك إلى أن يميل الجسر من صدمته وينقلب بما عليه فيجرفه النهر إلى مصبه.
أما الجسر الذي ابتناه سيبيو فقد سد الحاجة فعبر جيشه عليه إلى الجانب الآخر سالما، ولما درى هنيبال بذلك أدرك أن المعركة قد دنت، وكان هنيبال وجيشه على مسافة خمسة أميال من ذلك المكان، وبينما كان سيبيو يشتغل في بناء الجسر كان هنيبال كعادته من يوم هبط من الجبال مشتغلا في إخضاع القبائل والأمم الصغيرة الموجودة إلى الشمال من نهر «بو». على أن بعضا من هاتيك القبائل قد والته ومالت إلى الانضواء تحت لوائه، والبعض الآخر كانوا حلفاء الرومانيين وأحبوا البقاء كذلك.
فعقد مع الذين والوه المعاهدات وأرسل إليهم النجدات، ووجه جنوده للتنكيل بحلفاء الرومانيين وإخضاعهم، على أنه عندما علم بأن سيبيو قد عبر النهر أصدر أمره بجمع كل فرق جيشه في مكان واحد تأهبا للعراك المقبل، ثم دعا رؤساء الجيش وأعلن لهم اقتراب ساعة المعركة، وردد على مسامع الجنود جميعا كلمات التشجيع التي تلفظ بها سابقا ، وزاد على ذلك بأن وعد الجنود بإعطائهم إقطاعات من الأرض إذا رافق النصر أعلامه، فقال لهم: «إني أعطي كل واحد منكم حقلا حيثما أراد إما في أفريقيا أو في إيطاليا أو في إسبانيا، وإذا فضل أحد منكم المال على الأرض فله ذلك، وعنذئذ يعود كل جندي منكم إلى أهله أو أصدقائه، ويعيش بهناء كما كان قبل الحرب، ويكون محسودا من أولئك الذين بقوا في الوطن، وإذا أراد أحد منكم الإقامة في قرطجنة أجعله وطنيا حرا، بحيث يقدر أن يعيش مستقلا وبشرف.»
ولكن ما هو الضمان الذي يحقق للجنود هذه المواعيد؟ ففي هذا الزمان يكون الضمان بمثابة رهائن أو بمال نقدي، أو بجعل حجج الأرض الموعود بها مع أناس مأمونين، أما في الزمن القديم فإن مثل هذه المعاملات كانت تتم على صورة مختلفة، فصاحب الوعد كان يقيد نفسه بالأيمان المغلظة يصحبها بطقوس دينية معلومة، يراد بها تثبيت ما وعد به وحصر المسئولية في شخصيته.
وهكذا استجلب هنيبال خروفا وأمسكه بيده اليسرى أمام كل الجيش واحتمل باليد اليمنى حجرا ثقيلا، ثم دعا الآلهة بصوت جهوري طالبا إليها إهلاكه كما سيهلك هو ذلك الخروف، إذا أخلف بوعده ولم يتمم تعهداته لرجاله، وعند ذلك ضرب الخروف ضربة شديدة بذلك الحجر فسقط الخروف ميتا عند قدمي هنيبال، وبذلك أصبح هنيبال مقيدا بوعده مرتبطا رسميا بكل ما تعهد به بتلك الحفلة وبذلك الدعاء.
فتضاعفت حماسة الجنود وشجاعتهم بهذه الوعود، وأصبحوا يتوقعون دنو يوم العراك بفارغ الصبر، أما جنود الرومانيين فكانوا فيما أظن في حالة فكرية تختلف عن هذه؛ فقد جرت جوار عدوها من طوالع النحس وتطيروا منها فحملتهم على اليأس والتشاؤم وضيقت منهم الصدور، ومن مدهشات الأمور أن يستسلم الناس لأمثال هذه الحوادث التي تقع بالصدفة ويتأثروا بها، وكانت إحدى تلك الحوادث أن ذئبا أتى إلى المعسكر من غابة هناك، وبعد أن جرح عددا من الجند أفلت ونجا بنفسه.
Неизвестная страница