وكانت بقية من سلم من الجيش القرطجني التي وصلت إيطاليا مبددة مريضة عريانة إلا قليلا، ومعدومة النشاط جانحة بالأكثر إلى الاستسلام للموت من الزحف إلى ملاقاة الجيش الروماني والجهاد لافتتاح إيطاليا ورومية، على أنه بعد أيام معدودة عمدوا إلى سد فراغ صفوف الجيش ولم شعثه، ومع أنهم ذاقوا الأمرين من الجوع في الجبال فقد توفر لهم الآن كل نوع من القوت، وهكذا نشطوا لترقيع ملابسهم الممزقة وإصلاح أسلحتهم المكسرة.
وكانوا في غضون ذلك يرددون على مسامع بعضهم البعض ذكرى الأهوال التي تعرضوا لها والمشقات التي عانوها وشوامخ الراسيات التي اجتازوها، ويعجبون من صبرهم واحتمالهم وما أقدموا عليه مما لم يقدم عليه رجال حرب قبلهم، وبهذا كانوا يعملون على تنشيط بعضهم بعضا وإثارة روح البسالة في صدور محلولي العزائم من رفاقهم، وحضهم على السير معا لإتمام العمل الجسيم الذي أتوا لأجله وإدراك الأمجاد المعدة لهم، والتي ستكون ثمرة جهادهم وشجاعتهم في المعارك التي سيقدمون عليها.
تركنا القائد سيبيو وجيشه عند مصب نهر الرون يتأهب لركوب البحر عائدا إلى إيطاليا بقسم من جيشه بعد أن وجه القسم الآخر إلى إسبانيا، فمخر سيبيو البحر على محاذاة الشاطئ القريب من جنوى ومنها سار يريد بيزا حيث نزل إلى البر، وهناك استراح قليلا لينظم جيشه بعد تلك السفرة، وبعث يستدعي الجنود الرومانية في شمال إيطاليا لتنضوي تحت لوائه، وقد أمل من ذلك حشد جيش لهام يمكنه من معاركة هنيبال.
وبعد أن تم له من ذلك ما أراد سار نحو الشمال مسرعا جهد الإمكان، فهو قد أدرك ما تكون عليه حالة جنود هنيبال بعد هبوطهم من جبال الألب، وأراد مهاجمتهم قبل أن يتمكنوا من الاستراحة وإصلاح ما أحدثته في نظامهم مشقات اجتياز جبال الألب الشاهقة، وهكذا واصل السير إلى نهر «بو» قبل أن يرى شيئا من آثار الجيش القرطجني، أو يسمع ما يدله على المكان الموجود فيه.
ولم يكن هنيبال في الوقت نفسه متكاسلا، فهو حالما نال جيشه قسطا من الراحة وأصبح في حالة تمكنه من الزحف بدأ بمعالجة القبائل التي عثر عليها حوالي هاتيك الجبال، فوالى بعضها وهاجم البعض الآخر، فتغلب على كل قبيلة حاولت مقاومته زاحفا على الدوام بلا توقف في سير مستمر نحو الجنوب يريد نهر «بو». ولهذا النهر عدة فروع منها فرع اسمه تيسينوس وعلى ضفافه تلاقى الجيشان في آخر الأمر.
وكان كل واحد من القائدين دون ريب يمني نفسه بإحراز الغلبة على عدوه في العراك الذي أصبح الآن أمرا لا بد منه، وكان سيبيو على علم ببسالة هنيبال وعظم دربته كمحارب، كما أن سيبيو كان قائدا عظيما ومن أبطال الرومانيين، بحيث إن هنيبال لم يكن يتوقع فوزا هينا، وكان القواد يخفون ما اختلجت به صدورهم من الشكوك أو المخاوف في اليوم الذي سبق نشوب القتال، ويشجعون رجالهم بإبداء الثقة التي لا يعتورها ريب بأنهم سيكونون الظافرين بالأعداء.
وعلى هذا خطب هنيبال وسيبيو في رجالهما - وذلك ما رواه مؤرخو تلك الأيام - فقال كل منهما لجنوده: إنه على يقين من الظفر بالعدو بمنتهى السهولة، وكان الخطاب الذي نسب إلى سيبيو كما يأتي: «أريد أن ألقي على مسامعكم بعض كلمات أيها الجنود قبل النزول إلى المعركة، فإني لست أرى حاجة إلى كل الجنود الذين كانوا تحت قيادتي عند مصب نهر الرون، فهم قد عرفوا القرطجنيين هناك وأؤكد لكم ما كانوا ليخافوهم، إن فصيلة من فرساننا قد لاقت وهاجمت جيشا كبيرا من أولئك الأعداء وبددت شملهم، ومن ثم زحفنا متقدمين بكل قوتنا نحو معسكر الأعداء على نية معاركتهم.
أما هم فغادروا المكان وتراجعوا إلى الوراء قبل وصولنا إلى حيث كانوا، فكان هربهم اعترافا منهم بخوفهم منا ومن تفوقنا عليهم، فلو أنكم كنتم معي يومئذ وشهدتم هذه الحقائق كلها لما كان ثم من حاجة بي إلى مخاطبتكم بهذه الكلمات؛ لأقنعكم بالسهولة الكلية التي سوف تقهرون بها هذا العدو القرطجني، لقد سبق لنا معارك عديدة مع هذه الأمة قبل الآن فسحقناهم يومئذ برا وبحرا، وعندما عقد الصلح بعدئذ طلبنا منهم الجزية وبقينا نتقاضاها منهم عشرين عاما.
ومن هذا تدركون أنهم أمة مغلوبة، والآن قد أقدم هذا الجيش المنكود الطالع على اجتياز جبال الألب محمولا بجنونه ليلقي بنفسه بين أيدينا، فهم سيلاقوننا وقد قل عديدهم وتناقصت معداتهم وانحلت قواهم من مشقات السفر وعناء اجتياز الجبال، فإن أكثر من نصف الجيش القرطجني قد هلك في الجبال والذين سلموا منه قد صاروا إلى حالة من الضعف والخور والعري والمرض لا يقوون معها على قتالنا، ومع ذلك فإنهم مضطرون إلى منازلتنا، ولو وجدوا مهربا منا أو لو تسنى لهم التقهقر إلى حيث لا يواجهوننا لفعلوا ذلك بلا تردد.
ولكن لا مفر لهم ولا ملجأ، فهم محاطون بالجبال التي هي السد الشاهق الذي يعجزون عن اجتيازه ثانية بما أصابهم من قممه وثلوجه من العناء الذي يهد العزائم ويسحق القوى، فهم ليسوا أعداء حقيقيين، بل هم بقية جيش أعداء أشبه بالظل الذي لا يلبث أن يزول، إذ إن عزائمهم قد خارت وقواهم قد انحطت وشجاعتهم قد ذهبت ونشاطهم قد زال؛ بما قد أصابهم من الجوع والتعب والعناء المر نفسا وجسدا في قطعهم هذه الجبال الشاهقة.
Неизвестная страница