وساروا على هذا وقتا غير يسير يعانون الشدائد والتعب المضني في قطع المسافات القليلة. أخيرا وقعت طلائع الجيش فجأة فأرغمت الجيش برمته على الوقوف، ورأى ذلك هنيبال فخاف أن يتفاقم شر الازدحام وتسوء العقبى، فأرسل إلى الطلائع رسولا ليأتيه بالخبر اليقين فعاد إليه، وأعلمه بأن الطليعة قد وصلت إلى هاوية يستحيل على أحد النزول فيها، ووجدت من الضروري الانحراف عن ذلك المكان بسير مستدير لعلهم يجدون طريقا يكون النزول منه أقل خطرا.
فوافق هنيبال على ذلك وسار الذين يتقدمون الجيش وهم الكشافة، فعثروا على جبل من الثلج ملقى أمامهم ووجدوا أن الثلج المتساقط قبل ذلك بأيام يسير الجليد الذي تحته، ويغطي ما هنالك من الأودية والمهاوي العميقة، فساروا فوقه ومهدوا بأقدامهم طريقا للجيش. على أن الجليد ما لبث أن تحلل وأخذ الثلج في الانضغاط والذوبان إلى أن أصبح المسير فوقهما متعذرا عظيم المشقة كثير الخطر، ذلك فضلا عن أن المسير فوق الثلج الذي يستر الجليد هو من الصعوبة بمكان بالنظر إلى ما يتسبب عنه من الزلق.
وهكذا كنت ترى الرجال والحيوانات تنقلب متدهورة في تلك المنحدرات، فكان البعض منهم ينهضون وقد أصيبوا برضوض، والبعض الآخر الذي هوى في الأعماق المملوءة ثلجا اندفن هناك بحيث لا ينهض بعد ذلك، على أنهم جهدوا النفوس وابتعدوا بعض المسافة، ولكن بمجازفة عظيمة ومخاطرة أودت بعدد غير يسير منهم. ولما اجتازوا هذه الثلوج في انحدارهم المتواصل وصلوا إلى ما يشبه السد المكين الذي يحول دون تقدمهم خطوة واحدة، ألا وهو جبل من الصخر الذي اعترضهم وضيق عليهم المسالك.
وبعد التروي في الأمر رأوا من الضروري إزالة الصخر أو تحطيمه لكي ينفسح لهم مجال المرور، وقد جاء في رواية أحد مؤرخي الرومانيين أن هنيبال أزال قسما من تلك الصخور الهائلة بأن أشعل نارا عظيمة فوقها، ثم صب عليها خلا فتشققت، ثم قطعها بالأمخال والأسافين، ولكن قارئ ما رواه المؤرخ الروماني لا بد أن يتوقف هنيهة قبل تصديقه، فهم إذ لم يكن البارود معروفا عندهم في تلك الأيام قد اضطروا إلى استخدام مثل تلك الطريقة التي تقدم بيانها لتصديع الصخور.
ومن المعلوم أن من الصخور نوعا يمكن تحطيمه بحرارة النار التي تشققه بسهولة ولكن منه ما لا تؤثر النار فيه، على أننا لا نرى ما يؤيد قول المؤرخ المذكور في تأثير الخل على الصخر المحمى بالنار، ذلك فضلا عن أننا لا نظن أن هنيبال قد حمل معه مقدارا من الخل يكفي لمثل هذا العمل الجسيم. وعلى الجملة نقول إنه إذا كان ذلك صحيحا فيكون ما تم منه دون اليسير، وتكون النتيجة غير جديرة بالذكر بالرغم من أن هذا العمل قد عده التاريخ من أجل الأعمال التاريخية المنسوبة إلى هنيبال بحقيقة مقررة.
هذا وفي المسير فوق الثلوج والانحدار على الصخور التي تحته قد قاسى الجيش، وخصوصا الحيوانات التي معه، الأهوال الجسام والجوع الذي أضنى القوى، ولا سيما ما لقوه من الصعوبة في إيجاد علف للخيل والفيلة في تلك الأماكن التي لا يرى فيها غير الثلج المتراكم، أو الجليد الذي أمات كل شيء أخضر. أخيرا وصلوا في تسيارهم إلى غياض وغابات غضة، ومن هناك أقبلوا على وهاد فيها الحقول الملأى بالعشب والأودية الخصيبة ذات الأشجار المثمرة.
وهناك وقفت الحيوانات لتنال نصيبا من الراحة وتقتات بما يعيد إليها نشاطها، وشمل الفرح الجيش برمته إذ أدرك عندئذ أن عناءه قد انتهى وأن الأخطار قد زالت وأصبحت وراء ظهره، فسار مسرعا وضرب خيامه في سهول إيطاليا الكثيرة الخيرات المملوءة بكل نوع من الثمار والبقول والأعشاب، وغير ذلك من ضروب الأقوات العديدة.
الفصل السادس
هنيبال في شمالي إيطاليا
عندما أصبح جنود هنيبال في سهول إيطاليا، وأقاموا هنالك طلبا للراحة شعروا بتأثير تعبهم وعنائهم بما يزيد كثيرا على شعورهم بمثل ذلك عندما كانوا يعانون المشقات المضنية في قمم الجبال، فقد كانوا في أشد حالات التعاسة والشقاء، وقال القائد هنيبال لضابط روماني أسره بعدئذ: إن أكثر من ثلاثين ألفا من جنوده قد هلكوا في اجتياز جبال الألب؛ بعضهم لقي حتفه في المعارك التي نشبت، وأكثر من ذلك البعض هلكوا من البرد والتعب والسقوط في المهاوي العميقة، ومن الأمراض وغير ذلك من ضروب العناء والشقاء المتعددة.
Неизвестная страница