فقال إبراهيم: سيرحب به دون شك، كل شيء يبدو كالحلم، ولكني لن أندم، فإني موقن بأن تجاهل رغبة عبد المنعم خطأ لا يغتفر، ما دام في الإمكان تحقيقها!
18
لم يطرأ على البيت القديم في بين القصرين أي تغيير يذكر، إلا أن الجيران بما فيهم حسنين الحلاق ودرويش الفوال والفولي اللبان وأبو سريع صاحب المقلي وبيومي الشرباتلي، كل أولئك قد علموا بطريقة أو بأخرى أن اليوم تزوج حفيدة السيد أحمد من ابن عمها - وخالتها - عبد المنعم. حافظ السيد أحمد على تقاليده القديمة فمضى اليوم كغيره من الأيام، فاقتصر على دعوة الأهل، وغاية الأمر أن أعدت العدة لوليمة عشاء. وكان الوقت في مطلع الصيف، وقد اجتمعوا جميعا في حجرة الاستقبال، السيد أحمد عبد الجواد وأمينة وخديجة وإبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد وياسين وزنوبة ورضوان وكريمة، ما عدا نعيمة التي كانت تأخذ زينتها في الدور الأعلى بمعاونة عائشة. ولعل السيد قد شعر بأن وجوده بينهم يلقي على الاجتماع العائلي ظلا من الوقار الذي لا تستسيغه المناسبة السعيدة، فانتقل عقب الاستقبال بقليل إلى حجرته، حيث لبث ينتظر حضور المأذون. وكان السيد قد صفى تجارته وباع الدكان مؤثرا الراحة لشيخوخته، لا لأنه بلغ الخامسة والستين فحسب، ولكن لأن استعفاء جميل الحمزاوي اضطره إلى بذل نشاط مضاعف لم يعد يحتمله، فقرر إنهاء حياته العملية، قانعا بما تخلف له من تصفية دكانه وما ادخر من مال من قبل قدر أن يكفيه بقية العمر. وكان حدثا هاما في حياة الأسرة، جعل كمال يتساءل عن حقيقة الدور الذي كان يلعبه جميل الحمزاوي في حياته عامة وحياة أبيه خاصة، ولبث السيد في حجرته منفردا، يتأمل أحداث اليوم في صمت، كأنما لا يصدق حقا أن العريس هو عبد المنعم حفيده. ويوم فاتحه إبراهيم شوكت في الأمر عجب، واستنكر، كيف تسمح لابنك بأن يحدثك بهذه الصراحة وأن يملي إرادته عليك، إنكم آباء خلقتم لإفساد الأجيال، ولو في غير الظرف الذي يدرك دقته لقال لا، ولكن كانت هناك عائشة، فحيال تعاستها تخلى عن عناده التقليدي كله، ولم يطق - خاصة بعد ما ثار حول صمت فؤاد الحمزاوي من تعليقات - أن يخيب لها رجاء، وإذا كان زواج نعيمة يخفف من لوعة قلبها فأهلا به وسهلا. هكذا دفعه الحرج إلى أن يقول نعم، وأن يسمح للصبيان أن يملوا إرادتهم على الكبار وأن يتزوجوا قبل أن يتجاوزوا مرحلة التلمذة. ودعا عبد المنعم إلى مقابلته، وطلب إليه أن يتعهد بإتمام دراسته، فتكلم عبد المنعم كلاما جميلا مريحا مستشهدا في أثناء ذلك بالقرآن والحديث. فترك في نفس جده آثارا متباينة من الإعجاب والسخرية. هكذا يتزوج التلميذ اليوم على حين أن كمال لم يفكر في الزواج بعد. وعلى حين رفض هو يوما أن تعلن خطبة المرحوم فهمي - مجرد إعلان خطبة - الذي مات قبل أن يجني ثمرة شبابه الغض، وهكذا يبدو أن العالم قد انقلب على رأسه، وأن دنيا عجيبة أخرى تشب، وأننا غرباء بين أهلينا. اليوم يتزوج التلاميذ ولا ندري ماذا يصنعون غدا.
وفي حجرة الاستقبال كانت خديجة تقول من ضمن حديث طويل: لذلك أخلينا الدور الثاني من سكانه، وسيستقبل الليلة العروسين وهو على أحسن حال.
فقال لها ياسين بلهجة غادرة: عندك كافة المواهب التي تجعل منك «حماة» لا نظير لها، ولكنك لن تستطيعي استغلال مواهبك الفذة مع هذه العروس!
فأدركت ما يرمي إليه، ولكنها تجاهلته قائلة: العروس ابنتي وابنة أختي ..
وقالت زنوبة تلطف من تعريض ياسين: خديجة هانم سيدة كاملة!
فشكرتها خديجة، وكانت تقابل توددها بالشكر والاحترام إكراما لياسين، على الرغم من احتقارها الباطني لها. وكانت كريمة تتألق في سنها العاشرة مما جعل ياسين ينوه بأنوثتها المنتظرة! أما عبد المنعم فراح يحادث جدته أمينة المعجبة بتدينه، وكانت تقطع حديثه بالدعاء له. وسأل كمال أحمد ممازحا: وأنت تتزوج في العام المقبل؟ فقال أحمد ضاحكا: إلا إذا اتبعت سنتك يا خالي!
وكانت زنوبة تتابع حديثهما، فقالت موجهة الخطاب إلى كمال: لو سمح لي سي كمال فإني أعد بأن أزوجه في أيام!
فقال لها ياسين وهو يشير إلى نفسه: إني مستعد لأن أسمح لك عن نفسي!
Неизвестная страница