السكرية
السكرية
السكرية
السكرية
تأليف
نجيب محفوظ
السكرية
1
تقاربت الرءوس حول المجمرة، وانبسطت فوق وهجها الأيدي. يدا أمينة النحيلتان المعروقتان، ويدا عائشة المتحجرتان، ويدا أم حنفي اللتان بدتا كغطاء السلحفاة، وأما هاتان اليدان الناصعتا البياض الجميلتان فكانتا يدي نعيمة. وكان برد يناير يكاد يتجمد ثلجا في أركان الصالة، تلك الصالة التي بقيت على حالها القديم بحصرها الملونة وكنباتها الموزعة على الأركان، إلا أن الفانوس القديم بمصباحه الغازي قد اختفى وتدلى مكانه من السقف مصباح كهربائي، كذلك تغير المكان؛ فقد رجع مجلس القهوة إلى الدور الأول. بل انتقل الدور الأعلى جميعه إلى هذا الدور تيسيرا للأب الذي لم يعد قلبه يسعفه على ارتقاء السلم العالي. ثمة تغير أدرك أهل البيت أنفسهم؛ فقد جف عود أمينة واشتعل رأسها شيبا، ومع أنها لم تكد تبلغ الستين إلا أنها بدت أكبر من ذلك بعشر، ولكن تغير أمينة كان لا شيء بالقياس إلى ما جرى لعائشة من تدهور وانحلال، كان مما يدعو إلى السخرية أو الرثاء أن شعرها لم يزل مذهبا وعينيها زرقاوان. ولكن هذه النظرة الخامدة لا توحي بحياة، وهذه البشرة الشاحبة بأي مرض تنضح؟ وهذا الوجه الذي نتأت عظامه، وغارت فيه العينان والوجنتان أهو وجه امرأة في الرابعة والثلاثين؟ وأما أم حنفي فبدا أن الأعوام تتراكم عليها، ولا تنال من جوهرها. لم تكد تمس لحمها وشحمها فتكاثفت كالغبار، أو كالقشور فوق جلدها وحول رقبتها وثغرها، غير أن عينيها الساهمتين لاحتا مشاركتين لأهل البيت في حزنهم الصامت. نعيمة وحدها بدت في هذه المجموعة كالوردة المغروسة في حوش مقبرة، استوت شابة جميلة في السادسة عشرة من عمرها، مجللة الرأس بهالة ذهبية، مزينة الوجه بعينين زرقاوين، كعائشة في شبابها أو أفتن ملاحة، ولكنها كانت نحيفة رقيقة كالخيال، تعكس عيناها نظرة وديعة حالمة تقطر طهارة وسذاجة وغرابة عن هذا العالم، وكانت ملتصقة بمنكب أمها كأنها لا تود أن تفارقها لحظة. وقالت أم حنفي، وهي تفرك يديها فوق المجمرة: سينزل البناءون عن العمارة في هذا الأسبوع بعد عام ونصف من العمل ..
فقالت نعيمة في نغمة ساخرة: عمارة عم بيومي الشرباتلي ..
Неизвестная страница
ارتفعت عينا عائشة عن المجمرة إلى وجه أم حنفي لحظة ولكنها لم تعلق بكلمة، قد علموا في حينه بهدم البيت الذي كان يوما بيت السيد محمد رضوان ثم إعادة بنائه عمارة مكونة من أربعة أدوار باسم عم بيومي الشرباتلي، تلك الذكريات القديمة، مريم وياسين، ولكن ترى أين مريم، وأم مريم وبيومي الشرباتلي الذي استولى على البيت بالوراثة والشراء، أيام كانت الحياة حياة، والقلب ناعم البال! وعادت أم حنفي تقول: أجمل ما فيها يا ستي دكان عم بيومي الجديدة؛ ثريات ودندرمة وحلوى، كلها مرايا وكهرباء، والراديو ليل نهار، يا عيني على حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان وأبو سريع صاحب المقلى وهم ينظرون من دكاكينهم البالية إلى دكان زميلهم القديم وعمارته ..
فقالت أمينة، وهي تشبك الشال حول منكبيها: سبحان ربك الوهاب ..
فعادت نعيمة تقول وهي تحيط عنق أمها بذراعيها: سد جدار العمارة سطحنا من هذه الناحية، وإذا عمرت بالسكان فكيف نستطيع أن نمضي الوقت فوق السطح؟
لم يكن في وسع أمينة أن تتجاهل سؤالا توجهه حفيدتها الجميلة مراعاة لخاطر عائشة قبل كل شيء فقالت: لا يهمك السكان، امرحي كيف شئت ..
واسترقت النظر إلى عائشة؛ لترى وقع إجابتها اللطيفة؛ إذ إنها باتت من شدة الخوف عليها وكأنما تخافها، ولكن عائشة كانت مشغولة في تلك اللحظة بالتطلع إلى مرآة فوق نضد بين حجرة السيد وحجرتها. لم تزايلها عادة التطلع إلى المرآة، وإن لم يعد لها معنى، وبمرور الزمن لم يعد يروعها منظر وجهها الضحل، وكلما سألها صوت باطني «أين عائشة زمان؟» أجابت دون اكتراث «وأين محمد وعثمان وخليل؟» وكانت أمينة تلاحظ ذلك فينقبض قلبها، وسرعان ما يسري الانقباض إلى أم حنفي التي اندمجت في الأسرة حتى ورثت عنها همومها. ونهضت نعيمة إلى الراديو القائم ما بين حجرة الاستقبال وحجرة السفرة وأدارت مفتاحه وهي تقول: ميعاد إذاعة الأسطوانات يا ماما ..
وأشعلت عائشة سيجارة، وأخذت نفسا عميقا، وجعلت أمينة ترنو إلى الدخان وهو ينبسط سحابة خفيفة فوق المجمرة. وانبعثت من الراديو صوت يغني «يا عشرة الماضي الجميل يا ريت تعودي.» وعادت نعيمة إلى مجلسها، وهي تحبك الروب حول جسمها. كانت - كأمها في الزمان الخالي - تهوى الغناء. وهبت كيف تسمعه وكيف تحفظه وكيف تعيده بصوت حسن. لم ينل من هذا الهوى شعورها الديني الذي غلب على كافة مشاعرها؛ فهي تواظب على الصلاة، وتصوم رمضان مذ بلغت العاشرة. وتحلم كثيرا بعالم الغيب، وترحب بغبطة لا حد لها بزيارة الحسين إذا دعتها جدتها إليها، ولكنها في الوقت نفسه لم تقلع عن حب الغناء؛ فهي تغني كلما خلت إلى نفسها في حجرتها أو في الحمام. وكانت عائشة ترضى عن كل ما يصدر عن وحيدتها؛ الأمل المضيء في أفقها المظلم، تعجب بتدينها كما تعجب بصوتها؛ وحتى عن التصاق الفتاة بها - ذلك الالتصاق الذي بدا خارقا للحد - فهي تشجعه وتحبه ولا تطيق أن تسمع عنه أية ملاحظة، بل هي تضيق بالنقد عامة وإن هان وحسن القصد فيه. من ذلك أنه لم يكن لها من عمل في البيت غير القعود وحسو القهوة والتدخين، فإذا دعتها أمها إلى المشاركة في عمل - لا لحاجتها إلى مساعدتها ولكن لتخلق لها ما تتسلى به عن أفكارها - امتعضت وقالت جملتها المشهورة: «أف .. دعيني وشأني.» ولم تكن تسمح لنعيمة بأن تمد للعمل يدا، كأنما كانت تخاف عليها أقل حركة، ولو أمكن أن تصلي نيابة عنها لفعلت وكفتها جهد الصلاة، وكم من مرة حدثتها أمها في هذا الشأن قائلة: إن نعيمة أصبحت «عروسا» وينبغي لها أن تلم بواجبات «ست البيت»! فكانت تقول لها بصوت ينم عن الضجر: «ألا ترينها كالخيال؟! أن ابنتي لن تتحمل أي جهد فدعيها وشأنها، لم يعد لي من أمل في الدنيا سواها.» ولم تكن أمينة لتعيد القول. كان قلبها يتقطع حزنا عليها، وتنظر إليها فتجدها مثالا مجسما لخيبة الأمل، وترى وجهها التعيس الذي فقد كل معنى للحياة فتذهب نفسها حسرات؛ لذلك أشفقت من مضايقتها؛ ولذلك اعتادت أن تتحمل ما قد ينم عنها من جفاء في الرد أو قسوة في الملاحظة بصدر رحيب وعطف سمح. لم يزل الصوت يغني: «يا عشرة الماضي الجميل ...» وجعلت عائشة تدخن سيجارتها وتصغي إليه. هذا الغناء الذي كانت تحبه، وما زالت تحبه، فالحزن واليأس لم يقتلا الإحساس به، بل لعلهما قوياه في نفسها بما يردده عادة من معاني الشجن والحسرات، ولو أن شيئا في الوجود ليس بمستطيع أن يعيد عشرة الماضي الجميل، بل إنها لتتساءل أحيانا أكان هذا الماضي حقيقة لا حلما ولا خيالا؟ إذن أين البيت العامر؟ وأين الزوج الكريم؟ وأين عثمان وأين محمد؟! وهل لا يفصلها عن ذلك الماضي إلا ثمانية أعوام؟ ولم تكن أمينة ترتاح إلى هذه الأغاني إلا في النادر. إن فضيلة الراديو الأولى في نظرها أنه أتاح لها سماع القرآن الكريم والأخبار، أما الأغاني فكانت تجزع عند تلقي معانيها الحزينة وتشفق على ابنتها من سماعها حتى قالت مرة لأم حنفي: «أليس هذا هو النواح؟» كانت لا تني عن التفكير في عائشة حتى كادت تنسى ما أخذ ينتابها هي من أعراض الضغط ومتاعبه، ولم تكن تجد فرجة إلا في زيارة الحسين وغيره من الأولياء، وشكرا للسيد الذي لم يعد يحجر عليها فتركها تنطلق إلى بيوت الله كما تحب. لم تعد - هي أيضا - أمينة العهد الماضي. غيرها كثيرا الحزن والتوعك. وقد فقدت مع الزمان مثابرتها العجيبة على العمل وطاقتها الخارقة في التنسيق والتنظيف والتدبير؛ ففيما عدا شئون السيد وكمال لم تكن تعنى بشيء. عهدت بحجرة الفرن والمخزن لأم حنفي، قانعة بالإشراف وحده، وحتى الإشراف كانت تتهاون فيه. وكانت ثقتها في أم حنفي لا حد لها؛ فليست هي بالغريبة عن الدار وأهلها، ثم إنها شريكة العمر ورفيقة السراء والضراء، وقد اندمجت في الأسرة حتى صارت قطعة منها، وتمثلت بكل قلبها مسراتها وأحزانها. وساد الصمت حينا كأنما استأثر الغناء بوعيهم، حتى قالت نعيمة: لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى، كانت معي في الابتدائية، وستتقدم العام المقبل في امتحان البكالوريا ..
فقالت عائشة بامتعاض: لو سمح جدك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقت عليها .. ولكنه لم يسمح!
وفطنت أمينة لما أوحت به جملة: «ولكنه لم يسمح» من الاحتجاج فقالت: جدها له آراؤه التي لا ينزل عنها، ترى أكنت ترحبين باستمرارها في التعليم رغم ما في ذلك من تعب وهي العزيزة الرقيقة التي لا تحتمل التعب؟! ..
فهزت عائشة رأسها دون أن تنبس. أما نعيمة فقالت بحسرة: وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلمن اليوم كالصبيان ..
فقالت أم حنفي باحتقار: يتعلمن لأنهن لا يجدن العريس، أما الجميلة مثلك ..
Неизвестная страница
فهزت أمينة رأسها موافقة، ثم قالت: وأنت متعلمة يا ست البنات. حائزة على الابتدائية، ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ ولست في حاجة إلى الوظيفة، فلندع الله أن يقويك وأن يكسو جمالك الفتان بالعافية واللحم والدهن.
فقالت عائشة بحدة: أريد لها العافية لا السمانة، السمانة من العيوب خاصة في البنات، أمها كانت زين أيامها، ولم تكن سمينة.
فابتسمت أمينة وقالت برقة: حقا أمك يا نعيمة كانت زين أيامها ..
فقالت عائشة وهي تتنهد: ثم صارت عبرة الأيام!
فغمغمت أم حنفي: ربنا يفرحك بنعيمة ..
فقالت أمينة وهي تربت على ظهر نعيمة بحنان: آمين يا رب العالمين ..
وعدن إلى الصمت، وإلى سماع الصوت الجديد الذي كان يغني: «أحب أشوفك كل يوم»، وإذا بباب البيت يفتح ثم يغلق فقالت أم حنفي «سيدي الكبير» وقامت مسرعة إلى الخارج لتضيء مصباح السلم. وما لبثن أن سمعن دقات عصاه المعهودة. ثم تراءى عند مدخل الصالة فوقفن جميعا في أدب. ووقف قليلا ينظر إليهن خلال أنفاسه المبهورة ثم قال: «مساء الخير» فرددن في صوت واحد: «يسعد مساك»، وسبقت أمينة إلى حجرته فأضاءتها، ومضى الرجل على أثرها في هالة من وقار الشيخوخة البيضاء. وجلس كي يسترد أنفاسه. ولم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة مساء. ظلت أناقته كما كانت في الماضي، فالجبة الجوخ والقفطان الشاهي والكوفية الحرير كالعهد القديم، أما هذا الرأس المرصع بالبياض، والشارب الفضي، والجسم النحيل الذي خلا من سكانه، فكانت جميعا - كعودته المبكرة - من طوارئ الزمن الجديد. ومن طوارئ هذا الزمن أيضا سلطانية اللبن الزبادي والبرتقالة اللتان أعدتا لعشائه، فلا خمر ولا مزة ولا لحوم ولا بيض، وإن بقي بريق عينيه الزرقاوين الواسعتين آية على أن رغبته في الحياة لم تفتر ولم تهن. ومضى يخلع ملابسه بمعاونة أمينة كالمعتاد، ثم ارتدى جلبابه الصوفي وتلفع بالعباءة ولبس طاقيته ثم تربع على الكنبة. وقدمت له صينية العشاء فتناوله دون حماس، ثم قدمت له أمينة قدحا مملوءا حتى نصفه بالماء فأخذ زجاجة الدواء وسكب في القدح ست نقط، ثم تجرعه بوجه مقطب متقزز، ثم تمتم: «الحمد لله رب العالمين.» طالما قال له الطبيب إن الدواء مؤقت أما «الرجيم» فدائم، وطالما حذره من الاستهتار أو الإهمال، فالضغط قد استفحل، والقلب قد تأثر به. وأجبرته التجربة على الإيمان بتعليمات الطبيب بعد أن عانى من الاستهانة بها ما عانى. فما من مرة خرج عن حده حتى تداركه الجزاء، وأخيرا أذعن لحكمه، لا يأكل ولا يشرب إلا ما يسمح به، ولا يسهر إلى ما بعد التاسعة، ولكن قلبه لم يتخل عن الأمل في أن يسترد يوما - بقدرة قادر - صحته وأن ينعم بحياة طيبة هادئة، وإن تكن حياة الماضي قد ولت إلى الأبد. وامتدت أذنه إلى الغناء المترامي من الراديو في ارتياح، وكانت أمينة تحدثه من مجلسها فوق الشلتة عن برد اليوم والمطر الذي انهمر في الضحى فلم يلق إليها بالا وقال في سرور: قيل لي إنه ستذاع الليلة بعض الأغاني القديمة ..
فابتسمت المرأة في ترحيب إذ كانت تحب هذا اللون من الغناء، ربما متابعة لحب السيد له أكثر من أي شيء آخر. ولبث السرور متألقا في عيني الرجل لحظات حتى أدركه فتور. لم يعد بمستطيع أن ينعم بشعور سار دون تحفظ، أو دون أن ينقلب عليه فجأة فيستيقظ من حلمه مرتطما بالواقع، الواقع يحدق به من جميع النواحي. أما الماضي فحلم، فيم السرور وقد ولت إلى الأبد أيام الأنس والطرب والعافية؟ وانطوى اللذيذ من المأكل والمشرب والهناء؟ وأين مسيره في الأرض كالجمل وضحكته المجلجلة من الأعماق؟ وطلوع الفجر عليه وهو ثمل بشتى المسرات؟! اليوم يقضى عليه بأن يعود من سهرته في التاسعة كي ينام في العاشرة، والأكل والشرب والمشي بحساب دقيق مسجل في دفتر الطبيب، وهكذا البيت الذي غشاه الزمن بالكآبة هو قلبه ومقامه، وعائشة التعيسة شوكة في جنبه لا يستطيع أن يصلح ما فسد من حياتها وهيهات أن يطمئن على حالها. أليس قد ينكشف عنها الغد وحيدة بائسة بلا أب ولا أم؟ وما يعانيه من قلق على صحته هو المهددة بالمضاعفات، وأخوف ما يخاف أن تخونه قواه فيلزم الفراش كالميت وليس بميت مثل الكثيرين من أصدقائه وأحبائه، وهذه الأفكار التي تحوم حوله كالذباب فيستعيذ بالله من شرها، أجل ينبغي أن يسمع الأغاني القديمة ولو لينام على الأنغام .. - اتركي الراديو مفتوحا حتى لو نمت ..
فهزت رأسها بالإيجاب باسمة، فعاد يقول متنهدا: ما أشق السلم علي! - استرح يا سيدي عند كل بسطة .. - لكن جو السلم شديد الرطوبة، ما ألعن هذا الشتاء .. «ثم متسائلا» .. أراهن على أنك زرت الحسين كالعادة رغم هذا البرد ..
فقالت في حياء وارتباك: في سبيل زيارته يهون كل صعب يا سيدي .. - الحق علي وحدي!
Неизвестная страница
فقالت في استرضاء: إني أطوف بالضريح الطاهر، وأدعو لك بالصحة والعافية.
ما أمس حاجته إلى صادق الدعاء، فكل طيب يدبر عنه، حتى الدش البارد الذي اعتاد أن ينعش به جسده كل صباح حرم عليه لخطورته - فيما قيل - على حال شرايينه، وإذا صار كل طيب ضارا فليرحمنا الله، ومضى وقت قصير ثم ترامت إلى الحجرة صفقة باب البيت وهو يغلق فرفعت أمينة عينيها متمتمة: «كمال!» ولم تكد تمر دقائق حتى دخل كمال الحجرة في معطفه الأسود الذي نم على نحافته وطوله، يتطلع إلى أبيه خلال نظارته الذهبية، وقد أضفى عليه شاربه المربع الغزير الأسود وقارا ورجولة. انحنى على يد والده مسلما فدعاه إلى الجلوس وهو يسأله كالعادة باسما: أين كنت يا أستاذ؟
وكان كمال يحب هذه اللهجة الودية اللطيفة التي لم يحظ بها إلا بعد عمر طويل، فأجاب وهو يجلس على الكنبة: كنت في القهوة مع الأصحاب.
ترى أي نوع من الأصحاب؟ بيد أنه يبدو جادا رزينا وقورا أكثر من سنه، ثم إن أكثر لياليه تقضى في مكتبته، شتان ما بينه وبين ياسين، وإن كان لكل آفته. وعاد يسأله باسما: أشهدت اليوم المؤتمر الوفدي؟ - نعم، وسمعنا خطبة مصطفى النحاس، كان يوما مشهودا. - قيل لنا إنه كان حدثا عظيما، ولكني لم أستطع حضوره فنزلت عن بطاقة الدعوة إلى أحد الأصدقاء، لم تعد الصحة تحتمل التعب ..
فداخل كمال العطف وتمتم: ربنا يقويك .. - ألم تقع حوادث؟ - كلا مر اليوم بسلام، واكتفى البوليس بخلاف عادته بالمراقبة ..
فهز الرجل رأسه في ارتياح، ثم قال في لهجة ذات معنى: نعود إلى موضوعنا القديم، أما زلت عند رأيك الخاطئ عن الدروس الخصوصية؟!
لم يزل يشعر بالارتباك والحرج كلما وجد نفسه مضطرا إلى إعلان مخالفته لرأي والده، فقال برقة: لقد انتهينا من هذا الموضوع! - في كل يوم يطلب إلي أصدقاء أن تعطي دروسا خصوصية لأبنائهم، لا ترفض الرزق الحلال، إن الدروس الخصوصية مصدر رزق واسع للمدرسين، والذين يطلبونك من أعيان الحي .. فلم ينبس كمال بكلمة وإن نطق وجهه بالرفض المؤدب، فعاد الرجل يقول متأسفا: تأبى هذا كي تضيع وقتك في قراءة لا نهاية لها وكتابة بلا أجر، أيصح هذا من عاقل مثلك؟
وهنا خاطبت أمينة كمال قائلة: ينبغي أن تحب المال كما تحب العلم (ثم موجهة الخطاب إلى السيد وهي تبتسم في خيلاء): إنه كجده لا يعدل بحب العلم شيئا.
فقال السيد متأففا: رجعنا إلى جده! .. يعني كان الإمام محمد عبده؟!
ومع أنها لم تعرف شيئا عن الإمام إلا أنها قالت بحماس: لم لا يا سيدي؟! كان كل الجيران يقصدونه في شئون دينهم ودنياهم!
Неизвестная страница
فغلبت روح الفكاهة على السيد فقال ضاحكا: مثله الآن كل عشرة بقرش!
واحتج وجه المرأة دون لسانها. وابتسم كمال بعطف وارتباك، واستأذن في الانصراف ثم غادر الحجرة. وفي الصالة اعترضت نعيمة سبيله لتريه فستانها الجديد، وذهبت لتجيء به، فجلس إلى جانب عائشة ينتظر. كان - كبقية أهل البيت - يجامل عائشة في شخص نعيمة، ولكنه إلى هذا كان معجبا بالفتاة الحسناء إعجابه بأمها قديما. وجاءت نعيمة بالفستان فبسطه على يديه وراح يتفحصه وهو يبدي الإعجاب، وكان يتأمل صاحبة الفستان بعطف وحب، مأخوذا بجمالها البديع الهادئ الذي اكتسى من صفائها ورقتها نورانية ذات بهاء. ومضى عن المكان بقلب لا يخلو من شجن، إن مصاحبة أسرة حتى شيخوختها لمما يحزن. ليس مما يهون أن يرى أباه في وهنه بعد سطوة وجبروت أو يرى ذبول أمه وتواريها وراء الكبر، أو يرى انحلال عائشة وتدهورها، هذا الجو المشحون بنذر التعاسة والنهاية. ورقي في السلم إلى الدور الأعلى - شقته كما يسميه - حيث يعيش منفردا بين حجرة نومه ومكتبته المطلتين على بين القصرين. وخلع ملابسه ومضى مرتديا جلبابه متلفعا بالروب إلى المكتبة، وكانت مكونة من مكتب كبير فيما يلي المشربية وصفين من خزانات الكتب على جانبيها. وكان يريد أن يقرأ فصلا على الأقل في كتاب «منبعا الدين والأخلاق» لبرجسون، وأن يراجع مراجعة أخيرة مقاله الشهري لمجلة «الفكر» الذي اتفق أن كان عن البراجمتزم. هذه السويعات الموهوبة للفلسفة، التي تمتد حتى منتصف الليل، هي أسعد أوقات يومه، وهي التي يشعر فيها - على حد تعبيره - بأنه إنسان، أما بقية اليوم الذي ينقضي في عمله كمدرس بمدرسة السلحدار الابتدائية أو في إشباع شتى مطالب الحياة الضرورية، فمداره الحيوان الكامن فيه، المستهدف أبدا تأمين ذاته وتحقيق شهواته. ولم يكن يحب عملة الرسمي ولا يحترمه، ولكنه لم يعلن سخطه، خاصة في بيته، أن يشمت به الشامتون، ومع ذلك فقد كان مدرسا ممتازا حائزا للتقدير، وكان الناظر يعهد إليه ببعض النشاط المدرسي، حتى رمى نفسه متفكها بالعبودية، أليس هو العبد ذي يتقن العمل الذي لا يحبه؟! والحق أن ولعه بالتفوق الذي اعتاده منذ الصغر هو الذي دفعه إلى الاجتهاد والامتياز دفعا لا هوادة فيه. وقد صمم من بادئ الأمر على أن يكون شخصية محترمة بين التلاميذ والمدرسين فكان له ما أراد، بل كان شخصية محترمة ومحبوبة معا، رغم رأسه وأنفه العظيمين .. ولا شك أنه كان لهما - رأسه وأنفه - أو كان لإحساسه الأليم بهما الفضل الأول في هذا التصميم القوي الذي خلق منه هذه الشخصية المهابة. كان يعلم بأن رأسه وأنفه سيثيران من حوله الفتن فاستل عزمه ليرد عنهما وعنه كيد العابثين. أجل لم ينج أحيانا من غمز وتعريض في أثناء الدرس أو في ملعب المدرسة، فكان يلقى الهجوم بحزم شديد، ثم يلطفه بعطفه المطبوع، إلى ما أثر عنه من مقدرة في الشرح والتفهيم، وما يأخذ فيه بين آونة وأخرى من موضوعات طريفة حماسية تمس القومية أو ذكريات الثورة، كل أولئك جعله يستميل إليه «الرأي العام» بين التلاميذ، وكان ذلك - إلى حزمه المتوثب عند الضرورة - كفيلا بالقضاء على الفتن في مهدها! ولشد ما آلمه أول الأمر الغمز الجارح، ولشد ما استثار المنسي من أحزانه، بيد أنه سر آخر الأمر بالمنزلة الرفيعة التي بات يحتلها في نفوس الصغار الذين كانوا يتطلعون إليه بإعجاب وحب وإجلال. وواجهته مشكلة أخرى تتعلق بمقالاته الشهرية في مجلة «الفكر» وكان يخاف هذه المرة الناظر والمدرسين أن يسألوه عما يعرض فيها من فلسفات قديمة وحديثة تنقد أحيانا العقائد والأخلاق بما لا يتفق ومسئولية «المدرس» ولكن من حسن الحظ أن أحدا من المسئولين لم يكن بين قراء «الفكر»، ثم تبين له بعد ذلك أن المجلة لا تطبع أكثر من ألف نسخة يصدر نصفها إلى البلاد العربية، فشجعه ذلك على الكتابة إليها وهو آمن على نفسه ووظيفته. في هذه السويعات القلائل ينقلب «مدرس اللغة الإنجليزية بالسلحدار الابتدائية» سائحا حرا يجوب أجواء لا تحد من الفكر، فيقرأ ويتأمل ويدون الملاحظات التي يجمعها بعد ذلك، في مقالاته الشهرية، تحثه على جهاده الرغبة في المعرفة وحب الحقيقة وروح المغامرة النظرية والحنين إلى العزاء والتخفيف من جو الكآبة الذي يغشاه والشعور بالوحدة الذي يستكن في أعماقه. قد يلوذ من الوحشة بوحدة الوجود عند سبينوزا، أو يتعزى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبنهور، أو يهون من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية برجسون، بيد أن جهاده المتواصل لم يجد في تقليم مخالب الحيرة التي تبلغ حد العذاب، فالحقيقة معشوق ليس دون المعشوق الآدمي دلالا وتمنعا ولعبا بالعقول وإثارة للشك والغيرة مع إغراء عنيف بالتملك والوصال، وهي كالمعشوق الآدمي عرضة لأن تكون ذات وجوه وأهواء وتقلبات، ولا تخلو في كثير من الأحايين من مكر وخداع وقسوة وكبرياء، وكان إذا ركبته الحيرة وأعياه الجهد يقول متعزيا: «قد أكون معذبا حقا ولكنني حي، إنسان حي، ولن تكون حياة الإنسان الخليقة بهذا الاسم بلا ثمن!»
2
مراجعة الدفاتر وضبط الحسابات وتسوية ميزانية اليوم السابق، كل ذلك كان أحمد عبد الجواد يؤديه على خير الوجوه وبالدقة المعهودة فيه من قديم غير أنه يؤديه اليوم بمشقة لم يكن يجدها من قبل أن يركبه العمر والمرض. وكان منظره وهو منكب على دفاتره تحت لافتة البسملة، وشاربه الفضي يكاد يختفي تحت أنفه الكبير الذي زاده ضمور الوجه ضخامة، كان ذلك المنظر مما يستحق العطف، غير أن منظر وكيله ومساعده جميل الحمزاوي الذي كان يهدف إلى السبعين كان مما يستحق الرثاء. ولم يكن يفرغ من زبون حتى يتهالك على مقعده، وهو يلهث، فكان أحمد يقول لنفسه في شيء من الامتعاض: «لو كنا موظفين لأغنانا المعاش في مثل سننا من الكد والعمل!» ورفع السيد رأسه عن الدفتر وهو يقول: ما زالت الحالة متأثرة بعض الشيء بالأزمة الاقتصادية ..
فارتسم الامتعاض على شفتي الحمزاوي الباهتتين وقال: بدون شك، غير أن هذا العام خير من العام السابق. والعام السابق خير من الذي قبله، الحمد لله على أي حال ..
عام 1930 وما تلاه من أعوام، تلك الفترة التي كان التجار من أصحابها يسمونها أيام الرعب، حين استبد إسماعيل صدقي بالحياة السياسية وسيطر القحط على الحياة الاقتصادية، وكانوا يصبحون ويمسون على أخبار الإفلاس والتصفيات، ويقبلون الأكف وهم يتساءلون عما يخبئ لهم الغد، وقد كان من المحظوظين بغير شك لأن ضيقته له تبلغ به الإفلاس الذي تهدده عاما بعد عام. - أجل، الحمد لله على أي حال ..
ووجد جميل الحمزاوي يرنو إليه بنظرة غريبة، فيها تردد وحرج، ماذا عنده يا ترى؟ وقام الرجل فقرب مقعده من المكتب ثم جلس وهو يبتسم في ارتباك. وكان البرد قاسيا رغم سطوع الشمس، وكان للهواء حملات قوية ارتجت لها الأبواب والنوافذ وتعالى الصفير. قال السيد وهو يعتدل في جلسته: هات ما عندك، إني موقن بأنك ستقول شيئا هاما.
فخفض الحمزاوي عينيه وقال: موقفي لا أحسد عليه، ولا أدري كيف أتكلم ..
فقال السيد مشجعا: ولكني عاشرتك أكثر مما عاشرت أهلي فتستطيع أن تفضي إلي بكل ما في نفسك .. - العشرة هي التي تصعب علي يا سي السيد .. - العشرة؟!
لم يخطر له هذا على بال .. - أتريد؟ .. حقا!
Неизвестная страница
قال الحمزاوي بحزن: آن لي أن أعتزل، الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ..
وانقبض قلب السيد، فاعتزال الحمزاوي للعمل ليس إلا نذيرا له بالاعتزال، كيف ينهض بأعباء العمل في دكانه وهو على ما هو عليه من مرض وكبر؟ ونظر إلى وكيله في حيرة فعاد الرجل يقول متأثرا: إني آسف جدا، ولكني لم أعد أطيق العمل، ولى ذلك الزمان، غير أني دبرت الأمر فلن أتركك وحدك، سيملأ مكاني من هو أقدر مني ..
إن ثقته في أمانة الحمزاوي قد رفعت عن كاهله نصف متاعبه، فكيف يعود ابن الثالثة والستين إلى ملازمة الدكان من طلعة الشمس إلى مغيبها؟ قال: ولكن اعتزال العمل والقبوع في البيت يسرعان بالإنسان إلى التدهور، ألا ترى هذا في أصحاب المعاشات من الموظفين؟
فقال جميل الحمزاوي باسما: التدهور موجود قبل الاعتزال.
وضحك السيد فجأة كأنما ليداري الحرج الذي شعر به مقدما قبل أن يقول له: يا عجوز يا مكار، أنت تهجرني تلبية لإلحاح ابنك فؤاد ..
فهتف الحمزاوي متأثرا: معاذ الله، إن حالتي الصحية لا تخفى على أحد، وهي السبب الأول والأخير ..
من يدري؟ فؤاد وكيل نيابة ومثله لا يرتاح لبقاء أبيه عاملا بسيطا في دكان ولو كان صاحب الدكان هو الذي مهد له السبيل؛ ليتبوأ مركزه في النيابة. ولكنه شعر بأن تصريحه قد آلم وكيله الطيب فتراجع متسائلا في لطف: متى ينقل فؤاد إلى القاهرة؟ - في صيف هذا العام أو في صيف العام القادم على الأكثر ..
ومضت فترة سكون مشحونة بالحرج حتى قال الحمزاوي مجاريا السيد في لطفه: وإذا أقام معي في القاهرة وجب التفكير في تزويجه، أليس كذلك يا سي السيد؟ إنه ابني الوحيد على سبع بنات، ولا بد من تزويجه، وكلما فكرت في ذلك جرت في خاطري الآنسة المهذبة حفيدتك ..
واسترق إلى وجه السيد نظرة استطلاع ثم تمتم: لسنا قد المقام طبعا ..
فلم يسع السيد إلا أن يقول: أستغفر الله يا عم جميل، نحن أخوان من قديم الزمن ..
Неизвестная страница
ترى أحرضه فؤاد على جس النبض؟ وكيل نيابة شيء عظيم والعبرة في الأصل بالطيبة، ولكن أهذا وقت التحدث في الزواج؟ - حدثني أولا أأنت مصمم على اعتزال العمل؟
وجاءه صوت من باب الدكان يقول: يا ألف صباح الخير ..
فابتسم السيد بدافع المجاملة رغم استيائه لانقطاعه عن الموضوع الذي يهمه، وقال: أهلا وسهلا .. (ثم وهو يشير إلى المقعد الذي أخلاه الحمزاوي): تفضلي ..
جلست زبيدة بجسم قد ترهل، ووجه قد تقنع بالأصباغ، أما الحلي فلم يعد لها أثر في عنقها أو أذنيها أو ساعديها، ولا للجمال القديم مكان، وجعل السيد يرحب بها كعادته مع كل زائر لا أكثر، أما قلبه فلم يرتح للزيارة، فما من مرة تجيئه إلا وترهقه بالمطالب. سألها عن الصحة فأجابت وهي لا تعني شيئا: «الحمد الله.» وقال لها بعد هنيهة صمت .. أهلا .. أهلا، فابتسمت شاكرة ولكن بدا أنها استشعرت الفتور الكامن في مجاملاته. وضحكت متجاهلة الجو الذي يكتنفها، وكانت الأيام قد علمتها البرود، ثم قالت: لا أحب أن أضيع وقتك، وأنت مشغول، ولكنك أنبل من عرفت في حياتي، فإما أن تمدني بسلفة أخرى، وإما أن تجد لبيتي شاريا ويا حبذا لو تكون أنت الشاري!
فقال أحمد عبد الجواد متنهدا: أنا؟! يا ليت، الزمن غير الزمن يا سلطانة. طالما صارحتك بالحقيقة ولكن يبدو أنك لا تصدقين يا سلطانة ..
فضحكت ضحكة دارت بها خيبة أملها وقالت: السلطانة مفلسة، فما العمل؟ - في المرة السابقة أعطيتك ما قدرت عليه، ولكن الحال لا يسمح بتكرار ذلك ..
فتساءلت في قلق: ألا يمكن أن تجد لبيتي شاريا؟ - سأبحث لك عن شار، أعدك بذلك.
فقالت ممتنة: هذا ما ينتظر منك يا سيد الكرماء، (ثم بلهجة حزينة): ليست الدنيا وحدها التي تغيرت ولكن الناس تغيروا أكثر، سامح الله الناس، في أيام العز كانوا يستبقون إلى تقبيل حذائي. والآن إذا لمحوني على جانب من الطريق مالوا إلى الجانب الآخر.
لا بد أن يتنكر للإنسان شيء، بل أشياء، الصحة أو الشباب أو الناس، أما أيام العز، أيام الأنغام والحب فأين هي؟! - ومن ناحية أخرى فأنت يا سلطانة لم تعملي للأيام حسابها.
فتنهدت آسفة وهي تقول: نعم، لست كأختك جليلة التي تتاجر بالأعراض، وتقتني المال والبيوت، وفضلا عن ذلك فقد ابتلاني الله بأولاد الحرام حتى بلغ الفجر بحسن عنبر أنه كان يبيعني شمة الكوكايين - عندما ندر في الأسواق - بجنيه! - لعنه الله! - حسن عنبر؟ .. ألف لعنة! - بل الكوكايين. - والله الكوكايين أرحم من الإنسان. - لا .. لا، من المحزن حقا أنك وقعت في شره.
Неизвестная страница
فقالت بتسليم وقنوط: هد حيلي وضيع مالي، ما علينا، متى تجد لي شاريا؟ - إن شاء الله عند أول فرصة.
فقالت في عتاب وهي تنهض: اسمع، إذا زرتك في المرة القادمة فابتسم من قلبك، كل إساءة تهون إلا التي تجيئني من ناحيتك، أنا عارفة أني أضايقك بمطالبي ولكني في ضيق لا يعلم به إلا الله، وأنت أنبل الناس في نظري.
فقال لها معتذرا: لا تتوهمي ما ليس في، الأمر أني كنت مشغولا بمسألة هامة عند قدومك، وهموم التجار لا تنتهي كما تعلمين! - رفع الله عنك الهموم.
فحنى رأسه شاكرا وهو يوصلها، ثم ودعها قائلا: أهلا بك من القلب في كل حين ..
ولمح في عينيها نظرة خابية تفيض غما فرق لها، وعاد إلى مجلسه منقبض الصدر فالتفت إلى جميل الحمزاوي وقال: دنيا .. - كفاك شرها وأطعمك خيرها.
غير أن نبرات الحمزاوي قست وهو يستدرك قائلا: ولكنها عاقبة عادلة لامرأة مستهترة!
فهز أحمد عبد الجواد رأسه هزة مقتضبة سريعة كأنما يعلن بها احتجاجا صامتا على قسوة هذه الموعظة، ثم سأله بصوت رجع به إلى النغمة التي قطعها مجيء زبيدة: ألا تزال مصمما على رأيك في هجرنا؟
فقال الرجل في حرج: ليس هجرا ولكنه تقاعد، وأنا آسف من كل قلبي. - كلام كالذي داريت به زبيدة منذ دقيقة! - أستغفر الله، إني أتكلم من قلبي، ألا ترى يا سيدي أن الكبر يكاد يعجزني؟
ثم دخل الدكان زبون فمضى الحمزاوي إليه، وإذا بصوت عتيق يتعالى من الباب قائلا في لهجة الغزل: من هذا الذي يجلس وراء المكتب كالقمر؟!
بدا الشيخ متولي عبد الصمد في جلباب خشن رث لا لون له، ومركوب متفزز، معصوب الرأس بتلفيعة من وبر، مستند القامة على عكاز، وكان يرمش بعينيه الحمراوين مسددا بصره نحو الجدار الملاصق لمكتب السيد، وهو يظن أنه يسدده نحوه. فابتسم السيد رغم همه قائلا: تعال يا شيخ متولي، كيف حالك؟
Неизвестная страница
فكشف الرجل عن فم لم يبق فيه ناب واحد وهو يهتف: يا ضغط زل، يا صحة عودي إلى سيد الناس ..
وقام السيد فاتجه نحوه فاعتدل بصر الشيخ إليه ولكنه تراجع في الوقت نفسه كالهارب، ثم جعل يدور حول نفسه مشيرا إلى الجهات الأربع وهو يصيح: «من هنا تفرج .. ومن هنا تفرج .. ومن هنا تفرج .. ومن هنا تفرج.» ثم إلى الطريق قائلا: ليس اليوم، غدا، أو بعد غد، قل الله أعلم .. ومشى في خطوات واسعة لا يناسب نشاطها مظهره البالي.
3
يوم الجمعة رجعت الفروع إلى الأصل وعمر البيت القديم بالأبناء والأحفاد؛ ذلك تقليد سعيد لم ينقطعوا عنه. ولم تعد أمينة «بطلة» يوم الجمعة كما كانت قديما؛ فأم حنفي تبوأت المركز الأول في المطبخ، ولم تكن أمينة تني عن تذكير القوم بأن أم حنفي تلميذتها؛ فإن غرامها بالثناء كان يتشجع على الإفصاح عن ذاته كلما شعرت بقلة استحقاقها له، إلى أن خديجة - رغم أنها في حكم الضيفة - لم تقصر في إهداء معونتها. وقبيل ذهاب السيد إلى الدكان التف به الضيوف، إبراهيم شوكت وابناه عبد المنعم وأحمد، وياسين وابناه رضوان وكريمة، يكتنفهم ذلك الخشوع الذي يجعل من ضحكهم ابتساما ومن حديثهم همسا. وكان السيد يجد في حضورهم سرورا يزداد تعلقا به كلما تقدم به العمر، فعتب على ياسين انقطاعه عن زيارته في الدكان اكتفاء بزيارة يوم الجمعة، ألا يريد هذا البغل أن يفهم أنه يتوق إلى رؤيته كل حين؟ وابنه رضوان جميل المحيا ذو العينين المكحولتين والبشرة الوردية الذي يعكس جماله ألوانا متنوعة تذكره مرة بياسين ومرة بهنية أم ياسين وثالثة بصديقه الحبيب محمد عفت فهذا أحب الأحفاد إلى قلبه، وكريمة أخته مصغر شابة في الثامنة من عمرها سوف تنضج نضجا عجيبا كما تشهد عيناها السوداوان - عينا زنوبة أمها - اللتان يبسم لهما خاطره ابتسامة ندية بالحياء والذكريات. أما عبد المنعم وأحمد فحسبه أن يرى في وجهيهما قدرا لا يستهان به من أنفه العظيم كما يرى عيني خديجة الصغيرتين، غير أنهما أجرأ من الآخرين في مخاطبته، وكلهم - هؤلاء الأحفاد - يشقون طريق دراستهم بنجاح يدعو إلى الفخار، لكنهم يبدون مشغولين بأنفسهم عن جدهم؛ فمن جهة يعزونه بأن حياته لم ولن تنقطع ومن ناحية أخرى يذكرونه بأن شخصه يتراجع رويدا عن مركز الاهتمام الذي كان يستأثر به، ولم يكن ذلك ليحزنه، فإن الإيغال بالعمر يجيء بالحكمة كما يجيء بالوهن والمرض. ولكن هيهات أن يمنع ذلك الذكريات من أن تتدفق، عندما كان مثل هؤلاء في مطلع العمر، وعندما كان العام 1890، وكان يتعلم قليلا ويلهو كثيرا ما بين مغاني الجمالية ومرتاد الأزبكية، وفي ركابه يجري محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، وكان أبوه يملأ الدكان نفسها، يزجر وحيده قليلا، ويرق له كثيرا، وكان العمر صفحة مطوية مكتظة بالآمال، ثم كانت هنية .. ولكن مهلا! لا ينبغي أن تستخفه الذكريات.
وقام ليصلي العصر فكان ذلك إيذانا بالانصراف، ثم ارتدى ملابسه ومضى إلى الدكان، وتجمعوا هم في مجلس القهوة حول مجمرة الجدة، في جو التلاقي والسمر. احتلت الكنبة الرئيسية أمينة وعائشة ونعيمة، أما الكنبة اليمنى فجلس عليها ياسين وزنوبة وكريمة، وعلى الكنبة اليسرى قعد إبراهيم شوكت وخديجة وكمال، على حين اتخذ رضوان وعبد المنعم وأحمد مجالسهم على كراسي توسطت الصالة تحت المصباح الكهربائي. وكان إبراهيم شوكت، كعادته التي لم يغيرها الزمن، ينوه بألوان الطعام التي أعجبته، غير أن تنويهه اقتصر في الأعوام الأخيرة على فضل الأستاذة على تلميذتها النجيبة. وكانت زنوبة تعيد ثناءه كالصدى فإنها لم تكن تهمل فرصة يمكن أن تتودد بها إلى أحد من أهل زوجها. والحق أنها مذ فتحت لها أبواب آل زوجها، وأتيحت لها مخالطتهم وهي تعمل بلباقة فائقة على توثيق علاقتها بهم، لأنها عدت ذلك اعترافا بمكانتها بعد أن انقضت أعوام وهي تعيش في عزلة كالمنبوذة.
وكان موت وليد لياسين السبب الحقيقي في زيارة أهله لبيته للتعزية، فصافحت يدها أيديهم لأول مرة مند زواجها، وتشجعت بذلك فزارت السكرية، ثم زارت بين القصرين عند اشتداد المرض على السيد، بل أقدمت على زيارته في حجرته. فتقابلا كشخصين جديدين لا تاريخ مشتركا بينهما. هكذا اندمجت زنوبة في آل أحمد حتى غدت تخاطب أمينة فتقول لها يا تيزة وتنادي خديجة فتقول لها يا أختي، وبدت دائما مثالا للاحتشام، وعلى خلاف نساء الأسرة أنفسهن تجنبت التبرج خارج بيتها، حتى بدت أكبر من سنها؛ إذ بادر الذبول إلى جمالها قبل الأوان، فلم تصدق خديجة أبدا أنها في السادسة والثلاثين، ولكنها استطاعت أن تفوز من الجميع بشهادة طيبة لها حتى قالت عنها أمينة يوما: «لا شك أن أصلها طيب، ربما أصلها البعيد، فليكن، ولكنها بنت حلال، هي الوحيدة التي عمرت مع ياسين!» وبدت خديجة في شحمها ولحمها أضخم من ياسين نفسه، ولم تكن تنكر أنها سعيدة بذلك، كما كانت سعيدة بعبد المنعم وأحمد وحياتها الزوجية الموفقة عامة، بيد أنها لم تكف يوما عن التشكي اتقاء العين. وقد تغيرت معاملتها لعائشة تغيرا كليا فلم تند عنها لها طوال ثمانية أعوام كلمة واحدة تنم عن سخرية أو خشونة ولو على سبيل الممازحة، بل حرصت الحرص كله على الترفق بها والتودد إليها وملاطفتها، خشوعا حيال تعاستها وخوفا من الأقدار التي قضت عليها بما قضت، وإشفاقا من أن تضع المرأة المحزونة حظيهما موضع المقارنة، وقد وقفت موقفا كريما يوم حتمت على إبراهيم شوكت أن ينزل عن حقه المشروع في ميراث أخيه المتوفى لنعيمة فآل الميراث كله لعائشة وكريمتها دون شريك. وأملت خديجة أن يذكر صنيعها في حينه ولكن عائشة استغرقها ذهول غيب عنها كرم أختها فلم يقعد ذلك بخديجة عن غمرها بالعطف والرحمة والتسامح كأنما انقلبت أما أخرى لها، ولم تكن تطمع في أكثر من رضائها ومودتها كي تطمئن على أسباب التوفيق التي هيأها لها الله. وأخرج إبراهيم شوكت علبة سجائره وقدمها لعائشة فتناولت سيجارة شاكرة، وتناول أخرى، وراحا يدخنان. كثيرا ما يكون إفراط عائشة في التدخين وتعاطي القهوة ملتقى ملاحظات وإن تكن تقابل منها عادة بهز الكتفين، أما أمها فتقنع بأن تقول في لهجة الدعاء: «ربنا يصبرها»، وأما ياسين فكان أجرأ الأهل في نصحها؛ كأنما قد أهله لذاك فقد وليده. غير أن عائشة لم تكن تعده مصابا مثلها وتضن عليه بمكانة مرموقة في دولة المبتلين؛ إذ إن ابنه مات وهو دون العام لا كعثمان أو محمد. والواقع أن حديث المصائب، كان يبدو كثيرا هوايتها المفضلة؛ كأنما كانت تعتز بدرجتها الممتازة في دنيا الشقاء. واستمع كمال إلى ما يدور من حديث عن المستقبل بين رضوان وعبد المنعم وأحمد فأرهف السمع باسما، وكان رضوان ياسين يقول: كلنا من القسم الأدبي، فليس أمامنا من كلية جديرة بالاختيار إلا الحقوق.
فأجابه عبد المنعم إبراهيم شوكت بصوته القوي المفعم بنبرات التوكيد، وكان يهز رأسه الضخم الذي جعله أقرب الشبان شبها إلى كمال: مفهوم .. مفهوم، ولكنه لا يريد أن يفهم؟
وأومأ عند عبارته الأخيرة إلى أخيه أحمد الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فانتهز إبراهيم شوكت الفرصة وقال مشيرا إلى أحمد أيضا: ليدخل الآداب إذا شاء ولكن عليه أن يقنعني بقيمتها، أنا أفهم الحقوق ولكنني لا أفهم الآداب!
وغض كمال بصره فيما يشبه الأسى؛ إذ عاودته أصداء نقاش قديم عن الحقوق والمعلمين: إنه ما زال يتنفس في جو الآمال القديمة، بيد أن الحياة تجبهه بصدمات قاسية كل يوم، فوكيل النيابة مثلا لا يحتاج إلى تعريف؛ أما كاتب مقالات مجلة «الفكر»، فربما احتاج إلى تعريف أكثر من مقالاته الغامضة نفسها! ولم يدعه أحمد إبراهيم شوكت لحيرته فنظر إليه بعينيه الصغيرتين البارزتين وهو يقول: إني أترك الجواب لخالي كمال ..
وابتسم إبراهيم شوكت ابتسامة يداري بها حرجه، أما كمال فقال دون حماس: ادرس ما تشعر بأنه يوافق موهبتك.
Неизвестная страница
وبدا الظفر في وجه أحمد فردد رأسه الرشيق بين أخيه وأبيه غير أن كمال عاد يقول: ولكن ينبغي أن تعلم أن الحقوق تفتح لك مجالا من الحياة العملية الممتازة لا تستطيعه الآداب. سيكون مستقبلك إذا اخترت الآداب في التعليم، وهو مهنة شاقة ولا جاه لها .. - بل سأتجه إلى العمل في الصحافة. - الصحافة! .. (صاح إبراهيم شوكت) إنه لا يدري ماذا يقول.
فقال أحمد مخاطبا كمال: إن قيادة الفكر وقيادة عربة كارو شيء واحد في أسرتنا!
فقال رضوان ياسين باسما: إن أكبر قادة الفكر في وطننا من الحقوق ..
فقال أحمد في كبرياء: إن الفكر الذي أعنيه شيء آخر؟
فقال عبد المنعم شوكت عابسا: وهو شيء مخيف هدام، إني أعلم وا أسفاه بما تعني ..
وعاد إبراهيم شوكت يقول لأحمد وهو ينظر إلى الآخرين كأنما يشهدهم على ما يقول: فكر قبل أن تقدم، إنك ما زلت في السنة الرابعة، لن يعدو ميراثك المائة جنيه في العام، وإن بعض أصحابي يشكون مر الشكوى من أن أبناءهم الجامعيين لا يجدون عملا، أو يعملون كتبة بمرتبات تافهة، وأنت حر بعد ذلك فيما تختار ..
وتدخل ياسين في المناقشة بأن اقترح قائلا: لنسمع رأي خديجة، إنها المدرسة الأولى لأحمد، وهي أقدرنا على الاختيار بين الحقوق والآداب ..
وامتلأت الثغور بالابتسام، حتى أمينة ابتسمت وهي عاكفة على كنجة القهوة، بل حتى عائشة ابتسمت، فتشجعت خديجة بابتسامة عائشة فقالت: سأقص عليكم قصة طريفة. أمس بعد العصر بقليل - والدنيا تظلم بسرعة في الشتاء كما تعرفون - كنت راجعة من الدرب الأحمر إلى السكرية، فشعرت كأن رجلا يتبعني، وإذا به يمر بي تحت قبة المتولي وهو يقول: «على فين يا جميل»، فالتفت نحوه قائلة: «على البيت يا سي ياسين!»
وضجت الصالة بالضحك. ونظرت إليه زنوبة نظرة ذات معنى تجلى فيها الانتقاد واليأس، أما ياسين فجعل يشير للضاحكين بيده حتى عاد السكون، ثم تساءل: أمن المعقول أن يصيبني العمى إلى هذا الحد؟
فحذره إبراهيم شوكت قائلا: حاسب!
Неизвестная страница
أما كريمة فأمسكت بيد أبيها وضحكت كأنها رغم كونها بنت ثمانية قد فهمت المقصود من قصة عمتها. وقالت زنوبة تعليقا على الحال: شر الأمور ما يضحك.
وحدج ياسين خديجة بنظرة مغيظة وهو يقول: «حفرت لي حفرة يا بنت الإيه» فقالت خديجة: إذا كان أحد في الموجودين في حاجة إلى الآداب فهو أنت لا أحمد ابني المجنون!
وصدقت زنوبة على قولها، أما رضوان فدافع عن أبيه ودعاه بالبريء المظلوم، وظل أحمد ينظر إلى كمال متعلقا به كالأمل، أما عبد المنعم فكان يسترق النظر إلى نعيمة التي تبدت لصق أمها كالوردة البيضاء، وكانت كلما شعرت بعينيه الصغيرتين تورد وجهها الشاحب الرقيق، حتى عاد إبراهيم شوكت يقول مغيرا مجرى الحديث مخاطبا أحمد: انظر إلى الحقوق وكيف جعلت من ابن الحمزاوي وكيل نيابة قد الدنيا ..
شعر كمال كأن هذا القول انتقاد مر موجه إلى شخصه، أما عائشة فقالت لأول مرة: إنه يريد أن يخطب نعمة.
وفي فترة الصمت التي استقبل بها الخبر قالت أمينة: أبوه فاتح جدها أمس ..
وتساءل ياسين جادا: وهل وافق أبي؟ - هذا سابق لأوانه.
فتساءل إبراهيم شوكت بحذر وهو ينظر إلى عائشة: وما رأي عائشة هانم؟
فقالت عائشة دون أن تنظر إلى أحد: لا أدري ..
فقالت خديجة وهي تتفحصها بعمق: ولكنك أنت الكل في الكل ..
وأراد كمال أن يشهد بشهادة طيبة لصديقه فقال: فؤاد شاب ممتاز حقا ..
Неизвестная страница
فقال إبراهيم شوكت بحذر كالمتسائل: أظن أهله من السوقة؟!
فقال عبد المنعم شوكت بصوته القوي: نعم، خاله مكاري ، وخاله الآخر فران، وعمه كاتب محام .. «ثم بلهجة استدراكية ضعيفة»: ولكن هذا كله لا ينقص من قدر الإنسان فالإنسان بنفسه لا بأهله!
وأدرك كمال أن ابن أخته يريد أن يقرر حقيقتين يؤمن بهما على تنافرهما، أولا وضاعة أصل فؤاد، وثانيا أن وضاعة الأصل لا تنقص من قدر الشخص. بل أدرك أكثر من هذا أنه يحمل في الأولى على فؤاد وأنه يكفر في الثانية عن حملته الظالمة مرضاة لعقيدته الدينية القوية. ومن عجب أن تقرير هاتين الحقيقتين أراحه وكفاه شر التورط في الإفصاح عنهما بنفسه، فإنه كابن أخته لم يكن يؤمن بفوارق الطبقات، وكان مثله أيضا يميل للحملة على فؤاد والحط من شأنه الذي يدرك خطورته وتفاهته هو بالقياس إليه. والظاهر أن أمينة لم ترتح لهذه الحملة فقالت: أبوه رجل طيب، خدمنا العمر كله بأمانة وإخلاص.
فجمعت خديجة شجاعتها وقالت: ولكن ربما عاشرت نعيمة - لو تم هذا الزواج - أناسا ليسوا أهلا للمعاشرة، الأصل كل شيء ..
وجاءها تأييد من حيث لم ينتظر أحد، فقالت زنوبة: صدقت، الأصل كل شيء!
واضطرب ياسين، واسترق إلى خديجة نظرة سريعة، وهو يتساءل عن رجع قول زوجته في نفسها، وتعليقها الباطني عليه وما يستدعيه ذلك إلى خواطرها عن عالم العوالم والتخت. حتى لعن زنوبة في سره على «قنزحتها» الفارغة، واضطر أن يتكلم ليغطي على كلام زوجته، فقال: تذكروا أنكم تتحدثون عن وكيل نيابة ..
فقالت خديجة متشجعة بسكوت عائشة: أبي الذي جعل منه وكيل نيابة، أموالنا نحن التي صنعته!
فقال أحمد شوكت في سخرية نطقت بها عيناه البارزتان اللتان تذكران بالمرحوم خليل شوكت: نحن مدينون لأبيه أكثر مما هو مدين لنا!
فأشارت إليه خديجة بسبابتها وهي تقول بلهجة ملؤها الانتقاد: أنت دائما ترميننا بكلام غير مفهوم.
فقال ياسين بلهجة من يأمل في إنهاء الموضوع: أريحوا أنفسكم فالكلمة الأخيرة لبابا ..
Неизвестная страница
وزعت أمينة فناجيل القهوة. واتجهت أعين الشباب إلى حيث جلست نعيمة لصق أمها. قال رضوان لنفسه: بنت لطيفة وجميلة، ليته كان في الإمكان أن أصادقها وأزاملها، لو مشينا في الطريق معا لاحتار الرجال أينا الأجمل! وقال أحمد لنفسه أيضا: جميلة جدا، ولكنها كأنما هي ملزوقة في خالتي بالغرا، ولا حظ لها من الثقافة. أما عبد المنعم فقال: جميلة وست بيت وشديدة التقوى، لا يعيبها إلا ضعفها، وحتى ضعفها جميل، خسارة في عين فؤاد، ثم جاوز الحديث الباطني فسألها: وأنت يا نعيمة خبرينا عن رأيك؟
فتورد الوجه الشاحب، وقطبت ثم ابتسمت، وتوتر حالها وهي تمزج الابتسام بالتقطيب؛ لتخلص منهما معا، ثم قالت في حياء واستياء: لا رأي لي، دعني وشأني!
فقال أحمد ساخرا: الحياء الكاذب ..
ولكن عائشة قاطعته متسائلة: الكاذب؟!
فاستدرك قائلا: الحياء موضة قديمة، ينبغي أن تتكلمي وإلا ضاعت منك الحياة ..
فقالت عائشة بمرارة: إننا لا نعرف هذا الكلام.
فقال أحمد، متشكيا دون أن يعبأ بنظرة أمه المنذرة: أراهن على أن أسرتنا متأخرة عن العصر الحديث بأربعة قرون!
فسأله عبد المنعم ساخرا: لم حددتها بأربعة؟
فقال دون اكتراث: على سبيل الرأفة.
وإذا بخديجة توجه الخطاب إلى كمال متسائلة: وأنت! .. متى تتزوج أنت؟
Неизвестная страница
بوغت كمال بالسؤال فتهرب قائلا: حديث قديم! - وجديد في الوقت نفسه، ولن نتركه حتى يجمع الله شملك على بنت الحلال.
تابعت أمينة الحديث الأخير باهتمام مضاعف، فزواج كمال أعز أمانيها، وكم رجته أن يحقق أمنيتها حتى تقر عينها بحفيد من صلب ابنها الوحيد، قالت: عرض عليه أبوه عرائس من أحسن الأسر، ولكنه يتعلل دائما بعذر أو بآخر .. - أعذار واهية، كم عمرك الآن يا سي كمال؟ .. تساءل إبراهيم شوكت ضاحكا: ثمانية وعشرون عاما! فات الوقت ..
أنصتت أمينة إلى رقم العمر بدهش كأنما لا تريد أن تصدق. أما خديجة فاحتدت وهي تقول: أنت مغرم بتكبير عمرك!
أجل فهو الأخ الأصغر، فالكشف عن عمره كشف غير مباشر عن عمرها، مع أن زوجها بلغ الستين إلا أنها كانت تكره أن تذكر بأنها في الثامنة والثلاثين، أما كمال فلم يكن يدري ماذا يقول، ولم يكن الموضوع في نظره مما يحسم بكلمة، ولكنه كان يشعر دائما بأنه مطالب بإيضاح موقفه فقال بلهجة المعتذر : إني مشغول نهاري بالمدرسة وليلي بمكتبي.
فقال أحمد بحماس: حياة عظيمة يا خالي، ولكن الإنسان ينبغي مع ذلك أن يتزوج.
وقال ياسين الذي كان أعرف الجميع بكمال: أنت تتجنب الشواغل حتى لا تشغلك عن طلب «الحقيقة» ولكن الحقيقة في هذه الشواغل؛ لن تعرف الحياة في المكتبة، ولكن الحقيقة في البيت والشارع ..
فقال كمال ممعنا في الهرب: تعودت أن أنفق مرتبي لآخر مليم، ليس عندي مدخر، كيف أتزوج؟!
فقالت خديجة تحاصره: انو الزواج مرة وستعرف كيف تستعد له.
وقال ياسين ضاحكا: إنك تنفق مرتبك لأخر مليم حتى لا تتزوج ..
كأنهما شيء واحد. ولكن لم لم يتزوج رغم استجابة الظروف ورغبة الوالدين؟ أجل مضت فترة في ظل الحب فكان الزواج ضربا من العبث. وتبعتها فترة حل محل الحب فيها بديل هو الفكر فاستغرق الحياة بنهم، وكانت فرحة الأفراح أن يعثر على كتاب جميل أو يظفر بنشر مقالة. وقال لنفسه إن المفكر لا يتزوج، وما ينبغي له. كان ينظر إلى فوق ويظن أن الزواج سيحمله على النظر إلى تحت. وكان - وما زال - يلذ له موقف المشاهد المتأمل بقدر ما ينفر من الاندماج في ميكانيكية الحياة. وإنه ليضن بحريته كما يضن البخيل بماله. ثم إنه لم يبق عنده من المرأة إلا شهوة تقضى: وإلى هذا كله فالشباب لم يضع هباء ما دام لا ينقضي أسبوع دون مسرات فكرية ولذات جسدية، ثم إنه حائر يداخله الشك في كل شيء، والزواج نوع من الإيمان، قال: أريحوا أنفسكم، سأتزوج عندما أرغب في الزواج.
Неизвестная страница
فابتسمت زنوبة ابتسامة أرجعتها إلى الوراء عشرة أعوام وتساءلت: ولم لا ترغب في الزواج.
فقال كمال فيما يشبه الضجر: الزواج حبة وأنتم تجعلون منه قبة ..
ولكنه كان يؤمن في أعماقه بأن الزواج قبة لا حبة. وكان يساوره شعور غريب بأنه يوم يذعن للزواج فسيقضى عليه قضاء مبرما. وأنقذه من موقفه صوت أحمد وهو يقول له: آن لنا أن نصعد إلى المكتبة.
فنهض مرحبا بدعوته، ومضى خارجا وعبد المنعم وأحمد ورضوان في أثره. وصعدوا إلى حجرة المكتب لاستعارة بعض الكتب كعادتهم كلما جاءوا البيت القديم زائرين: وكان مكتب كمال يتوسط الحجرة تحت المصباح الكهربائي بين صفين من خزائن الكتب، فجلس إلى مكتبه على حين رأى الشبان يطالعون عناوين الكتب المصفوفة على الأرفف، ثم اختار عبد المنعم كتاب «محاضرات في تاريخ الاسلام»، وجاء أحمد بكتاب «مبادئ الفلسفة»، ثم وقفوا حول مكتبه وهو يردد بصره بينهم صامتا، حتى قال أحمد متضايقا: لن أقرأ كما أحب حتى أتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل.
وتمتم عبد المنعم وهو يقرأ صفحات كتابه: لا أحد يعرف الإسلام على حقيقته.
فقال أحمد ساخطا: أخي يتلقى حقيقة الاسلام على يد رجل شبه عامي في خان الخليلي ..
فصاح به عبد المنعم: صه يا زنديق!
ونظر كمال إلى رضوان متسائلا: وأنت ألا تريد كتابا؟
فأجاب عنه عبد المنعم: وقته مشغول بقراءة الجرائد الوفدية ..
فقال رضوان وهو يومئ إلى كمال: في هذا يتفق معي عمي!
Неизвестная страница
عمه لا يؤمن بشيء، ورغم ذلك فهو وفدي! كما أنه يشك في الحقيقة عامة، ورغم ذلك فهو يتعامل مع الناس والواقع. تساءل وهو يردد عينيه بين عبد المنعم وأحمد: وأنتما وفديان كذلك فما وجه الغرابة؟ وكل وطني فهو وفدي، أليس كذلك؟
فقال عبد المنعم بصوته اليقيني: الوفد أفضل الأحزاب بلا ريب، ولكنه في ذاته لم يعد مقنعا كل الإقناع ..
فقال أحمد ضاحكا: إني أوافق أخي على رأيه هذا، أو بالأحرى لا أوافقه على رأي إلا هذا، وربما اختلفنا في درجة الإقناع الخاصة بالوفد، أكثر من ذلك فإن الوطنية نفسها يجب أن تكون موضع استفهام، أجل إن الاستقلال فوق كل نزاع، أما معنى الوطنية بعد ذلك فينبغي أن يتطور حتى يفنى في معنى أشمل وأسمى، وليس ببعيد أن ننظر في المستقبل إلى شهداء الوطنية كما ننظر الآن إلى ضحايا المعارك الحمقاء التي تنشب بين القبائل والأسر!
معارك حمقاء يا أحمق! فهمي لم يستشهد في معركة حمقاء، ولكن أين وجه اليقين؟ ورغم خواطره قال بحدة: أي قتيل في سبيل شيء فوق نفسه فهو شهيد، وقد تتغير قيم الأشياء أما موقف الإنسان منها فهو قيمة لا تتغير ..
وغادروا حجرة المكتب ورضوان يقول مخاطبا عبد المنعم ردا على ملاحظة له: السياسة أخطر وظيفة في المجتمع ..
ولما عادوا إلى مجلس القهوة كان إبراهيم شوكت يقول لياسين: وهكذا فنحن نربي ونوجه وننصح ولكن كل ولد يندمج في مكتبة، وهي عالم مستقل عنا، يزحمنا فيه أناس غرباء، لا ندري عنهم شيئا فما عسى أن نصنع؟!
4
كان الترام مكتظا حتى لم يعد به موضع لواقف، وقد انحشر كمال بين الواقفين وكأنه يطل عليهم بقامته الطويلة النحيلة. كانوا مثله - فيما بدا له - يقصدون مكان الاحتفال بالعيد الوطني - عيد 13 نوفمبر - فردد عينيه في الوجوه مستطلعا ومرحبا.
والحق أنه يشارك في هذه الأعياد كأشد المؤمنين بها وإن آمن في الوقت نفسه بألا إيمان له. وكان الناس يتحادثون معلقين على الموقف دون سابق تعارف مكتفين بوحدة الهدف وبرابطة «الوفدية». التي ألفت بين قلوبهم. قال أحدهم: عيد الجهاد هذا العام عيد جهاد بكل معنى الكلمة، أو هذا ما يجب أن يكون ..
فقال آخر: يجب أن يرد فيه على هور وتصريحه المشئوم.
Неизвестная страница
وثار ثالث لذكر هور فصاح: ابن الكلب قال: نصحنا بأن لا يعاد دستور 1923، ولا دستور 1930، ما شأنه هو ودستورنا؟
فأجابه رابع: لا تنس أنه قال قبل ذلك: على أننا عندما استشارونا نصحنا، إلخ ... - أجل، من الذين استشاروه؟ - سل عن ذلك حكومة القوادين! - توفيق نسيم وكفى! أنسيتموه؟ ولكن لماذا هادنه الوفد؟ - لكل شيء نهاية، انتظروا خطبة اليوم.
أصغى كمال إليهم، بل اشترك في حديثهم، وأعجب من هذا أنه لم يكن دونهم حماسا. وكان هذا ثامن عيد جهاد يشهده: وكان كالآخرين قد امتلأ بمرارة التجارب السياسية التي خلفتها الأعوام السابقة. أجل. لقد عاصرت عهد محمد محمود الذي عطل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، واغتصب حرية الشعب في نظير وعده له بتجفيف البرك والمستنقعات! كما عشت سنين الإرهاب والعهر السياسي التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد، كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكاما له ولكنه يجد فوق رأسه دائما أولئك الجلادين البغضاء، تحميهم هراوات الكونستبلات الإنجليز ورصاصهم، وسرعان ما يقولون له بلغة أو بأخرى أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء، والشعب يخوض المعارك دون توقف فيخرج من كل وهو يلهث، حتى اتخذ في النهاية موقفا سلبيا شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية والطغاة من ناحية أخرى، وقنع الشعب بمجلس المتفرج وراح يشجع رجاله في همس دون أن يمد لهم يدا. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يخفق معه دائما، رغم عقله التائه في ضباب الشك. غادر الترام عند شارع سعد زغلول، وسار في طابور غير منتظم نحو سرادق الاحتفال المقام في جوار بين الأمة، تقابلهم بين كل عشرة أمتار مجموعة من الجنود تحت رئاسة كونستابل إنجليزي تنطق وجوههم بالصرامة والبلادة. والتقى قبيل السرادق بعبد المنعم وأحمد ورضوان وشاب لا يعرفه وقد وقفوا معا يتحادثون، فأقبلوا نحوه مسلمين ولبثوا معه بعض الوقت. منذ شهر تقريبا ورضوان وعبد المنعم بين طلبة الحقوق أما أحمد فقد انتقل إلى السنة النهائية بالثانوي. وإنه ليراهم في الطريق «رجالا» بخلاف ما يراهم في البيت فليسوا إلا أبناء أخته وأخيه. وما أجمل رضوان، كذلك جميل، صاحبه الذي قدمه إليه باسم حلمي عزت، وقد صدق من قال إن الطيور على أشكالها تقع. وكان أحمد يسره، وينتظر منه دائما قولا غريبا ممتعا أو سلوكا لا يقل عنه غرابة، إنه أقرب الجميع إلى روحه، أما عبد المنعم فما أشبهه به لولا ميله إلى القصر والامتلاء؛ لذلك فحسب يحبه، أما يقينه وتعصبه فما أرذلهما!
وأقبل على السرادق الضخم، وألقي نظرة شاملة على الجموع الحاشدة، مرورا بكثرتها الهائلة، وتطلع مليا إلى المنصة التي سيعلو عندها عما قليل صوت الشعب، ثم اتخذ مجلسه. إن وجوده في مثل هذا الجمع الحاشد يطلق من أعماق ذاته الغارقة في الوحدة شخصا جديدا ينتفض حياة وحماسا. هنا ينحبس العقل في قمقم إلى حين، وتنطلق قوى النفس المكبوتة طامحة إلى حياة مفعمة بالعواطف والأحاسيس دافعة إلى الكفاح والأمل ، وعند ذاك تتجدد حياته وتنبعث غرائزه وتتبدد وحشته، ويتصل ما بينه وبين الناس فيشارك في حياتهم ويعتنق آمالهم وآلامهم. إنه بطبعه لا يطيق أن يتخذ من هذه الحياة حياة ثابتة له ولكن لا بد منها بين حين وآخر حتى لا ينقطع ما بينه وبين الحياة اليومية، حياة الناس، فلتؤجل مشكلات المادة والروح والطبيعة وما وراء الطبيعة، وليمتلئ اهتماما بما يحب هؤلاء الناس وبما يكرهون، بالدستور .. بالأزمة الاقتصادية .. بالموقف السياسي .. بالقضية الوطنية؛ لذلك لم يكن عجيبا أن يهتف: «الوفد عقيدة الأمة»، غداة ليل قضاه في تأمل عبث الوجود وقبض الريح، والعقل يحرم صاحبه نعمة الراحة؛ فهو يعشق الحقيقة ويهوى النزاهة ويتطلع إلى التسامح ويرتطم بالشك ويشقى في نزاعه الدائم مع الغرائز والانفعالات، فلا بد من ساعة يأوي فيها المتعب إلى حضن الجماعة؛ ليجدد دماءه ويستمد حرارة وشبابا. في المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل دارون وبرجسون ورسل. في هذا السرادق آلاف من الأصدقاء، يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون الأول خلقا للحوادث وصنعا للتاريخ. في هذه الحياة السياسية يحب ويكره ويرضى ويغضب ويبدو كل شيء ولا قيمة له. وكلما واجه هذا التناقض في حياته زعزعه القلق. ولكن ليس ثمة موضع في حياته يخلو من تناقض وبالتالي من قلق. لذلك شد ما يحن قلبه إلى تحقيق وحدة منسجمة تتسم بالكمال والسعادة، ولكن أين هذه الوحدة؟! ويشعر بأن الحياة العقلية لا مفر منها ما دام به عقل يفكر فلا يقعده ذلك عن التطلع إلى الحياة الأخرى تدفعه كافة القوى المعطلة المكبوتة؛ فهي صخرة النجاة. فلعله لذلك بدا هذا الجمع رائعا، وكلما ازداد كثرة ازداد روعة. وها هو القلب ينتظر ظهور الزعماء بنفس الحرارة واللهفة كالآخرين. وقد جلس عبد المنعم وأحمد على مقعدين متجاورين، أما رضوان وصاحبه حلمي عزت فيسيران في الممر الذي يشق السرادق ذهابا وجيئة أو يقفان عند المدخل يتبادلان الحديث مع بعض المشرفين على الاحتفال فيا لهما من شابين ذوي نفوذ! وكانت همسات القوم تتجمع فتحدث لغطا عاما، أما الأركان التي احتلها الشباب فعلا ضجيجها وتخللته الهتافات. ثم ترامى هتاف قوي ذو دلالة من الخارج فتطلعت الرءوس إلى مدخل السرادق الخلفي، ثم هبوا واقفين، وتعالى هتاف يصم الآذان، ثم لاح مصطفى النحاس فوق المنصة وهو يحيي الألوف بابتسامة وضيئة ويدين قويتين. وتطلع إليه بعينين اختفت منهما نظرة الشك إلى حين، وكان يتساءل: كيف أومن بهذا الرجل بعد أن فقدت الإيمان بكل شيء؟ ألأنه رمز الاستقلال والديمقراطية؟ مهما يكن من أمر فإن التجاوب الحار المتبادل بين الرجل والشعب ظاهرة جديرة بالنظر، وهي بلا شك قوة خطيرة تلعب دورها التاريخي في بناء القومية المصرية. وتشبع الجو بالحماس والحرارة، وتعب المشرفون على الحفل حتى نشروا السكون في الأركان، كي يسمع الناس المقرئ وهو يتلو ما تيسر من القرآن مرددا فيما يتلو:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال . وكان الناس ينتظرون هذا النداء فتعالى الهتاف والتصفيق حتى احتج بعض المتزمتين وطالبوا بالصمت احتراما لكتاب الله. وأثار قولهم في نفسه ذكريات قديمة يوم كان يعد واحدا من هؤلاء المتزمتين. فارتسمت على شفتيه ابتسامة ما واستشعر من توه عالمه الخاص الحافل بالمتناقضات الذي يبدو من تعارض متناقضاته وكأنه فراغ. ووقف الزعيم وراح يلقي خطابه. ألقاه بصوت رنان وبيان نافذ فاستغرق إلقاؤه ساعتين. ثم ختمه جاهرا في عنف سافر بالدعوة إلى الثورة، وبلغ الحماس من القوم مداه فوقفوا على المقاعد، وجعلوا يهتفون بحماس جنوني. ولم يكن دونهم حماسا وهتافا. نسي أنه مدرس مطالب بالوقار وخيل إليه أنه رجع إلى الأيام المجيدة. التي سمع عنها وحال عمره دون الاشتراك فيها. أكانت الخطب تلقى بهذه القوة؟ أكان الناس يتلقونها بمثل هذا الحماس؟ أكان الموت لذلك يهون؟ من مثل هذا الموقف بدأ فهمي دون ريب، ثم اندفع إلى الموت. إلى الخلود أم إلى الفناء؟! أمن الممكن أن يستشهد رجل في مثل حاله من الشك؟ لعل الوطنية - كالحب - من القوى التي نذعن لها وإن لم نؤمن بها!
إن فورة الحماس عالية، الهتافات حارة متوعدة ، المقاعد ترتج بمن فوقها، فما الخطوة التالية؟ ما يدري إلا والجموع تتجه نحو الخارج. وغادر موضعه وهو يلقي نظرة عامة باحثا عن شباب أسرته ولكنه لم يعثر لهم على أثر. وغادر السرادق من الباب الجانبي، ثم سار مستهدفا شارع قصر العيني في خطوات سريعة حتى يسبق الجموع. ومر في طريقه ببيت الأمة وكان كلما مر به يعلق به بصره، وردد عينيه بين الشرفة التاريخية والفناء الذي شهد أجل الذكريات الوطنية، أجل لهذا البيت مثل السحر في نفسه؛ فها هنا كان يقف سعد، وها هنا كان يقف فهمي وأقرانه، وفي هذا الطريق الذي يسير فيه الآن كان ينطلق الرصاص ليستقر في صدور الشهداء. إن قومه في حاجة دائمة إلى الثورة ليقاوموا موجات الطغيان التي تترصد سبيل نهضتهم، في حاجة إلى ثورات دورية تكون بمثابة التطعيم ضد الأمراض الخبيثة، والحق أن الاستبداد هو مرضهم المتوطن. هكذا نجح اشتراكه في العيد الوطني في تجديد نفسه؛ فلم يكن يهمه في تلك اللحظة إلا أن تجيب مصر على تصريح هور إجابة حاسمة كاللكمة القاضية. وانتصبت قامته النحيلة الطويلة، وارتفع رأسه الكبير، واشتد وقع خطاه وهو يتقدم أمام الجامعة الأمريكية متخيلا أمورا جليلة وأفعالا خطيرة. حتى المدرس ينبغي أن يثور أحيانا مع تلاميذه. وابتسم فيما يشبه الكآبة .. مدرس كبير الرأس مقضي عليه بأن يعلم مبادئ الإنجليزية - المبادئ فحسب - رغم أنه يطلع بها على أسرار وأسرار، يحتل جسمه من مزدحم الأرض موضعا ضئيلا، أما خياله فيضطرب في الدوامة التي تحيط بمغالق الطبيعة. يسأل في الصباح عن معنى كلمة وهجاء أخرى ويتساءل بالليل عن معنى وجوده ذلك اللغز القائم بين لغزين. وفي الصباح أيضا يضطرم فؤاده بالثورة على الإنجليز وفي الليل تدعوه الأخوة العامة المعذبة - أخوته لبني الإنسان - للتعاون أمام لغز القضاء. وهز رأسه في شيء من العنف كأنما ليطرد عنه هذه الخيالات. وقد ترامت إلى مسامعه أصوات الهتاف وهو يقترب من ميدان الإسماعيلية فأدرك أن المتظاهرين قد وصلوا إلى شارع قصر العيني؛ ودعاه الشعور بالنضال الذي يعمر صدره إلى التوقف لعله يشترك على نحو ما في مظاهرة 13 نوفمبر. شد ما طال بالوطن موقف الصابر الذي يتلقى الضربات. اليوم توفيق نسيم وأمس إسماعيل صدقي وأول أمس محمد محمود، تلك السلسلة المشئومة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ. كل ابن كلب غرته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر.
مهلا! .. إن المظاهرة تغلي وتفور، ولكن ما هذا؟! التفت كمال إلى الوراء في اضطراب: سمع صوتا اهتز له قلبه. وأنصت في انتباه فصك الصوت مسامعه مرة أخرى. إنه الرصاص. ورأى المتظاهرين عن بعد يضطربون في دوامة خطيرة لا يتضح له أمرها، ولكن جماعات كانوا يهرعون نحو الميدان، وآخرين إلى الشوارع الجانبية، وكثير من الكونستبلات الإنجليز فوق الجياد ينهبون الأرض. وعلا الهتاف واختلط بأصوات الغضب والصراخ واشتد انطلاق الرصاص، وخفق قلبه وتساءلت دقاته عن عبد المنعم وأحمد ورضوان، وامتلأ اضطرابا وغضبا، وتلفت يمنة ويسرة فرأى قهوة غير بعيد على الناصية فاتجه إليها - وقد أغلق بابها نصف إغلاق - وما إن مرق منها حتى تذكر دكان البسبوسة بالحسين حيث سمع طلقات الرصاص لأول مرة، وشاع الاضطراب في كل مكان، وانطلق الرصاص في غزارة مخيفة ثم متقطعا. وترامت أصوات كسر زجاج وصهيل خيل، وعلت أصوات مزمجرة دلت على أن تجمعات ثائرة تنتقل من مكان إلى مكان بسرعة خاطفة. ودخل المشرب شيخ وقال قبل أن يسأله أحد عما وراءه: «إن رصاص الكونستبلات ينهال على الطلبة والله أعلم بعدد الضحايا»، ثم جلس وهو يلهث، وعاد يقول بصوت متهدج: «غدروا بالأبرياء غدرا، لو كان تفريق المظاهرة غايتهم لأطلقوا الرصاص في الهواء من مواقعهم البعيدة، ولكنهم سايروا المظاهرة في هدوء مصطنع، وجعلوا يوزعون أنفسهم على مخارج الطريق، وفجأة أشهروا المسدسات وأطلقوا الرصاص على المقاتل، أطلقوا بلا رحمة، وسقط الصغار يتخبطون في دمهم، الإنجليز وحوش، ولكن الجنود المصريين ليسوا دونهم وحشية، إنها مذبحة مدبرة يا إلهي!» وجاء صوت من آخر المقهى يقول: «كان قلبي يحدثني بأن اليوم لن يمضي على خير.» فأجاب آخر: «أيام تنذر بالشر. فمنذ أعلن هور تصريحه والناس تتوقع أحداثا خطيرة، هذه معركة وستتلوها معارك، وأؤكد لكم هذا!» - الضحايا الطلبة دائما، أعز أبناء الأمة، وا أسفاه! - ولكن الضرب سكت، أليس كذلك؟! أنصتوا .. - المظاهرة الأصلية عند بيت الأمة، وسيستمر الضرب هنالك ساعات طويلة!
ولكن الصمت ساد الميدان. ومضى الوقت ثقيلا مشحونا بالتوتر. وأخذت الظلمة تدنو حتى أضيئت أنوار المقهى ثم لم يعد يسمع صوت كأنما حل بالميدان والشوارع المحيطة به الموت، وفتح باب المقهى على مصراعيه فتراءى الميدان خاليا من المارة والمركبات. ثم جاء طابور من فرسان البوليس ذوي الخوذات الفولاذية فطاف بالميدان يتقدمه الرؤساء الإنجليز: وكان باطن كمال لا يكف عن التساؤل عن مصير الأبناء. ولما دبت الحركة في الميدان مرة أخرى غادر المقهى متعجلا، ولم يعد إلى بيته حتى مر بالسكرية وقصر الشوق واطمأن على عبد المنعم وأحمد ورضوان.
وخلا إلى نفسه في مكتبته بقلب مليء بالحزن والأسى والغضب. لم يقرأ كلمة ولم يكتب كلمة، وظل عقله غائبا في منطقة بيت الأمة، في هور والخطبة الثائرة والهتاف الوطني وأزيز الرصاص وصرخات الضحايا. ووجد نفسه يحاول أن يتذكر اسم صاحب دكان البسبوسة التي اختبأ بها قديما ولكن الذاكرة لم تسعفه.
5
Неизвестная страница
كان منظر بيت محمد عفت بالجمالية من المناظر المألوفة المحبوبة لدى أحمد عبد الجواد. هذه البوابة الخشبية التي تبدو من الخارج كأنها مدخل وكالة قديمة، وذلك السور العالي الذي يخفي ما وراءه خلا رءوس الأشجار العالية، أما هذه الحديقة المظللة بأشجار التوت والجميز والمهندسة بأشجار الحناء والليمون والفل والياسمين فشأنها عجيب، وعجيب أيضا بركة المياه التي تتوسطها، ثم الفراندا الخشبية التي تمتد بعرض الحديقة. وكان محمد عفت واقفا على سلم الفراندا ينتظر القادم وهو يحبك عباءته المنزلية، أما علي عبد الرحيم وإبراهيم الفار فقد جلسا على كرسيين متجاورين. وسلم أحمد على الإخوان ثم تبع محمد عفت إلى الكنبة التي تتوسط الفراندا وجلسا معا. وكانت بدانتهم قد زايلتهم جميعا فيما عدا محمد عفت الذي بدا مترهلا كما بدا وجهه شديد الاحمرار، وقد صلع علي عبد الرحيم واشتعلت رءوس الآخرين شيبا، وانتشرت في صفحات الوجوه التجاعيد، وبدا علي عبد الرحيم وإبراهيم الفار أشد إذعانا للكبر، غير أن حمرة وجه محمد عفت كانت بالاحتقان أشبه، وبقي أحمد رغم ضموره وشيبه جميلا صافيا. وكان أحمد يحب هذا المجلس حبا جما، كما يحب منظر الحديقة التي تترامى حتى السور العالي المشرف على الجمالية، وقد مال برأسه إلى الوراء قليلا كأنما ليمكن أنفه العظيم من الارتواء بعبير الفل والياسمين والحناء، وربما أغمض عينيه أحيانا ليخلص لسماع زقزقة العصافير اللاهية فوق أغصان التوت والجميز. غير أن أنبل ما خالط قلبه في تلك اللحظة كان شعور الأخوة والصداقة الذي يكنه لهؤلاء الرجال. كان يرنو بعينيه الزرقاوين الواسعتين إلى وجوههم الحبيبة التي نكرها الكبر فيفيض قلبه بالأسى والحنان عليهم وعلى نفسه. وكان أشدهم تعلقا بالماضي وذكرياته، يفتنه كل ما يذكر بجمال الشباب وصبوة العواطف ومغامرات الفتوة. وقام إبراهيم الفار إلى خوان قريب وضع عليه صندوق النرد فجاء به وهو يتساءل: من يلاعبني؟
فقال أحمد مستنكرا وكان قليلا ما يشترك في ألعابهم: أجل اللعب إلى حين، لا يجوز أن نشغل به عن أنفسنا من أول الجلسة.
فأعاد الفار الصندوق إلى مكانه، ثم جاء نوبي بصينية عليها ثلاثة أقداح شاي وكأس ويسكي بالصودا فتناول محمد عفت الكأس باسما وتناول الثلاثة الآخرون أقداح الشاي. وكان هذا التوزيع الذي يتكرر كل مساء كثيرا ما يضحكهم؛ فقال محمد عفت وهو يلوح بالكأس في يده ويشير إلى أقداح الشاي في أيديهم: عفا الله عن الأيام التي أدبتكم!
فقال أحمد عبد الجواد متنهدا: إنها أدبتنا جميعا، وأنت أولنا، غير أنك قليل الأدب ..
وكان صدر إليهم أمر طبي واحد في أوقات متقاربة من عام واحد بالامتناع عن تناول الخمر، غير أن طبيب محمد عفت سمح له بكأس واحدة في اليوم، وظن أحمد عبد الجواد يومذاك أن طبيب صديقه يتسامح فيما يتشدد فيه طبيبه هو، فما كان منه إلا أن عرض نفسه عليه ولكن الطبيب حذره في جد وحزم قائلا : «إن حالتك غير حالة صديقك»، وقد افتضح أمر سعيه إلى طبيب محمد عفت فكان موضع قفش وتعليق طويلين: وعاد أحمد يقول ضاحكا: لا شك أنك نفحت طبيبك برشوة كبيرة حتى سمح لك بهذه الكأس!
فقال الفار متأوها وهو يرنو إلى الكأس بيد محمد عفت: كدت والله أنسى نشوتها!
فقال له علي عبد الرحيم ممازحا: فسدت توبتك بهذا القول يا عربيد.
فاستغفر الفار ربه ثم تمتم في استسلام: الحمد لله .. - بتنا نحسد على كأس واحدة! أين .. أين النشوات؟!
فقال أحمد عبد الجواد ضاحكا: إذا ندمتم فاندموا على الشر لا على الخير يا أولاد الكلب! - إنك كسائر الوعاظ، ألسنتهم في دنيا وقلوبهم في دنيا أخرى ..
وإذا بعلي عبد الرحيم يقول رافعا صوته إلى درجة جديدة منذرة بتغيير مجرى الحديث: يا رجال! ما رأيكم في مصطفى النحاس؟! الرجل الذي لم تؤثر فيه دموع الملك الشيخ المريض فأبى أن ينسى ثانية واحدة مطلبه الأسمى «دستور سنة 1923» ..
Неизвестная страница
ففرقع محمد عفت بأصابعه وقال في سرور: برافو .. برافو! .. إنه أصلب من سعد زغلول نفسه، من كان يرى الملك الجبار مريضا باكيا ثم يصمد أمامه بهذه الشجاعة النادرة ويردد في ثبات صوت الأمة التي أولته زعامتها قائلا: «دستور سنة 1923 أولا».
وهكذا عاد الدستور، فمن كان يتصور ذلك؟
فقال إبراهيم الفار وهو يهز رأسه في عجب: تصوروا هذا المنظر، الملك فؤاد وقد حطمه المرض والشيخوخة، يضع يده على كتف مصطفى النحاس في مودة بالغة! ثم يدعوه إلى تأليف وزارة ائتلافية، فلا يتأثر النحاس لذلك كله. ولا ينسى واجبه كزعيم أمين، يغفل لحظة واحدة عن الدستور الذي توشك الدموع الملكية أن تغطي عليه، لا يتأثر لشيء من هذا ويقول بشجاعة وصلابة: دستور سنة 1923 أولا يا مولاي.
علي عبد الرحيم محاكيا نفس اللهجة: أو الخازوق أولا يا مولاي!
أحمد عبد الجواد ضاحكا: قسما بمن جرت مقاديره بأن نرى الويسكي بيننا ونتجنبه إنه لموقف عظيم!
وشرب محمد عفت بقية كأسه ثم قال: نحن في عام 1935، ثماني سنوات مرت على موت سعد، وخمسة عشر عاما منذ الثورة، ولا يزال الإنجليز في كل مكان، في الثكنات والبوليس والجيش وشتى الوزارات، الامتيازات الأجنبية التي تجعل من كل ابن لبؤة سيدا مهابا ما زالت قائمة، ينبغي أن تنتهي هذه الحال المؤسفة .. - ولا تنس الجلادين أمثال إسماعيل صدقي ومحمد محمود والإبراشي! - إذا ذهب الإنجليز فلن يبقى لأحد من هؤلاء شأن، ستصبح الانقلابات في خبر كان .. - نعم، وإذا فكر الملك أن يلعب بذيله فلن يجد من يسانده!
وعاد محمد عفت يقول: سيجد الملك نفسه بين اثنتين؛ فإما احترام الدستور وإما السلام عليكم!
فتساءل إبراهيم الفار فيما يشبه الشك: وهل يتخلى عنه الإنجليز إذا طلب حمايتهم؟ - إذا سلم الإنجليز بالجلاء فلماذا يحمون الملك؟
فتساءل الفار مرة أخرى: وهل يسلم الإنجليز بالجلاء حقا؟!
فقال محمد عفت في ثقة من يعتز بثقافته السياسية: لقد دهمونا بتصريح هور فكانت المظاهرات، وكان الشهداء رحمة الله عليهم، ثم كانت الدعوة إلى الائتلاف، ثم عاد دستور سنة 1923، أؤكد لكم أن الإنجليز راغبون الآن في المفاوضة، حقا إن الإنسان لا يدري كيف تنكشف هذه الغمة، كيف يمكن أن يذهب الإنجليز أو ينتهي نفوذ الخواجات، ولكن ثقتنا في مصطفى النحاس لا نهاية لها .. - ثلاثة وخمسون عاما من الاحتلال تنتهي بشوية كلام حول مائدة؟! - كلام قد سبق بدم زكي مسفوح .. - ولو! ..
Неизвестная страница
فقال محمد عفت وهو يغمز بعينه: سيجدون أنفسهم في مركز حرج وسط حالة دولية خطيرة! - يستطيعون أن يجدوا دائما من يؤمن ظهرهم، وإسماعيل صدقي حي لم يمت!
فعاد محمد عفت يقول بلهجة العارف: حادثت كثيرين من المطلعين فوجدتهم متفائلين، يقولون إن العالم مهدد بحرب طاحنة، وإن مصر في فوهة المدفع، وإن من صالح الطرفين الاتفاق المشرف ..
ثم واصل حديثه بعد أن مسح على كرشه في ثقة واطمئنان: إليكم خبرا هاما، وعدت بأن أرشح في دائرة الجمالية في الانتخابات القادمة، وعدني النقراشي نفسه.
وتهللت وجوه الأصدقاء سرورا، ثم لما جاء دور التعليق قال علي عبد الرحيم متصنعا الجد: لا يعيب الوفد إلا أنه يرشح حيوانات أحيانا باسم نواب !
فقال أحمد عبد الجواد كأنما يدافع عن عيب الوفد: وماذا يفعل الوفد؟ إنه يريد أن يمثل الأمة كلها، والأمة أبناء حلال وأبناء سفلة، فمن يمثل أولاد السفلة إلا الحيوانات؟!
فلكزه محمد عفت في جنبه وهو يقول: عجوز وقارح، أنت وجليلة شخص واحد، كلاكما عجوز وقارح! - إني أرضى لو رشحوا جليلة؛ فهي عند اللزوم قد تفرش الملاية للملك نفسه!
وهنا قال علي عبد الرحيم باسما: قابلتها أول أمس أمام عطفتها، ما زالت كالحمل ولكن الكبر أكل عليها وبال!
فقال الفار: صارت معلمة قد الدنيا، بيتها شغال ليل نهار، ويموت الزمار وصباعه بيلعب.
فضحك علي عبد الرحيم طويلا ثم قال: كنت مارا أمام بيتها فرأيت رجلا يتسلل إليه وهو يظن أنه بمأمن من الرقباء، فمن تظنونه كان؟ .. (ثم أجاب وهو يغمز بعينه صوب أحمد عبد الجواد): المحروس كمال أفندي أحمد خوجة مدرسة السلحدار!
ضحك محمد عفت والفار ضحكة عالية، أما أحمد عبد الجواد فقد اتسعت عيناه دهشا وانزعاجا، ثم تساءل في ذهول: كمال ابني؟! - أي نعم، كان ملتفا في معطفه، وعلى عينه نظارته الذهبية. وشاربه الغليظ يختال وقارا، كان يسير في رزانة ومهابة كأنما ليس هو ابن «ضحكجي أغا»، وبنفس الوقار انعطف إلى البيت كأنما ينعطف إلى الجامع الحرام، فقلت له في نفسي: خفف الوطء يا ابن المركوب!
Неизвестная страница