والدليل على أن الحق ما أقوله لك هو أن هذه المباحث قد تركت فى الكتاب الذى هو الأصل. وأيضا فقد اشمأز كافة المنطقيين المحصلين عن أن يكون هذا الكتاب نظرا فى طبائع الموجودات، بل قالوا: إنه نظر فيها، من حيث هى مدلول عليها بالألفاظ المفردة. وليست البراهين التى تصحح أن هذه التسعة أعراض غير البراهين التى تدل على أحوال وجودها؛ ولا يوجد برهان على ذلك فيها، من حيث هى مدلول عليها بالألفاظ المفردة؛ وكذلك الحال فى تلك المباحث الأخرى. فإذا كان بيان هذه الأحوال فيها متعلقا بالنظر من حيث هى موجودة، لم يكن للاشمئزاز الذى يعتقدونه معنى؛ بل يكون هذا النظر فيها نظرا من حيث هى موجودة، ثم من حيث هى مدلول عليها باللفظ، فيكون قد جمع فيه وجها النظر.
على أن كل ماينظر فى أحواله، من حيث هو موجود، فقد يشعر مع ذلك بحاله، من حيث هو مدلول عليه؛ فإن لكل حقيقة من الوجود مطابقة من اللفظ. نعم لو كان لكونها مدلولا عليها خواص لاتتناول صرافة الوجود، وكان البحث فى هذا الكتاب مقتصرا عليها ومنصرفا إليها، لكان بالحرى أن يظن أن هذا الذي عرفوه من أمره غرض هذا الكتاب، حتى جردوه نظرا منطقيا، ليس فلسفة أولى ولا فلسفة طبيعية، أمر دقيق وإخراج لطيف وفصل غامض.
ولو كانوا يضعون هذه الأمور كلها وضعا على سبيل التسليم، ويقولون إن هذه جماع الأمور التي عليها تقع الألفاظ المفردة ومنها تؤلف الألفاظ المركبة، بل هى الأمور التى معانيها فى النفس هى مواد أجزاء المعانى المركبة فى النفس التركيب الذى يتوصل به إلى إدراك المجهولات، وإن لم يكن هناك لفظ البتة، لكانوا يقولون أيضا شيئا. وأما إصرارهم على أن هذا بحث منطقى، وأن هذا متعلق بأن ألفاظا لامحالة، فتكلف بحت، فلذلك تبلدوا وتحيروا.
وأما نحن فنقول ماقلناه ثم نتبع منهاج القوم وعاداتهم، شئنا أو بينا، ونقول: إن هذا الكتاب وتقديمه، مع أنه ليس بكثير النفع؛ فإنه ربما ضر فى بادئ الأمر؛ فما أكثر من شاهدته قد تشوشت نفسه بسبب قراءته هذا الكتاب، حتى تخيل منه أمورا لاسبيل إلى تحققها على كنهها فى هذا الكتاب، فامتدت له خيالات مصروفة عن الحقيقة، وانبنت له عليها مذاهب وآراء دنست بذلك نفسه، وانسطر فى لوح عقله ما لا ينمحى بانسطار غيره، وإذا خالطه شوشه.
الفصل الثاني فصل (ب) في الألفاظ المتفقة والمتواطئة والمتباينة والمشتقة وما يجرى مجراها
إن من الأمور المختلفة المتكثرة ما يشترك فى اسم واحد، وذلك على وجهين: فإنه إما أن يكون على طريق التواطؤ، وإما أن يكون على غير طريق التواطؤ.
وطريق التواطؤ أن يكون الاسم لها واحدا وقول الجوهر، أعنى حد الذات أو رسمه الذب بحسب ما يفهم من ذلك الاسم، واحدا من كل وجه؛ مثل قولنا الحيوان على الإنسان والفرس والثور، بل على زيد وعمرو وهذا الفرس وذلك الثور؛ فإن جميع ذلك يسمى حيوانا. وإذا أراد أحد أن يحد أو يرسم، وبالجملة أن يأتى بقول الجوهر، أى اللفظ المفصل الدال على معنى الذات فيها كلها، كان رسما أو حدا، فإن القول أعم من كل واحد منهما، وحده واحد فيها من كل وجه؛ أى يكون واحدا بالمعنى، وواحدا بالاستحقاق، لايختلف فيها بالأولى والأحرى، والتقدم والتأخر، والشدة والضعف. ويجب أن تكون هذه المواطأة في القول الذى بحسب هذا الاسم؛ فإنه إذا وجد قول آخر يتحد فيه ويتشارك، ولم يكن بحسب هذا الاسم، لم يصر له الاسم مقولا بالتواطؤ.
ونحن نعنى ههنا بالاسم كل لفظ دال، سواء كان مايخص باسم الاسم، أو كان ما يخص باسم الكلمة، أو الثالث الذى لايدل إلا بالمشاركة، كما سيأتيك بيانه بعد. فهذا ما يقال على سبيل التواطؤ.
فأما ما ليس على سبيل التواطؤ فإن جميعه قد يقال إنه باتفاق الاسم، وينقسم إلى أقسام ثلاثة: وذلك لأنه إما أن يكون المعنى فيها واحدا في نفسه، وإن اختلف من جهة أخرى، وإما أن لايكون واحدا، ولكن يكون بينهما مشابهة ما، وإما أن لايكون واحدا، ولا يكون أيضا بينهما مشابهة.
والذى يكون المعنى فيها واحدا، ولكن يختلف بعد ذلك، فمثل معنى الوجود: فإنه واحد فى أشياء كثيرة، لكنه يختلف فيها؛ فإنه ليس موجودا فيها على صورة واحدة من كل وجه؛ فإنه موجود لبعضها قبل ولبعضها بعد؛ فإن الوجود للجوهر قبل الوجود لسائر ما يتبعه؛ وأيضا فإن الوجود لبعض الجواهر قبله لبعض الجواهر؛ وكذلك الوجود لبعض الأعراض قبله لبعض الأعراض. فهذا طريق التقدم والتأخر.
Страница 44