المدخل

المقالة الأولى

المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى وهي في علم المنطق

| المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى وهي في علم المنطق

الفصل الأول في الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب

| الفصل الأول في الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب

|| الفصل الأول في الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب

قال الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، أحسن الله إليه: وبعد حمد الله، والثناء عليه كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين، فإن غرضنا في هذا الكتاب الذي نرجو أن يمهلنا الزمان إلى ختمه، ويصحبنا التوفيق من الله في نظمه، أن نودعه لباب ما تحققناه من الأصول في العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، المبنية على النظر المرتب المحقق، والأصول المستنبطة بالأفهام المتعاونة على إدراك الحق المجتهد فيه زمانا طويلا، حتى استقام آخره على جملة اتفقت عليها أكثر الآراء، وهجرت معها غواشي الأهواء. وتحريت أن أودعه أكثر الصناعة، وأن أشير في كل موضع إلى موقع الشبهة، وأحلها بإيضاح الحقيقة بقدر الطاقة، وأورد الفروع مع الأصول إلا ما أثق بانكشافه لمن استبصر بما نبصره ، وتحقق ما نصوره، أو ماعزب عن ذكرى ولم يلح لفكر. وأجتهدت في اختصار الألفاظ جدا " ، ومجانبة التكرار أصلا، إلا ما يقع خطأ أو سهوا " ، وتنكبت التطويل في مناقضة مذاهب جلية البطلان أو مكفية الشغل بما نقرره من الأصول، ونعرفه من القوانين. ولا يوجد في كتب القدماء شئ يعتد به إلا وقد ضمناه كتابنا هذا؛ فإن لم يوجد في الموضع الجاري بإثباته فيه العادة وجد في موضع آخر رأيت أنه أليق به؛ وقد أضفت إلى ذلك مما أدركته بفكري، وحصلته بنظري، وخصوصا في علم الطبيعة وما بعدها، وفي علم المنطق.

وقد جرت العادة بأن تطول مبادئ المنطق بأشياء ليست منطقية، وإنما هي للصناعة الحكمية أعنى الفلسفة الأولى، فتجنبت إيراد شئ من ذلك، وإضاعة الزمان به وأخرته إلى موضعه.

ثم رأيت أن أتلو هذا الكتاب بكتاب آخر، أسميه " كتاب اللواحق " ، يتم مع عمري، ويؤرخ بما يفرغ منه في كل سنة، يكون كالشرح لهذا الكتاب، وكتفريع الأصول فيه، وبسط الموجز من معانيه.

ولي كتاب غير هذين الكتابين، أوردت فيه الفلسفة على ماهي في الطبع، وعلى ما يوجبه الرأي الصريح الذي لايراعى فيه جانب الشركاء في الصناعة، ولايتقى فيه من شق عصاهم ما يتقى في غيره، وهو كتابي في " الفلسفة المشرقية " .

وأما هذا الكتاب فأكثر بسطا، وأشد مع الشركاء من المشائين مساعدة.

ومن أراد الحق الذي لامجمجة فيه، فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على فيه ترض ما إلى الشركاء وبسط كثير، وتلويح بما لو فطن له أستغنى عن الكتاب الآخر، فعليه بهذا الكتاب ولما أفتتحت هذا الكتاب أبتدأت بالمنطق وتحريت أن أحاذى به ترتيب كتب صاحب المنطق، وأوردت في ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو عنه الكتب الموجودة. ثم تلوته بالعلم الطبيعي، فلم يتفق لي في أكثر الأشياء محاذاة تصنيف المؤتم به في هذه الصناعة وتذاكيره. ثم تلوته بالهندسة، فاختصرت كتاب الأسطقسات لأوقليدس اختصارا لطيفا، وحللت فيه الشبه واقتصرت عليه. ثم اردفته باختصار كذلك لكتاب المجسطي في الهيئة يتضمن مع الاختصار بيانا وتفهيما، وألحقت به من الزيادات بعد الفراغ منه ما وجب أن يعلم المتعلم حتى تتم به الصناعة، ويطابق فيه بين الأحكام الرصدية والقوانين الطبيعية. ثم تلوته باختصار لطيف لكتاب المدخل في الحساب. ثم ختمت صناعة الرياضيين بعلم الموسيقى على الوجه الذي انكشف لي، مع بحث طويل، ونظر دقيق، على الاختصار. ثم ختمت الكتاب بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة على أقسامه ووجوهه، مشارا فيه إلى جمل من علم الأخلاق والسياسات، إلى أن أصنف فيها كتابا جامعا مفردا.

وهذا الكتاب، وإن كان صغير الحجم، فهو كثير العلم، ويكاد لايفوت متأمله ومتدبره أكثر الصناعة، إلى زيادات لم تجر العادة بسماعها من كتب أخرى؛ وأول الجمل التي فيه هو علم المنطق.

وقبل أن نشرع في علم المنطق، فنحن نشير إلى ماهية هذه العلوم إشارة موجزة، ليكون المتدبر لكتابنا هذا كالمطلع على جمل من الأغراض.

الفصل الثاني في التنبيه على العلوم والمنطق

| الفصل الثاني في التنبيه على العلوم والمنطق

|| الفصل الثاني في التنبيه على العلوم والمنطق

Страница 1

فنقول: إن الغرض في الفلسفة أن يوقف على حقائق الأشياء كلها على قدر مايمكن الإنسان أن يقف عليه. والأشياء الموجودة إما أشياء موجودة ليس وجودها باختيارنا وفعلنا، وإما أشياء وجودها باختيارنا وفعلنا. ومعرفة الامور التي من القسم الأول تسمى فلسفة نظرية، ومعرفة الأمور التي من القسم الثاني تسمى فلسفة عملية. والفلسفة النظرية إنما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط، والفلسفة العملية إنما الغاية فيها تكميل النفس، لا بأن تعلم فقط، بل بأن تعلم ما يعمل به فتعمل. فالنظرية غايتها اعتقاد رأى ليس بعمل، والعملية غايتها معرفة رأى هو في عمل، فالنظرية أولى بأن تنسب إلى الرأى.

والأشياء الموجودة في الأعيان التي ليس وجودها باختيارنا وفعلنا هي بالقسمة الأولى على قسمين: أحدهما الأمور التي تخالط الحركة، والثاني الأمور التي لاتخالط الحركة، مثل العقل والبارى. والأمور التي تخالط الحركة على ضربين: فإنها إما أن تكون لاوجود لها إلا بحيث يجوز أن تخالط الحركة، مثل الإنسانية والتربيع، وما شابه ذلك، وإما أن يكون لها وجود من دون ذلك. فالموجودات التي لاوجود لها إلا بحيث يجوز عليها مخالطة الحركة على قسمين: فإنها إما أن تكون، لا القوام ولا في الوهم، يصح عليها أن تجرد عن مادة معينة، كصورة الإنسانية والفرسية، وإما أن تكون يصح عليها ذلك في الوهم دون القوام، مثل التربيع، فإنه لا يحوج تصوره إلى أن يخص بنوع مادة، أو يلتفت إلى حال حركة. وأما الأمور التي يصح أن تخالط الحركة، ولها وجود دون ذلك، فهي مثل الهوية، والوحدة، والكثرة، والعلية. فتكون الأمور التي يصح عليها أن تجرد عن الحركة، إما أن تكون صحتها صحة الوجوب، وإما ألا تكون صحتها صحة الوجوب، بل تكون بحيث لايمتنع لها ذلك، مثل حال الوحدة، والهوية، والعلية، والعدد الذي هو الكثرة. وهذه فإما أن ينظر إليها من حيث هى هى، فلا يفارق ذلك النظر النظر إليها من حيث هى مجردة، فإنها تكون من جملة النظر الذي يكون في الأشياء، لا من حيث هى في مادة، إذ هى، من حيث هى هى، لا في مادة، وإما أن ينظر اليها من حيث عرض لها عرض لايكون في وجود إلا في المادة. وهذا على قسمين: إما أن يكون ذلك العرض لايصح توهمه أن يكون إلا مع نسبة إلى المادة النوعية والحركة، مثل النظر في الواحد، من حيث هو نار أو هواء، وفي الكثير، من حيث هو أسطقسات، وفي العلة، من حيث هي مثلا حرارة أو برودة، وفي الجوهر العقلي، من حيث هو نفس، أى مبدأ حركة بدن، وإن كان يجوز مفارقته بذاته. وإما أن يكون ذلك العرض - وإن كان لايعرض إلا مع نسبة إلى مادة ومخالطة حركة - فإنه قد تتوهم أحواله وتستبان من غير نظر في المادة المعينة والحركة النظر المذكور، مثل الجمع والتفريق، والضرب والقسمة، والتجذير والتكعيب، وسائر الأحوال التي تلحق العدد، فإن ذلك يلحق العدد وهو في أوهام الناس، أو في موجودات متحركة منقسمة متفرقة ومجتمعة، ولكن تصور ذلك قد يتجرد تجردا ما حتى لايحتاج فيه إلى تعيين مواد نوعية.

فأصناف العلوم إما أن تتناول إذن اعتبار الموجودات، من حيث هى في الحركة تصورا وقواما، وتتعلق بمواد مخصوصة الأنواع،وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة لتلك تصورا لاقواما، وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة قواما وتصورا.

Страница 2

فالقسم الأول من العلوم هو العلم الطبيعى.والقسم الثاني هو العلم الرياضى المحض، وعلم العدد المشهور منه، وأما معرفة طبيعة العدد، من حيث هو عدد، فليس لذلك العلم. والقسم الثالث هو العلم الإلهى. وإذ الموجودات في الطبع على هذه الأقسام الثلاثة، فالعلوم الفلسفية النظرية هى هذه. وأما الفلسفة العملية: فإما أن تتعلق بتعليم الآراء التي تنتظم باستعمالها المشاركة الإنسانية العامية، وتعرف بتدبير المدينة، وتسمى علم السياسة، وإما أن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به المشاركة الإنسانية الخاصية، وتعرف بتدبير المنزل؛ وإما أن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به حال الشخص الواحد في زكاء نفسه، ويسمى علم الأخلاق. وجميع ذلك إنما تحقق صحة جملته بالبرهان النظرى، وبالشهادة الشرعية، ويحقق تفصيله وتقديره بالشريعة الإلهية.

والغاية في الفلسفة النظرية معرفة الحق، والغاية في الفلسفة العلمية معرفة الخير .

وماهيات الأشياء قد تكون في أعيان الأشياء، وقد تكون في التصور، فيكون لها اعتبارات ثلاثة: اعتبار الماهية بما هى تلك الماهية غير مضافة إلى أحد الوجودين وما يلحقها، من حيث هى كذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى في الأعيان، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى في التصور، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك، مثل الوضع والحمل، ومثل الكلية والجزئية في الحمل، والذاتية والعرضية في الحمل، وغير ذلك مما ستعلمه؛ فإنه ليس في الموجودات الخارجية ذاتية ولا عرضية حملا، ولا كون الشئ مبتدأ ولا كونه خبرا، ولا مقدمة ولا قياسا، ولا غير ذلك. وإذا أردنا أن نتفكر في الاشياء ونعلمها، فنحتاج ضرورة إلى أن ندخلها في التصور، فتعرض لها ضرورة الأحوال التي تكون في التصور فنحتاج ضرورة إلى أن نعتبر الأحوال التي لها في التصور، وخصوصا ونحن نروم بالفكرة أن نستدرك المجهولات، وأن يكون ذلك من المعلومات. والأمور إنما تكون مجهولة بالقياس إلى الذهن لامحالة، وكذلك إنما تكون معلومة بالقياس إليه.والحال والعارض الذي يعرض لها حتى ننتقل من معلومها إلى مجهولها، هو حال وعارض يعرض لها في التصور، وإن كان مالها في ذاتها أيضا موجودا مع ذلك، فمن الضرورة أن يكون لنا علم بهذه الأحوال، وأنها كم هى، وكيف هى، وكيف تعتبر في هذا العارض. ولأن هذا النظر ليس نظرا في الأمور، من حيث هى موجودة أحد نحوى الوجودين المذكورين، بل من حيث ينفع في إدراك أحوال ذينك الوجودين، فمن تكون الفلسفة عنده متناولة للبحث عن الأشياء، من حيث هى موجودة، ومنقسمة إلى الوجودين المذكورين، فلا يكون هذا العلم عنده جزأ من الفلسفة؛ ومن حيث هو نافع في ذلك، فيكون عنده آلة في الفلسفة؛ ومن تكون الفلسفة عنده متناولة لكل بحث نظري، ومن كل وجه، يكون أيضا هذا عنده جزأ من الفلسفة، وآلة لسائر أجزاء الفلسفة. وسنزيد هذا شرحا فيما بعد.

والمشاجرات التي تجري في مثل هذه المسألة فهى من الباطل ومن الفضول: أما من الباطل، فلأنه لاتناقض بين القولين، فإن كل واحد منهما يعنى بالفلسفة معنى آخر؛ وأما من الفضول، فإن الشغل بأمثال هذه الأشياء ليس مما يجدى نفعا.

وهذا النوع من النظر هو المسمى علم المنطق، وهو النظر في هذه الأمور المذكورة، من حيث يتأدى منها إلى أعلام المجهول، وما يعرض لها من حيث كذلك لاغير.

الفصل الثالث فصل في منفعة المنطق

| الفصل الثالث فصل في منفعة المنطق

|| الفصل الثالث فصل في منفعة المنطق

Страница 3

لما كان استكمال الانسان - من جهة ما هو إنسان ذو عقل - على ماسيتضح ذلك في موضعه، هو في أن يعلم الحق لأجل نفسه، والخير لأجل العمل به واقتباسه، وكانت الفطرة الأولى والبديهة من الإنسان وحدهما قليلى المعونة على ذلك، وكان جل ما يحصل له من ذلك إنما يحصل بالاكتساب، وكان هذا الاكتساب هو اكتساب المجهول، وكان مكسب المجهول هو المعلوم، وجب أن يكون الإنسان يبتدئ أولا فيعلم أنه كيف يكون له اكتساب المجهول من المعلوم وكيف يكون حال المعلومات وانتظامها في أنفسها، حتى تفيد العلم بالمجهول، أي حتى إذا ترتبت في الذهن الترتب الواجب، فتقررت فيه صورة تلك المعلومات على الترتيب الواجب، انتقل الذهن منها إلى المجهول المطلوب فعلمه. وكما أن الشئ يعلم من وجهين: أحدهما أن يتصور فقط حتى إذا كان له إسم فنطق به، تمثل معناه في الذهن، وإن لم يكن هناك صدق أو كذب، كما إذا قيل: إنسان، أو قيل: افعل كذا؛ فإنك إذا وقفت على معنى ماتخاطب به من ذلك، كنت تصورته. والثاني أن يكون مع التصور تصديق، فيكون إذا قيل لك مثلا: إن كل بياض عرض، لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول فقط، بل صدقت أنه كذلك. فأما إذا شككت أنه كذلك أو ليس كذلك، وقد تصورت مايقال؛ فإنك لاتشك فيما لاتتصوره ولا تفهمه، ولكنك لم تصدق به بعد؛ وكل تصديق فيكون مع تصور، ولا ينعكس. والتصور في مثل هذا المعنى يفيدك أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف، وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والتصديق هو أن يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها، والتكذيب يخالف ذلك. كذلك الشئ يجهل من وجهين: أحدهما من جهة التصور، والثاني من جهة التصديق؛ فيكون كل واحد منهما لايحصل معلوما الإ بالكسب، ويكون كسب كل واحد منهما بمعلوم سابق متقدم، وبهيئة وصفة تكون لذلك المعلوم، لأجلها ينتقل الذهن من العلم بها إلى العلم بالمجهول. فها هنا شئ من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصوره، وشئ من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصديقه. ولم تجر العادة بأن يفرض للمعنى الجامع - من حيث علمه يفيد علم تصور شئ - اسم جامع، أو لم يبلغنا؛ لأن منه حدا، ومنه رسما، ومنه مثالا، ومنه علامة، ومنه اسما، على ما سيتضح لك، وليس لما يشترك فيه اسم عام جامع. وأما الشئ الذي يتريب أولا معلوما، ثم يعلم به غيره على سبيل التصديق، فإن ذلك الشئ يسمى - كيف كان - حجة؛ فمنه قياس، ومنه استقراء، ومنه تمثيل، ومنه أشياء أخرى.

Страница 4

فغاية علم المنطق أن يفيد الذهن معرفة هذين الشيئين فقط؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول الموقع للتصور، حتى يكون معرفا حقيقة ذات الشئ؛ وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإن لم يتوصل به إلى حقيقة ذاته؛ وكيف يكون فاسدا، مخيلا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل ذلك، ولم يكون ذلك، وما الفصول التي بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه كيف يكون القول الموقع للتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة لايصح انتقاضه؛ وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين؛ وكيف يكون بحيث يظن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك، بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميل نفس وقناعة من غير تصديق جزم؛ وكيف يكون القول حتى يؤثر في النفس ما يؤثره التصديق والتكذيب من إقدام وامتناع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع تصديقا، بل من حيث يخيل، فكثير من الخيالات يفعل في هذا الباب فعل التصديق؛ فإنك إذا قلت للعسل إنه مرة مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع تكذيب لذلك ألبتة، كما تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه، وما الفصول بينها ؟ ولم كانت كذلك ؟ وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يتوصل إلى معرفة الغرضين؛ وهذه الصتاعة هي المنطق. وقد يتفق للإنسان أن ينبعث في غريزته حد موقع للتصور، وحجة موقعة للتصديق، إلا أن ذلك يكون شيئا غير صناعي، ولا يؤمن غلطه في غيره؛ فإنه لو كانت الغريزة والقريحة في ذلك مما يكفينا طلب الصناعة، كما في كثير من الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض في المذاهب ما عرض، ولكان الإنسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته؛ بل الفطرة الإنسانية غيركافية في ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية في كثير من الأعمال الأخر، وإن كان يقع له في بعضها إصابة كرمية من غير رام. وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لا يغلط ألبتة؛ إذ الصناعة قد يذهب عنها ويقع العدول عن استعمالها في كثير من الأحوال، لا أن الصناعة في نفسها غير ضابطة، وغير صادة عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور: أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثاني أن يكون قد استوفاها، لكنه في بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة؛ والثالث أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعمالها، أو يذهب عنها. على أنه وإن كان كذلك، فإن صاحب العلم، إذا كان صاحب الصناعة واستعملها، لم يكن ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها؛ ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال صناعته مرارا كثيرا تمكن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح، إلا أن يكون متناهيا في البلادة؛ فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو في مهمات صناعته التي تعينه المعاودة فيها، وإن وقع له سهو في نوافلها . وللإنسان في معتقداته أمور مهمة جدا، وأمور تليها في الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له أن يجتهد في تأكيد الأمر في تلك المهمات بمراجعات عرض عمله على قانونه. والمراجعات الصناعية فقد يبلغ بها أمان من الغلط، كمن يجمع تفاصيل حساب واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة في عقد الجملة.

فهذه الصناعة لابد منها في استكمال الإنسان الذي لم يؤيد بخاصية تكفيه الكسب. ونسبة هذه الصناعة إلى الروية الباطنة التي تسمى النطق الداخلي، كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التي تسمى النطق الخارجي، وكنسبة العروض إلى الشعر؛ لكن العروض ليس ينفع كثيرا في قرض الشعر، بل الذوق السليم يغنى عنه، والنحو العربي قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه الصناعة فلا غنى عنها للإنسان المكتسب للعلم بالنظر والروية، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله،فتكون نسبته إلى المروين نسبة البدوي الى المتعربين.

الفصل الرابع فصل في موضوع المنطق

| الفصل الرابع فصل في موضوع المنطق

|| الفصل الرابع فصل في موضوع المنطق

Страница 5