وللألفاظ المفردة أحوال أخرى وهى دلالاتها على الأمور الموجودة أحد الوجودين اللذين بيناهما حين عرفنا موضوع المنطق. ولا ضرورة ألبتة إلى معرفة تلك، أعنى فى أن نتعلم صناعة المنطق، ولا شبه ضرورة، لا من جهة حال دلالتها على الأشخاص الجزئية؛ فإن ذلك مما لاينتفع به فى شئ من العلوم أصلا، فضلا عن المنطق، ولا من جهة حال دلالتها على الأنواع؛ لأن هذا أمر لم يعن به أحد فى صناعة المنطق، وتمت صناعة المنطق دون ذلك، ولا من جهة حال دلالتها على الأجناس العالية، التى جرت العادة بتسميتها مقولات وإفراد كتاب فى فاتحة علم المنطق لأجلها الذى يسمى قاطيغورياس؛ فإن المتعلم للمنطق، إذا انتقل بعد معرفته بما عرفنا من أحوال الألفاظ المفردة، وعرف الاسم والكلمة، أمكن أن ينتقل إلى تعلم القضايا وأقسامها، والقياسات والتحديدات وأصنافها، ومواد القياسات والحدود البرهانية وغير البرهانية وأجناسها وأنواعها، وإن لم يخطر بباله أن ههنا مقولات عشرا، وأنها هى التى تدل عليها أنفسها أو على مايدخل فيها بالألفاظ المفردة. ولا يعرض من إغفال ذلك خلل يعتد به؛ ولا إن ظن أحد أن هذه المقولات أكثر عددا أو أقل عددا دخله من ذلك وهن فى المنطق؛ وليس أن يعلم أنه هل هذه الأمور توصف بالجنسية أوجب عليه من أن يعلم أنه هل أمور أخرى توصف بالنوعية، بل معرفة هذه. أما من جهة كيفية الوجود، فإلى الفلسفة الأولى؛ ومعرفتها من جهة تصور النفس لها، فإلى حد من العلم الطبيعى يصاقب الفلسفة الأولى؛ ومعرفة أنها تستحق ألفاظا توقع عليها، فإلى صناعة اللغويين.
ومعرفة أن الألفاظ المفردة تقع على شئ منها، من غير تعيين الألفاظ التى تقع عليها، هى كمعرفة أن الأمور الموجودة لها ألفاظ مفردة موضوعة بالفعل أو فى القوة. وليس أن يعرف المنطقى، من حيث هو منطقى، ذلك فيها أولى من معرفة ذلك فى غيرها؛ فإنه ليس يلزمه، من حيث هو منطقى، أن يشتغل بأن يعرف أن الألفاظ المفردة موضوعة لصنف من الأمور، وهو الكليات العامة، دون أن يعرف ذلك فى صنف من الأمور، وهى الكليات الخاصة. نعم ههنا شئ واحد وهو أن المتعلم قد ينتفع بهذا التلقين انتفاعا من وجه،وهو أنه تحصل له إحاطة ما بالأمور ويقتدر على إيراد الأمثلة.
وإذا كانت الحدود قد يعرض فيها اختلاف باختلاف وقوع المحدودات فى مقولات شتى، كحال الشئ الذى من مقولة المضاف مثلا، فإنه يعرض له أن يحتاج في تحديده إلى أحوال لاتعرض لما يقع فى مقولة الجوهر. وربما خص أنواع الكمية فى التحديد خواص هى لها دون أنواع الكيفية.
وإذا كانت هذه الأشياء مفهومة على حيالها، كان تعلم ذلك سهلا. بعد أن الحاجة إلى إفراد هذا التعليم غير ماسة فى هذا المعنى؛ فإنه يمكن أن تعلم صناعة التحديد بكمالها من غير أن يحتاج إلى إفراد هذا الفن، وأن يقال: إن كانت أمور من المضاف فحكمها كذا، وأن كانت قوى وكيفيات فحكمها كذا. فيجب أن لاتتجاوز هذا القدر بطمعك فى هذا الفن، وأن تتيقن أنه دخيل فى صناعة المنطق، وأن تعلم شيئا آخر، وهو أن واضع هذا الكتاب لم يضعه على سبيل التعليم، بل على سبيل الوضع والتقليد؛ فإنه لاسبيل بالبيان المناسب للمنطق إلى أن تعلم ما يعلم فيه بالتحقيق.
ويجب أن تعلم أن كل ما يحاولون به إثبات العدد لهذه العشرة، وأنه لاعلم لها، وأنه لاتداخل فيها، وأن لكل واحد منها خاصية كذا، وأن تسعة منها مخالفة للواحد الأول فى أنه جوهر وهى أعراض، وما أشبه ذلك فإنها بيانات مجتلبة من صناعات أخرى ومقصر فيها كل التقصير. إذ لاسبيل إلى معرفة ذلك إلا بالاستقصاء؛ ولا سبيل إلى الاستقصاء لا بعد الوصول إلى درجة العلم الذى يسمى فلسفة أولى.
فيجب أن تتحقق أن الغرض في هذا الكتاب هو أن تعتقد أن أمورا عشرة هى أجناس عالية تحوى الموجودات، وعليها تقع الألفاظ المفردة اعتقادا موضوعا مسلما، وأن تعلم أن واحدا منها جوهر وأن التسعة الباقية أعراض، من غير أن يبرهن لك أن التسعة أعراض، بل يجب أن تقبله قبولا.
فلا سبيل إلى أن نبرهن لك الآن أن الكيفيات والكميات أعراض من غير أن نبرهن لك ضرورة ذلك العدد، بل تقبله قبولا، ومن غير أن نبرهن لك أن كل واحد منها جنس بالحقيقة، لالفظ مشكك، ولا دال على لازم غير مقوم. فلا سبيل لك، فى ابتداء التعليم، أن تعلم مثلا أن الكيفية تقع على الأنواع التي تحتها وقوع الجنس، وأنه ليست اسما مشتركا أو مشككا أو متواطئا، ولكنه مقوم لماهية ماتحته؛ وكذلك الكمية. ومن اشتغل بذلك فى هذا الكتاب فقد تكلف ما لايفى به وسعه. وكذا حال الخواص التى تذكر، فإنها إنما تذكر ذكرا.
Страница 43